تتويجاً للسياسات الإسرائيلية المتواصلة والهادفة إلى تهويد مدينة القدس وتقويض قضية اللاجئين الفلسطينيين، صادق الكنيست الإسرائيلي، في 28 تشرين الأول / أكتوبر 2024، في القراءة الثالثة، على مشروعَي قانونَين لاعتبار وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) منظمة إرهابية، وحظر عملها في المناطق الفلسطينية المحتلة الخاضعة لسيطرة إسرائيل، وذلك خلال 90 يوماً من إقرار القانونين. وهذا القرار، عدا أنه يهدد بانهيار منظومة المساعدات، الهشّة أصلاً، التي تقدّمها الوكالة للاجئين الفلسطينيين، فإن له أيضاً تبعات سياسية تؤثر سلباً في القضية الفلسطينية برمّتها.
لن تركز هذه المقالة على التداعيات الإنسانية والقانونية لحظر إسرائيل أعمال أعمال الأونروا، وإنما على تدرّج الخطاب السياسي الإسرائيلي في شيطنة الأونروا وتشريع وقف أعمالها في القدس.
وتجادل المقالة في أن حظر أعمال الأونروا في القدس، والاستيلاء على مقرّها الرئيسي في الشيخ جرّاح، هما جزء لا يتجزأ من المخططات الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية المتواصلة في مدينة القدس، والهادفة إلى تهويد المدينة ومحو الوجود الفلسطيني فيها من ناحية، وإفراغ قضية اللاجئين الفلسطينيين من محتواها وإنهائها إلى الأبد بإلغاء حقّ العودة، من ناحية أُخرى.
وبدأت الدعوات الإسرائيلية الصريحة إلى محاربة الأونروا ووقف أعمالها في بدايات سنة 2018، لكن وتيرتها تسارعت بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023. فما هو محتوى الخطاب الذي استخدمته إسرائيل لشيطنة الأونروا بهدف الحصول على الدعم الدولي لمخططاتها وسياساتها الاستعمارية؟
احتلال الضفة وغزة وضم القدس
تأسست وكالة الأونروا في 8 كانون الأول / ديسمبر 1949، بناء على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يحمل الرقم 302، وذلك بهدف إغاثة ودعم اللاجئين الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم من بيوتهم وأراضيهم خلال حرب 1948، في 5 مناطق عمليات (الضفة الغربية بما فيها شرقي مدينة القدس، وقطاع غزة، والأردن، وسورية، ولبنان). وتشمل خدمات الأونروا: التعليم الأساسي، والرعاية الصحية الأولية، والخدمات الاجتماعية، وتحسين البُنية التحتية للمخيمات، والتمويل الصغير، والاستجابة للطوارىء، بما في ذلك في حالات النزاع المسلّح.
وباحتلال إسرائيل لقطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس، في 5 حزيران / يونيو 1967، شهد المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين مرحلة جديدة، إذ عمدت إسرائيل إلى ضم مدينة القدس والقرى المجاورة لها، في مخالفة للقانون الدولي.
بهذا الضم، منحت إسرائيل مدينة القدس وضعاً قانونياً يختلف عن سائر المناطق المحتلة، وبات مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين هو المخيم الوحيد تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة،[1] وقد شملهم إحصاء السكان بعد الحرب مباشرة.[2]
وعلى الرغم من ضم المدينة إلى حدود إسرائيل، فإن السكان لم يُمنحوا الجنسية الإسرائيلية، وإنما بطاقات هويّة كمقيمين دائمين في المدينة، مع السماح لهم بالاحتفاظ بالجنسية الأردنية التي منحتها لهم الأردن في إبان حكمها الضفة الغربية منذ سنة 1949، كما عوملوا كأجانب يمكنهم البقاء في المدينة إن رغبوا في ذلك وفقاً لقانون الدخول لسنة 1952.[3] وبحسب هذا القانون، يمكن لإسرائيل إلغاء إقامة أي شخص يغيّر مكان سكنه وعنوانه إلى خارج حدود إسرائيل، بما في ذلك السكن في مناطق الضفة الغربية.
