التحديث والاقتلاع: المواطنة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين الانتدابية
نبذة مختصرة: 

لم تنشأ دولة إسرائيل جرّاء صراع بين الأقلية اليهودية المستعمِرة وبين السكان الأصلانيين الفلسطينيين، وإنما بسبب هندسة استعمارية جلبت المهاجرين اليهود من أوروبا إلى فلسطين، كما هيّأ الاستعمار البريطاني جميع الظروف لإحلال شعب مكان شعب آخر، عبر تقوية الأول وإضعاف الثاني.

النص الكامل: 

مقدمة

إن العناصر الأيديولوجية والعملية المتنوعة للنظام الاقتصادي السياسي، والتي فرضتها السلطة الاستعمارية البريطانية على الوطن الفلسطيني، شعباً وأرضاً منذ سنة 1917 حتى سنة 1945 بتفويض من عصبة الأمم، تميزت من سائر الإدارات الاستعمارية التي فُرضت في دول أُخرى من العالم العربي في تلك الفترة، بسبب عدة عوامل، أهمّها العامل التاريخي الذي شكّل الموقف التشريعي والدستوري الأساسي للإدارة الانتدابية البريطانية، أي وعد بلفور الذي تجذر في جوهر الانتداب، عبر السعي لتحقيق الغاية الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية في تأمين "وطن قومي للشعب اليهودي"، مثلما نصّ عليه الوعد الصادر عن وزير الخارجي البريطاني آنذاك آرثر بلفور، في 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1917، من خلال رسالة موجهة إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك كي يتميز الفلسطينيون من سائر الشعوب العربية المستعمرة في محيطهم، بكونهم الوحيدين الذين هددهم الحرمان من الوطن والتهجير.

وتهدف هذه الدراسة، من خلال إجراء تحليل أولي لـ "سياسات الاحتواء" التي اتّبعتها حكومة فلسطين الانتدابية على مختلف المستويات القانونية، والسياسية، والخطابية، وبما يتعلق بسياسة توزيع أملاك الأراضي في الأعوام المبكرة من تشكّلها (1917 - 1930)، إلى تسليط الضوء على الطريقة العملية التي تم من خلالها إدماج ما ينصّ عليه "وعد بلفور" في منظومة المواطنة التي أنشأتها السلطة الاستعمارية، لترثها بعد ذلك الدولة اليهودية في إدارتها السياسية للمواطنين اليهود ومَن تصفهم بـ "غير اليهود"، أي الفلسطينيين الأصلانيين، وفي توزيعها المتفاوت للحقوق الجماعية.

ولا تزال المصالح المشتركة التي جمعت الكولونيالية البريطانية بالحركة الصهيونية، والأسئلة المرتبطة بأسباب الدعم البريطاني للصهيونية، تلهم حقلاً بحثياً جدلياً للغاية، كما تمثلت في عدة صُعُد منها: الدور المهم الذي أدته تيارات مسيحية صهيونية في تصميم السياسة الخارجية؛ تأسيس دولة وكيلة في الفضاء الجيوسياسي الاستراتيجي الذي تشكله فلسطين في مركز العالم العربي المحاذي لقناة السويس؛ عوامل خارجية أُخرى تتعلق بالمنافسة الاستعمارية على الموارد في الشرق الأوسط؛ الدور الذي قامت به البرجوازية اليهودية الأوروبية الصهيونية في تمويل المغامرات الاستعمارية السابقة. ولسنا هنا في صدد الخوض في بحث تاريخي، ولن نتعمق في هذه الدراسة بالفكرة الصهيونية وجذورها أو الإمبراطورية البريطانية وتاريخها، بل إن هدفنا هو فهم الأساليب التي تجسّد عبرها وعد بلفور في سياسات الدولة البريطانية تجاه مواطنيها، وبناء على ذلك، استنتاج العلاقة التي جمعت الصهيونية بالكولونيالية البريطانية، كقوتين أيديولوجيتين تسعيان لإعادة هيكلة الجسد السياسي المفروض على فضاء الوطن الفلسطيني المستعمَر. بكلمات أُخرى، لا نبحث هنا في الأصل الفكري الجينيولوجي الذي يجمع الصهيونية بالإمبريالية البريطانية، بل نقوم بحفريات أولية في منظومة المواطنة الاستعمارية الاستيطانية في تجسدها المباشر والأولي في سياسات الإدارة الاستعمارية التي فرضت نفسها قانونياً وتشريعياً على كامل فلسطين في بداية عشرينيات القرن الماضي.

منحت الدولة الانتدابية الأغلبية الفلسطينية العربية، والأقلية اليهودية المستوطنة على أرض فلسطين في أوائل العشرينيات (وهي أقلية مثلت نحو 7% من مجمل عدد السكان فقط)، حقوقاً قانونية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية متنوعة وغير متكافئة. وعبر رصد العملية الاستعمارية من باب دور الدولة الإدارية الكاملة المعالم، والذي أداه الانتداب البريطاني الذي فرض سلطته على العرب الفلسطينيين الأصلانيين واليهود الأوروبيين المستوطنين على حد سواء، مع تقديم امتيازات للمجموعة الأخيرة في مقابل وضع العراقيل أمام المجموعة الأولى، يمكننا أن نلقي نظرة ثاقبة ومعمقة على جذور تشكل هيمنة الدولة الصهيونية الراهنة وطُرُقها.

ومن خلال قراءة الممارسات الدستورية والتشريعية التي بدأت وتشكلت خلال الفترة 1918 - 1930، سنحاول إعادة بناء هيكل نظام المواطنة الذي أنشأته سلطة الانتداب، بهدف الادعاء أنه عبر توظيف خطاب "حداثوي" متعلق بسيادة الدولة القومية ومتّسق مع الأيديولوجيات الاستعمارية الكلاسيكية الأُخرى، حَددت سياساتُ المواطنة العرقَ كمعيار أساسي لتوزيع العضوية السياسية والمدنية، ولاستحقاق الأرض والاعتراف الوطني، للتمهيد عملياً، للاقتلاع الممنهج للشعب الفلسطيني المستعمَر، وإنشاء "التكوين الاجتماعي الاستعماري الاستيطاني" المقام على منطق إحلال المُستعمِر مكان المستعمَر.

أمّا بالنسبة إلى الفترة التي يتناولها هذا البحث، فقد اخترنا دراسة الأعوام الأولى من تشكيل النظام الانتدابي (1917 - 1930)، إذ لم يُضفِ الفلسطينيون العرب، خلافاً للتوقعات الاستعمارية، شرعية على الهياكل القانونية التي نظروا إليها بصفتها أسلحة في أيدي المستعمرين. وفعلاً، أثّرت المقاومة الأصلانية لهذه القوانين، على المسار الدستوري للانتداب. وعليه، قمنا من موقف منهجي، بحصر تحليلنا في الأعوام الأولى من الانتداب، الأمر الذي ربما يوفر لنا نظرة ثاقبة إلى الانعكاس الصريح والحقيقي للأيديولوجيا والأجندة السياسية التي عملت من خلالها إدارة الانتداب من دون أن تتأثر بالضغوطات التي فرضتها المقاومة الفلسطينية. إذاً، من خلال تحليل الأعوام التأسيسية هذه، يمكننا أن نكشف البُنية الفوقية الأيديولوجية للانتداب، والتي تتجلى بوضوح في ممارسات تصميمها القانوني، والسياسي، والاجتماعي، المتوافقة مع مصالحها الإمبريالية، والمنسجمة مع مصالح الحركة الصهيونية. علاوة على ذلك، وكوننا نخوض في هذه التساؤلات بعد مرور 100 عام على وعد بلفور، فإنها قد تخدمنا، وخصوصاً بعد سنّ قانون القومية، وإعلان صفقة القرن، كقراءة حفرية في بداية التشريع الاستيطاني، وبذرة الدولة اليهودية عملياً.

وأخيراً، يضع العديد من أبحاث سنة 1948، نقطة انطلاق تاريخية للنكبة، ولفهم الدولة الصهيونية، وذلك في تجاهل للاستمرارية والتكامل مع الفترات التي سبقت إنشاء دولة اليهود، من حيث القوانين الاستعمارية، وسيرورة إقصاء الشعب الفلسطيني وسلبه وتهجيره. وعلى هذا النسق، تهدف هذه الدراسة، إلى إعادة موضعة سنة 1917 كنقطة انطلاق يجب من خلالها أن نفهم واقعنا المستعمَر الذي أُنشىء بسلبنا أوطاننا. 

الحداثة والإحلال، والمواطنة الاستعمارية الاستيطانية

تاريخياً، فرضت المشاريع الغربية سيادتها على الشعوب التي استعمرتها من خلال نموذج التحديث الذي يُسِّر بشكل أساسي من خلال مشروع بناء الدولة - القومية. بعبارة أُخرى، تُفرض السيادة الاستعمارية من خلال سلطة الدولة الحديثة التي تعيد إنتاج العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الفضاء المستعمَر. وتبدأ هذه السيرورة بإنتاج معرفة جميع ما يتعلق بالأرض المستعمَرة، إذ يتم وضع كل شيء تحت هالة تحكّم سلطة الدولة. ومثلما لاحظ كوهين وديركس (Cohn & Dirks) فإن "الدول الأوروبية جعلت قوتها مرئية [....] من خلال التمديد المتدرج لإجراءات 'إضفاء الصفة الرسمية' (officilising)، من خلال القدرة على تقييد الفضاء وتعليمه، وتسجيل المعاملات مثل بيع الأملاك، وعدّ وتصنيف السكان، والاستعاضة بالتدريج عن المؤسسات الدينية كالمسجل الرسمي لحقائق دورة الحياة، والزواج، والموت، حتى تصبح هذه الدول أخيراً، هي التجسيد الطبيعي للتاريخ والأرض والمجتمع."[1] بكلمات أُخرى، تبني القوى الاستعمارية أركان الدولة القومية، وتطبق منظورها للحداثة من خلال العملية التكنولوجية لبيروقراطية الدولة، وتسجيل السكان، والأراضي، والسلع، وما إلى ذلك.[2] لهذه الغاية، أنتج الانتداب البريطاني سياسات المواطنة خاصته، كجزء من مشروع "تغريب" (westernising) فلسطين عبر بناء دولة تندمج في نموذج أيديولوجي يتمثل في البُنية الفوقية للأنظمة الاستعمارية، أي "التطوير" و"التنمية".

