جرائم حرب إسرائيلية في حقّ الإعلام في لبنان وإفلات من العقاب
نبذة مختصرة: 

يُعدّ استهداف الصحافيين المحميين بموجب القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وشرعة حقوق الإنسان، جريمة حرب موصوفة، ومع ذلك فإن الجيش الإسرائيلي يكرر استهدافهم في الحرب التي يشنّها على لبنان، إذ بلغ عدد شهداء الإعلام اللبناني 13 شهيداً. واللافت أن إسرائيل ترتكب جرائمها هذه، وسط حالة متكررة من الإفلات من العقاب.

النص الكامل: 

توالت فصول الحرب الإسرائيلية على لبنان، بعد أن امتدت شرارة الحرب والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لتشمله. ومع أن الحرب كانت محصورة منذ اندلاعها في الثامن من تشرين الأول / أكتوبر 2023 في المناطق الحدودية الجنوبية، إلّا إنها توسعت منذ 23 أيلول / سبتمبر 2024 لتشمل معظم الأراضي اللبنانية، بما فيها العاصمة بيروت، عبر غارات جوية غير مسبوقة عنفاً وكثافة، والتي أدّت إلى سقوط أكثر من 3516 قتيلاً و14,929 جريحاً، بحسب إحصاءات وزارة الصحة اللبنانية،[1] بينما تخطّت أعداد النازحين 1,400,000 نازح جرّاء العدوان الإسرائيلي المتواصل، ولا سيما على الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.

هذا الاستهداف الوحشي الذي لم يُحيّد المدنيين، لم يتوانَ للحظة عن استهداف الطواقم الإعلامية، وتحويل لبنان إلى نقطة ساخنة في الصراع من أجل سلامة الصحافيين. ولم يكن مستغرباً من الجهة التي استهدفت وقتلت أكثر من 200 صحافي ومصوّر في قطاع غزة (بحسب إحصاءات مركز "سكايز" للحريات الإعلامية والثقافية التابع لمؤسسة سمير قصير)، أن تستمر في حملتها المتواصلة لكمّ الأفواه وخنق الأصوات التي توثّق جرائمها، وتبعث برسالة واضحة فحواها أن الطواقم الإعلامية في مرمى الأهداف الإسرائيلية.

ويواجه الصحافيون اللبنانيون تحديات وواقعاً استثنائياً صعباً منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان. فبحسب مؤسسة سمير قصير، اضطر أكثر من 150 صحافياً ومصوّراً إلى النزوح وترْك منازلهم من المناطق التي تعرّضت للقصف أو التي هي عرضة له، ولا سيما من الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، والبحث عن مأوى آمن لهم ولعائلاتهم، حيث أصبحوا يرزحون تحت ضغوط نفسية وأعباء مالية، فضلاً عن المخاطر الأمنية الجسيمة مثل التعرض للإصابات أو حتى الموت خلال تغطيتهم الحرب. ويأتي ذلك في ظلّ افتقار الطواقم الإعلامية اللبنانية إلى دورات وتطبيقات السلامة المهنية في مناطق النزاع، لتحصينهم والحفاظ على أمنهم في أثناء عملهم في بيئات خطرة، علاوة على نقص في معدّات الحماية من خُوَذ وسترات واقية من الرصاص، الأمر الذي اضطر بعضهم إلى العمل من دونها. 

استهداف عن عمد للصحافيين

على مدى الأشهر الأخيرة، خاطر الصحافيون بحياتهم على جبهة الحرب أمام إجرام الجيش الإسرائيلي الذي لم يُفرّق بين صحافي ومدني ومسعف وجندي ومقاتل، وبالتالي أصبحت سلامة الصحافيين على المحك، ولا سيما بعد استهداف الجيش الإسرائيلي الطواقمَ الإعلامية عمداً وفي أكثر من مكان، وارتكابه جرائم حرب، مع أن الصحافيين يتمتعون بالحماية ذاتها التي يتمتع بها المدنيون بموجب القانون الدولي الإنساني، ووفق اتفاقيات جنيف لسنة 1949 وبروتوكولاتها الإضافية. فالمادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف[2] تنصّ على حماية الصحافيين العاملين في مناطق النزاع المسلح، وتؤكد أنهم يُعتبرون أشخاصاً مدنيين ولا يجوز استهدافهم، ويُعتبر أي هجوم متعمد ضدّهم خرقاً لهذه الاتفاقيات، بل يُصنّف كجريمة حرب. وعلاوة على ذلك، يمكن النظر إلى مثل هذه الجرائم باعتبارها انتهاكاً لميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،[3] والذي يعاقب على جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك استهداف المدنيين عن قصد، وبينهم الصحافيون.