وبما يتعلق بقضية اللاجئين، فإن إسرائيل وافقت على الحفاظ على الترتيبات القائمة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وتغطية نفقات استهلاك المياه فيها، وجاءت موافقة إسرائيل بناء على رسائل متبادلة مع الأونروا هي بمثابة اتفاقية تحكم عمل الأونروا في القدس بعد احتلالها في 5 حزيران / يونيو 1967.[4] غير أن هذا الاتفاق كان في انتظار المتابعة للتوصل إلى ملحق للاتفاقية،[5] وهو ما لم يتم قط حتى الآن. وهذا يشمل طبعاً ما يتعلق بمخيم شعفاط للاجئين في القدس.
إن وجود مخيم للاجئين الفلسطينيين تحت السلطة الإسرائيلية المباشرة له أهمية سياسية، فوجوده يعمل على إبراز قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقّ العودة. كما أن عملية اللجوء بصورة عامة، تمنح اللاجىء هويّة خاصة تستحضر دائماً ذكريات تجربة الطرد وفقدان البيت والأرض. فعلى سبيل المثال، إن لاجئي مخيم شعفاط في القدس تم تهجيرهم، في معظمهم، من القرى الواقعة غربي القدس، والتي أصبحت أغلبيتها اليوم أحياء يهودية بالكامل.
إن قرب اللاجئين جغرافياً من أماكن سكناهم الأصلية يعزز هويتهم كلاجئين، ويزيد في رغبتهم وأملهم وتمسّكهم بالعودة.[6] ومن ناحية أُخرى، فإن وجود المخيمات يخلق إشكالية لإسرائيل نفسها. فمنذ سنة 1948، اتخذت إسرائيل قرارات صارمة برفض حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين الذي يضمنه القانون الدولي. فالفقرة 11 من قرار الأمم المتحدة رقم 194، بتاريخ 11 كانون الأول / ديسمبر 1948، تضمن حق مَن يرغب من اللاجئين في العودة إلى بيوتهم والعيش بسلام مع جيرانهم، وأنه يجب أن يُسمح لهم بذلك في أقرب وقت ممكن. ويؤكد القرار وجوب دفع تعويضات للاجئين الذين لا يرغبون في العودة تعويضاً عن أملاكهم التي تركوها.[7]
لم تعترف إسرائيل بهذا الحق قط، فاعترافها بوجود لاجئين يطالبون بأملاكهم وأراضيهم يعني اعترافها بحقّ عودة هؤلاء اللاجئين إلى قراهم الأصلية، وهو ما ترفضه. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن تطبيق حق العودة يهدد خططها الديموغرافية بتحقيق أغلبية يهودية في فلسطين عامة، وفي القدس خاصة، ذلك بأن الميزان الديموغرافي كان ولا يزال في قلب السياسات الاستعمارية الاستيطانية في القدس الهادفة إلى تأكيد الهوية اليهودية للمدينة.
وهذا التعبير عن المخاوف الديموغرافية لإسرائيل بدأ في وقت مبكر، ففي مقابلة أجراها دون ستيفينسون من لجنة خدمات أصدقاء أميركا (AFSC)، مع السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأميركية إلياهو إلياث،[8] يقول هذا الأخير إن السماح بعودة جميع اللاجئين هو بمثابة الانتحار بالنسبة إلى إسرائيل،[9] بمعنى أن عودة اللاجئين تعني تفوّق الفلسطينيين الديموغرافي في مقابل أقلية يهودية، الأمر الذي يعني عدم قدرة اليهود على إنشاء دولة على أرض فلسطين بأقلية يهودية. وبالتالي كان من الضروري إزالة الفلسطينيين لتحقيق الأغلبية اليهودية لإقامة تلك الدولة.
ولأن قضية اللاجئين كانت عقبة خلال المحادثات السرّية الإسرائيلية - الفلسطينية التي استضافتها النرويج بين نهاية ثمانينيات القرن الماضي ومطلع تسعينياته، فإن هذه القضية أُرجئت في الاتفاق الذي تم التوصل إليه، وعُرف باتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، والذي جرى توقيعه في سنة 1993 في واشنطن، إلى المرحلة النهائية التي لم يتم الوصول إليها حتى اليوم، وهو ما شجّع إسرائيل لاحقاً على الحديث عن التعامل مع حالات إنسانية فردية في قضية اللاجئين،[10] وبالتالي تجاهل أن قضية اللاجئين هي قضية جمعية، وعلى عدم تحمّل أي مسؤوليات قانونية أو سياسية تجاه اللاجئين الفلسطينيين، مع أن هذه القضية هي الأساس لحل القضية الفلسطينية.
