
07/02/2025 عربي

06/02/2025 عربي

06/02/2025 عربي

05/02/2025 عربي
31/01/2025 عربي

29/01/2025 عربي

28/01/2025 عربي

صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية كتاب "غزة تروي إبادتها، قصص وشهادات"، تحرير أكرم مسلَّم، وعبد الرحمن أبو شمَّالة، تقديم غسان زقطان. والكتاب مقسَم إلى قسمين: الأول شهادات، والثاني قصص من الميدان. وعدد صفحاته 289، ويروي قصصاً من غزة تمّت كتابتها خلال الحرب بهدف التوثيق.
مقدمة الكتاب
كتب أكرم مسلَّم معبِّراً في "كلمة التحرير" عن هذه الحكايات التي رواها أصحابها: "حكايات هذا الكتاب كلها مثل حكاية الطفلة، قاسية، لأن ’عناصر القصّ‘ جميعها عَجَنتها القذائف والصواريخ... لم تعد الأجساد كما كانت عليه في غزة... والمكان أيضاً لم يعد كما كان عليه هنا... والزمان لم يعد كما كان عليه هنا... ماتت كلمات كثيرة في الحرب وولدت أُخرى تنتمي إلى عالم الكوابيس... مثل أن يتحول المثل العريق ’كالباحث عن إبرة في كومة قشّ‘ ليصبح ’كالباحث عن إبرة في كومة لحم‘" (الصفحة الثانية والثالثة من "كلمة التحرير"، ترقيم الصفحة بالرومانية).
كما يجيب مسلَّم عما فعلته هذه الإبادة التي أدت بتساؤلات أصحاب الحكايات إلى أنهم ما عادوا يعرفون أنفسهم "ما تريده هذه الحرب ليس ’تسطيح‘ المباني فحسب، بل أيضاً تسطيح المجتمع، وتسطيح وعي الناس -أو من يتبقى منهم- لأنفسهم ولآخَرِهم، وبهذا ليس صدفة أن ينظر أكثر من راوٍ من رواة هذا الكتاب إلى صورته في المرآة فيقول: لا أعرف الشخص المحدّق بي، هذا ليس/ لست أنا!" (أكرم مسلم – كلمة التحرير الصفحة الأخيرة).
ويقول غسان زقطان مقدماً لهذه القصص والشهادات: "هذه مهمة صعبة وستبقى ناقصة، أن تكتب مقدمة لشهادات من غزة... أن تعيد، أكثر من مرة، قراءة الشهادات والحكايات المبتورة التي لم تكتمل بعد، بينما حقول القتل المفتوحة ما زالت تحيط بالرواة أنفسهم، وبينما مصائرهم الشخصية تطاردها آلة الحرب الإسرائيلية المنفلتة." (الصفحة الأولى من تقديم زقطان).
ماذا تُحَدِّثُنَا هذه القصص
تحكي القصص التي دوّنها أصحابها عدة أشياء؛ كالمشي على الأجساد التي حوّلتها القذائف إلى أشلاء كما رأت وشعرت الكاتبة دنيا إسماعيل، والتواصل مع الأطفال في زمن الإبادة وقراءة قصصهم كما فعلت الحكواتية هبة الآغا، والهروع من أجل الحصول على كيس طحين والتعرض لمحاولة سرقته من صديق عُرف صوته وجُهلت صورته المغطاة وراء قطعة قماشية كما روى الروائي يُسري الغول، فضلاً عن تجربة طالبة الأدب الإنكليزي بتول أبو عقلين، التي هُجّرت تحت سقف زينكو وتغيرت ملامحها وهي شابة في مقتبل العمر: "هذه ليست أنا، هذا ليس انعكاسي"، وتجربة الشاعر والكاتب جواد العقاد الذي ارتبطت الكتابة لديه بتعويض خسارات الذاكرة، كيف فُقدت الفردانية وعُوين الموت كما عاشته الطالبة في كلّية طب الأسنان إيفا أبو مريم، وكيف تحوّل حلم مجنح إلى حقيقة مع الناشطة المجتمعية نهال الصفطاوي عندما ودعها ابنها زين قُبَيْل مغادرتها غزة إلى رام الله لزيارة خالتها قائلاً: "أمانة يا ماما ما تضلي شهر"، وإذ بها تُحتجز في رام الله بعيدة عن زوجها وأولادها في اليوم التالي من 7 تشرين الأول/أكتوبر. بالإضافة إلى تجربة طبْخ "المعكرونة بالغبار" كما فعلت مصممة الغرافيك الأم منى الغرباوي خلال القصف الذي طال مسكن اللجوء، وأطعمت أولادها إياها.
