غزة تروي إبادتها: قصص وشهادات
أكرم مسلّم وعبد الرحمن أبو شمالة (محرران)
بيروت ورام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024. 289 صفحة.
نحتاج إلى أن نرى غزة أكثر في العمق، أن نقرأ تعبها الجواني. نعم أثقلت أعيننا الصور، وجعلتنا نغمض من هول المأساة.
وتحتاج غزة إلى توثيق لحظات لا يمكن أن تصل إليها كاميرات العالم وشاشاته، فهي تشهد، بطريقتها، على جميع الجرائم التي ارتكبها العدو، وترصد تلك الكلمات والأسئلة التي ينطق بها أبناؤها وبناتها الذين خبروا الموت والجنون اليومي، لأن لغتهم ستساهم، أو نتمنى أن تساهم في الإضاءة على معاني النضال الوجودي والفني والأدبي في صراعنا مع الاحتلال الصهيوني.
وفي هذا السياق، يشكل هذا الكتاب إضافة مهمة، كونه يحتوي على مجموعة قصص وشهادات حيّة ما زال جرحها مفتوحاً. وهذه الشهادات ليست أرشيفاً للألم والموت الفلسطيني فقط، ولا وثيقة ضد الجرائم التي ارتكبها الاحتلال فحسب، بل هي صفحات تكشف ملامح يحاول العدو تغييبها في حرب المحو، فما يسرده الشعراء والكتّاب والصحافيون هنا، هو مقاومة حية لهذه الإبادة. ومن شأن السرد أن يرينا ملامح ذلك الحزن الذي يعشعش في ثنايا المكان والهوية، وأن يزوّدنا برؤية عن معنى رواية سرديتنا الفلسطينية التي تواجه تخاذل الدول وإمبريالية العالم بأجمعه. ففي طيات هذه السردية سنقرأ المكان والإنسان الفلسطيني اللذين يُقتلان يومياً.
يقول الشاعر غسان زقطان الذي كتب مقدمة الكتاب، إن الكتابة عن شهادات غزة مهمة صعبة جداً، وهي حقاً كذلك، وخصوصاً لأن التركيز سيكون على موضوع الهشاشة الإنسانية في أثناء الحرب، وهو موضوع مختلف تماماً عن عالم البطولة الذي كان شائعاً من قبلُ خلال الحروب والمجازر التي كانت تحدث في الماضي.
أمّا أكرم مسلّم فيلمّح إلى شيء آخر أساسي جداً، وهو تسجيل الخسارات التي يمتدحها البعض، والجرأة في الحديث عنها. وقد بدأت تظهر هذه الملامح في الكتابة الفلسطينية الحديثة مؤخراً، وهي متجلية هنا أيضاً في الشهادات والوثائق الفلسطينية.
ما نقرأه في قصص الكتاب هو الألم والضعف الإنساني أمام هول المأساة، واللذان يتجليان في كلمات الذين كتبوا عنهما في هذا الكتاب. فهم يتحدثون عن تلك اللحظات التي يستمعون فيها إلى القصف والدمار والقتل الدائر من حولهم، وعمّا يفكرون، وكيف يشعر الإنسان الفلسطيني وهو ينام في ثلاجة الموتى في المستشفى، لأن الموت يحاصره في كل مكان.
هذه الخسارات لا تبدو أحداثاً مأسوية وخارجة عن نطاق العقل فقط، بل تجعلنا نفكر بما تركته من آثار في سيكولوجيا الإنسان في فلسطين. وتشكل قصص الكتاب ملامح مفقودة ومشاعر مختزنة سيكبر حيّزها فيما بعد لتصبح باباً للدخول إلى مفاهيم جديدة للسردية الفلسطينية والأدب والفن الفلسطينيين على حد سواء.
تلك الملامح والتساؤلات باتت لدى المشاركين في هذا الكتاب، أكثر نضوجاً في ساعة الحرب، وهو ما تؤكده شهادة الشاعر جواد العقاد في نصّه المعنون: "الشعر يُطعم خبزاً ومناقيش أيضاً" (ص 25).