الحرب على الأونروا وتدخلات بلدية القدس
استغلالاً لتوجّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعادي للأونروا، طالب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في 7 كانون الثاني / يناير 2018، الإدارة الأميركية بخفض المساعدات للوكالة الأممية، لأن وجودها يطيل أمد قضية اللاجئين الفلسطينيين. واقترح نتنياهو إنهاء عمل الأونروا وتحويل هذه المساعدات بالتدريج إلى مؤسسات أُخرى تهتم بقضايا اللاجئين مثل مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR).[11]
في إثر تصريحات نتنياهو، عمدت بلدية القدس إلى تنفيذ عدة تدابير لتقويض عمل الأونروا في مدينة القدس: ففي 4 تشرين الأول / أكتوبر 2018، أعدّ رئيس بلدية القدس السابق نير بركات اقتراحاً لوقف عمل الأونروا في القدس، عارضاً أن تقدّم بلدية القدس خدمات التعليم والصحة والصرف الصحي في مخيم شعفاط للاجئين. وأعلن أن إسرائيل لا تريد لاجئين في القدس، لكنها تريد سكاناً تخدمهم البلدية. ولم يحدد بركات إطاراً زمنيا للتغيير في حينه.[12]
ورداً على ذلك، أعربت الأونروا آنذاك عن قلقها العميق، وقالت إن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تؤثر في عملها الإنساني في القدس.[13] وفي 23 تشرين الأول / أكتوبر 2018، بدأ عمّال البلدية بتنظيف القمامة من المخيم، وهي المشكلة التي اشتكى منها جميع سكانه، لأن الأونروا لم تتمكن من حل هذه المشكلة بشكل كامل وجذري. وفي اليوم نفسه، جال بركات، تحت حراسة القوات الإسرائيلية، في المخيم في خطوة تُعتبر استفزازية للأونروا وسكان المخيم.[14]
وضع هذا الأمر لاجئي المخيم أمام اتخاذ قرار مؤلم بين التمسّك بحقّ العودة وتحسين الخدمات. فإجراء البلدية هو محاولة من طرف إسرائيل لتأكيد وجودها في القدس وإنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين، كما أن حل الأونروا وإنهاء خدماتها هو عملياً تصفية لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
بعد ذلك، عملت البلدية على تقسيم منطقة توسّع المخيم - راس خميس وراس شحادة – إلى أحياء تحمل أسماء متنوعة، ورقّمت المباني في هاتين المنطقتين. وهذا الإجراء يُعدّ أيضاً جزءاً من محاولات البلدية تشديد الرقابة على سكان المخيم بعد أن أصبح واضحاً أين يعيش كل فرد من السكان، كما باتت سيطرة البلدية على المنطقة والسكان أكثر سهولة.[15]
وتتويجاً لتدخّلها في مخيم شعفاط، هدمت بلدية القدس 16 محلاً تجارياً على مدار يومين متتاليين في 21 و22 تشرين الثاني / نوفمبر 2018، على طول الخط الواصل ما بين مدخل المخيم والحاجز العسكري الإسرائيلي، حيث المنفذ الوحيد لسكان المخيم في اتجاه مدينة القدس.
وفي تطور آخر خطر في 30 نيسان / أبريل 2019، أقدمت بلدية القدس على خطوة غير مسبوقة. ففي تحدٍّ واضح لوجود الأونروا في مخيم شعفاط، أرسلت البلدية أوامر بوقف التوسعات الإنشائية الجديدة لكل من اللجنة الشعبية ومركز الشباب الاجتماعي في مخيم شعفاط بحجة البناء من دون ترخيص، مع أن المبنيَين يقعان ضمن حدود الأونروا للمخيم، ورسمياً هما تحت سلطتها.[16] وهذه كانت المرة الأولى التي تتدخل فيها البلدية بأعمال البناء التي يقوم بها اللاجئون ضمن حدود الأونروا، والتي من المفترض أن يكون القرار بشأنها من مسؤولية الأونروا فقط.
