Amahl Bishara. Crossing a Line: Laws, Violence, and Roadblocks to Palestinian Political Expression. Stanford, California: Stanford University Press, 2022. 376 pages.
يرسم كتاب "عبور الخطّ: القوانين، والعنف، والحواجز ضد التعبير السياسي الفلسطيني" مساراً جديداً في دراسة الحياة الفلسطينية المعاصرة، ويقدّم مساهمة حيوية في الأدبيات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية عن السلطة، والدولة، والكولونيالية الاستيطانية، والسياسة المثيرة للجدل (contentious politics). وبينما يلقي الكتاب الضوء على الطبيعة الهيكلية، أو البُنوية للاستعمار الكولونيالي، وتأثيره في الحياة اليومية، فإنه يعطي مكانية معمقة لطرح وكالة الفلسطينيين، أصواتهم وإحضار فعلهم السياسي. علاوة على ذلك، وبدلاً من اعتبار تصنيفات التمييز للدولة الاستعمارية الإسرائيلية على أنها إشارات ضمنية على حدود المجموعة، فإن الكتاب يتعامل مع التصنيفات والحواجز كسيرورة اجتماعية وسياسية، ويتطلع إلى ما هو أبعد من ممارسات الدولة في السيطرة والرقابة لفهم كيفية تعامل الأشخاص أنفسهم مع الحدود الاجتماعية والسياسية والمادية المفروضة، بل ربما تجاوزها في حياتهم اليومية.
يتضمن الكتاب فصولاً عن تجارب وظواهر يومية متعددة، وعن عدة أحداث واحتجاجات، ويوضح كيف أن الفلسطينيين، وتحديداً داخل أراضي 1948، وأراضي 1967 (وخصوصاً الضفة الغربية)، وفي الشتات بصورة عامة (لكن ليس بطريقة معمّقة)، تفرّقهم الحواجز المادية والرمزية؛ كما يوضح الكتاب الطرق المتنوعة التي يسعى الفلسطينيون، من خلالها، للتغلب على أشكال التمييز والتفرقة القسرية. وتتطلع بشارة إلى المعرفة المتجسدة (embodied knowledge)، والعالم الظاهري، والمُعاش، ومادية التشكيلات السياسية، بدلاً ممّا نتدارسه عادة في سياق فلسطين – الدولة، وأعمالها، والنُخب، والحرب، والمحفوظات، والتحولات على المستوى الكلي. فتقييم بشارة يقرّبنا ممّا أسمّيه "المعرفة الشعبية" (popular knowledge) بشأن كيفية تعامل الفلسطينيين مع حياتهم، وكيف يفهمونها، وكيف أن أفعالهم مرتبطة، حتماً، بقوى اجتماعية. وهذا هو عملياً توجّه بشارة الأنثروبولوجي الأساسي: ليس فقط بهدف تحديد كيفية تصرف الذوات ضمن مباني القوى، بل من أجل التعبير أيضاً، عن الأبعاد الوجدانية لتجارب الفلسطينيين اليومية، وكيف يمارسون هويتهم الفلسطينية بدلاً من مجرد التعبير عنها كأيديولوجيا قومية أو وطنية، وما هي "التوترات والقلق حيال الهوية والتسمية" مثلما تشير الباحثة (ص 13).
كتاب "عبور الخطّ" هو من أوائل الجهود العلمية الاجتماعية التي تتبنّى نهجاً شمولياً لفهم كيفية تفاعل الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم، على تنوّعهم، بعضهم مع بعض من جهة، ومع جهاز الدولة الكولونيالية الاستيطانية من جهة أُخرى، والذي، على الرغم من أنه يتعامل مع كل مجموعة فلسطينية بشكل مغاير، فإنه، في الوقت نفسه، يعمل على التشابك والتفاعل بين المجموعات الفلسطينية كافة. ويربط الكتاب بين أحداث سنتَي 1948 و1967 وفترات زمنية أُخرى، بطريقة تعيد الظروف المادية إلى أصولها. وتقوم بشارة بعمل تحليلي من أجل ربط المجموعات أو السكان بعيداً عن افتراض أن الوحدة أمر طبيعي، وترى أيضاً أن التعامل مع الراوبط الجزئية، كنتائج متوقعة، مهم كجزء من الفصل المكاني والرمزي الذي تُنتجه آليات الاستعمار.