لقد ارتكب الجيش الإسرائيلي أكثر من جريمة حرب في حقّ الطواقم الإعلامية اللبنانية منذ بدء الحرب في تشرين الأول / أكتوبر 2023، وخصوصاً أنه استهدفها عمداً في أكثر من منطقة، في استمرار لموجة العنف الذي لا يزال يرتكبه بلا هوادة، الأمر الذي يؤكد أن الصحافيين في لبنان، أسوة بزملائهم في قطاع غزة، يحتاجون إلى حماية فورية. فهذا الجيش الذي لم يُقِم أي اعتبار لشارة الصحافة، قَتل منذ بداية الحرب، حتى كتابة هذه المقالة، 13 صحافياً ومصوّراً، هم: مصوّر وكالة "رويترز" عصام عبدالله؛ طاقم قناة "الميادين" الذي ضمّ المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع معماري؛ الصحافي في موقع "الميادين أون لاين" هادي السيد؛ المصوّر السابق في قناة "المنار" كامل كركي؛ مصوّر قناة "المنار" وسام قاسم؛ مصوّر قناة "الميادين" غسان نجار وزميله التقني في القناة محمد رضا؛ المصوّرة الحرّة زينب غصن وأفراد عائلتها؛ الإعلامية في إذاعة "النور" سكينة كوثراني مع ولديها؛ المصوّر في قناة "المنار" علي الهادي ياسين؛ المصوّر في موقع "هوانا لبنان" الإخباري حسين صفا؛ المصوّر محمد بيطار. وقد قُتِل بعضهم خلال تغطيته الإعلامية، علماً بأنهم كانوا يرتدون السترات الواقية من الرصاص والخُوَذ مع عبارة "صحافة" بأحرف كبيرة وواضحة. أمّا البعض الآخر فقُتل خلال استهداف منزله. وتعمّد الجيش الإسرائيلي استهداف الصحافيين في مقرّ إقامتهم في بلدة حاصبيا فجراً وهم نيام في أسرّتهم ومن دون إنذار مُسبق. كما قُتل عدد من أفراد عائلات الصحافيين خلال استهدافهم مثلما حدث مع الصحافي سمير أيوب الذي استهدفت مسيّرة إسرائيلية سيارته عمداً، فأصابته بجروح وقتلت بنات شقيقته وجدّتهن. وتأتي هذه الجرائم في محاولة لترهيب الصحافيين وإسكات أصواتهم ومنعهم من توثيق وفضح الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي يومياً في حقّ المدنيين. 

جرائم وإفلات من العقاب

وعلى الرغم من وفرة الأدلة التي تُدين الجيش الإسرائيلي بتلك الجرائم، فإن أي إجراءات قانونية لم تُتَّخذ ضده حتى الآن. ففي حالة استهداف الطواقم الإعلامية في علما الشعب بتاريخ 13 تشرين الأول / أكتوبر 2023، والتي أدّت إلى مقتل المصوّر عصام عبدالله وجرح آخرين، خلُصت 6 تحقيقات مستقلة قامت بها كل من منظمات مراسلون بلا حدود[4] و"العفو الدولية"[5] و"هيومن رايتس ووتش"،[6] ووكالتَي "رويترز"[7] و"الصحافة الفرنسية"[8]، وقوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان (اليونيفيل)،[9] استناداً إلى عشرات الصور ومقاطع الفيديو التي التقطها صحافيون في أمكنة قريبة، والتي وثّقت ما قبل الهجوم وخلاله وما بعده، فضلاً عن صور أقمار صناعية، ومقابلات مع خبراء عسكريين وخبراء في تحليل الصور والصوت، وشهادات شهود عيان، إلى أن الجيش الإسرائيلي استهدفهم عمداً مرّتين، مع أنه كان من السهل التعرف بكل وضوح إلى أنهم فعلاً مجموعة من الصحافيين. ولم يكن هناك تحقيق رسمي من طرف الجهات الإسرائيلية في الحادثة، وإنما اكتفى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ريتشارد هيخت بإصدار التعليق الآتي: "لدينا بالفعل لقطات. ونجري استجواباً. إنه أمر مأسوي."[10] غير أن الجيش الإسرائيلي وبعد مرور أكثر من عام، لم ينشر أي معلومات أو تحديثات عن تحقيقه.