الأونروا وصفقة القرن
احتلت قضيتَي القدس واللاجئين مكاناً فيما عُرف بـ "خطة السلام" التي قدّمها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في كانون الثاني / يناير 2020، والتي أُطلق عليها "السلام من أجل الرخاء: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي".[17]
وقد قسّمت هذه الخطة القدس، ومَنحت الفلسطينيين عاصمة على أطراف المدينة، بما في ذلك مخيم شعفاط للاجئين. وفي الصفحة 17 من نصّ الخطة، ورد أن "القدس ستظل العاصمة السيادية لدولة إسرائيل، ويجب أن تظل مدينة غير مقسّمة. يجب أن تكون العاصمة السيادية لدولة فلسطين في جزء من القدس الشرقية في المناطق شرقي وشمالي الجدار الفاصل، بما في ذلك أحياء كفر عقب والجزء الشرقي من شعفاط وأبو ديس، ويمكن تسميتها القدس، أو أي اسم آخر تحدده دولة فلسطين." وبالتالي، تم تأكيد أن جدار الفصل هو الخط الحدودي بين العاصمتين الفلسطينية والإسرائيلية.
وفيما يتعلق بقضية اللاجئين في الصفحة 31 من نص الخطة، فإن التقرير رفض، وبشكل واضح، حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم، الأمر الذي يعني تجريد اللاجئين من حقوقهم القانونية، ومن وضعهم كلاجئين، وبالتالي تجريد الأونروا أيضا من جميع مسؤولياتها، وهو ما يتلاءم تماماً مع التوجهات الإسرائيلية في هذا المضمار.
تداعيات 7 أكتوبر 2023
في أعقاب 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، تسارعت أحداث الحرب الإسرائيلية ضد الأونروا، وخصوصاً بعد ادعاءات إسرائيل في بداية سنة 2024، أن 10% من موظفي الأونروا في غزة مرتبطون بحركة "حماس"،[18] الأمر الذي دفع 9 دول إلى وقف دعمها للأونروا في حينه.[19] وفي إثر هذه الادعاءات، عمل ناشطون يهود على تنظيم تظاهرات أمام مقر الأونروا في الشيخ جرّاح. وخلال هذه التظاهرات تعرّض موظفو الوكالة للمضايقات إلى أن وصل الأمر إلى إضرام النار في أملاك الوكالة في الشيخ جرّاح تحت أعين قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما دفع رئاسة الوكالة إلى تعطيل أعمالها إلى حين استتباب الأمن حول المقر.[20]
قرار مصادرة مقرّ الوكالة في الشيخ جرّاح
في أيار / مايو 2024، أعلنت وسائل إعلامية عزم إسرائيل على مصادرة مقرّ الأونروا في حي الشيخ جرّاح في شرقي القدس وتحويله إلى مشروع سكني يضم 1440 وحدة سكنية لأغراض استيطانية بهدف توسيع مستعمرة معالوت دافنا المجاورة لمقر الأونروا.[21] وفي 30 من الشهر نفسه، أمرت إسرائيل إدارة الأونروا بإخلاء المقر خلال 30 يوماً، بحجة وجود مخالفات تتعلق باستئجار الوكالة للأرض التي أنشأت عليها مقرّها، وعدم تمكّنها من الحصول على موافقةٍ ممّا يسمّى "سلطة أراضي إسرائيل" لبناء المنشأة على تلك الأرض.[22]
هذا الادعاء نفاه المتحدث باسم الأونروا جوناثان فاولر في حينه، موضحاً أنه سمع بالقرار من خلال وسائل الإعلام، وأن الوكالة لم تتلقّ أي قرارات رسمية من السلطات الإسرائيلية. وقال فاولر لوسائل الإعلام: "ليست هذه الطريقة التي من المفترض أن تتم بها الأمور فيما يتعلق بالدبلوماسية الدولية واحترام كيانات الأمم المتحدة." وأضاف: "نحن موقفنا واضح. لقد حافظت الأونروا على وجودها في هذا المقر ومقر آخر في القدس منذ أوائل الخمسينيات [....] لقد استأجرنا الأرض من السلطات الأردنية بموجب عقد إيجار طويل الأمد في حينه." وأكد فاولر أن الأرض التي أُنشىء مقرّ الأونروا عليها هي أرض محتلة بموجب القانون الدولي.[23]
شيطنة الأونروا
سبق تنفيذ قرار حظر أعمال الأونروا، حملة إسرائيلية استباقية لشيطنة الأونروا لتبرير قرارها. ففي 22 تموز / يوليو 2024، وافق الكنيست الإسرائيلي بالقراءة الأولى على مشروع قانون لتصنيف الأونروا "منظمة إرهابية" بهدف استكمال مخطط تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة. ثم باشر الكنيست في التحضيرات اللازمة للتصويت على مشروع القانون بالقراءتين الثانية والثالثة لتأكيد حظر عمل الأونروا في شرقي مدينة القدس وخدمة اللاجئين الفلسطينيين.[24] وهذه القرارات التي استهدفت الوكالة الدولية غير منفصلة عن استهداف القوات الإسرائيلية المتعمد لطواقم ومقارّ الأونروا في قطاع غزة، ذلك بأنها جميعاً تصبّ في الهدف نفسه، وهو تقويض عمل الأونروا في خدمة اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي تقويض قضية اللاجئين برمّتها.