يحلل بروبيكر في كتابه "المواطنة والوطنية في فرنسا وألمانيا" مؤسسة المواطنة في الدولة القومية الحديثة، بصفتها منظمة عضوية تقوم على آليات الإدماج والإقصاء. وتعمل هذه الآلية من خلال التمييز الرسمي بين المواطنين والأجانب، والتي تحدد مَن ينتمي إلى الأمة ومَن لا ينتمي إليها. وإحدى الطرق التي يتجلى بها هذا التمييز، هي السيطرة الإقليمية للدولة القومية، والتي تسمح للمواطنين بالدخول والخروج من أراضي الدولة بحرية نسبية، بينما يكون دخولها أكثر محدودية أمام الأجانب. وبالتالي، تعمل الدولة القومية الحديثة، وفقاً لبوربيكر، من خلال السياسات الإقليمية لـ "الانغلاق" و"الانفتاح" المتفاوت الحدة، لتشمل المواطنين وتستبعد غير المواطنين. علاوة على ذلك، فإن المواطنة في معيار القواعد القانونية الرسمية المتعلقة باكتسابها، والخطاب الذي يشكلها كآلية للمشاركة والعضوية، أي من حيث ممارساتها وخطابها، مشروطة بالأيديولوجيا القومية التي تقودها. وتستند "المواطنة المدنية" و"المواطنة العرقية"، مثلما هما في حالتَي فرنسا وألمانيا، إلى مفاهيم مغايرة لـ "الأمة" والانتماء؛ فبينما الأولى تقوم على الطواعية، فإن الثانية تقوم على النسب.[3] وبتعبير آخر، يمكن فهم المواطنة على أنها طبقة البُنية التحتية للإدماج والإقصاء التي ترتكز عليها الدولة وتعبّر عنها، والتي تتشكل بدورها من خلال الأيديولوجيا والبُنية الفوقية القومية المهيمنة. وهنا بالضبط يكمن السؤال عن ماهية البُنية التحتية والبُنية الفوقية اللتين تشكلهما الدولة عندما تكون مدفوعة بالمنطق الأيديولوجي الاستعماري الحداثوي والاستيطاني الصهيوني في آنٍ واحد، وعن الهياكل العملية والمعيارية التي ينطوي عليها هذان المنطقان في السياق الفلسطيني.

بالنسبة إلى نظام المواطنة الذي تديره السلطة الإسرائيلية اليوم، يجادل الباحثان الإسرائيليان كيدار ويفتاحئيل أن النموذج الإثنو - قومي، هو النموذج الذي يجب من خلاله فهم المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية، فيقولان: "يشير نموذج الأنظمة الإثنوقراطية إلى أن مثل هذه الأنظمة تسهل توسع دولة عرقية مهيمنة في منطقة متعددة الأعراق، ذلك بأن العرق، وليس المواطنة، هو الذي يشكل المعيار الرئيسي لتوزيع القوة والموارد."[4] غير أن "الطبقية الإثنية" لا تكفي لقراءة الهيكل القانوني والدستوري والمؤسساتي للدولة الاستعمارية الاستيطانية، إذ يشير كل من نديم روحانا وأريج صباغ - خوري، إلى أن النموذج الذي يجب أن تُقرأ من خلاله العلاقة بين إسرائيل ومواطنيها الفلسطينيين، هو نموذج الاستعمار الاستيطاني، وأن علاقة المواطنة تتشكل على نمط "مواطنة استعمارية استيطانية" ويُيسّر مبناها الاقتصادي السياسي السيطرة على الأرض وعدم إتاحتها للمواطنين الفلسطينيين، وتهويد المساحات الفلسطينية لانتزاعها من تاريخها، وتنفيذ المحو الديموغرافي والقضاء على إرادة الفلسطينيين السياسية.[5]

وتتحدد العلاقة "الإحلالية"، مثلما يخبرنا باتريك وولف، وقبله فايز صايغ وجميل هلال، عبر "التكوين الاجتماعي" الذي تؤسسه النظم الاستعمارية الاستيطانية. ولأن المشاريع الاستعمارية الاستيطانية قائمة على "العنصر غير القابل للاختزال"، المتمثل في الوصول إلى أراضي السكان الأصلانيين والاستحواذ عليها، في عملية لمراكمة الرأسمالية المركزية التي تعمل عليها جميع النظم الاستعمارية، فإن الاستعمار الاستيطاني يبسط سيطرته "كبُنية وليس كحدث"، أي الهيكل الذي ينظم العلاقات الاقتصادية السياسية بين المستعمِر والمستعمَر، بحيث يكسب الأول فائض القيمة من خلال السيطرة على الأرض والمكان لتتملكه الحاجة إلى القضاء على المجتمع الأصلاني المرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الأرض، عبر محوه واستبداله.[6]

تبعاً لذلك، ستحاول الدراسة فهم جذور منظومة المواطنة الإثنوقراطية والاستعمارية الاستيطانية، قانونياً وتشريعياً في سياسات السلطة الانتدابية، أي في آلياتها التأسيسية لـ "الإدماج والإقصاء". ولهذه الغاية، سنتبع توجهاً نظرياً خطّته ليندا بوسنياك، وتدّعي من خلاله أن علينا أن نفهم "نظام الإدماج" (أي نظام المواطنة بشكله الواسع) الذي تتّبعه الدولة القومية بصفته "تصنيفاً شبه طبقي".[7] ويجب أن نراقب "حدوده الصلبة" التي يحافظ عليها من خلال التمييز بين المواطن وغير المواطن، وفهم "دواخله الناعمة" التي يتم من خلالها التعامل بشكل غير متكافىء مع المواطنين من مختلف المستويات الهيكلية،[8] من أجل إعادة بناء "نظام الإدماج" والحالات التشريعية القانونية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية غير المتكافئة التي أرساها الانتداب. وبناء عليه، سنقسم تحليلنا إلى أربعة عناصر مترابطة ومتداخلة.

تدّعي بوسنياك أن "الوضع القانوني والحقوقي، والمشاركة السياسية والهوية معاً، تحدد ملامح فهمنا المعاصر للمواطنة كعضوية"، وأن "أبعاداً متميزة، وإن كانت متداخلة تشكّل مواطنة كاملة."[9] وفي سياق هذا البحث، سنتناول هذه الأبعاد الأربعة: 1) الوضع القانوني، أي توزيع حقوق المواطنة؛ 2) الحقوق السياسية، أي توزيع حق المشاركة والتمثيل السياسي؛ 3) حقوق الأرض، أي الحقوق الأرضية (territorial) التي تحقّ للمواطنين؛ 4) الاعتراف بالهوية، أي توزيع الاعتراف الوطني الجماعي. وفي جميع تلك العناصر المذكورة، سنشخص الديناميات الداخلية من حيث علاقتها بالأقلية اليهودية المستوطنة التي باتت تعتبر ذاتها مجموعة قومية، وبالأغلبية العربية الفلسطينية الأصلانية.

يتمثل نمط الاقتلاع القانوني في قانون القومية الأول لسنة 1925، والذي ينصّ على: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف" (من نص رسالة آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد). وتخبرنا بوسنياك أن البدء بالتعامل مع "نظام الإدماج" غير المتكافىء للدولة الانتدابية يتطلب منّا أن نشرع بفحص "الطرق التي يتم بها تأسيس (المجتمع) - عادةً دولة قومية - كمجتمع والحفاظ عليه كمجتمع في البداية."[10] بكلمات أُخرى، تشيَّد آليات الإقصاء والإدماج في المقام الأول، عبر توزيع حقّ المواطنة، أي "الحقّ في اكتساب الحقوق." وبالتالي، فإن السؤال الذي يهمنا هنا هو: وفقاً لسياسات الانتداب، مَن هو الشخص الذي تحقّ له / لها الجنسية، الأمر الذي يجعله بالتالي عضواً معترفاً به في التركيبة السكانية للمواطنين؟ وما هي العلاقات بين الدولة والهوية والأرض، والتي تشكل الخطاب القانوني الذي يحدد معايير الحصول على جنسية الانتداب؟ أو بكلمات بوسنياك المباشرة: "مواطنة من أجل ولأجل… مَن بالضبط؟"[11]

ومثلما ذكرنا سابقاً، فإن المؤسسة الاستعمارية تهدف إلى التحديث عبر استنساخ وإعادة إنتاج نظام الدولة القومية الغربية في الفضاء المستعمَر من أجل فرض سيادتها عليه. وفي فلسطين الانتدابية، طُبقت قوانين الجنسية عامة، وقانون المواطنة النظامية لسنة 1925 خاصة، وفق هذه المعايير الغربية، إذ أرست المواطنة "التوثيقية" تصنيفاً قانونياً وديموغرافياً جديداً للفلسطينيين، وفقاً لفهم الجنسية والمواطنة الذي عكس المعايير الغربية، وهذا التصنيف مثلما سيكشف هذا القسم، شكّل أيضاً مصالح السيادة القومية الصهيونية على فلسطين والفلسطينيين المستعمَرين: فنزعت شرعية الانتماء الفلسطيني التاريخي إلى الأرض، وشرعنت الانتماء اليهودي العالمي إلى الأرض الفلسطينية.

ويعكس سنّ قوانين الجنسية والمواطنة، الجوهر الاستعماري لنيات الانتداب بما يتعلق بالتحديث وبناء الدولة القومية. فالعمليات البيروقراطية الرسمية للتنظيم والتصنيف والتوثيق المتعلقة بالمواطنة وجوازات السفر، تؤدي دوراً مهماً في "إضفاء الشرعية على منشأ الدولة الحديثة (الأمة)"،[12] أي في تعزيز سيادة الدولة القومية.