إلى ذلك، نجا بعض المراسلين والمصوّرين بأعجوبة، كنقيب المصورين علي علوش، والمصوّرين هيثم موسوي وحسن عمّار وبلال جاويش الذين سقط صاروخ بالقرب منهم خلال تغطيتهم القصف على منطقة المريجة في ضاحية بيروت الجنوبية،[11] ومراسل قناة "أم تي في" نخلة عضيمي، ومراسلة قناة "العربية" ناهد يوسف، ومصوّر قناة "الجزيرة" عصام مواسي، ومراسلة قناة "الجديد" ريف عقيل، وذلك خلال تغطيتهم القصف على بلدة يارون الحدودية. وحتى الصحافة الأجنبية لم تسلم من القصف، إذ نجا فريق موقع "افتونبلاديت" السويدي الذي ضمّ المراسل ماغنوس فالكهيد والمصوّر جيركر إيفارسون من غارة إسرائيلية على مبنى في محيط مستشفى الزهراء في ضاحية بيروت الجنوبية. وقد أصيب آخرون، ومنهم الصحافيون ثائر السوداني وماهر نزهة وكارمن جوخدار ويُمنى فوّاز، والمصوّرون خضر مركيز وحسن حطيط وزكريا فاضل وإيلي براخيا وديلان كولينز وكريستين عاصي بجروح متنوعة، كما دُمّرت بعض معدّاتهم وسياراتهم، علاوة على محاصرتهم وإطلاق الرصاص الحيّ في اتجاههم. وكانت هذه إحدى أدوات الجيش الإسرائيلي لترهيبهم ودفعهم إلى المغادرة وترك أمكنتهم والتوقف عن التغطية، الأمر الذي يؤكد أن استهدافات هذا الجيش كله ليست فقط ضد أفراد يحملون الكاميرا أو الميكروفونات، بل هو استهداف أيضاً لِحقّ الناس في الوصول إلى المعلومات، وتحديداً في المناطق الساخنة.

وقد رافقت هذه الانتهاكات موجة من التهديدات المباشرة والتحريض عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان هدفها الأساسي ترهيب الصحافيين، إذ تلقت المراسلة الميدانية في صحيفة "الأخبار" في الجنوب آمال خليل تهديدات بالقتل وصلتها من رقم إسرائيلي على رقمها الخاص عبر تطبيق "واتساب"، بسبب تغطيتها الحرب في الجنوب اللبناني، وطالبتها بمغادرة البلد.[12] وقد جاء في نص رسالة التهديد: "أقترح عليك الهروب إلى قطر أو في [إلى] مكان آخر إذا كنت تريد [تريدين] الحفاظ على الاتصال بين رأسك وكتفيك." كما نشر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي عدّة منشورات يهدد فيها إعلاميين وصحافيين لبنانيين، ويُحرّض ضدّهم عبر نشر معلومات كاذبة وروايات مضلّلة في محاولة لشيطنتهم أمام الرأي العام، إمّا بسبب مواقفهم السياسية، وإمّا بسبب تغطيتهم وعملهم الميداني، مثلما حدث مع مراسل قناة "الميادين" علي مرتضى الذي طُلب منه مغادرة عدّة أمكنة حاول العمل منها، "خوفاً من الاستهداف".[13]

إلى ذلك، لم تسلم المباني والمكاتب الإعلامية من القصف، إذ دمّر الطيران الحربي الإسرائيلي مبنى قناة "الصراط" في الضاحية الجنوبية،[14] وحتى مبنى قناة "طه" المتخصصة ببرامج الأطفال، ومبنى يعود إلى إستوديوهات سابقة تابعة لقناة "المنار"[15] في حيّ الأميركان، ومكتب قناة "الميادين"[16] في منطقة الجناح في بيروت، في رسائل واضحة مباشرة إلى هاتين الوسيلتين الإعلاميتين.