وفي شهادات دوّنها باحثون، وكتبوها بلسان العامية من أصحابها، في قصص الميدان، عرف المهندس المدني موسى قنديل أن عائلته تحت أنقاض منزله عن طريق شنطة ابنته أوركيد التي لا تفارقها. كما خطف الاحتلال روح زوج لينا قفة وأرواح أبنائها الثلاثة، وهي التي تخلت عن تعليمها الجامعي "علشان خاطر أولادي، كيف يعني أخدوهم مني؟" بالإضافة إلى قصة التاجر أبو محمد الذي تغيرت حياته رأساً على عقب، إذ خسر بيته وماله وتجارته وولده، وقصة حمزة، الخياط الذي فضّل كيس الطحين على رجله المصابة، والمبرمجة رغدة أبو عرجة التي تعيش لابنتها لبنى المولودة في زمن الإبادة وقد فقدت روحها، بعدما خطف الاحتلال زوجها وأطفالها، والأم آلاء نصار التي خطفها الاحتلال على حاجز نتساريم من أطفالها، وأذاقها مرارة الاعتقال والسجن وويلاتهما، ومدرّسة الرياضيات المتقاعدة التي تسمع حفيدتها وقد بُترت رجلها الصغيرة وهي تخاطب والدها: "هيقبلوني في الروضة وأنا رجلي هيك مقطوعة..." فضلاً عن قصة فدوى الجعبري، أستاذة الإعلام في جامعة الأقصى، والتي عانت جرّاء سرطان الثدي بلا علاج، وقصة الموت الذي لاحق الخيول، بالإضافة إلى سَرِقَتِهَا من جانب الاحتلال من المدرب عبد الحميد شويخ، وصياد السمك أبو يزن شحيبر الذي فقد ولده، سنده وعكازه في مهنة الصيد، بعد أن فقد مركبه وشباكه وصنارته. أضف إلى ذلك قصة المدرّس مصعب الذي عايش موت الزملاء والطلبة، وغاب عن جنازة شقيقه لأنه لا يريد أن تتشكل ذاكرة جديدة عنه، ووجد خلاصه في تدريس الأطفال في زمن الإبادة، وقصة الصيدلي أحمد فارم الذي فقد صيدلياته ومنزله، وأصبح نازحاً في خيمة تعمل على مدار الساعة ليلاً ونهاراً لخدمة المرضى، والصحافي محمد الحجار الذي سرق الاحتلال أدوات عمله الصحافي، واعتقلوا زوجته خلال النزوح إلى الجنوب وأبعدوها إلى شمال غزة بالقوة، بعيداً عن زوجها وأطفالها.
وفي العنوان التالي سنجد قصصاً مختارة، وكلها تستحق الحديث عنها، لكن ربما تضيق الكلمات.
الشهادات - قصص مختارة
يقول زقطان في المقدمة: "ليست ثمة ’بطولة‘ هنا، بالمعنى المتداول، ولا مآثر للشخصيات يمكن زجّها في جنبات الحكاية، لكنها على نحو ما، تصبح ابتكاراً للحياة بشروط الموت، وبحثاً مضنياً عن مصافحة في مساحة قتل متواصل، ومحاولة استعادة الحياة التي بددتها الحرب بمواد أولية، أو تدوير الموت باليدين والأصابع." (الصفحة الثانية من المقدمة).
الطحين واللصوص
يتساءل الروائي يُسري الغول في مقدمة شهادته: "كيف لمن تعطلت حواسه، وبات جُل تفكيره البحث عن الطعام بين الركام لأطفاله وعائلته، أن يقدر على جمع خيوط اللغة من أجل شهادة قد لا تعني أحداً؟" (ص15-16).
