
لم تتسبب سلسلة الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 بمعاناة إنسانية هائلة في غزة ولبنان وإسرائيل فحسب، بل ألحقت أيضاً أضراراً جوهرية بمصداقية الاتحاد الأوروبي كجهة فاعلة في السياسة الخارجية. فقد قوبلت سياسته تجاه غزة ولبنان بالرفض باعتبارها منحازة، وأثارت الاستياء على نطاق واسع سواء في المنطقة أو في خارجها. ويجدر أن نذكِّر بأنه وبعد يوم واحد من هجوم "حماس" الذي خلّف ضحايا في السابع من تشرين الأول/أكتوبر على بلدات إسرائيلية، بدأ حزب الله اللبناني باستهداف شمال إسرائيل بالصواريخ وقذائف الهاون والصواريخ المضادة للدروع. وأعلن الحزب نيته الاستمرار في فتح "جبهة إسناد غزة" في الشمال للضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. وظلت المواجهات العسكرية بين الطرفين محصورة بالتراشق عبر الحدود إلى حد ما طوال عشرة أشهر - على الرغم من إجبار أكثر من 120 ألف مدني إسرائيلي ولبناني على الفرار من المناطق الحدودية - إلى أن صعَّدت الحكومة الإسرائيلية الحرب على نحو غير متوقع في منتصف أيلول/سبتمبر 2024.
وأسفرت الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل بتفجير أجهزة النداء واللاسلكي عن مقتل عشرات الأشخاص وإصابة الآلاف، بمن فيهم مدنيون،[1] وفي أعقاب هذه الهجمات، نفذت إسرائيل حملة قصف مكثفة طالت مختلف أنحاء لبنان، وعمليات قتل مستهدفة ذهب ضحيتها العديد من كبار قادة حزب الله، أبرزهم أمينها العام منذ أكثر من ثلاثة عقود حسن نصر الله.[2] واستمرت الغارات وعمليات القصف الإسرائيلية إلى أن تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، لكن بعد أن أسفرت عن مقتل أكثر من 3700 شخص، بما في ذلك أعداد كبيرة من المدنيين، وتهجير أكثر من مليون مواطن لبناني ولاجئ فلسطيني وسوري يقيمون في لبنان، وخصوصاً في جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.[3] وعلى الرغم من إضعاف حزب الله، فإن الضربات القاسية لم تُفلح في النيل تماماً من قدرته على تنفيذ هجمات؛ فقد قتلت صواريخه وطائراته المُسيَّرة ما لا يقل عن 40 مدنياً في إسرائيل قبل وقف إطلاق النار.[4] وبدءاً من الأول من تشرين الأول/أكتوبر، صار الغزو البري الذي شنته القوات الإسرائيلية على جنوب لبنان يشبه على نحو متزايد أسلوبها الحربي في غزة، وأُرغم سكان المنطقة الحدودية اللبنانية على إخلائها بالقوة. وإلى جانب تدمير قرى بأكملها، بما في ذلك منازل المدنيين والمساجد والمدارس والمصانع، جعل الغزو الإسرائيلي أجزاءً من جنوب لبنان غير صالحة للسكن بعد أن تضررت 40 % من المباني أو دُمرت.[5]
فشل الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، بما في ذلك الدولتان الأكثر نفوذاً، ألمانيا وفرنسا، في وضع سياسات واستراتيجيات فعالة أو تنفيذ مثل هذه السياسات بهدف التخفيف من حدة الصراع العسكري والعودة إلى الدبلوماسية السلمية، خلال التراشق المحدود عبر الحدود الذي استمر مدة عام والتصعيد العسكري الرهيب في الأشهر التي تلت ذلك. وتستعرض المقالة المتعلقة بسياسات الاتحاد الأوروبي المواقف الأوروبية من الحرب بين إسرائيل وحزب الله. وبعد لمحة عامة موجزة، تتناول الضرر الذي ألحقه أسلوب إسرائيل في الحرب على لبنان الذي يرزح تحت عدة أزمات مركبة، وتتناول بأسلوب نقدي سياسات الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء تجاه لبنان بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ثم تتناول بالتفصيل تداعيات هذا الوضع على تصور المجتمع المدني اللبناني للاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، وتختتم بعرض مقترحات على صلة بالسياسات.
سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه لبنان
قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كان موقف الاتحاد الأوروبي ومعظم دوله الأعضاء تجاه لبنان يتبع أنماطاً متسقة إلى حد كبير، وخصوصاً منذ إطلاق الاتحاد الأوروبي إطار سياسة الجوار عام 2006، والذي وعد بشراكة ترعى المصالح المتبادلة والمشتركة.[6] وفي جوهرها، وعدت سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه لبنان بأن تقدم له الدعم الاقتصادي والتنمية المستدامة وبناء الدولة والإصلاح والاستقرار. ودخل هذا الإطار حيز التنفيذ في لحظة حرجة قبل حرب إسرائيل وحزب الله عام 2006، وصار أساس التزام الاتحاد الأوروبي باستقرار لبنان بعد أن أنهى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 حرب عام 2006، وكلف المجتمع الدولي بدور حاسم في ضمان نهاية دائمة للأعمال الحربية. ومع ذلك، فإن هدف الاتحاد الأوروبي المتمثل في الحد من هجرة السوريين إلى أوروبا من لبنان وعبره، وخصوصاً منذ عام 2014، تناقض وعلى نحو متزايد مع التزامه بالإصلاح والحوكمة، وكشف عن الاختلافات بين الدول الأعضاء. وتحت ضغط الأحزاب الشعبوية المناهضة للهجرة، والتي ازدادت شعبيتها وقَوِيَ تمثيلها في برلمانات وحكومات الدول الأعضاء، مثلما هي الحال في المجر وإيطاليا، اعتمد الاتحاد الأوروبي على دول ثالثة للحد من الهجرة. وعليه، فقد تجاهلت ما يُسمى "مواثيق الهجرة" هذه بشكل فعَّال عجز الدول عن حماية حقوق الإنسان أو حتى الانتهاكات الجسيمة، كما حدث في ليبيا أو مصر.
وعلى نحو متزايد، صار الدعم الإنساني والاقتصادي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي لتلبية الاحتياجات المتزايدة للاجئين السوريين وسكان لبنان المضيفين لهم مرتبطاً بتحسين أمن الحدود اللبنانية - وتبع ذلك حوادث موثقة من عمليات الطرد والترحيل غير القانونية إلى سورية من قبل أجهزة الدولة اللبنانية.[7] وعلى مر السنين، وعلى الرغم من المطالبات المستمرة باعتماد إصلاحات، واصل الاتحاد الأوروبي التعاون بلا تمييز مع الطبقة السياسية الفاسدة بشكل واضح في لبنان، وهو التعاون الذي عزز - في غياب البدائل الواضحة - قدرة النخب السياسية على استغلال الدولة والمجتمع اللبنانيين لتحقيق مصالحها الخاصة.[8] ومنذ عام 2015، بلغ الدعم والمساعدات المالية من الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أكثر من 2.3 مليار دولار أميركي،[9] بالإضافة إلى أكثر من 3 مليارات دولار أميركي أنفقها الاتحاد الأوروبي على دعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة في لبنان.[10] ومع ذلك، فإن دعمه الاقتصادي الطويل الأمد للبنان والذي تم تقديمه في مؤتمرات المانحين الدولية، مثل المؤتمر الاقتصادي للتنمية من خلال الإصلاحات ومع الشركات (سيدر) الذي استضافته باريس في عام 2018 لم يتبعه اتخاذ التدابير الفعالة التي تم التطرق إليها في أكثر الأحيان، وكان لبنان بأمسّ الحاجة إليها بهدف الإصلاح والمساءلة. وكانت فرنسا حريصة على الترويج لمثل هذا الدعم المالي لما يربطها بلبنان من "علاقة خاصة" بصفتها قوة استعمارية سابقة.