كتاب بشارة هو أحد الأعمال الأولى التي تلمّ شمل الفلسطينيين عبر الخط الأخضر، وهو الكتاب الأول، على حد معرفتي، الذي يستند إلى "وصف مكثّف" (thick description) بمصطلحات غيرتس (Geertz 1973)، لتجارب المجموعات الفلسطينية في مخطوطة واحدة، الأمر الذي يجعله أرشيفاً للنضال والتجربة الفلسطينيين.
تأخذ بشارة ما أسمّيه "الإذن بالتواصل" (permission to connect) (لإعادة صوغ "الإذن بالرواية" / Permission to Narrate لإدوارد سعيد)، أي إعادة تصوّر الوحدة الفلسطينية المعاصرة. وأنا أثمّن عالياً الأسلوب والمضمون اللذين يتناول الكتاب بهما موضوع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، والذين غالباً، إمّا يتم استثناؤهم، وإمّا عزلهم باعتبارهم مجتمعاً مغايراً يفتقر إلى أدنى مقارنة بالمجتمعات الفلسطينية الأُخرى، ويجري إدراجهم في الكتاب ليس فقط كوجه من الوجوه التي تعيش إلى جانب المجتمع الإسرائيلي، بل كجزءٍ أساسي من القضية الفلسطينية أيضاً. وتبرهن بشارة كيف أن الفلسطينيين، وعلى الرغم من الآليات التصنيفية، فإنهم يتغلبون على التمييز الاجتماعي في حياتهم اليومية، ويُلحقون أنفسهم بمَن يعتبرونهم من القومية نفسها (Mische 2009). وأنا شعرت بألفة شخصية مع الظواهر الموصوفة في الكتاب من خلال التفصيلات الحية، إذ إنني شخصياً عشت وشهدت كثيراً ممّا وصفته الكاتبة، أكان ذلك في أثناء قيادة السيارة عند عبور الحواجز، أو في أثناء الاحتجاجات، أو من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
وتشير بشارة إلى أن الحصار المفروض على غزة يجعل الحفاظ على الروابط الاجتماعية صعباً جداً، ومع ذلك فإن لغزة حضوراً متكرراً في الكتاب، في إشارة إلى الكيفية التي يتوحد بها الفلسطينيون حول القضية على الرغم من ندرة قنوات الاتصال المباشر. وبالنسبة إليّ، لو غابت غزة في الكتاب، فإن هذا في رأيي، يعكس الواقع المأسوي للحصار.
تُعتبر الإثنوغرافيا (علم وصف الأعراق البشرية) في سياق الأنثروبولوجيا (علم طبائع البشر)، أداة مفيدة في كشف ذلك بالذات. لكن، بينما نظرت الأنثروبولوجيا التقليدية إلى المستعمرة (colony) من خلال المتروبول، فإن بشارة تحاول إجراء دراسة إثنوغرافية تصحيحية لنزع الاستعمار، والخروج بنتائج تحليلية مهمة لاستنتاجاتها. فعلى سبيل المثال، تمثّل أساليب الإثنوغرافيا المتّبعة في الاحتجاج، والتي تنتهجها بشارة، شكلاً من أشكال الملاحظة بالمشاركة (participant observation)، والذي يُعتبر ضرورياً ومُلحّاً، ويمنح قدرة تحليلية على دراسة مختلف الظواهر، فالكاتبة موجودة هناك، على الخطوط الأمامية، مشارِكة ومتفرِّجة في الوقت ذاته. ثم إن المقتطفات الإثنوغرافية الذاتية التي تتضمنها فصول "النصوص" (Passages) تتبع، وبمهارة عالية، النمط الوصفي المكثف (thick description) بمصطلحات غيرتس (Geertz 1973)، بحيث تسمح لنا الإثنوغرافيا برؤية الفعل الاجتماعي من منظور الفاعل الاجتماعي، وذلك من أجل تصوير تجربة بشارة الخاصة، كإثنوغرافية وفلسطينية من خلال تحركها في الحيز الجغرافي، وهي تفعل ذلك بشكل مؤثر وواضح. وهكذا تعكس بشارة التجربة الفلسطينية الحياتية بشكل جلي، وتعطينا نظرة دقيقة عن المرأة والأنثروبولوجية التي تقوم بأداء دور المراقِبة والمشارِكة والمحلِّلة في آن واحد معاً.