وفي معاناة مستمرة، في ظل حصار مطبق على قطاع غزة، يبحث الأب يُسري عن الطعام لعائلته، فـ "نستيقظ صباحاً للبحث عن الطعام والحطب، نلهث خلف طائرات تأتي متأخرة، تلقي بالمناطيد المحملة بجزء يسير من الطعام، كأننا نجس أو أشباه بشر... نهرول نحو دوار الكويتي أو دوار النابلسي، ننتظر الشاحنات التي ستدخل شمال غزة، لعلي أحظى بكيس طحين، كيس كان ثمنه قبل هذه الإبادة لا يتجاوز تسعة دولارات، واليوم يساوي ألف دولار، ولا مال في جيوبنا الخاوية، وخصوصاً بعد تدمير البنوك وسرقة ما فيها من جانب جنود مدججين بالسلاح..." (ص16).
وهو ليس وحيداً، ففي رفقته صديقه عصام، الذي فقد عائلته، يذهبان معاً إلى دوار النابلسي ليتزاحما مع الناس عند الشاحنات، وفي أحيان كثيرة يعودان بخفَي حنين، ثم يتوجهان إلى الشاطئ لاحقاً ليفتح كل واحد منهما جرحه للآخر.
ويُسري، الذي تسكن في جسمه شظية بعد إصابة المنزل الذي نزحوا إليه في مخيم جباليا بقذيفة مدفعية، يبكي قبل نزوحه إليه عندما يوجه إليه ابنه سؤالاً في مكان سكنهم الأصلي في مخيم الشاطئ، بعد أن شهد الطفل غارات شديدة مرعبة: "حين تقصفنا الطائرات يا أبي، هل سنلتقي مجدداً بعد الموت؟" (ص 17).
وخلال تجواله برفقة صديقه عصام في الشاطئ، اكتشفا، عن طريق شاب يحمل كيس طحين التقياه صدفة، أن هناك طحيناً في أحد البيوت المدمرة في جوار الشاطئ، فجريا في اتجاه المنزل، وحملا أكياس الطحين، وإذ "خلفنا صوت كهزيم الرعد، يتوعدنا بالثبور، نتوقف خوفاً من طعنة سكين من الخلف أو رصاصة... نعطي اللصوص الملثمين ذلك الكيس، يأخذونه وصوت أحدهم يطن في أذني، إنه صوت صديق حميم، شخص أعرفه جيداً... يذهبون إلى الأمام قليلاً، ثم فجأة يعود صاحب الصوت ويقول: يسري، سامحني، الجوع كافر، أولادي ليس عندهم طعام. أرجوك سامحني ويبكي." (ص 18-19).
الشِّعر والتنور
تحت عنوان "الشِّعر يُطعم خبزاً و’مناقيش‘ أيضاً!"، نقرأ في تجربة الشاعر والباحث في الفكر العربي جواد العقَّاد، الذي لديه مجموعتان شعريتان، كيف تحولت الكتابه لديه من فعل إبداعي وثقافي، لتصير "للكتابة والقراءة مهمة أُخرى بالنسبة إلي، وهي تعويض خسارات الذاكرة..." (ص 25).
لقد أخذت الحرب جزءاً من ذاكرته، وأسقطت أعمدة صرحها المتين كما يقول، ولولا "الكتابة سأفقد اتزاني العاطفي والنفسي تماماً وأصاب بالجنون..." (ص25).
لقد تحولت غرفة الشاعر في الطبقة الأرضية بعد سقوط بيت الجيران، وهي مكان الكتابة والمكتبة، إلى مكان للفرن المصنوع من الطين البدائي لصُنع الخبز على الحطب "التنور"، فما كان منه إلاّ أن قدّم بقايا رفوف مكتبه الخشبي وطاولة الكتابة ودفاتر وأوراقاً لينتقل إلى الطبقة الثالثة.
"أطرد كل الخوف بالكتابة، أكتب وأكتب؛ لعلَّ شيئاً من الذاكرة يبقى، لعلَّ شيئاً من الذاكرة يعود. وأكتب لأني أخاف أن أفتقد فكرة البيت، فأنا مع خوفي من سقوط البيت باقٍ هنا..." (ص 26).
وفي تجربة الإبادة الجماعية والعدوان على غزة، عاد الغزيون إلى الوسائل البدائية، ولمحاربة الجوع، استخدموا الفرن الطيني الذي أصبح وقوده "مسودات شعرية لي تحترق في الفرن وتساهم في صنعِ الخبز، فقلت في نفسي: الشعر يطعم خبزاً و’مناقيش‘ أيضاً." (ص 28).