خلال أكثر من عام على بدء العدوان على لبنان، ارتكب فيه الجيش الإسرائيلي أفظع الجرائم في حقّ المدنيين ومن ضمنهم الطواقم الإعلامية، إلّا إن إسرائيل لم تواجه أي مساءلة عن تلك الجرائم التي مرّت من دون أي عواقب تُذكر، وإنما أفلتت بشكل كامل من العقاب، الأمر الذي أعطى الجيش الإسرائيلي "ترخيصاً" لمواصلة استهداف وقتل كل مَن تجرّأ وقام بتوثيق جرائمه الوحشية في حقّ المدنيين اللبنانيين، في ظل غياب أي حماية للطواقم الإعلامية، وتغييب أي اعتبار للقانون الدولي الإنساني.

 

المصادر:

[1] "3516 شهيداً و14,929 جريحاً منذ بدء العدوان، وحصيلة يوم أمس 35 شهيداً و143 جريحاً"، موقع "وزارة الصحة اللبنانية"، في الرابط الإلكتروني.

[2] تُنظر المادة 79 في موقع الأمم المتحدة، في الرابط الإلكتروني.

[3] يُنظر "ميثاق روما الأساسي" في موقع المحكمة الجنائية الدولية، في الرابط الإلكتروني.

[4]RSF Video Investigation into the Death of Reuters Reporter Issam Abdallah in Lebanon: The journalists' Vehicle was Explicitly Targeted”, “Reporters without Borders”.

[5] "لبنان: يجب التحقيق في الهجوم الإسرائيلي القاتل على الصحفيين كجريمة حرب"، "منظمة العفو الدولية"، 7 كانون الأول / ديسمبر 2023، في الرابط الإلكتروني.

[6] "إسرائيل: قصف متعمد مفترض على صحفيين في لبنان"، "هيومن رايتس ووتش"، 7 كانون الأول / ديسمبر 2023، في الرابط الإلكتروني.

[7] Maya Gebeily, Anthony Deutsch and David Clarke, “Israeli Tank Fire Killed Reuters Journalist Issam Abdallah in Lebanon”, “Reuters”, 7 December 2023.

[8]Journalists Killed and Injured in Lebanon: AFP’s Investigation Points to Israeli Army”, “AFP”.

[9] "تحقيق أممي: دبابة إسرائيلية قتلت مصور رويترز في لبنان"، موقع "الجزيرة"، 13 آذار / مارس 2024، في الرابط الإلكتروني.

[10] "الجيش الإسرائيلي: نحقق في مقتل الصحفي عصام عبد الله في لبنان"، "دويتشه فيليه"، 14 تشرين الأول / أكتوبر 2023، في الرابط الإلكتروني.

[11] "سقوط صاروخ بالقرب من أربعة مصوّرين خلال تغطيتهم في الضاحية الجنوبية"، "سكايز"، 4 تشرين الأول / أكتوبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[12] "المراسلة آمال خليل تتلقّى تهديدات بالقتل من رقم إسرائيلي"، "سكايز"، 14 أيلول / سبتمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[13] يُنظر صفحة الصحافي علي مُرتضى في موقع X، في الرابط الإلكتروني.

[14] "الطيران الحربي الإسرائيلي يُدمّر مبنى قناة الصراط في الضاحية الجنوبية"، "سكايز"، 1 تشرين الأول / أكتوبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[15] "الطيران الحربي الإسرائيلي يُدمّر مقرّاً سابقاً لإستوديوهات قناة المنار في حيّ الأميركان"، "سكايز"، 7 تشرين الأول / أكتوبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[16] "الطيران الإسرائيلي يستهدف مكتب قناة الميادين في الجناح"، "سكايز"، 24 تشرين الأول / أكتوبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

 

السيرة الشخصية: 

وداد جربوع: صحافية وباحثة في مؤسسة سمير قصير (سكايز).