تتحرر بشارة من النموذج التقليدي الفاتر لعالِم الاجتماع وعالمة الإنسان، وتتبنّى نهجاً تفاعلياً تشاركياً، وبالتالي، فإنها تضفي الشرعية على الإثنوغرافيا كخيار منهجي لنزع الكولونيالية التي تكمن في المنهجية. وتستخدم بشارة وصفاً تفصيلياً مكثفاً لنسيج الحياة اليومية – ليس فقط لحياة الفلسطينيين تحت القمع، بل أيضاً لأفراحهم ونضالاتهم اليومية وأوجه التشابه بينهم، على اختلاف منابتهم. وهكذا، فإن بشارة تطرح بديلاً لعلماء الأنثروبولوجيا وعالِمي الاجتماع الفلسطينيين الناشئين والناشئات بشأن كيفية مواجهة السلطة المعرفية (speaking truth to power)، ويمكن مقاربة هذه المنهجية مع منهجية التاريخ الشفوي التي أصبحت منهجية التابعين (subaltern) والأصلانيين، لفتح المجال لأصوات السكان الأصليين وتاريخهم.
وضعت بشارة نفسها بين المبحوثين بطرق خلّاقة، مع أن الكشف عن الموقعية (positionality) ليس شائعاً، وخصوصاً أنه أقل حدوثاً في الحالة الفلسطينية، إلّا إن من المهم أولاً فهم موقعية بشارة الخاصة، ومكانتها الاجتماعية كامرأة أميركية - فلسطينية، تجيد اللغة العربية بطلاقة، وهي ابنة لأب فلسطيني من فلسطين التاريخية (1948)، ومتزوجة من لاجىء فلسطيني يتحدر من مخيم لاجئين في الضفة الغربية. إن موقعية بشارة الخاصة تلخّص، أو تجسد التعقيدة أو التركيبة، اللتين من خلالهما تجد العائلات الفلسطينية نفسها تراوح بين البيروقراطية والانتماء. وتفتتح بشارة كتابها بقصة مضحكة ومؤلمة في الوقت ذاته عندما استلمت وثائق هويتها الإسرائيلية، وكيف علّق حموها (والد زوجها)، المقيم في الضفة الغربية، على ذلك بالقول: "تهانينا، لقد أصبحت فلسطينية" (ص 16). وبينما تعكس هذه القصة تعقيدات وهرمية المواطنة والانتماء في الأماكن المستعمرة، فإنها تعكس، أيضاً، موقعية بشارة. ففي علم الاجتماع، غالباً ما نناقش كيف أن مصطلح "الهوية" ليس أمراً ثابتاً، وطبيعياً، ومسلّماً به في حد ذاته، وعادة ما نفضل مصطلح التماهي (identification)، أو فهم الذات (self-understanding)، والذي يسلط الضوء على العمليات الاجتماعية التي تدخل في تشكيل الهوية كممارسة متغيرة ومتحولة باستمرار.
أن تكون فلسطينياً ليس مجرد هوية يرثها المرء فحسب، بل هو أيضاً نوع من الممارسة الاجتماعية والسياسية. إن اختيار بشارة الحصول على الهوية الإسرائيلية، على سبيل المثال، يذكّرني بالجهود الجمة التي بذلها الفلسطينيون اللاجئون المهجرون في سنة 1948 في أعقاب النكبة، إذ، حتى مع عدم قبولهم بشرعية الدولة اليهودية، فإنهم سعوا للحصول على الجنسية كآلية لحماية بقائهم في الأرض والوطن.
إن تركيز بشارة على المستوى الجزئي (micro-level) يشابه التوجه النسوي لعالمة الاجتماع دوروثي سميث التي تدّعي أن "على علم اجتماع المرأة أن يصوّر وجود الذات العارفة والفاعلة. وأن هذا النوع من التوجه لا يحوّل الذوات إلى موضوعات للدراسة، أو يستخدم آليات مفاهيمية من أجل التخلص من الوجود النشط لتلك الذوات الفاعلة، بل إن أساليب التفكير والإجراءات التحليلية لهذا العلم تستوجب الحفاظ على وجود الرعايا الفاعلين وذوي الخبرة" (Smith 1987, p. 105). وفي رأيي فإن بشارة هنا تتبنّى هذا المسعى النسوي، بهدف بث الحيوية في الذوات المبحوثة كوكلاء وصُنّاع للتاريخ.