هذه الإجراءات، هي التي تحكم عملية مراقبة الدولة، والتنقل والتحرك السكاني، وآلية التحكّم فيه، والتي ترسم حدود الإدماج والإقصاء، أي التطبيق العملي للفصل بين "المواطنين" و"الأجانب"، أي "الآخرين غير المرغوب فيهم" وفق توربي،[13] وهي حدود أساسية لتكوين الدولة القومية.[14]

وهكذا يتكون "نظام الإدماج" في المقام الأول، من خلال الإجراءات البيو - سياسية التي تعمل على ترسيخ سيادة الدولة القومية، من خلال ما يسمى "الاحتكار على وسائل الحركة المشروعة."[15] لكن هذا لم يكن المرجعية الأيديولوجية الوحيدة التي اعتمدتها السياسة البريطانية حيال قوانين التجنيس والمواطنة، فقد قدمت مواد صكّ الانتداب البريطاني التي تمثل المرجعية الأساسية للبُنية التشريعية للنظام الإداري، تجسيداً واضحاً للمخطط الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. وبين تلك المواد تأتي الفقرة 2 التي نصّت على تهيئة الظروف السياسية والاقتصادية "لتأمين إقامة وطن قومي لليهود"،[16] بينما ألزمت الفقرة 7 الانتداب بـ "سنّ قانون للقومية" يتوافق مع وعد بلفور. وقد جاء في نصها أنه "يجب أن يشتمل ذلك القانون على نصوص تسهّل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم."[17] وبصورة عامة، خُصصت حقوق فردية وسياسية منفصلة للفلسطينيين العرب الذين شكلوا نحو 93% من السكان في ذلك الوقت.[18]

في سنة 1925، قُدّم مقترح "قانون الجنسية"، وجرى إقراره، بالطريقة ذاتها، وبالروح والوتيرة اللتين صيغ وأُقر فيهما لاحقاً "قانون القومية" لسنة 2018؛ وفي الحالتين لم يكن للسكان الفلسطينيين الأصلانيين أي دور في صوغ القانون وتحديد طبيعته، بينما كان للصهيونيين الدور كاملاً في ذلك. وكان قانون القومية صيغ لأول مرة في سنة 1922، وتمت إعادة صوغه، ومراجعته، وتسليمه، وتطبيقه قانونياً، مع الحفاظ على حذف كلمة "قومية" من العنوان الرئيسي بشكل مثير للشكوك في المرحلة الأخيرة من صيغته، إذ كان عنوانه الرسمي الأصلي "مرسوم الجنسية الفلسطينية (للقومية) والمواطنة لسنة 1925".[19] وباعتباره قانوناً قائماً على تصنيف مَن يملك ومَن لا يملك حق المواطنة في الدولة، ومَن يحظى بحقّ حماية الدولة له، والسفر، والتجنيس، فإنه عمل على بناء وصيانة هوية قومية معينة ومحددة، بينما قمع وأقصى هوية قومية أُخرى.[20] وجاءت المعايير التي حددها مرسوم الجنسية الفلسطينية للحصول على المواطنة، والذي شكّل بدوره دلالات ديموغرافية وقانونية جديدة للفلسطينيين، استناداً إلى مفاهيم ومعايير "كونية" متعلقة بالوجود أو عدم الوجود داخل حدود الدولة، أي على أساس كوني، "مرتبطة إقليمياً بالأرض" (territorially bound)، ووفق "الهوية المرتبطة بالدولة".[21]

فقد نصت بنود مرسوم الجنسية الفلسطينية على ضرورة أن يكون المتقدم للحصول على الجنسية، قد أقام في فلسطين مدة لا تقل عن عامَين، كما يجب أن يثبت الفلسطيني أن لديه نية الإقامة الدائمة في فلسطين،[22] إذ إن الوجود الفعلي المادي هو الشرط القانوني الذي يحدد ما إذا كان المرء فلسطينياً أم لا. ووفق مرسوم الجنسية، فإن الغياب المادي (الجسدي) هو الذي شرّع إلغاء شرعية انتماء الفلسطيني إلى وطنه. وأدت الممارسة الخطابية / القانونية المتمثلة في "انتزاع الموضعة الأرضية" (deterritorialization)، دوراً يتعدى رمزيتها. وبما أن الجنسية العثمانية كانت "مرنة" وغير مشروطة بالوجود الجغرافي، فإن الرحّالين الفلسطينيين والمسافرين والمهاجرين لم يكونوا على دراية بالمطالب الجديدة لعضوية الانتداب في الأرض، ولم يعتادوا عليها.[23] وهكذا، أدت سياسات المواطنة الصارمة والمتعددة الشروط إلى حرمان العرب الفلسطينيين المقيمين في الخارج من المواطنة، والذين كانوا، في معظمهم، يعيشون في أميركا اللاتينية، ولم يكونوا على علم بهذه المتطلبات الجديدة، ولا يملكون القدرة على تلبيتها.[24] كما حُرم آخرون من الجنسية "على أساس شروط تعسفية (بيروقراطية) حاسمة، بما فيها عدم وجود دليل كافٍ على نية العودة الدائمة، وعدم كفاية المطالبات بصلات جوهرية بفلسطين، وإقامة طويلة في الخارج."[25] وبحسب بوالصة، ربما تكون هذه العملية القانونية مؤشراً إلى بداية نشأة الشتات الفلسطيني، لأنها أبعدت الأغلبية العربية عن أي حق شرعي في الانتماء إلى أرض الأجداد، وعزلتها، وانتزعتها من مجتمعها. أمّا فيما يتعلق بالمستعمرين اليهود، فلم تنصّ مواد الانتداب على أي شروط أو صعوبات قانونية أو تشريعية تتعلق بهجرتهم إلى فلسطين وتوطينهم فيها.[26]

وقضايا الهجرة اليهودية، والاستيطان، وتملّك الأراضي، كانت غير محدودة ولا خاضعة للشروط الصارمة التي أُجبر السكان الفلسطينيون الأصلانيون على الخضوع لها. وفي السياق ذاته، لم يحتج المهاجرون اليهود في أحيان كثيرة، إلى حيازة وثائق قانونية لدخول فلسطين والتقدم بطلب للتوطن فيها،[27] وإنما أُصدرت وثائق موقتة للمهاجرين اليهود القادمين من بولندا وروسيا واليمن وغيرها، كي يحوزوا الجنسية الفلسطينية من دون أي تأخير. ومُنح المهاجرون اليهود أيضاً حق المواطنة والإقامة في الدولة وفقاً لخلفيتهم الدينية الإثنية، وبناء على متطلبات خاصة بالنسب والأصل (Jus sanguinis).

ومن خلال النظر إلى أعداد "المهاجرين العرب الفلسطينيين" (العائدين إلى أرض فلسطين في ذلك الوقت)، ومقارنتها بأعداد المهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم، يظهر بشكل لافت، المعاملة التمييزية ضد المهاجرين العرب الفلسطينيين لمصلحة المهاجرين اليهود، فقد ازدادت موجات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين في عشرينيات القرن الماضي، نتيجة ما يسمى "العودة الرابعة" (وهي الموجة الرابعة من هجرة واستيطان اليهود في أرض فلسطين). فبين 20,168 طلباً قُدمت لتحصيل الجنسية الفلسطينية، قُبل 15,551 طلباً. ونحو 99% من الطلبات التي قُبلت كانت طلبات قدمها مهاجرون يهود. وفي سنة 1925 وحده، استقبلت فلسطين نحو 34,641 مهاجراً، وكان 33,801 منهم من المهاجرين اليهود.[28] في المقابل، لم يُقبل سوى 100 طلب فقط، من مجموع الطلبات التي قدمها الفلسطينيون العرب المقيمون في أميركا اللاتينية، والتي بلغ عددها نحو 9000 طلب، لتتشكل بذلك، أولى مجموعات الشتات الفلسطيني من عديمي الجنسية والمواطنة،[29] بينما كان يتمتع المستوطن اليهودي بحماية من السلطة الانتدابية وحقوق كاملة في بلده الأصلي الذي جاء منه، إذ إن وعد بلفور يحذّر من المساس بـ "الحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أُخرى."

إذاً، قام "قانون القومية" لسنة 1925 بتفضيل الحقوق الجماعية للمستعمِرين في الدستور، وبتشريع الانتماء الجماعي ("القومية العالمية") إلى أرض فلسطين، بينما أنكر الاعتراف بالحقوق القومية الجماعية للسكان الفلسطينيين الأصلانيين، وأنكر أي صلة بينهم وبين أرضهم التاريخية. وإذا كانت الإقامة خلال مدة زمنية محددة هي العامل الأساسي الذي استند إليه القانون للاعتراف بحقّ الفلسطيني في المواطنة، فعندها تصبح الجنسية الفلسطينية عملياً، وبحسب القانون، سمة أجنبية، وليس طابعاً رسمياً يشرعن علاقة الإنسان بالأرض والوطن. وعندما ننظر إلى نصّ الوعد بإشاراته إلى "الجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين"، نستنبط بوضوح، أن النهج القانوني في التعامل مع الفلسطينيين كان يصنّفهم منذ البداية جماعة "مقيمة"، في دلالة واضحة على أن ما يربطهم بالأرض هو وجودهم الجسدي المادي عليها لا أكثر، الأمر الذي يعني إسقاط الحقوق التاريخية للفلسطينيين وأحفادهم، وعلاقتهم الجماعية بالأرض (المكان)، وتشتيت السكان الفلسطينيين الأصلانيين واقتلاعهم من الحيّز المكاني الجغرافي الذي ينتمون إليه؛ أي تحويلهم إلى غرباء عن أرض موطنهم على المستوى القانوني. وعليه، لم تكن سياسة الانتداب البريطاني في استقبال المهاجرين اليهود مبطنة، وإنما كانت سياسة تفضيلية واضحة تعطي المهاجرين اليهود القادمين من أوروبا الأولوية في الاستيطان والتجنيس والاندماج، بالتوازي مع رفض دخول الفلسطينيين العرب الأصلانيين إلى فلسطين، وهو ما يمكن اعتباره من أوائل مراحل رحلة الفلسطينيين الطويلة مع التهجير والنبذ. وقد أرسى هذا القانون الإطار التشريعي الذي سهّل تنفيذ المشروع الاستعماري الاستيطاني على أرض فلسطين من جهة، وقمع في الوقت ذاته الحقوق الوطنية للفلسطينيين على أرضهم من جهة أُخرى. ونرى اتساقاً بين هذه القوانين وممارسات دولة إسرائيل اليوم من خلال "حقّ العودة" ليهود العالم، ورفض حق عودة الفلسطينيين، وقانون أملاك الحاضرين الغائبين، والتي تجتمع في إضفاء الصفة الرسمية على العلاقة ما بين "الشعب اليهودي" في أماكن وجوده كلها، والأرض الفلسطينية، مع ضمانة التمثيل المؤسساتي من طرف دولهم الأصل. أمّا الفلسطينيون فيُشرعَن حقهم في المواطنة في حالة وجودهم فقط، ويُترك غير الموجودين على أرضهم من دون حقّ العودة إلى وطنهم، ومن دون أي تمثيل مؤسساتي رسمي وذي معنى في أماكن وجودهم كافة. 