الأم في رام الله والعائلة في غزة
"خارج القفص حربان" هي قصة للأم نهال الصفطاوي، التي ودعت أطفالها وزوجها، ويممت وجهها إلى رام الله لزيارة خالتها، لتستيقظ صباح السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر في رام الله، فـ "فتحت التلفاز لأكتشف أن... حاجز ’إيرز‘ الذي تخطته قدماي نحو الأفق هو نفسه مَن اختفى من خريطة بلدي... هذا يعني أنني عَلِقتُ هنا بعيداً عن كياني الذي تركته يومين فقط." (ص 40).
وقد نجت عائلتها بأعجوبة بعد قصف حي الرمال في غزة، وهدْم منزلها الجديد. حينها تلقّت اتصالاً من زوجها باكياً، يخبرها فيه أن المنزل الذي لم يمضِ على الانتقال إليه شهران، ولا يزال الأثاث قيد التقسيط، قد ضاع.
وتصف نهال حالتها بالمتقلصة في إحدى زوايا صالة المعيشة في بيت خالتها، متسمرة أمام شاشة التلفاز، وتعيش هناك في غزة، وليس في رام الله. "كنت أخجل إن أكلت وهم هناك يبحثون عن اللقمة، أخجل إن ابتسمت وأطفالي هناك لا يتوقفون عن الصراخ خوفاً وجزعاً وضياعاً... كان الليل هو الأصعب... كان عقلي الصغير ينفرد بي مساءً فيتشاكس مع منطقي اليائس، وينتصر على الأمل وأي بقعة ضوء فيُطفئها." (ص41).
وبعد أربعين يوماً من العذاب وندرة الاتصالات لمعرفة أخبار عائلتها، جاءها اتصال من غزة ليخبرها بتحقيق رغبتها في العودة إلى غزة عبر التنسيق، "كالغريق الذي رأى مركباً من بعيد بعد أربعين يوماً من السباحة في تيهٍ مُظلم..." (ص 43). فقررتْ ألاّ تخبر أطفالها بعودتها، واتفقت مع زوجها على اللقاء في مكان محدد، فالطريق خَطِر، والتحديات كبيرة، ولا "أريد تحميل ثِقَل هذه التجربة على أحد غيرنا، ولا وقت لبيع التفاؤل وسط أشواك الطريق الكثيرة." (ص 44).
وبعد رحلة محفوفة بكثير من تفاصيل الخوف، والترهيب، والتنكيل، وسرقة الأغراض من جانب الاحتلال، وصلت ومشت إلى مسافة 6 كيلومترات مثقلة بالتعب، فوصلت إلى نقطة التقت فيها زوجَها عند الساعة العاشرة صباحاً، وكذلك أطفالها في الجنوب، فينادي الزوج لأطفاله: "تعالوووا شوفوا مين جبتلكم.... خلال ثانية من الزمن كان البيت يقفز... كأن الأربعين يوماً الماضية خرجت من صمتها وقررت جميعها أن تنتفض وتصرخ أيضاً مع كل الأحبة هناك." (ص 54).
قصص من الميدان - قصص مختارة
ميلاد "لبنى"
يكتب الباحث أشرف أبو شرخ قصة "ميلاد لبنى" ابنة رغدة أبو عرجة، الزوجة التي فقدت زوجها، والأم التي فقدت أطفالها الثلاثة، ووالدَيها، وشقيقها. كانت رغدة حبلى في شهرها الثالث عندما اندلعت الحرب، ونجت هي وشقيقتاها الاثنتان الصغيرتان بأعجوبة من تحت الأنقاض. وعن مشاعرها بعد الفقد، فقد "صارت حياتي جداً صعبة، أولاً من ناحية المشاعر ما في أصعب من الفقد والحسرة والألم والوجع عليهم، ثانياً من ناحية هاي الظروف محتاجة معيل..." (ص 219). وتتسائل أبو عرجة وهي حبلى في العدوان: "كيف بدي أخلف بيبي يتيم من أول يوم؟ كيف بدي أولد لحالي بدون أي حد معي بالنهاية؟... كيف بدي أربي هادا البيبي لحالي بدون أي داعم لا زوج ولا أهل..." (ص 219).