وفي بعض الأحيان، قد يتم تقييد هؤلاء الوكلاء الفاعلين من خلال تقنيات الفصل العنصري، وعبر مختلف أذرع المؤسسات الاستعمارية، مثل الشرطة، والجيش من خلال المراقبة، والسجن، والقيود المفروضة على المواطنة المحدودة، وبالتسلسل الهرمي، لكن، مع هذا كله، فإنهم كثيراً ما يفتحون الأفق ويوسعون الخيارات بممارسة النضال، مُظهرين بذلك الوعي والإبداع، وفي بعض الأحيان البراغماتية. وفي مقالتي التي أبحث فيها ممارسات الصمود الفلسطينية، فإنني أطلقتُ على هذه القدرة اسم "هابيتوس الصمود" (Habitus of Sumud)، أي تحديد الميول / التصرفات، والمهارات، والعادات، والتفاهمات المجسدة لمواجهة الانتهاكات الكولونيالية، إذ يقابل الفلسطينيون هذا العنف، بطرق مغايرة يطورون من خلالها طرق وجودهم، وصمودهم، وبقائهم ضمن العنف والحرب الاستعمارية المستمرة (Sabbagh-Khoury 2022a, p. 166). وعلاوة على ذلك، فإن إثنوغرافيا بشارة تقرّبنا من فهم كيف، ولماذا يظهر هذا الهابيتوس في سياقات متعددة متعلقة بالثبات والصمود، وما هي نقاط قوته، وفي الوقت نفسه، محدودياته.
لنأخذ مثلاً تطرّقها في الكتاب إلى موضوع قيادة السيارات، ولا سيما بالنسبة إلى فلسطينيي 1948، الذين تحمل مركباتهم لوحات ترخيص إسرائيلية صفراء يترددون بواسطتها، وباستمرار، إلى مدن مثل رام الله، ونابلس، وجنين. فهذا الفصل يوضح كيف أن المعرفة ليست مجردة، أو منفصلة عن الواقع، وإنما تأتي دائماً في سياقاتها السياسية والتاريخية. فهي ترسم، من خلال كلماتها: "الأنطولوجيا السياسية، أي علم الوجود السياسي"، صورة حية للكيفية التي تؤثر بها التكوينات السياسية في تشكيل التجارب والمواجهات المعاشة حتى في موضوع قيادة السيارات.
تستحضر كتابات بشارة كثيراً من السياقات: البُنية التحتية؛ التنقل؛ عدم القدرة على الحركة؛ الإغلاق؛ الحصار؛ الفصل؛ المواطنة؛ التسلسل الهرمي؛ وضع التنقل في المساحات المعقدة الذي تعرقله المخيالات السياسية. ومع أنه كان في إمكان بشارة أن تخبرنا عن المواطنة والتصنيفات القانونية فقط، إلّا إنها تبيّن لنا ما يعنيه أن نعيش العواقب في مجتمع تحدد فيه المواطنة والتصنيفيات القانونية قدرة الإنسان الفلسطيني على التنقل بحرية.
يحتوي كتاب "عبور الخط" على تحليل مركب وحساس ونظرات ناقدة وفاحصة يتناول الكتاب من خلالها، المسائل الثقافية، وصِلاتها بالسياسة والقومية، لكن لضيق المساحة المتاحة في هذه القراءة، فإنني أود أن أشارككم في فقرة مهمة من الكتاب، والتي تعكس هذا النوع من التحليل المركب في الكتاب:
يمكن لنُظم القرابة أن تعيد تأكيد النظام الأبوي، والتسلسل الهرمي، بل يمكن أن تكون القرابة، أيضاً، مصدراً للتضامن والحب. فأحياناً، لا يكون الخط الفاصل بين أشكال الحب التقليدية والتحررية، أو بين الأشكال التقليدية للحب والأشكال الجديدة الراديكالية، واضحاً تماماً.
وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن شبكات الأقارب الممتدة من العمّات والأعمام، وأبناء العم، والأصهار، وغيرهم من أبناء العمومة الأبعد، تُعدّ جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية. وحتى خارج إطار الأسرة، فإن لغة القرابة تُعتبر لغة سائدة يفكر فيها الفلسطينيون في أثناء العلاقات، وهي متأصلة في القومية الفلسطينية (ص 233).