الإبادة السياسية 

على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر (من نص رسالة آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد).

 

إن الحقوق السياسية المرتبطة بالمواطنة هي تقييمنا الثاني لفهم نظام المواطنة الذي أسسه الانتداب. وتميّز بوسنياك بين شكلين من أشكال المواطنة، بناء على فهمها المعياري للحقوق السياسية: فـ "المواطنة الليبرالية" تقوم على حقوق الحماية، وممارسة الدين، والإقامة التي "تضمن الحقوق وتحدد الوضع القانوني" على المستوى الفردي؛[30] أمّا "المواطنة الجمهورية" فقائمة على حقوق المشاركة السياسية وتقرير المصير، و"تمثل عملية الحكم الذاتي السياسي" على مستوى جماعي.[31] ومن خلال تقييم الطريقة التي تعاملت بها سياسات الانتداب مع الحقوق السياسية ما بين المجتمع المستوطن والمجتمع الأصلاني، قد نسأل عن ماهية الحقوق والقدرات التي تمنحها المواطنة ويتمتع بها مجتمعها في المجال السياسي للتمثيل وصنع القرار، وكيف تدير الدولة توزيع الحقوق السياسية على المواطنين.

لكن كي نفهم دينامية توزيع السلطة السياسية الانتدابية لحقوق المشاركة السياسية، أكانت "ليبرالية" أم "جمهورية"، علينا أولاً أن نفهم الرؤية السياسية المرتبطة بمجتمع المستوطنين من جهة، وبالمجتمع الأصلاني من جهة أُخرى. فالمشاركة السياسية لدى مجتمع المستوطنين تعني فرض أجندتهم القومية الاستعمارية الاستيطانية التي تسعى لبناء وطن حصري للشعب اليهودي في أماكن وجوده كلها، وذلك في تضارب تام مع المفاهيم السياسية الوطنية والقومية والأُممية التي كان الفلسطينيون ولا يزالون يتمسكون بها، والتي تجتمع على المطالبة بـ "استرجاع الوطن بكامله" على أساس الانتماء الأصلاني إلى الوطن والأرض. ومثلما يشير رشيد الخالدي في كتابه "القفص الحديدي" (The Iron Cage)، فإن الانتماء الفلسطيني اتخذ خلال الفترة 1918 – 1925، دوراً مركزياً في صوغ الإجماع الوطني والمشروع السياسي الجماعي.[32]

ويلفت ماهر الشريف[33] النظر إلى المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث الذي عُقد في مدينة حيفا في كانون الأول / ديسمبر 1920، والذي دعا إلى تشكيل حكومة وطنية في فلسطين مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب من السكان الذين سكنوا البلد قبل الحرب، ويُظهر كيف أنه منذ بدايات الفترة الانتدابية، بدأ العمل السياسي بمختلف تياراته على تكوين الإجماع على المرجعية السياسية الجامعة التي تتأسس على الانتماء الوطني الفلسطيني المعادي للاستعمار. وهنا نستطيع أن نستنتج أن ضمان المشاركة السياسية للمجموعة في ممارسات الدولة، يعني خدمة المشروع السياسي الذي تحمله المجموعة، وبذلك، لا تبقى هناك مساحة داخل مؤسسات الدولة الاستعمارية السياسية والقانونية لتنفيذ مشروع وطني يتضارب بشكل تام مع وجوده.

وتندرج الحقوق التي خصصها الانتداب للأغلبية العربية الفلسطينية في أساسها، في خانة الحقوق الكونية والفردية والدينية، لكن المعزولة عن السياسة. فالمادة 2 التي أشرنا إليها سابقاً، تخلق مستويين من توزيع الحقوق: الأول هو الإدماج النوعي لأغلبية يهودية، والثاني مخصص عالمياً وفردياً لـ "جميع السكان (غير اليهود) في فلسطين"،[34] بحيث لا يبقى للأغلبية الفلسطينية العربية، إلّا هذا المستوى الكوني الذي ينصّ على توزيع "الحقوق المدنية والدينية"،[35] تماماً كالمادة 9 التي تضمن جميع حقوق رعاياها المتعلقة بـ "الأحوال الشخصية لمختلف الشعوب والمجتمعات ومصالحهم الدينية." ولذلك، نصّ الانتداب على مستوى كوني وفرداني من الحقوق يتعلق بالسكان الأصلانيين غير اليهود في فلسطين؛ وهذه حقوق تفتقر إلى العامل السياسي لأنها تركز على الحريات الشخصية والمدنية والدينية فقط، من دون أن تتطرق إلى الترجمة السياسية لهذه الحقوق في ظل تفضيل مجتمع المستوطنين على المجتمع الأصلاني.

وإلى ذلك، تهدف مادتان من الانتداب إلى إنشاء إدارة تعمل على إدماج الأقلية اليهودية في دائرة صنع القرار السياسي، إذ تنصّ المادة على ضرورة بناء الظروف السياسية والاقتصادية بحيث "تؤمّن إنشاء وطن قومي يهودي"، كما تنص على ضرورة تشييد "مؤسسات الحكم الذاتي" اليهودية.[36] أمّا المادة 4، فتذهب أبعد من ذلك في عملية إدماج الأقلية اليهودية، عبر اعترافها بالوكالة اليهودية كهيئة تمثيلية سياسية منتخبة، تعمل على تيسير انخراط الأجندة الموالية للصهيونية في التقييمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على مستوى الدولة،[37] ذلك بأن الوكالة اليهودية شكلت مرجعية استشارية مهمة للجسد التشريعي في السلطة المنحازة إليها. ولا بد هنا من أن نشير إلى المندوب السامي الأول لفلسطين المستعمَرة، هربرت صموئيل، الذي كان يهودياً، وأيّد علانية الأهداف الصهيونية. وهكذا، قامت حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين، بشكل أساسي، على دعم الإرادة السياسية الخاصة بالسكان اليهود، مثلما مثلتها المنظمات الموالية للصهيونية.

ومع ذلك، تدّعي بانكو أن تشريع المواطنة في فلسطين تأثر بتجربة الإمبراطورية البريطانية في مستعمراتها السابقة بصفتها إمبراطورية استعمارية غربية. فالإمبراطورية لم تعتبر مجتمعات "الشرق" مجتمعات مدنية ذات حضارة ووعي سياسي قومي جمعي سياسي وقادرة على التمدن، ولهذا اعتبر الانتداب البريطاني فلسطين بلداً مقسماً إلى مجتمعات دينية، فبنى سياساته على هذا الأساس. ووفق هذا المنطق، ليس هناك ما يميز الانتداب في فلسطين من سائر الإدارات الاستعمارية، لأن النظرة الاستشراقية التي عوملت من خلالها مجتمعات الشرق، خدمت مسعى هذه الإدارات جميعاً لتبرير بسط سيطرتها على المجتمعات المستعمَرة وتفرقتها. غير أن "الالتزام المزدوج" للانتداب بصفته سلطة استعمارية تدير هذه "المجتمعات"، وميسّر لنشأة الوطن القومي اليهودي، دفعه إلى صوغ تشريع الجنسية والمواطنة الذي يعطى الفلسطينيين العرب حقوقاً مدنية وسياسية محدودة، لأن هذا الانتداب إذا ما قرر إعطاء الأغلبية العربية هذه الحقوق، فلا شكّ في أنه سينتهكها بنفسه. [38] بعبارة أُخرى، إن إعلان بلفور يُلزم التفويض بالمسار الصهيوني، ويلتزم في الوقت نفسه بـ "سياسة" عدم المساس بالحقوق المدنية والسياسية لـ "السكان غير اليهود"، ولهذا، اختار الانتداب عدم تسييس المواطنة من حيث الممارسة الرسمية المباشرة، مع الحدّ من الحقوق المدنية والسياسية التي قد تُمنح للأغلبية العربية الفلسطينية.

لكن الطابع "غير السياسي" الذي أُضفي على المواطنة، يترك دور الفعل السياسي في الدولة للمؤسسات شبه الحكومية، والمؤسسات المدنية التي تديرها المجتمعات نفسها لتمثيل حقوقها الجمهورية. فبوسنياك تعتبر المجتمع المدني والحركات الاجتماعية مؤسسات تشكّل المشاركة السياسية لدى المجتمعات في الدولة، إذ إن أنشطة المجتمعات المدنية "تفي بالمعايير المعيارية للمفاهيم الجمهورية والتشاركية للمواطنة بشكل جيد للغاية، فهي منخرطة وقوية وتعكس التزاماً بالمصلحة العامة والمشاركة النشطة في الشؤون العامة"،[39] أي أن الأنشطة المدنية لــ "الييشوف" والمؤسسات شبه الحكومية التابعة للانتداب، والحركات الموحدة أيديولوجياً، هي عناصر تساهم في الاندماج السياسي على مستوى المجتمع المحلي.

ويشير الخالدي في كتابه "القفص الحديدي"، إلى التباينات التي ميزت التفاوت ما بين مجتمع "الييشوف" اليهودي والأغلبية الفلسطينية العربية في فلسطين الانتدابية. فقد أدى العديد من العوامل التي شكلت الترتيب غير المتكافىء بين المجتمع اليهودي "الييشوفي" والمجتمع الفلسطيني العربي، إلى إحلال عدم تكافىء في القدرة على التنظيم الذاتي الاجتماعي والسياسي، والذي تمثّل في التفاوت في معايير مثل رأس المال الاجتماعي - الاقتصادي، ورأس المال المالي، والتركيزات الحضرية - الريفية ومقياس التعليم لكلا المجتمعين. ولا يعكس عمل المؤسسات شبه الحكومية التي أنشأتها الأقلية اليهودية وحدتها الأيديولوجية وتماسكها وتوافقها فحسب، بل قدرتها وفاعليتها في توليد سلطة الدولة أيضاً، في حين أن الفلسطينيين على الجانب الآخر، كانوا مشتتين أيديولوجياً، على مستويَي القدرة والفاعلية، ولم يملكوا قيادة حقيقية تمثل إرادتهم.[40] هذه العوامل كلها تؤدي إلى تشكيل مجتمعين: أحدهما يملك قدرة التعبئة وتعزيز "طموحاته السياسية الجمهورية"، بينما يُترك الآخر قليل الحيلة على المستوى التنظيمي، مع ضمانات فردانية، وعلى أقصى حد، دينية ومجتمعية.