انفجرت الفقاعة أخيراً في عامي 2019/2020. وقد كشفت الانتفاضة الديمقراطية التي شهدها لبنان، والتي انتهت بالفشل في مواجهة الطبقة السياسية الفاسدة، عن الأزمة الاقتصادية المتصاعدة التي عمّقت الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية وتسببت بشلل مؤسسات الدولة، مما عرّى العديد من القضايا الأساسية التي يعاني منها لبنان. وأخيراً، جاء انفجار مرفأ بيروت عام 2020 ليوجه نداء مدوِّياً إلى صنّاع السياسات الأوروبيين للاستيقاظ، الأمر الذي نبههم إلى أن نهجهم تجاه لبنان يتطلب تغييرات جوهرية.[11] توسل المجتمع المدني في لبنان إلى الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي للالتفاف على الطبقة السياسية في دعمهما للبلد وفرض تطبيق إصلاحات دائمة.[12] لكن الطبقة الحاكمة الطائفية في البلاد أثبتت مرونتها وفعاليتها في إحباط أي جهود إصلاحية جوهرية. وكان الساسة اللبنانيون سعداء جداً باستغلال مخاوف الاتحاد الأوروبي من مواجهة الأعداد المتزايدة من اللاجئين والمهاجرين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا. ووفر اتفاق وقعته رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين ومدته ثلاث سنوات، في أيار/مايو 2024، للبنان مليار يورو للحد من الهجرة،[13] لكن، ومرة أُخرى، امتنع عن فرض تدابير إصلاحية ملموسة، ما زاد في تقويض الأجندة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي.[14]
سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه لبنان بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ومنذ أيلول/سبتمبر 2024
كانت ردة فعل الاتحاد الأوروبي التي ما زالت محفورة في الأذهان بعد الهجوم القاتل الذي شنته "حماس" على بلدات إسرائيلية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، على لسان فون دير لاين ومعظم الدول الأعضاء فيه، بإعلان التضامن القوي مع إسرائيل والدعم الدبلوماسي الكامل لها، بمثابة تفويض مطلق للحملة العسكرية المدمرة الأخيرة في غزة، وفق ما أشار منتقدوه منذ البداية.[15] فقد تفاعل زعماء الاتحاد الأوروبي بحذر مع سلوك إسرائيل الحربي في غزة، والذي تسبب بمقتل أكثر من 47 ألف فلسطيني، وتهجير معظم سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وتدمير البنية التحتية بالكامل تقريبا،[16] وصنَّفته منذ ذلك الحين منظمات حقوق الإنسان الرائدة في العالم على أنه إبادة جماعية استناداً إلى الأدلة المقنِعة.[17] لقد أضر صمت الاتحاد الأوروبي - أو دعمه العلني للحكومة الإسرائيلية - بشدة بسمعته على المستوى العالمي، وناقض رسالته المعلنة كحامٍ للقيم القائمة على الحقوق. وتعرضت ألمانيا، بصورة خاصة، لانتقادات شديدة بسبب ما يُنظر إليه على أنه تبرئة فعلية ومستمرة بلا انقطاع لائتلاف نتنياهو اليميني، وكذلك بسبب القيود المتزايدة التي تفرضها على الحق في الاحتجاج لديها.[18] وخلال تكثيف الحرب، خاطر أكثر من نصف مليون شخص، معظمهم من اللاجئين السوريين، وكذلك من المواطنين اللبنانيين، بالفرار إلى سورية، ونزح أكثر من 800 ألف شخص داخل لبنان. واستهدفت إسرائيل مراراً وتكراراً قوات اليونيفيل، ودمر الجيش الإسرائيلي مؤسسات تابعة لوكالة الأونروا، وقصف المناطق المحيطة مباشرة بالمواقع الأثرية والتراثية التي تصنفها منظمة اليونسكو مواقع محمية، متعمّداً تعريض التراث الثقافي للخطر. وبالتالي، فإن التأثير الهائل للهجوم الإسرائيلي كان يتناقض مع أهداف السياسة المعلنة للاتحاد الأوروبي في لبنان، ويهدد بتسريع الانهيار الاقتصادي والسياسي فيه، فضلاً عن زيادة التصعيد الإقليمي.