ومن الموضوعات المهمة أيضاً التي تناولها الكتاب، موضوع النقد الاجتماعي الضمني للسلطة الفلسطينية باعتبارها نظاماً قمعياً ومستبداً يعمل جنباً إلى جنب مع الكولونيالية الاستيطانية الإسرائيلية، وذلك اعتماداً على تجارب الفلسطينيين الحية.
أمّا الفصل الأخير من كتاب بشارة فيسلط الضوء، بصورة خاصة، على السجناء السياسيين، والأطفال المحتجزين، والمعتقلات؛ إذ تروي بشارة، بدقة، قصص الفلسطينيين الذين تقمعهم دولةُ السجون (incarceral state) بصورة مستمرة. كما تقوم بشارة بإضافة مستويات أُخرى إلى العمل الأنثروبولجي المهم للينا ميعاري (Meari 2014)، وإسماعيل الناشف (Nashif 2008)، بشأن السجناء السياسيين، وتوضح لنا كيف ظهرت الروابط وعلاقات الاهتمام (care)، على الرغم من الطرق التي يتحكم بها الاعتقال والسجن في جميع أشكال التواصل، ذلك بأن الروابط الرائعة والتماسك بين الفلسطينيين، المفصولين جغرافياً، باتت ممكنة، ولا سيما في الأجنحة "الأمنية" في السجون الإسرائيلية. ومن المفارقات، مثلما تقول بشارة، فإنه:
داخل السجن، يتم تعطيل أدوار النوع الاجتماعي، والعلاقة القائمة بين الفلسطينيين مواطني إسرائيل، والفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال العسكري (ص 34).
يقدم "عبور الخط" لمحة عن النشاط الذي يدعم السجناء السياسيين، ويحافظ على قوة الوحدة الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، كتبت بشارة:
في تظاهرة تضامنية مع الأسرى السياسيين المضربين عن الطعام، جرت في حيفا في وقت سابق من سنة 2014، أوضح متحدث من القدس للجمهور: "يتعين علينا عدم استخدام كلمة تضامن للحديث عن أسرى من الضفة الغربية، لأننا شعب واحد" (ص 77).
وفي سياق مماثل لتأكيد الوحدة بدلاً من التضامن، حمل إعلان على رأس دعوة في الفيسبوك عبارة "كلنا غزة"، وكان أحد الشعارات الرئيسية للاحتجاج "جرحك غزة هو جرحنا" (ص 77). هنا، ومثلما هي الحال في عدة أماكن، نرى كيف يمكن للفلسطينيين الحفاظ على وحدة اجتماعية وسياسية.
يظهر توتر خفيف في الكتاب، ففي المقدمة كتبت بشارة: "لا أريد توطين / تطبيع الوحدة، فالقيام بذلك قد يعني الافتراض، أو الدعوة إلى القومية، والتي يمكن أن تصبح بُنية للقمع" (ص 14). وبينما تثير فكرة القومية مخاوف جدّية (فيما يتعلق بالعسكرة، والتسلسل الهرمي الجندري، والنخبوية، والإقصاء، على سبيل المثال لا الحصر)، فإن القرّاء والقارئات يمكن في رأيي أن يتساءلوا: ما هي الممارسات البديلة من التنظيم القومي الجماعي القائم، أو التي يمكن أن توجَد، بدلاً من قومية ضارة أو قمعية؟ ففي حين يبدو أن الكتاب يقدم دعوة إلى تصوّر طريقة مغايرة للوحدة أو للتواصل الاجتماعي غير المستندَين إلى حصرية القومية العرقية، إلّا إنه، ومثلما يبيّن الكتاب جيداً، فإن الطريقة التي يتصور بها "الشعب" الفلسطيني نفسه، سواء من خلال التضامن، أو الصدمة، أو المحنة المشتركة، هي من خلال الممارسات القومية (المناهضة للكولونيالية غالباً)، كما ان الكتاب يُبرز عدم وجود القومية الأحادية الأبعاد.
وبينما القومية الصهيونية هي قومية كولونيالية منضوية تحت العرقية، فإنه يمكن للمرء أن يحارب لمصلحة قومية فلسطينية مناهضة للكولونيالية، وخالية من الإقصاء العرقي، وشاملة لمشروع تحرري للفلسطينيين واليهود على حد سواء؛ مشروع مستوحى من تعايشهم معاً في نموذج معاش قبل الاستعمار الصهيوني لفلسطين. وقد ننظر إلى نماذج أُخرى للقومية الفلسطينية، كالنموذج الذي يقدمه الفلسطينيون مواطنو إسرائيل استناداً إلى ظاهرة علاقاتهم مع المجتمع اليهودي الإسرائيلي (انظروا مثلاً: Sabbagh-Khoury 2022b)، والذي يسلط الضوء على رؤية مغايرة لمجموع المواطنين.