وقد دُعمت المؤسسات شبه الحكومية التي عملت ممثلة عن الإرادة السياسية للأقلية اليهودية، وصادقت دولة الانتداب على وجودها، حتى إن إدارة الانتداب "جعلت مسؤوليتها الرسمية [....] مساعدة اليهود على إنشاء [هذه] المؤسسات الوطنية."[41] وبين هذه المؤسسات منظمات مثل "الصندوق القومي اليهودي"، و"الهستدروت" و"جمعية الاستعمار اليهودي الفلسطينية" (التي سيتم التطرق إليها لاحقاً). وقد مُنحت "الوكالة اليهودية"، وهي هيئة منتخبة وأحد تلك التكتلات التمثيلية، وهو ما يتعدى التكامل في دولة الانتداب على مستوى وطني، وذلك كي يُتاح لها الاندماج الدولي بصفتها ممثلة عن اليهود في لجنة التفويض الدائم لعصبة الأمم، بل إنها حظيت بـ "وضع دبلوماسي شبه رسمي" و"شرعية دولية". وفضلاً عن ذلك، حصلت مؤسسات "الييشوف" على استقلالية كاملة تضمنت "مؤسسات تمثيلية كاملة، وتمثيلاً دبلوماسياً معترفاً به دولياً في الخارج عبر الوكالة اليهودية، وسيطرة على معظم أجهزة الحكم الذاتي الداخلي الأُخرى، التي تصل إلى الدولة ضمن الدولة الإلزامية، والتي تعتمد عليها، لكنها منفصلة عنها."[42] وهكذا، ساعدت حكومة الانتداب على تشكيل العمود الفقري للتنظيم السياسي على المستوى المدني للأقلية اليهودية.

وفي المقابل، غَيّبت سلطة الاستعمار الحقوق السياسية الجماعية والتاريخية للشعب العربي الفلسطيني، في سيرورة تتعرض لها جميع الشعوب المستعمَرة، إذ لم تعترف الإدارة مطلقاً بشرعية السلطة التنفيذية العربية للمؤتمر العربي الفلسطيني، وهي الهيئة العربية السياسية الوطنية، كما أنها رفضت جميع مطالبها ليُسلب الجزء الخاص بحقّهم في السيادة لمصلحة تشارك السلطة الاستعمارية والجماعات اليهودية الأجنبية التي مُنحت تمثيلاً سياسياً تأسيسياً مباشراً ومؤثراً من طرف السلطة، وبشكل غير مباشر من طرف رأس المال الجماعي والمؤسسات شبه الحكومية المتعددة. وكان احتمال قيام وكالة عربية قُطرية منخرطة في الدولة، في موازاة الوكالة اليهودية، أو أي هيئة تمثيلية فلسطينية أُخرى في ذلك الوقت، مشروطاً بموافقة أعضائها على شروط التفويض، الأمر الذي استلزم طبعاً موقفاً معادياً للعرب وموالياً للصهيونية.[43] وهناك أجسام سياسية عربية قاطعت الحكومة، كاللجنة التنفيذية العربية، في سنة 1922، والتي لم تنضم إلى المجلس التشريعي لعدم اعترافها بشرعية الانتداب.

ويحدد بيليد وشافير المفاهيم ذاتها للمواطنة الليبرالية والجمهورية على أساس القدرة السياسية التي تنطوي على اكتسابها، ويضيفان إلى هذا المفهوم الثنائي، شكلاً ثالثاً من أشكال المواطنة هو نظام الاندماج الإثنو - قومي الذي تشكَّلَ لإسرائيل، وهو النظام الذي يوزع الاستحقاقات السياسية والتمثيل والحقوق على أساس العرق للمجموعة المعنية.[44] لكن في الواقع، ما نتكلّم عنه لا يؤشر إلى مجرد عدم مساواة في توزيع الحقوق السياسية، بل بداية سيرورة الإبادة السياسية للمجتمع الفلسطيني، أي اقتلاع إرادتها السياسية عبر وسائل قانونية، مع الشروع في تجذير الإرادة السياسية الصهيونية في مؤسسات الدولة الاستعمارية الاستيطانية.[45] 

اقتلاع الحق في الأرض

تُعدّ سياسات الأراضي، أي قوانين الدولة التي تنظم وترتب توزيع الأراضي وتخصيصها وحقوق المطالبة بها، الحقل التالي الذي يؤسَّس من خلاله للإدماج والإقصاء، وبالتالي الاقتلاع أيضاً. ونظراً إلى كون الدولة القومية وحدة عضوية إقليمية،[46] فمن المنطقي الادعاء أن مقياس الحقوق التي تمتلكها المجتمعات من حيث إتاحة الأراضي وملكيتها واستخداماتها، يصوغ مقاييس العضوية في منظومة المواطنة والاندماج في الدولة، الأمر الذي يتطلب إنشاء الدولة القومية ككيان استعماري، وتحديد حدود وحريات حقوق الأراضي، وفقاً لمعايير الرأسمالية الغربية، وذلك ما فعلته دولة الانتداب. فقد هدف البرنامج الذي أطلقته الحكومة الانتدابية لإصلاح نظام الأراضي في فلسطين "إلى تحويل نظام الأراضي في فلسطين من نظام يستند أساساً إلى حقوق الاستخدام، غالباً ما تكون ذات طابع جماعي، إلى نظام يقوم على الملكية الفردية الآمنة (secure)"، أي انخراط الأرض كسلعة في النظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث.[47] والأسئلة التي أطرحها هنا هي: ما أثر هذه السياسات والإصلاحات التي أحدثها الانتداب في المجتمعات العربية الأصلانية في بعض الأراضي؟ وإلى أي مدى خدمت طموحات المستوطنين الصهيونيين في مسعاهم للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية؟ وكيف شرّعت هذه الإجراءات ديناميات الاندماج والإقصاء بين المجموعتين؟

لقد تمكنت الحركة الصهيونية من التأثير في الحكومة التي أجرت عملية سريعة لمسح الأراضي الفلسطينية، ورسم حدودها ومساحتها وملكيتها. ومثلما يشير رائف زريق، فإنه "مع تطوير نظام تسجيل الأراضي، أخذ الفصل بين الملكية من ناحية، والحيازة والتصرف بالأرض من ناحية أُخرى، يبدو ذا معنى، وأصبح من الممكن أكثر فأكثر أن تكون مالكاً للارض دون أن تضطر للتصرف الفعلي بها"،[48] الأمر الذي سهّل عمل منظمات اقتناء الأراضي التابعة للحركة الصهيونية، كـ "الصندوق القومي لإسرائيل" ("هكيرين هكييمت لييسرائيل")، والذي تأسس في سنة 1897 خلال المؤتمر الصهيوني الأول، بهدف شراء أكبر كمٍّ من الأراضي في فلسطين لتيسير عملية الاستعمار الصهيوني. وتنص المادة 4 التي تناقش التعاون بين الوكالة اليهودية وإدارة الانتداب بهدف إقامة الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين، على أن هذا التعاون يخضع "لسيطرة الإدارة على المساعدة والمشاركة في تنمية البلاد"، ويستمر في إقرار دستوري على "تعاون جميع اليهود الراغبين في المساعدة في إقامة الوطن القومي اليهودي." [49] وتؤكد المادة 6 من جديد، هذا التعاون، وتحدد الأراضي الخاصة التي تلتزم الدولة بمنحها للمنظمات الصهيونية، أي "أراضي الدولة والأراضي الخَرِبة (waste lands) غير المطلوبة للأغراض العامة."[50] وبالتالي تصبح أراضي الدولة والأراضي البور هذه، أراضي تحتاج إلى "تطوير"، وتتحول في الوقت ذاته، إلى الأراضي التي ستستعمرها وتستوطنها الأقلية اليهودية، الأمر الذي يعكس الارتباط والتكامل ما بين عملية الاستيطان وعملية التطوير.

كان إصلاح حكومة الولاية للأراضي مدفوعاً بثلاثة عوامل رئيسية: (1) الفهم الغربي الرسمي لدولة قومية ذات سيادة إقليمية؛ (2) تطهير مناطق معينة من الملاريا؛ (3) زراعة وتنمية الأراضي. وبذلك، تُعدّ سياسات الإصلاح الزراعي التي اتخذتها حكومة الانتداب جزءاً من نموذج أكبر للتغريب والتحديث.[51] وضمن هذا الخطاب الاستعماري للحداثة، وجد الاستعمار الصهيوني المسلك المثالي لتفعيل طموحاته في الاستيلاء على الأراضي. فقد أعلن الانتداب التزامه بتفويض "جمعية الاستعمار اليهودي الفلسطينية" (PCJA) بتفريغ الأغوار والمستنقعات التي خصصتها الدولة لها، الأمر الذي لم يساهم في ضمان الأرض للاستيطان اليهودي المستقبلي فحسب، بل صاغ هذا القانون أيضاً ضمن "مجال التنمية والمصلحة العامة." أمّا بالنسبة إلى المادة 11 التي أعلنت ضرورة إدخال نظام جديد إلى الأراضي يهدف إلى "تعزيز الاستيطان الوثيق والزراعة المكثفة للأرض"، فقد أشارت فعلاً إلى أن الوكالة اليهودية ستكون شريكة في إنشاء أو تشغيل الأشغال العامة والخدمات والمرافق العامة، وفي "تطوير أي من الموارد الطبيعية للبلد"، والتي لا تتعهد بها الإدارة نفسها.[52] بعبارة أُخرى، لم تعد هذه مجرد خطوات انتهازية اتخذتها المنظمة الصهيونية، بل أصبح التطوير والاستيطان الصهيوني، عمليتين مترابطتين ارتباطاً وثيقاً في الخطاب الذي يقود سياسات الانتداب في الولاية.