يعرّف العقاد الحرب في بداية نصه على أنها "مفردة واحدة لها قاموس عريق من الدماء." وهنا نجد ملامح لنقاشات كانت حاضرة نوعاً ما في الماضي وحروبه، لكن الشاعر الذي عاش حروباً كثيرة، يجيب بطريقة أخرى عن هذا السؤال، فهو يكتشف أن الكتابة هي موقفه من كل شيء، والشعر هو خلاصة تجربته الوجودية في أثناء الحرب وبعدها، ذلك بأن الحرب لم تكن حادثة أو حدثاً عابراً في حياة الفلسطيني عامة، والغزّي خاصة، وإنما هي تجربة لم تنتهِ بعد، كأنها جزء من المكان والوجود تشكل المشاعر المنبثقة منهما مرجعاً لمعنى وجود الفلسطيني.
أمّا التساؤلات والملامح الأخرى فتبدو واضحة في فلسفة الفرد والجماعة؛ فهذا النقاش الذي تخطاه الأدب والفن الفلسطينيان في فترة ما، عاد من جديد حين تأكد الفلسطيني أنه لا يمكن أن يكون فرداً في الحرب والسجن. وهنا نسترجع سؤال غسان كنفاني الذي أصبح شعاراً من دون جواب: "لماذا لم يقرعوا جدران الخزان؟" كأن الخلاص الفردي مستحيل لأي فلسطيني لاجىء أو هارب، لأن قضيتنا جماعية.
هذا ما نراه في شهادة إيفا أبو مريم، المعنونة: "هنا في الحرب، لا وجود لفردانيتك" (ص ٣٥)، فهي تذكر أمراً لا يغيب عن أنظارنا ومشاعرنا؛ أمراً ذا علاقة بخصوصية الوجود الفلسطيني، إذ لا معنى للفرد من دون أصدقائه وأقربائه، لتبدو الهوية الفلسطينية كأنها تحاول جاهدة أن تؤثث كياناً خاصاً هو في الغالب ممتزج بأسئلة جماعية تحمل أيضاً مسؤولية أخلاقية جماعية، تماماً مثلما في قصيدة محمود درويش الشهيرة: "فكّر بغيرك".
في الحرب، لا وجود لفردانيتك، فالتفرد خيانة، إلى حد ذلك التساؤل الرهيب الذي ختمت فيه إيفا نصها، إذ تسأل عن نفسها التي نسيتها وغابت ملامحها: "إن وجدتها، هل سأكون قادرة على تمييزها أم لا؟" (ص 35) وحتى حين تجد نفسها، فإن ملامحها الذائبة في ملامح الآخرين ستختلط عليها، وهنا سنفسر معنى سردنا المختلط فيما آلت إليه هذه الإبادة الجماعية عند غرب متواطىء كان يروج للحريات الفردية، وأصبحت ثقافته المركزية مرجعاً لنا لفهم معاني الحداثة. ويبدو أن هذا السؤال رهن التحرر الجماعي أيضاً، أو ربما يتعلق بالنظرة الخفية للفرد الذائب الذي يراقب الجماعة.
وفي هذا السياق أيضاً، تأتي تجربة النزوح الجماعي الذي أصبحت قصصه أيضا تتشابه مع التهجير والنكبة، فتبدو مخيمات غزة تعيش سؤالاً يتكرر: كيف سنكتب عن بيت يتنقل داخلنا؟
وهنا ربما نفهم السبب وراء الشعور بالذنب والصدمة اللذين يحدثان حين يغادر الناجون من غزة، فهم يشعرون أن حالتهم خطأ غير مغفور، بينما يموت أقاربهم، فيعيشون الإبادة عن بعد كأن غزة لا تفارقهم أبداً، مثلما تقول الصحافية هدى بارود في شهادتها المعنونة "غزة أُمّنا، ولا يفرّ أحد من أمه": "يبدو كأنني مصنوعة بختم غزة" (ص ٧٦).
هذا الكتاب المهم سيشكل مرجعاً سياسياً وتاريخياً وثقافياً وأدبياً؛ طبعا ليس فقط للدراسة، بل لمعرفة الإنسان الفلسطيني أيضاً، الذي تشكل أسئلته وثائق للتاريخ ومقدمات لأدب جديد في توثيقه للإبادة التي يتحداها ويواجهها.