لكن وكما حدث في حالة غزة، فإن أفضل تشبيه لردات فعل الاتحاد الأوروبي إزاء سلوك إسرائيل في الحرب ربما يكون، على حد تعبير عالم السياسة راينود ليندرز، بشخصية "الدكتور جيكل والسيد هايد" الازدواجية؛[19] فقد زاد الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء من مساعداتهم الإنسانية للبنان في خضم الهجوم الإسرائيلي الأخير،[20] وأكدوا "دعمهم القوي للمؤسسات الحكومية في لبنان"، وحثوا "الطرفين على تنفيذ وقف إطلاق النار على نحو عاجل".[21] لكنهم امتنعوا عن إدانة الهجوم الإسرائيلي وممارسة ضغوط فعالة لإنهاء الحرب، وهذا أمر مستَهجن، بشكل خاص، لأن الاتحاد الأوروبي، على النقيض من الولايات المتحدة، لم يُصنِّف الذراع السياسية لحزب الله ككيان إرهابي وحافظ على الاتصالات معه. ومع ذلك، فشل في استخدام نفوذه لمواصلة الجهود الدبلوماسية، واعتمد بدلاً من ذلك على الولايات المتحدة للقيام بدور الوسيط الرئيسي لوقف إطلاق النار. إن التقاعس عن القيام بشيء أمر محبط على أقل تقدير، نظراً إلى انخراط الاتحاد الأوروبي السابق في لبنان، بما في ذلك دوره في الترتيبات التي أعقبت عام 2006، والقرار 1701، وفي قوات اليونيفيل.
تبنى جوزيف بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي من عام 2019 حتى كانون الأول/ديسمبر 2024، خطاباً انتقد فيه إسرائيل في نهاية ولايته، وبعد أن رفضت الحكومة الإسرائيلية جميع مطالبه ونداءاته السابقة، أوصى حتى بإنهاء الحوار السياسي بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. ومع ذلك، فإن اتخاذ تدابير عقابية أمر مستبعد بالتالي من قبل ألمانيا وكتلة من الدول التي تعتبر من أشد المؤيدين للحكومة الإسرائيلية الحالية، بما في ذلك النمسا والمجر وجمهورية التشيك. في الواقع، منعت الأخيرة اتخاذ موقف مشترك يطالب بوقف فوري لإطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل وإدانة التسبب بسقوط عدد كبير من القتلى المدنيين اللبنانيين.[22] وظل الاتحاد الأوروبي صامتاً بينما أطاحت حكومة نتنياهو بوقف إطلاق نار سبق أن اتُفق عليه في لبنان بقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 27 أيلول/سبتمبر 2024،[23] باستثناء المعارضة التي عبرت عنها دول بشكل فردي، مثل إيرلندا أو بلجيكا أو إسبانيا.[24] ونظراً إلى أن معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل ألمانيا أو إيطاليا أو إسبانيا، تتبنى مواقف غامضة بشأن مبيعات الأسلحة لإسرائيل - على الرغم من وجود مجموعة متزايدة من الأدلة على سلوك الحرب المخالف للقانون وحتى ارتكاب إبادة جماعية وثقتها منظمات حقوق الإنسان والخبراء المستقلون والمحاكم الدولية - فإن دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وقف مبيعات الأسلحة في أوائل تشرين الأول/أكتوبر لم تكن سوى مبادرة فردية، وليست استجابة منسقة.[25] وبعد رحيل بوريل، خففت خليفته ممثلة السياسة الخارجية الجديدة للاتحاد الأوروبي كايا كالاس، من حدة لهجتها بالفعل، وأشارت إلى أنها ستنظر في استئناف اجتماعات مجلس الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل.[26]