وبعد ولادة لبنى - على اسم جدتها الشهيدة - كان لا بد للأم رغدة من أن تنهض من جديد، "بديت أتحسن شوي عشان خاطر البيبي، وبديت أقوّي حالي لأنه في كائن جديد محتاجني، وعشان خاطر أخواتي الأصغر مني اللي محتاجيني قوية..." (ص 220).
وبعد فقدان والدَيها وشقيقها وزوجها وأطفالها، أصبح شغف أبو عرجة الوحيد في الحياة "بنتي... الآن صار عندي فوبيا فقد... ما بقدر أسيبها لثانية وحدة لحالها... ما بقدر أنيّمها بسرير لحالها بنيمها جنبي عندي، خوف كتير كبير، يومياً بدعي ربنا ما يبتليني فيها أبداً... حياتي أنا انتهت... لكن بدي أصنع حياة لبنتي ولخواتي. إلهي يقدرني يا رب!" (ص 220 – 221)
الصياد، والمركب، والشبك، والابن... والبحر
يحدثنا الباحث أشرف أبو شرخ معنوناً القصة بـ "أبو يزن شحيبر.. صيّاد سمك سُرِق بحره!" عن حكاية صياد كان البحر حياته: "البحر صاحبي، لمّا بكون تعبان بروح على البحر بشكيلُه همي..." (ص 262).
ويعود الصياد أبو شحيبر بالذاكرة إلى ما قبل الحرب: "يعني بتذكر لمّا كنت أنزل أنا وابني على الصيد بالحسكة، كنا نطلِّع الرزق اللي الله ببعته، ما كان هالشي الكتير، بس كنا نبيع وناخذ احتياجاتنا، والباقي يقولي وزعه يابا لله، زي ما بقول المثل ’حسنته أحسن منه‘ هالمثل دايماً على لسان ابني الله يرحمه!" (ص 259).
نزح أبو يزن من الشمال، وكان يجلس على بحر خان يونس: "يعني من يوم ما نزحت وبطلت أصيد ولا شيكل بدخل عليّ، بس الله بنساش حدا، عايشين على المعونات إذا وصلتنا والتكيات..." (ص 260)، وكل هذا ربما "بهون عن فقداني لابني، أنا خسرت ابني حبيبي أعز الناس، كان سندي وعزوتي وإيدي اليمين، هادا ابني الكبير، فقدته بخان يونس... هي المنطقة اللي حكولنا عنها أمان (منطقة خضراء) فقعدنا فيها، ابني ما إلو بأي إشي ماشي بحاله." (ص 261). وذات مرة، اندلع حريق في المكان الذي يتواجدون فيه بعد قصف جرى، فـ "راح يجري [الابن] يحاول يساعد الناس المصابين ويطفّي النار... وهو بطفي النار الزنانة شافته، ورمت عليه صاروخ، أجا الصاروخ بالأرض، بس الشظايا أجت على راسه، واستشهد بنفس اللحظة، ما كمل 25 سنة. ابني كان إيدي ورجلي، كان هو الإدارة، كان معي بالصيد... أنا بدونه ولا إشي... أنا كنت مساعد إلو، كان بستشيرني بحكم خبرتي." (ص 261).
ويضيف أبو شرخ معنوناً التكملة بـ "يربي الأمل": "يربي شحيبر الأمل... يربي، أيضاً، أبناء ابنه الشهيد، ويجد فيهم وفي ابنه الثاني سبباً للحياة..."، ويقول الصياد أبو شحيبر: "بس ابني ما راح، ضل شي من ريحته، ضل ابنه، وكمان أجاه بنت بعد ما استشهد كانت مرته حامل، هاي أولاده عندي..." (ص 261).
الأم المعتقلة...وعذابات السجون
ماذا يعني أن تُنتزع أمٌّ من أطفالها؟ آلاء نصار (28 عاماً)، اعتقلها الاحتلال من مركز إيواء في مخيم البريج وسط قطاع غزة: "كان الضابط بينادي بمكبِّر الصوت: ’رقم ثمانية من جهة اليسار يلي لابسة وشاح تتقدم لعندي‘. بينادي عليَّ؟ لحظة إدراك وقتها إنه أنا حترك ولادي وأروح لمصير مجهول..." (ص 223).