وبين السياسات الفعلية التي ولّدت الإصلاح الزراعي، كان هناك سياسات تركز على تفسير المفاهيم المجتمعية المشاعية لحقوق الأرض التي تخدم السكان العرب الفلسطينيين المحليين، بمفهوم يقوم على العقارة والملكية. ويشير فورمان وكيدار إلى مفهوم "القانون الاستعماري" الذي لا يقتصر على المفاهيم الغربية المستوردة وحدها، بل ينطبق أيضاً على تفسير القوانين الموجودة مسبقاً وفقاً للمعايير الغربية.[53]

ونُفِّذ هذا النمط من التفسير على الترتيب الذي تمارسه الولاية لحقوق الملكية العقارية، فاستخدم نظام الانتداب المفاهيم الغربية للقانون والأرض، وبالتالي، طُبّق منطق الإحلال الاستعماري الاستيطاني من خلال نزع ملكية الأراضي المشاعية. ويرى فورمان وكيدار أنه في حين أُمليت حقوق الأراضي على أساس "القانون العثماني المعمول به"،[54] فإن الفئات القانونية العثمانية من الأرض "الموات" وكذلك "المتروكة"، حُددت من خلال منطق استعماري غربي، وتمت ملاءمتها لمعايير التحديث والنظام الغربي الخاص بالحكومة المسيطرة على فلسطين.[55]

لقد وضع "قانون أراضي الموات" الذي طُبق في سنة 1921، هذه الأراضي ضمن خانة "أرض قاحلة غير مزروعة" عامة، الأمر الذي أعطى السكان الحق الجماعي في التوسع الزراعي في الأراضي التي تملكها الدولة.[56] كما منح "جمعية الاستعمار اليهودي الفلسطينية" فرصة لشراء وتطوير الأراضي والاستيطان فيها مستقبلاً. وهمّش، جزئياً، "تقرير بينتويتش" لسنة 1923، والذي أنهى المناقشة القانونية للسياسة البريطانية المتعلقة بحقوق الأراضي، الحقوقَ القانونية للسكان الفلسطينيين في الأراضي المزروعة، ومع ذلك، أُنكرت قانونياً الحقوق القائمة على فئة الأراضي "المتروكة". فقد فسّرت سياسة بينتويتش قانون الأراضي "المتروكة" على أنها "أرض مخصصة لمجموعة متنوعة من الاستخدامات العامة أو المجتمعية، بما في ذلك الرعي"، بحيث أعطت الحقوق لسكان القرى فقط، باستثناء البدو المحليين الذين يسكنون الخيام باعتبارها مساكن غير شرعية، أو لا تشكل مجتمعاً بحسب المعايير الغربية.[57] وتملك الدولة الحقّ في مصادرة الأراضي غير المزروعة التي اعتُبرت وفقاً للقانون العثماني بحسب تفسيره، "أراضي موات"، والمضي قدماً في منحها للمستوطنين الصهيونيين ضمن حدود الصفقة معهم، كجزء من نموذج استعماري استيطاني أكبر لحيازة الأراضي والقضاء على الأصلانيين. وأرست قوى الاستعمار الاستيطاني هذه الممارسة من خلال "تسهيل وإضفاء الطابع المؤسساتي على نقل الأراضي من السكان الأصليين إلى المستوطنين"، وفي الوقت نفسه، "ساعدوا في إخفاء إجراءات نزع الملكية وشرعنة نظام الأراضي الجديد."[58]

واعتبرت الإدارة الاستعمارية الحقوق الجماعية للسكان العرب المحليين المتعلقة بالأرض، والمشروعة في القوانين العثمانية، حقوقاً "معنوية"،[59] أي غير سياسية ولا تتسق مع القواعد الاقتصادية السياسية التي هدفت إلى إنشائها، الأمر الذي جعل عملية إقصائهم عن الأرض متكاملة في الخطاب القانوني للدولة،[60] إذ جُرّد المجتمع العربي من أدواته القانونية للمطالبة بالأرض، وهو ما تسبب بطرد أجزاء من المجتمع العربي الفلسطيني. وعلى هذا النحو، بدأت دولة الانتداب مسار قوننة لفصل العلاقة التاريخية بين المجتمع الفلسطيني وأرضه، ورفض جميع أشكال التسوية الجماعية على الأرض من خلال ممارسات الزراعة والإنتاج التي اعتاد عليها الفلسطينيون خلال تاريخهم، بل إنها عبر عملية تسليع الأرض، شرّعت بيع ومنح الأرض للمنظمات اليهودية الممولة التي تنوي التسوية المستقبلية بدعم دستوري وقانوني كامل.

وكان لهذه القوانين والمؤسسات الصهيونية الفاعلة في تملّك الأراضي عبر شرائها، تأثير أساسي في النهج الذي اتّبعته الدولة الإسرائيلية، إذ سنّت إسرائيل العديد من القوانين للسيطرة على الأرض، وألغت قوانين أُخرى تشرعن علاقة الفلسطيني بالأرض. ومثلما يشير رائف زريق، "في كل ما يتعلق بالمواطنين العرب [تحت دولة إسرائيل] فإن لهذا الأمر دلالة خاصة إذ يشير إلى أنه مهما ارتفع منسوب الحديث القانوني عن حقوق هذا المواطن، فإنه هو الآخر يبقى محاصراً بالهواء إلى حد كبير، لأن الأساس المادي لوجوده بالمعنى المباشر - الأرض - موجود بين يدي مؤسسة تستعديه."[61] وفضلاً عن ذلك، فإن توظيف خطاب "التطوير" في السعي لسلب مزيد من الأراضي هو نهج إسرائيلي مستمر، على غرار مشروع "تطوير الجليل" الذي تصدّى له المجتمع الفلسطيني في أراضي 48، في يوم الأرض، كونه يضفي شرعية على سلب المستعمرات التعاونية للأرض العربية. أي أن مفهوم "التطوير" في المنظومة الاستعمارية الاستيطانية الصهيوني، هو المكافىء المباشر لسيرورة التهويد. 

الاعتراف الوطني: قومية استعمارية استيطانية وقومية وطنية تحررية

يساهم اعتراف الدولة بالأمّة في اندماج المجتمع وإرادته السياسية داخل الدولة - القومية التي يُفترض بها تمثيله. وتشير بوسنياك إلى أن "تجربة الهوية القومية والوطنية [....] جزء لا يتجزأ من المواطنة"،[62] ويترتب على ذلك أن تعتمد تجربة المواطنة والانتماء بين المجتمعات في ظل دولة قومية، على الإجراءات التي تتّبعها الدولة بالإقرار بكونها منتمية إلى هوية وطنية مشتركة. والاعتراف الوطني من طرف الدولة، ليس فعل اعتراف بمجتمع متخيل فحسب، بل اعتراف بالمطالب السياسية المرتبطة بالهوية الجمعية لهذا المجتمع أيضاً. وسأعمل في هذا القسم من البحث، على عكس ديناميات أنماط الإدماج والإقصاء، من خلال فعل الاعتراف بالهوية القومية للمجتمع المستوطن من جهة، وإنكار وجدان المجتمع الأصلاني كوحدة وطنية متماسكة تملك مطالب سياسية، من جهة أُخرى.

إن الهوية القومية وحدة سياسية في جوهرها، وترتبط بمطالبات سياسية وإقليمية مستقبلية تتعلق بتقرير المصير. ومن خلال اعتراف الدولة بهذه الوحدة السياسية، فإنها تمنح مساحة قانونية لدمج المطالب السياسية المرتبطة بها في سياسات الدولة المتعلقة بالحق في الدخول إليها، والحصول على جنسيتها، والمشاركة السياسية فيها، وتملّك أو استخدام الأراضي، وما إلى ذلك. ويتحول ذلك إلى عملية معقدة في ديناميات القوميات المعنية الخاضعة لنظام الانتداب، إذ إن علاقة إلغاء متبادلة تربط بين الحركة القومية الصهيونية من جهة، ومساعي التحرر الوطني الفلسطينية من جهة أُخرى. فالحركة الصهيونية تطالب بحق الشعب اليهودي في العالم كله، في ملكية حصرية لأرض فلسطين، الأمر الذي يُترجم بقومية استعمارية استيطانية. وتتضمن النزعة القومية الدينية - الإثنية الاستعمارية للقوانين اليهودية الصهيونية المرتبطة بـ "الييشوف"، تأكيداً للتاريخ اليهودي الحصري على فلسطين، الأمر الذي لا يمكن أن يتجلى إلّا بنفي الاعتراف بوجود الشعب الأصلاني وتاريخه. وعلى الجانب الآخر، تطالب الحركة الوطنية الفلسطينية بحقوقها الوطنية على أساس انتماء الشعب الأصلاني إلى أرض فلسطين،[63] وهو ما ينطوي على مطالب مناهضة للاستعمار، مثل السيادة وحقوق السكان الأصلانيين. وهكذا، لا يمكن للانتداب إلّا الاعتراف بأحدهما على حساب الآخر.

لكن هذا لا يعني أن العناصر الصهيونية في إدارة الانتداب هي وحدها مَن وقف ضد الاعتراف الوطني بالشعب الفلسطيني، فقد أدلى بلفور في مذكرة في سنة 1919، بتصريح صارخ إزاء حقوق الفلسطينيين، يعكس فيه النزعة الإمبريالية الصهيونية للإدارة البريطانية الاستعمارية على فلسطين، جاء فيه: 

إن التناقض بين نص العهد [المسودة التي كانت موضوع نقاش في فرساي] يبدو أكثر وضوحاً في حالة الأمة المستقلة في فلسطين مقارنة بحالة الأمة المستقلة في أرمينيا؛ ففي فلسطين نحن لا نقترح حتى الخوض في شكل استشارة رغبات سكان البلد الحاليين [....] القوى العظمى الأربع ملتزمة بالصهيونية. والصهيونية، أكانت صحيحة أم خاطئة، جيدة أم سيئة، متجذرة في تقاليد تمتد إلى آلاف السنين، وفي الحاجات الحالية، وفي آمال المستقبل، ذات أهمية أعمق كثيراً من رغبات وتحيزات الـ 700,000 عربي الذين يسكنون تلك الأرض القديمة.[64] 

هذا التصريح يتجاهل بشكل واضح تطلعات الشعب الفلسطيني وحقوقه لفائدة المصالح الجيوسياسية الصهيونية. وفي هذا الصدد، يتشارك الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية في نظرتيهما إلى مجتمعات الشرق، ولا سيما الشعب الفلسطيني الذي يدرجانه ضمن "المجتمعات المختلفة"، باعتبار أن انتماءاته هي انتماءات قبلية وطائفية غير ناضجة بما يكفي للحصول على حقوق وطنية وقومية. ويترتب على إنكار الوجود الوطني للشعب المستعمَر، إسقاط الهويّة الجامعة التي يستند إليها الشعب للمطالبة بسيادته على الأرض، واستبدالها بأطر ضيقة ومبعثرة ترتكز إلى هويات ثانوية. فمع الغزو الأوروبي للشرق الأوسط، وإحلال نظام الانتداب، برزت السياسات الطائفية كمبدأ تنظيمي لإدارة ومؤسسات الدولة - القومية الاستعمارية، وأجبرت بالتدريج المجتمعات الدينية على التعبير عن نفسها سياسياً على هذا النحو فقط. وتتمثّل هذه السياسات الاستعمارية، لإعادة التنظيم المجتمعي، في استراتيجيا "فرّق تَسُدْ" الرامية إلى تحييد التطلعات الوطنية للسكان المستعمَرين الأصلانيين، من خلال إلغاء هويتهم الموحدة، مع تعزيز الهويات الثانوية الخاصة بانتماءات متنافسة غير وطنية، كالاختلافات الطائفية،[65] وهو ما طبقته السلطة الاستعمارية على فلسطين.[66]