لقد ظل الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير على الهامش يراقب هجوماً لا هوادة فيه على الدولة والمجتمع اللبنانيين اللذين حاول دعمهما ذاتهما: من توفير بيئة آمنة للاجئين السوريين، إلى التعليم والرعاية الصحية والزراعة والبنية الأساسية والتراث الثقافي، أو الدولة اللبنانية وجيشها. حتى إن الاتحاد الأوروبي امتنع عن الرد بقوة على الهجمات على قواته التي تخدم ضمن قوات اليونيفيل، باستثناء التعبير عن "القلق البالغ" وإدانة الهجمات.[27] وفي حين وصف بعض المراقبين الاتحاد الأوروبي بأنه "مجرد متفرج في الشرق الأوسط المنهار"،[28] فإن تصور الاتحاد الأوروبي في لبنان يختلف بشكل ملحوظ عن مجرد متفرج، إذ ترى أجزاء كبيرة من السكان في لبنان - النخب السياسية والمجتمع المدني والأكاديميون وعامة الناس - والجنوب العالمي على نطاق أوسع، أن خيانة الاتحاد الأوروبي لقيمه نفسها واضحة وضوح الشمس. ففي نظرهم، لم تتصرف الدول الأعضاء مثل ألمانيا، إن لم يكن الاتحاد الأوروبي نفسه، بأسلوب تجلت فيه أقصى درجات النفاق فحسب، بل صارت فعلياً طرفاً في الصراع من خلال الدعم الفعال والمتواصل لجهود الحرب الإسرائيلية والدفاع عنها. وإذا عُد الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء ـ بما في ذلك ألمانيا ـ في السابق وسطاء محايدين جديرين بالثقة نسبياً، وداعمين للبنان ومجتمعه المدني، فقد أهدروا الآن الكثير من هذه الثقة، إن لم يكن كل هذه الثقة.
الملخص والتوصيات
باختصار، كان لتقاعس الاتحاد الأوروبي إزاء الحرب في لبنان ثلاث عواقب على الأقل أضرت بمكانته وبأهدافه السياسية: أولاً، تسبب الاتحاد الأوروبي بمزيد من الانقسام بين الدول الأعضاء في نقاش مثير للانقسام في الأصل حول سياسته في الشرق الأوسط وعلاقته بإسرائيل. وثانياً، ألحقت الحرب على لبنان والدمار الذي أعقبها ضرراً بالغاً بمصالح الاتحاد الأوروبي وأولوياته الراسخة في لبنان والشرق الأوسط الأوسع، بما في ذلك أهدافه المعلنة في تحقيق الاستقرار في لبنان والدفع قدما من أجل تحقيق "حل الدولتين" للصراع الفلسطيني، فضلاً عن قدرته الإجمالية على التأثير في الوضع على الأرض. وثالثاً، ساهم فشل الاتحاد الأوروبي في الدفاع عن تطبيق القيم والأطر التي تشكل جوهر هويته وتصوره لذاته، مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي والمساءلة والدبلوماسية السلمية والديمقراطية على نحو شامل، في النيل جزئياً من مصداقيته واعتبار خطابه خطاباً فارغاً في نظر الكثيرين. وهذا يشجع أيضاً المستبدين والطغاة على السخرية من القيم العالمية باعتبارها "أطراً غربية منافقة". وقد يتبين أن تآكل الأطر والمعايير الدولية التي ظلت طيلة عقود جزءاً أساسياً من القوة الناعمة للاتحاد الأوروبي، هو من بين العواقب طويلة الأمد لسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه لبنان.