وتسجل الباحثة فاطمة بشير شعور نصار التي أجلسها الاحتلال قبالة أطفالها الباكين: "جلست زي ما طلبوا مني وكنت بأبكي بصمت وبحاول أخطف نظرات على ولادي [حمزة وألمى] وأتطمن عليهم، لكن كانوا خايفين وبيعيطوا وبيتطلعوا عليَّ وكلهم حزن وخوف ورعب." (ص 223).
تعرضت الأم لتفتيش شبه عارٍ وقاسٍ وصعب من جانب مجندة إسرائيلية، وانتقل الاحتلال بها إلى معسكر عناتوت في ضواحي القدس المحتلة، والذي تعرضت فيه مجدداً لتفتيش عارٍ تماماً، وألبسوها لباس السجينات. ولم يبدأ العذاب من السجن، إنما في أثناء الانتقال: "أثناء تواجدي في الشاحنة كنت أعيّط وأصرخ بدي ولادي، رجعوني خليني أشوف ولادي، وعلى الفاضي الجنود بيضحكوا، وطول الوقت بيغلطوا علينا ويشتمونا بألفاظ صعب على المرأة تسمعها وتستحملها..." (ص 224).
أمّا عن أوضاع السجن، فقد "كان لكل معتقلة فينا فرشة وحدة بس، وسُمكها كتير رقيق، يعني الواحد بيحس حاله كأنه نايم على الأرض... كانت درجة الحرارة قليلة والدنيا برد كتير... كان دخول الحمام بالنسبة إلي زي طلوع الروح، إيديا مكلبشين ورجليا... وللأسف اجتني الدورة الشهرية، وكانوا يتلذذوا على عذابنا في هاد الوقت بالتحديد... علشان يضيقوا علينا أكثر... أمّا الأكل فكان معاناة تانية، كان عبارة عن علبة لبن صغيرة، وكيس من خبز التوست [منتهي الصلاحية]... ولكن كنا بنضطر ناكلها لأنه هنموت من الجوع، والمياه كانت مالحة جداً، وحتى تركيز الكلور فيها كان عالي، وللأسف صار معايا التهابات بولية حادة، وأُصبت بنزلة معوية حادة... كنت كتير أوقات ما بقدر أوقف على رجليا ولا أمشي خطوتين على بعض..." (ص 226 – 227).
وبقيت نصار في السجن 11 يوماً، تعرضت خلالها لكل أنواع التنكيل والعذاب النفسي، سواء عبر جلْبِها إلى غرفة التحقيق بكل قسوة، أو التحقيق معها، والأصعب من ذلك الابتزاز بالأولاد، إذ يقول المحقق لها: "ساعد نفسك إنت صغير حرام 30-40 سنة تقضيها بالسجن ممكن إزا اطلعت أبناءك ما يعرفوك، أو ااه ااه أولادك على الأغلب ماتوا ماتوا خبيبي..." (ص 228).
وُعدت نصار عدة مرات بالإفراج عنها، لكن الاحتلال كان يكذب ويخلف بوعده، وهي كانت تعلم ذلك، وينتقل بها من معتقل إلى آخر، وذلك زيادة في التعذيب النفسي، إلى أن تم الإفراج عنها عبر معبر كرم أبو سالم، لتصل إلى غزة وليس في استقبالها أحد، وأخذت تجري كما أمر الاحتلال، إلى أن وصلت إلى زوجها وأولادها بعد طول معاناة.
تقول نصار بشأن هذه التجربة: "أنا الآن فقدت شغفي بالحياة، أنا مش آلاء الطموحة العاملة المعطاءة المتفائلة، فقدت أهلي، من لمّا اسشهدوا وأنا بعاني من صدمة كبيرة بعد خسارتهم... وين المؤسسات اللي بتتغنى بدفاعها عن المرأة وحقوق المرأة والجندرية والعنف؟ أنتم بتبحثوا عن العنف في وقت السلم فقط! افتحوا عنيكم كتير منيح، وشوفوا وضع الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، كان عنا أمل إنه لمّا نطلع من السجن نكون محط أنظار واهتمام العالم... لكن، للأسف، ما كنا..." (ص 231).