ومع ذلك، تتعهد الإدارات الكولونيالية المتنوعة للشعوب التي تستعمرها عادة بمستقبل السيادة الوطنية التي يُفترض أنها ستُيسَّر من خلال عملية "التحضير" و"التحديث" عبر بناء الدولة القومية. وقد وضعت الوعود البريطانية التي قُدمت إلى الشعوب العربية المبدأ 11 من مبادىء ويلسون الـ 14، مهمة مركزية للانتداب، والتي تتلخص بضمان تقرير المصير المستقبلي للشعوب المستعمَرة، الأمر الذي يثبت "الافتراض المشترك بين المستعمِر والمستعمَر بأن الأخير سيكون في نهاية المطاف ورثة هياكل الدولة".[67] وعلى مستوى الاعتراف الخطابي، هناك افتراض ضعيف بأن المستعمَرين قد يتحولون في المستقبل، في حال طُبّقت آليات الحداثة و"التحضير" عليهم، إلى أمة شرعية صاحبة دولة - قومية ذات سيادة. غير أن الاعتراف بالقومية الصهيونية همّش الحيّز لاعتراف وطني من هذا النوع، لأنها بطبيعتها، تعتمد على فرضية عدم وجود الفلسطيني. وبالتالي، مثلما يخبرنا الخالدي: 

تم تجاهل الأغلبية العربية، التي تشكل 90% من سكان فلسطين، ككيان وطني أو سياسي. في حين أن مواد الانتداب الـ 28 تضمنت 9 مواد عن الآثار، بينما لا توجد مادة واحدة تتعلق بالشعب الفلسطيني في حد ذاته: فقد تم تعريفهم بشكل مختلف وغامض على أنهم "قسم من السكان"، أو "السكان الأصليين"، أو "الشعوب والمجتمعات". بالنسبة لبريطانيا العظمى وعصبة الأمم، الفلسطينيون بالتأكيد لم يكونوا شعباً.[68] 

في الواقع، يظهر إنكار الاعتراف الوطني بالفلسطينيين في مقالات وسياسات الانتداب كلها التي قمنا بقراءتها ومراجعتها، إذ يُشار إلى العرب الفلسطينيين على أنهم "سكان مشتتون من غير اليهود"، أو يتم تصنيفهم باعتبارهم جماعات دينية. فالانتداب صُمم أساساً، على إنكار تاريخ الأغلبية العربية الفلسطينية ومستقبلها، بينما عمل الانتداب على صيانة تاريخ ومستقبل الأقلية اليهودية المستوطنة على أرض فلسطين.

بعبارة أُخرى، بدأت السلطة الاستعمارية بأن تعكس بشكل أساسي الفكر السياسي الصهيوني الذي يؤكد الحقوق العليا والحصرية لليهود على الأرض، مع نفي الاعتراف بالحقوق الوطنية والوجود التاريخي للفلسطينيين. إن ترسيخ الأسطورة والرواية القومية الصهيونية من طرف سلطة الانتداب معناه إنكار التاريخ الوطني الفلسطيني، ذلك بأن عدم الاعتراف بالفلسطينيين كشعب من طرف الانتداب يتعلق بحقيقة أن هذا الاعتراف لا ينسجم مع السرد التاريخي الصهيوني القومي للشعب اليهودي الذي كان " 'المختارين' لهذه الأرض، والمنفيين منها سابقاً، والعائدين إليها من خلال خلاص الدولة القومية اليهودية." فحقيقة أن الفلسطينيين هم شعب ذو روابط وطنية تاريخية بالأرض، هي عائق وضربة في صميم الرواية الصهيونية بأن هذه الأرض كانت وستكون وطناً قومياً للشعب اليهودي، ولذلك على المستعمِر أن يواجه هذه الحقيقة ويقمعها بشكل مستمر. 

استخلاصات

هذه الدراسة المتواضعة محض محاولة للمساهمة في توسيع المنظور التاريخي الذي نقرأ من خلاله التشريعات والممارسات القانونية الاستعمارية الاستيطانية التي أسس من خلالها نظام الانتداب البريطاني الأرضية للمنظومة الصهيونية المتجسدة بالدولة اليهودية التي نشأت في سنة 1948. وبناء على ذلك، يمكننا أن نخلص إلى المنطق القائل إن منظومة المواطنة التي أنشأتها السلطة الاستعمارية البريطانية في مراحلها الأولى، وعبر توظيف خطاب قانوني حداثوي وكوني متعلق ببناء سيادة الدولة - القومية على المواطنين، قد حددت سياسات المواطنة وفق المعايير الأيديولوجية الصهيونية، لتعيد بناء آليات الدولة لـ "الإدماج والإقصاء"، وإنتاج "التكوين الاجتماعي الاستعماري الاستيطاني" المقام على منطق محو الأصلاني واستبداله بالمستوطن في فضاء الوطن الفلسطيني.

إن التمييز بين المواطن وغير المواطن على أساس عرقي يشكّل مواطنة استعمارية استيطانية؛ فبعدما أنشأت دولة الانتداب معايير اكتساب الجنسية الغربية والوثائقية والمجردة والملزمة إقليمياً، أدى ذلك إلى ظهور طبقة كونية للإدماج على أساس الوجود الإقليمي الفردي الحالي والمستقبلي، وتسبب ذلك باقتلاع وانتزاع الفلسطينيين العرب الأصلانيين من أرضهم (deterritorialising)، وتوليد القوى الاستعمارية الاستيطانية التي اقتلعت شرعية انتماء السكان الأصلانيين إلى الأرض الفلسطينية، وحوّلتهم إلى شبه أجانب أو "مقيمين" عليها. أمّا بالنسبة إلى المستوطنين اليهود، فإن التفويض لم يضع أي عوائق قانونية أو دستورية في طريق هجرتهم وعملية تجنيسهم، بل إن الانتداب خلق لهم، بصورة فاعلة، طبقة خاصة لإدماجها على أساس النسب، توطّن (territorialising) الانتماء العرقي اليهودي. وتدل معايير المشاركة السياسية أيضاً على نهج استعماري استيطاني، يُقصي الطموح السياسي الأصلاني كونه يهدد المزاعم القومية الحصرية التي تشكل الأساس الفكري للحركة الصهيونية. وهكذا ابتكرت السلطة الاستعمارية مستويين من الحقوق السياسية: أحدهما جمعي وجمهوري، والآخر فردي وليبرالي، أو في أفضل أحواله، طائفي؛ وعلى المستوى الأول تُمنح الأقلية اليهودية الحقوق على أساس الانتماء العرقي الأولي، بينما على المستوى الثاني، خُصصت الحقوق الأُخرى للعرب الفلسطينيين، الأمر الذي يعني تفعيل الإبادة السياسية للأغلبية العربية، وتسييس الأقلية المستوطنة اليهودية. أمّا بالنسبة إلى السياسات المرتبطة بالأراضي، فقد مهدّت الدولة للإحلال الاستيطاني على حساب الأصلاني، من خلال نزع ملكية الأراضي وتسهيل نقل ملكيتها إلى الحركة الصهيونية.

وأسست سياسات الانتداب على الأراضي مشروعاً لتحديث الأراضي ترادف مع تهويدها، إذ نصّ الانتداب على التعاون بين مشاريع التنمية الحكومية، وطموحات التنظيم الصهيوني في حيازة الأراضي.

وعبر القانون الاستعماري، فقد فسّر نظام الانتداب سياسات الأراضي العثمانية، وحوّلها باسم التحديث، من نظام أراضٍ أعطى العرب الأصلانيين حقوقاً جماعية على الأرض، إلى أراضٍ تتم مصادرتها وتسليعها وتسليمها إلى المجتمع المستوطن المنظم والمحدّث والمتكامل سياسياً.

وأخيراً، تشترط إقامة البُنية السياسية والاجتماعية للمجتمع المستوطن إنكار الوجود الوطني الأصلاني، وهو ما يولّد القوة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية ذاتها. ويُعدّ توزيع الاعتراف من طرف الانتداب، استعمارياً واستيطانياً وإثنوقراطياً في جوهره، إذ رُسخت السرديات الاستشراقية التقليدية المتعلقة بالمجتمعات الشرقية أكثر ممّا يحدث في حالات استعمارية مشابهة، ذلك بأنها خطت إلى ما هو أبعد من مجرد تفرقة المجتمع المستعمَر إلى فئات دينية متفرقة ومتناقضة، بل إنها وصلت إلى ترسيخ الخطاب الخاص بالاستعمار الصهيوني الاستيطاني وفحواه: "أرض بلا شعب لشعب من دون أرض". أي أن الاستعمار استهدف الهوية الجامعة الفلسطينية التي يمكن للشعب الفلسطيني استناداً إليها، المطالبة بالسيادة على الأرض، وهذا جزء من استهداف أكبر للوجود الفلسطيني المتعلق بالأرض، والذي يقف في طريق الطموحات الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية، وأساطيرها، ومطامعها المادية.

إن النظرة إلى الدولة الانتدابية كدولة عادية في هذا البحث لم يكن بهدف ترسيخ نوع من أنواع التطبيع التاريخي، وإنما هي محاولة لتوسيع نظرتنا التاريخية إلى جذور الدولة اليهودية، ولإظهار التلاحم التام ما بين الحداثة المتجسدة في بناء سيادة الدولة القومية والإحلال المتجسد في عملية محو الشعب الفلسطيني واستبداله. فمن خلال تحليل ديناميات منظومة المواطنة ضمن نظام الانتداب البريطاني، والتي فرضها الاستعمار في الوقت الذي كان المجتمع الاستيطاني لا يشكّل إلّا 7%، نستطيع أن نرى جذور قوننة وشرعنة النظام الفوقي الذي تقوم عليه "الدولة اليهودية". وفي هذا الصدد، عملت الأيديولوجيا الحداثية، من خلال التشريعات المتنوعة، كقوة استعمارية لهندسة وتعزيز وتكريس علاقات الاستغلال، والسلب والتهجير والاقتلاع، بين المستعمِر المستوطن والمستعمَر الأصلاني.