إن تمرير أي قرار بهدف شيطنة الأونروا ووسمها بالإرهاب يجعلها من المؤسسات الخارجة عن القانون ضمن دولة الاحتلال، وبالتالي، فإن هذا سيؤثر سلباً في جميع العاملين فيها، ويعرّضهم للمساءلة القانونية وتجريمهم بدعوى دعم الإرهاب. وجاءت مصادقة الكنيست الإسرائيلي في القراءة الثالثة على مشروعَي القانون لوقف أعمال الأونروا، ووسمها بالإرهاب، استكمالاً لهذا المخطط، علماً بأن القانون تم التصويت عليه بأغلبية 92 صوتاً في مقابل 10 أصوات.
قوة الخطاب الرمزية
يفترض بيير بورديو[25] أن هناك علاقة جوهرية بين الأفعال والمصالح، أي بين ممارسات الأفراد والكيانات ومصالحها وأهدافها. وقد استخدم بورديو مفهوم "القوة الرمزية" (symbolic power) لتفسير الأسلوب المستخدم لتبرير الفعل.[26]
فقد تم تشريع اتخاذ قرار حظر أعمال الأونروا في القدس بنشر خطاب شيطنة الأونروا ووسمها بالإرهاب كي تتردد دول العالم في الدفاع عن وجود الأونروا. فخطاب الشيطنة كان الأرضية التي قام عليها تبرير اتخاذ القرار، وبالتالي تسهيل عملية تنفيذه لاحقاً. فعملية تشريع الأفعال يسبقها دائماً جدل وتصريحات تهدف إلى لجم ردات الأفعال المتوقعة، والحصول على التأييد والموافقة، أو أضعف الإيمان التزام الصمت فيما يتعلق بتنفيذ القرار. لقد تم بداية فرض أيديولوجيا خاصة بمَن يسعى لشرعنة أفعاله على أنها هي الأفعال الصحيحة والملائمة للموقف.
يَعتبر مايكل سلفرستاين[27] أن مصطلحات "الصحيح" و"الملائم" ما هي إلّا مفاهيم اجتماعية ثقافية خاصة بمجموعة اجتماعية محددة، وليست مفاهيم كونية. لكن يتم تبنّي هذه المفاهيم من طرف مجموعات أُخرى بأساليب متنوعة منها التدرج في طرح الفكرة وتعزيزها بحجج وتبريرات مع الوقت كي تصبح "حقيقة"، ويكون هذا الخطاب مهيمناً ومتبنّى كأنه خطاب الجميع. وبالتالي فإن "حقيقة" هذا الخطاب تبرر اتخاذ القرار وتنفيذه.[28]
بناء على ما سبق، بدأت محاربة إسرائيل للأونروا بالطلب من أميركا خفض دعمها للوكالة بالتدريج، ثم التدخل المباشر في عمل الأونروا في مخيم شعفاط للاجئين في القدس، واتخاذ إجراءات غير مسبوقة على غرار قرارات هدم داخل الحدود الأصلية للمخيم، لتتسارع الأحداث بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 بوسم الوكالة بالإرهاب، وبالتالي إصدار قرار بوقف أعمالها في القدس ومصادرة مقرّها الرئيسي في الشيخ جرّاح.