في نهاية الكتاب تطرح بشارة استفساراً آخر هو: هل تغيرت القضايا المعاصرة التي اتّحد حولها الفلسطينيون في العالم بعد انتفاضة الوحدة أو هبّة الكرامة في أيار / مايو 2021، والتي أتت بشارة على ذكرها، بإيجاز، في الخاتمة؟ وهل يشكل الوضع الراهن للتواصل الجزئي، ولا سيما في عصر التواصل الرقمي، قوة اجتماعية تفوق النماذج السابقة؟
في جميع فصول الكتاب، نكتسب فهماً للعمليات الاجتماعية الأساسية، من ترسيم الحدود إلى الانغلاق الاجتماعي، فمثلما بات معروفاً، الآن، بين الباحثين والباحثات في فلسطين أن "الخط الأخضر" مُحي فعلياً بطريقة ما. وجاء هذا في إشارة إلى الطرق التي تميل بها الدولة الإسرائيلية الكولونيالية الاستيطانية، ومواطنوها المستعمرون - المواطنون اليهود إلى عدم التمييز بين المنطقتين الجغرافيتين (حدود 1948 و1967)، إذ تتدفق موارد الدولة، والبُنية التحتية، والتشريعات، والقانون في المستعمرتين الأولى والثانية مثلما يسميهما عالم الاجتماع أباهر السقا (السقا 2022). ومع أننا غالباً ما ننسى، في مثل هذه الحوارات، أن الخط الأخضر لا يمكن اختراقه وعبوره إلّا من البعض فقط، غير أن بشارة تبيّن لنا تأثير ظهور الحدود والحواجز السياسية، وفرضها بالإكراه والعنف، بشكل كبير وغير متساوٍ على الفلسطينيين (يتتبّع هذا نهج عمل ريما حمامي الدؤوب / Hammami 2015). وعلى الرغم من ذلك، فإن الفلسطينيين وجدوا طرقاً للحدّ من أهمية الحدود السياسية، حتى في ظل وجود مخاطر كبيرة، وهذا الكتاب هو شهادة على القوة السياسية للروابط الاجتماعية.
* كُتبت هذه المراجعة قبل 7 / 10 / 2023.
المراجع
بالعربية
السقا، أباهر (شتاء 2022). "نحو إعادة التفكير في الأُطر المفاهيمية لتحليل السياق الفلسطيني الاستعماري". "عمران للعلوم الاجتماعية"، المجلد 10، العدد 39، ص 39 – 68.
بالأجنبية
Geertz, Clifford (1973). “Thick Description: Toward an Interpretive Theory of Culture”. In: Clifford Geertz, The Interpretation of Cultures. New York: Basic Books, pp. 3-30.
Hammami, Rema (May 2015). “On (Not) Suffering at the Checkpoint; Palestinian Narrative Strategies of Surviving Israel’s Carceral Geography”. Borderlands, vol. 14, no. 1, pp. 1-17.
Meari, Lena (July 2014). “Sumud: A Palestinian Philosophy of Confrontation in Colonial Prisons”. South Atlantic Quarterly, vol. 113, no. 3, pp. 547–578.
Mische, Ann (September 2009). “Projects and Possibilities: Researching Futures in Action”. Sociological Forum, vol. 24, no. 3, pp. 694–704.
Nashif, Esmail (2008). Palestinian Political Prisoners: Identity and Community. London: Routledge.
Sabbagh-Khoury, Areej (June 2022a). “Citizenship as Accumulation by Dispossession: The Paradox of Settler Colonial Citizenship”. Sociological Theory, vol. 40, no. 2, pp. 151–178.
Sabbagh-Khoury, Areej (March 2022b). “Tracing Settler Colonialism: Genealogy of a Paradigm in the Sociology of Knowledge Production in Israel”. Politics and Society. vol. 50, no. 1, pp. 44–83.
Smith, Dorothy (1987). The Everyday World as Problematic: A Feminist Sociology. Boston: Northeastern University Press.