وأود أن أختم باقتباس من رواية إميل حبيبي الشهيرة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، إذ يروي سعيد المحبط: 

… بل حسبت أن العرب الذين بقوا في"'إسرائيل" هم، أيضاً، مُلك الدولة. قالت إن المختار أخبرهم بهذا الأمر، أنهم أخبروه به.

وكنت، في إحدى الليالي، سألتها: ألم يكن لأخوالك أرض في جسر الزرقاء؟ فأجابت: بلى. ولكن الحكومة استولت عليها كما استولت على بقية الأراضي في جسر الزرقاء.

فسألتها: ألم يرفع أخوالك أمرهم إلى القضاء؟

فأبدت دهشتها. وقالت: قال لنا المختار إنهم قالوا له: حاربتم فانهزمتم، فأصبحتم، وأموالكم، حلالاً لنا. فبأي قانون يطالب المغلوب بحقّه؟[69] 

هذا تعبير مثالي عن المأزق الدقيق الذي يجد فلسطينيو الداخل أنفسهم عالقين في متاهته، وهو الذي يحدد التجربة التاريخية الفلسطينية على مدار القرن المنصرم، والتي حاولنا معالجتها والتطرق إليها في هذه الورقة. ففي واقع تهيمن المصالح الاستعمارية على تشكيلات السلطة، كيف يمكننا فهم وظيفة القانون الدستوري إلّا كونها وسيلة لترسيخ قوة السادة المستعمِرين والحفاظ عليهم؟ صحيح أن بعض الأحداث التاريخية أدى إلى تغييرات في ممارسات نظام الانتداب كالثورة الفلسطينية الكبرى خلال الفترة 1936 – 1939، والتي نجم عنها صدور الكتاب الأبيض، غير أن النكبة وقعت، وتأسست الدولة الصهيونية ونشأت على البُنية التحتية التي تركها الانتداب معها. مضى 100 عام، ولا يزال الغياب الإقليمي الموقت للفلسطينيين خلال أحداث النكبة، يشكل نزوحهم العابر للأجيال، ولا يزال فلسطينيو الداخل يعانون جرّاء جنسية مستحيلة، كجزء من منظومة مواطنة في دولة تستعدي وجودهم. وخلال تظاهرات يوم الأرض في سنة 1976، لم يراود أي فلسطيني شك في أن كل سياسة "تطوير" و"تحديث" يتّبعها النظام الاستعماري الصهيوني الاستيطاني، تترادف بشكل مباشر مع تهديد وجوده على أرضه، ولا يزال الفلسطينيون يكافحون، منذ يوم توقيع وعد بلفور، في جميع أماكن وجودهم من أجل تحصيل حقوقهم التاريخية والأبدية في الاعتراف الوطني، والعودة، والتحرير وتقرير المصير.

 

المصادر:

[1] Bernard Cohn & Nicholas Dirks, “Beyond the Fringe: The Nation State, Colonialism, and The Technologies of Power”, Journal of Historical Sociology, vol. 1, no. 2 (June 1988), p. 224.

[2] Gershon Shafir and Yoav Peled, "Citizenship and Stratification in an Ethnic Democracy", Ethnic and Racial Studies, vol. 21, no. 3 (1998), pp. 408-427.

[3]Rogers Brubaker, Citizenship and Nationhood in France and Germany (Cambridge: Harvard University Press, 1992), pp. 21-49.

[4]Alexandre Kedar & Oren Yiftachel, “Land Regime and Social Relations in Israel”, Swiss Human Rights Book, vol. 1 (May 2006), pp. 127-150.

[5] Nadim Rouhana and Areej Sabbagh-Khoury, "Settler-Colonial Citizenship: Conceptualizing the Relationship Between Israel and its Palestinian Citizens", Settler Colonial Studies, vol. 5, no. 3 (2015), pp. 205-225.

[6] Patrick Wolfe, "Settler Colonialism and the Elimination of the Native”,

Journal of Genocide Research, vol. 8, no. 4 (2006), pp. 388.

[7] Linda Bosniak, The Citizen and the Alien: Dilemmas of Contemporary Membership (New Jersey: Princeton University Press, 2006), p. 4.

[8] Ibid.

[9] Ibid., p. 20.

[10] Ibid., p. 2.

[11]Ibid., p. 1.

[12] Shafir and Peled, op. cit.

[13] John Torpey, "Coming and Going: On the State Monopolization of the Legitimate ‘Means of Movement’ ”, Sociological Theory, vol. 16, no. 3 (1998), p. 260.

op, cit. [14] Brubaker,

[15] Torpey, op. cit., p. 260.

[16] فضلاً عن ذلك، ينص البند 4 على ضرورة تطوير "مؤسسات حكم ذاتي يهودية"، ويتخطى ذلك بالاعتراف بـوكالة يهودية كـ "جسد سياسي ممثل يساهم في احتواء الأجندات الصهيونية في التقييمات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للدولة."

[17] Torpey, op. cit., p. 26.

[18] Lauren Banko, “The Creation of Palestinian Citizenship Under an International Mandate: Legislation, Discourses and Practices, 1918-1925”, Citizenship Studies, vol. 16, Issue 5-6 (2012), pp. 641-655.

[19] Ibid.

[20] Brubaker, op. cit.

[21] Lauren Banko, "Claiming Identities in Palestine: Migration and Nationality under the Mandate", Journal of Palestine Studies, vol. XLVI, no. 2 (Winter 2017), p. 30.

[22] في حال تم اكتساب الجنسية الفلسطينية بالولادة، فإن القسم الأول من "مرسوم الجنسية الفلسطينية" للقانون الفلسطيني لسنة 1993، يُعطي هذه الفرصة فقط للذين هم من الجيل الثاني من المهاجرين الذين تنطبق عليهم قوانين الوجود الإقليمي قبل تطبيق القانون وبعده.

[23] Banko, "Claiming Identities in Palestine…”, op. cit., p. 28.

[24] Nadim Bawalsa, "Legislating Exclusion: Palestinian Migrants and Interwar Citizenship”, Journal of Palestine Studies, vol. XLVI, no. 2 (Winter 2017), p. 46.

[25] Ibid.

[26] Ibid.

[27] Ibid.

[28] Ibid., p. 45.

[29]Ibid.

[30] Bosniak, op. cit., p. 132.

[31] Ibid.

[32] Rashid Khalidi, The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood (Boston: Beacon Press, 2006), p. 185.

[33] ماهر الشريف، "البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908 – 1993" (نيقوسيا: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، ط 1، 1995).

[34].“The Palestine Mandate”, “The Avalon Project: Documents in Law, History and Diplomacy”, Yale Law School, New Haven, Connecticut, 2008, Article 4.

[35] يشدد هذا البند بإفراط على العامل الليبرالي الكوني، من خلال تكرار وتأكيد العزم على توزيع هذه الحقوق "بغضّ النظر عن العرق والدين"، بينما من المفارقات أن يكون هذا البند مكرساً بالكامل تقريباً للمطالبة بأجندة سياسية متحيزة عرقياً عندما يتعلق الأمر بسياسات الدولة.

[36] “The Palestine Mandate…”, op. cit.

[37] Ibid.

[38] Banko, "The Creation of Palestinian citizenship…", op. cit., p. 641.

[39] Bosniak, op. cit., p. 22.

[40] Khalidi, op. cit., p. 9.

[41] Ibid., p. 32.

[42] Ibid., p. 37.

[43] Ibid.

[44]Shafir and Peled, op. cit.

[45] Baruch Kimmerling, Politicide: Ariel Sharon’s War Against the Palestinians (New York: Verso Books, 2003), p. 4.

[46] Torpey, op. cit., p. 255.

[47] Geremy Forman and Alexandre Kedar, "Colonialism, Colonization and Land Law in Mandate Palestine: The Zor al-Zarqa and Barrat Qisarya Land Disputes in Historical Perspective", Theoretical Inquiries in Law, vol. 4, no. 2 (October 2003), p. 510.

[48] رائف زريق، "الأرض، القانون، الأيديولوجيا: مدخل"، "قضايا إسرائيلية"، العدد 54 (2014)، ص 10.

[49] “The Palestine Mandate…”, op. cit., Article 4.

[50] Ibid., Article 6.

[51] Forman and Kedar, op. cit., p. 533.

[52] “The Palestine Mandate…”, op. cit., Article 11.

[53] Forman and Kedar, op. cit., p. 494.

[54] Ibid., p. 501

[55] Ibid., p. 514.

[56] طُلب من أولئك الذين أعادوا إحياء الأرض فعلاً، وكان لهم الحق في الاحتفاظ بها وفقاً للقانون العثماني، التسجيل خلال الأشهر الثلاثة الأولى من نشر المرسوم من أجل ضمان هذا الحق (يُنظر: Ibid.).

[57] Ibid., p. 520.

[58] Ibid., pp. 494-495.

[59] Ibid., p. 517.

[60] حتى عندما اعترفت اللجنة الثالثة والأعلى (لجنة الدوق) ببعض المطالبات بالأراضي غير المزروعة، في سنة 1923، فإن الإدارة الاستعمارية كانت لا تزال تبني حجتها على الحقوق المعنوية وحدها، وتنظر إلى التعويض عن الطرد كـ "نعمة" (يُنظر: Ibid., p. 518).

[61] زريق، مصدر سبق ذكره، ص 11.

[62] Bosniak, op. cit., p. 20.

[63] Ibid.

[64] يُنظر نص المذكرة بالإنجليزية في Aldeilis.net، في الرابط الإلكتروني.

[65] يُنظر: عزمي بشارة، "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة" (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 20؛ مهدي عامل، "في الدولة الطائفية" (بيروت: دار الفارابي، ط 2، 1986)، ص 24 – 25.

[66] Laura Robson, Colonialism and Christianity in Mandate Palestine (Austin, Texas: University of Texas Press, 2011), p. 2.

[67] Khalidi, op. cit., p. 43.

[68]Ibid., p. 33.

[69] إميل حبيبي، "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (حيفا: دار عربسك للنشر، 2006)، ص 126 - 127.

السيرة الشخصية: 

أمير مرشي: طالب دكتوراه في جامعة ميتشيغان.