إن المساعدات الإنسانية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي حالياً ووعوده بإعادة الإعمار، على الرغم من أهميتها، ليست كافية على الإطلاق، ولا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة لتعزيز "خفض التصعيد على نحو متتال" في لبنان، وفي نهاية المطاف في غزة، من أجل تجنيب كافة المدنيين تبعات الحرب الهائلة.[29] ولذلك فإن الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى حشد الدعم لتعزيز وقف إطلاق النار وتنفيذ القرار 1701، بما في ذلك إصدار تفويض حازم لتمكين الجيش اللبناني على نحو فعَّال، وضمان عدم وقوع المواطنين في شمال إسرائيل وجنوب لبنان ضحايا لجولات أُخرى من العنف ـ وهو الهدف الذي يبدو أن جميع الأطراف اللبنانية، بما في ذلك حزب الله، تقبله طالما كان من الممكن تجنب الخطوات التي تؤدي إلى انقسامات لبنانية داخلية.[30] ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يكثف جهوده الرامية إلى تعزيز العملية السياسية الشاملة وتعزيز المجتمع المدني الذي عانى كثيراً في ظل الحرب الأخيرة. وأخيراً، ومع سقوط نظام الأسد الاستبدادي، وبداية حقبة جديدة في سورية، وإعلان نهاية التدخل السوري في الدول المجاورة، هناك فرص جديدة تلوح في الأفق أمام لبنان أيضاً. فقد عاد قسم من اللاجئين إلى سورية، وإذا كان الاتحاد الأوروبي قادراً على مواكبة عملية إعادة الإعمار الاقتصادي والسياسي التي يمكن للبلاد أن تجني ثمارها، فقد يحظى لبنان بآثار جانبية إيجابية متعددة.
مع مباشرة دونالد ترامب ولايته الثانية، حان الوقت كي يتصرف الاتحاد الأوروبي باستقلالية أكبر وحزم أشد لصون القيم وأطر القانون الدولي التي يتبناها، وإعادة الاعتبار إليها، والمساهمة في السلام في بلاد المشرق. وفي هذا السياق، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز دور الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية، بما في ذلك المحاكم التي من المرجّح أن تواجه تخفيضات حادة في التمويل في عهد الرئيس الأميركي ترامب، مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. ويحتاج الاتحاد الأوروبي إلى حمايتها من الهجمات المتزايدة، وخصوصاً إذا صدرت عن حلفائه، كما هي الحال عندما أعلنت الحكومة الإسرائيلية مؤخراً الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش "شخصاً غير مرغوب فيه".
إذا كان الاتحاد الأوروبي راغباً في استعادة نفوذه السياسي ومصداقيته في المنطقة، فقد حان الوقت أيضاً لاستخدام نفوذه على إسرائيل، الدولة التي يعتبرها حليفاً اقتصادياً وسياسياً رئيسياً، لنزع فتيل الحرب في بلاد المشرق وإنهاء الاحتلالات غير القانونية، وبالتالي تمهيد الطريق نحو العدالة.
يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يصون ويلتزم بالقيم العالمية ذاتها التي يدّعي أنه يدفع بها قدماً في لبنان والشرق الأوسط وخارجهما. والفشل في القيام بذلك لن يؤدي فقط إلى تهميش نفوذه في المنطقة، بل قد يهدد بشكل أساسي قدرته على التحرك والتأثير على الساحة الدولية بشكل عام.
* ترجمتها عن الإنكليزية: صفاء كنج.
[1] Edmund Bower, “Doctors Describe the Horror of Israel’s Pager Attack in Lebanon,” New Lines Magazine, 25/9/2024.
[2] Adam Shatz, “After Nasrallah”, London Review of Books, vol. 46, no. 20, 24/10/2024.
[3] البيانات الواردة في المقالة هي حتى تاريخ النشر في كانون الثاني/يناير 2025. يمكن الاطلاع على البيانات المحدثة على الرابط التالي.
[4] Emanuel Fabian, “Woman killed in Hezbollah attack on north; 5 hurt by missile fragments near Tel Aviv,” Times of Israel, 18/11/2024.
[5] Hélène Sallon, “In Maps: Satellite imagery reveals massive destruction in southern Lebanon,” Le monde, 29/11/2024.
[6] “DECISION No 1/2016 OF THE EU-LEBANON ASSOCIATION COUNCIL of 11 November 2016 agreeing on EU-Lebanon Partnership Priorities”.