وتستخدم إسرائيل مصطلح "الإرهاب" لما له من وقع قوي في السياسة الدولية في محاولة للحصول على الدعم والتعاطف مع قرارها الأخير في حقّ الأونروا، إذ لن تتجرأ أي دولة أو مؤسسة دولية على الدفاع عن كيان إرهابي أو تبرير مواقفه، بل يصبح كل إجراء يُتخذ في حقّ هذا الكيان "الإرهابي" "صحيحاً وملائماً".
لقد ساهم ربط أعمال الأونروا بأحداث 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، والإدانة الواسعة لهذا الحدث، في لجم المجتمع الدولي، وفي غضّ النظر عن تشريع أي إجراء يمكن أن تتخذه إسرائيل ضد الأونروا. لكن حتى بعد أن تبيّن كذب كثير من التفصيلات غير الحقيقية بشأن عملية 7 تشرين الأول / أكتوبر، فإن إسرائيل لا تزال تستخدم تلك الأكاذيب للتبرير وتشريع تصرفاتها، كي يتحول هذا التاريخ إلى مشجب يتكرر ذكره وتضخيمه لمجرد تبرير أي تصرّف أو أي قرار تريد إسرائيل تمريره على مرأى العالم أجمع، حتى لو كان مخالفاً للقوانين والأعراف الدولية. وهكذا استُخدمت عملية 7 تشرين الأول / أكتوبر كنقطة الارتكاز لشيطنة الأونروا ووسمها بالإرهاب المرتبط بذلك التاريخ.
وبات معلوماً أن الهدف الحقيقي وراء حظر أعمال الأونروا، هو تقويض قضية اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي محو جوهر القضية الفلسطينية التي تقوم أساساً على حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وبيوتهم التي هُجّروا منها في سنة 1948، وفي النهاية يُستكمل مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.
خاتمة
تُحتّم إجراءات إسرائيل ضد الأونروا على الفلسطينيين التحرك سياسياً ودبلوماسياً على المستوى الدولي، وربط الحملة الإسرائيلية على الأونروا بمخططات إسرائيل المتواصلة لتقويض قضية اللاجئين، وتصفية القضية الفلسطينية. وينبغي للإعلام الفلسطيني استغلال التعاطف الشعبي العالمي مع الفلسطينيين في وجه الإبادة الجارية في قطاع غزة، ونشر حملة إعلامية دعماً للأونروا، وفضح الأهداف الحقيقية وراء قرار إسرائيل وقف أعمال الأونروا ومصادرة مبانيها في القدس.
وفي الختام، ليس من السهل استنتاج كيفية إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين. فالمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين لا يزال قائماً ومستمراً، والمقاومة الفلسطينية بدورها مستمرة في إحباط سياسات المستعمِر. ومع أن إسرائيل دائماً ما تستخدم أدواتها "القانونية" للتخلص من الفلسطينيين، إلّا إن المقاومة المستمرة والتصميم على الصمود والبقاء، أفشل العديد من خطط إسرائيل. والفلسطينيون ليسوا عاجزين تماماً، غير أن إسرائيل لا تزال في الوقت نفسه، تتمتع باليد العليا في محاولة تغيير مسار الأمور إلى ما تطمح إليه.
المصادر:
[1] Halima Abu Haneya, “The Intertwined History of Shu'fat Refugee Camp in Jerusalem: The Making of Refugees”, The Jerusalem Quarterly, no. 93; special issue on “UNRWA Archives” (2023), pp. 34-60.
[2] Leah Tsemel, “The Continuing Exodus: The Ongoing Expulsion of Palestinians from Jerusalem”, in: The Palestinian Exodus: 1948-1998, edited by Ghada Karmi and Eugene Cotran (London: Ithaca press, 1999), pp. 111-120.
[3] Ibid., p. 112.
[4] “United Nations Treaty Series: Treaties and International Agreements Registered or Filed and Recorded with the Secretariat of the United Nations, vol. 620, no. 8955”, 1968, United Nations, pp. 183-189.