[7] Peter Seeberg, “EU Policies Concerning Lebanon and the Bilateral Cooperation on Migration and Security – New Challenges Calling for New Institutional Practices?,” Palgrave Communications, vol. 4, no. 1, 13/11/2028, pp.1–9.
[8] يمكن على سبيل المثال الاطلاع على عدة تقارير أصدرتها مجموعة الأزمات الدولية حول المسألة على مر السنين.
[9] Mounir Mahmalat, Sami Atallah and Sami Zoughaib, “How the Many Become a Few The great reduction of Lebanon’s foreign donors,” The policy Initiative, 30/3/2023.
[10] “Responding to the Syrian Crisis: EU Support in Lebanon”.
[11] “The EU’s Lebanon Policy: No Easy Way Forward,” ISPI, 13/5/2022.
[12] Carmen Geha, “People before politicians: How Europeans can help rebuild Lebanon,” ECFR, 27/7/2021.
[13] Kelly Petillo, “Strategic Aid: How the EU-Lebanon Migration Deal Can Work,” ECFR (blog), 3/5/2024.
[14] Mattia Serra, “The EU’s Lebanon Policy: No Easy Way Forward,” ISPI.
[15] https://www.aljazeera.com/news/2023/10/20/eu-staffers-criticise-von-der-leyens-uncontrolled-support-of-israel.
[16] René Wildangel, “The EU and German Position on the Events of October 7 and the War on Gaza,” 13/5/2022.
[17] أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرها بعنوان "تشعر وكأنك دون البشر - الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة" في 5 كانون الأول/ديسمبر 2024. وتبعتها هيومن رايتس ووتش في 19 كانون الأول/ديسمبر بتقريرها بعنوان "جريمة الإبادة الإسرائيلية، أعمال الإبادة الجماعية في غزة".
[18] Marcus Schneider and Jannis Grimm, “Germany’s Fall from Grace," IPS Journal, 5/6/2024.
[19] Reinoud Leenders, “The Strange Case of the EU’s Partnership as Lebanon Is Ravaged by Israel’s Machine of Death,” The Policy Initiative, accessed on 12/10/2024.
[20] في أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2024، رفع الاتحاد الأوروبي دعمه السنوي للبنان إلى 104 مليون يورو;
“Germany supports internally displaced persons in Lebanon,” BMZ.
[21] “Statement by the High Representative on behalf of the EU on the military escalation between Israel and Hezbollah,” Council of the EU, 26/9/2024;
Josep Borrell, “It Is Time to Give Peace a Chance,” 18/10/2024:
[22] Jorge Liboreiro & Maria Psara, “Czech Republic blocks joint EU statement urging 'immediate ceasefire' in Lebanon,” Euro News, 1/10/2024.
[23] Ben Hubbard, Maria Abi-Habib, Michael D. Shear and Edward Wong, “How the Push to Avert a Broader War in Lebanon Fell Apart,” The New York Times, 6/10/2024.
[24] Necva Tastan Sevinc, “EU lawmakers slam Israel over attacks on Lebanon, Gaza,” AA, 22/10/2024.
[25] Mared Gwyn Jones, “Are European countries still supplying arms to Israel?” Euro News, 9/10/2024.
[26] Lazar Berman, “European Union to resume Association Council meetings with Israel,” The Times of Israel, 17/12/2024.
[27] “Statement by the High Representative on behalf of the European Union on recent attacks against UNIFIL,” council of the EU, 13/10/2024.
[28] Julien Barnes-Dacey and Hugh Lovatt, “Israel’s Unwinnable Wars: The Path to De-Escalation in the Middle East,” ECFR (blog), 26/9/2024;
Luigi Scazzieri, “A Mere Spectator? Europe and the Imploding Middle East,” Centre for European Reform (blog), 9/10/2024.
[29] Rym Momtaz, “Now Is Europe’s Time to Act on Lebanon,” Carnegie Endowment for International Peace (blog), accessed on 4/11/2024.
[30] Maya Gebeily, “Lebanon's beleaguered army in the spotlight as truce efforts intensify,” Reuters, 19/11/2024.