[5] “Observations of UNRWA on Punitive Demolitions in Refugee Camps in the West Bank”, UNRWA, 3 April, 2016,
[6] تشير التقديرات إلى أن نحو 86% من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في دائرة نصف قطرها 100 ميل من أماكن سكنهم الأصلية التي طُردوا منها في سنة 1948، يُنظر:
Robert Bowker, Palestinian Refugees: Mythology, Identity, and the Search for Peace (London: Lynne Rienner Publishers, 2003).
[7] See Resolution 194 in Palestine-Progress Report of the United Nations Mediator, 11 December 1948, pp. 15-23.
[8] لجنة خدمة الأصدقاء الأميركية (AFSC)، هي جزء من منظمة الكويكرز (Quaker Organization) و"مكرّسة لخدمة التنمية وبرامج السلام في جميع أنحاء العالم." وهي إحدى المنظمات الإنسانية التي ساعدت اللاجئين الفلسطينيين خلال النكبة وما بعدها قبل استلام الأونروا لمسؤولياتها في سنة 1950. يُنظر:
American Friends Service Committee (AFSC)-Philadelphia.
[9] Michael Merryman-Lotze, “The Historical Roots of Israel's Genocidal Violence in Gaza”, DAWN, 2 January 2024.
[10] "ذكرى توقيع 'أوسلو'.. حين تاهت الأولويات على حساب اللاجىء الفلسطيني"، موقع "بوابة اللاجئين"، 13 أيلول / سبتمبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[11] “Netanyahu Wants UNRWA Gradually Shut Down, Backs US Cuts”, The Times of Israel, 7 January 2018.
[12] “Outgoing Jerusalem Mayor Lays Out Plan to Oust UNRWA from City”, The Times of Israel, 4 October 2018.
[13] “Israel Threatens to Remove UNRWA from Occupied Jerusalem”, Middle East Online, 5 October 2018.
[14] "Jerusalem Mayor Makes Rare Visit to East Jerusalem Refugee Camp”, The Times of Israel, 24 October 2024.
[15] مشاهدات حيّة لكاتبة المقالة في منطقة المخيم.
[16] “Demolition Orders Issued Against Two Buildings in Shufat Refugee Camp”, “Wafa News Agency”, 30 April 2019.
[17] “Peace to Prosperity: A Vision to Improve the Lives of the Palestinian and Israeli People”, White House, 2020.
[18] Carrie Keller-Lynn and David Luhnow, “Intelligence Reveals Details of U.N. Agency Staff’s Links to Oct. 7 Attack”, Wall Street Journal, 29 January 2024.
[19] تُنظر القائمة المفصّلة بالدول التي علّقت دعمها للأونروا حتى اليوم في:
“UPDATED: List of Countries Suspending and Reinstating UNRWA Funding”, UN Watch, 26 May 2024.
[20] “ ‘Outrageous’ Arson Attack Forces UNRWA to Temporarily Shutter East Jerusalem Compound”, United Nations News, 9 May 2024.
[21] Abdelraouf Arnaout, “Israel to Confiscate UNRWA Headquarters in East Jerusalem for Settlement Units”, “Anadolu Agency”, 10 October 2024.
[22] "Israel Land Authority Orders UNRWA to Evacuate Jerusalem Premises Within 30 Days for Lease Violations”, The Times of Israel, 29 May 2024.
[23] Arnaout, op. cit.
[24] “Tovah Lazaroff, “Knesset to Hold Preliminary Vote Designating UNRWA a Terror Organization”, The Jerusalem Post, 26 May 2024.
[25] Pierre Bourdieu, Language & Symbolic Power, translated by Gino Raymond and Matthew Adamson (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 6th edition, 2001).
[26] Ibid.
[27] Silverstein Michael, “ ‘Cultural’ Concepts and the Language-Culture Nexus”, Current Anthropology, vol. 45, no. 5 (December 2004), pp. 621–652.
[28] Luisa Martín Rojo and Teun A. van Dijk, “ ‘There was a Problem, and it was Solved!’: Legitimating the Expulsion of ‘Illegal’ Immigrants in Spanish Parliamentary Discourse”, Discourse & Society, vol. 8, no. 4 (1977), pp. 523–567,