يواجه الصحافيون الفلسطينيون حملة استهداف ممنهجة من طرف الجيش الإسرائيلي، تفاقمت بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، حتى باتت واحدة من حروب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، إذ بلغ عدد شهداء الصحافة حتى كتابة هذه المقالة 167 صحافياً، عدا أفراد عائلات كثيرة منهم استُهدفوا بشكل مباشر أيضاً. لكن على الرغم من ذلك، فإن ثمة إصراراً على نقل الكلمة والصورة والمشهد إلى العالم كله.
لا يمكن فهم أسباب حجم الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها كيان الاحتلال الصهيوني في حقّ الصحافيين ووسائل الإعلام من دون النظر إليها في سياق الاستراتيجيا الصهيونية الشاملة في التعامل مع الإعلام ودوره كجبهة حرب رئيسية في موازاة عملياته العسكرية وتحركاته السياسية.
وترتكز الاستراتيجيا الصهيونية في التعامل مع الإعلام إلى مستندين رئيسيين شائعين في علم الاتصال وحقل الإعلام:
الأول، هو "نظرية التأطير" القائمة على فكرة السيطرة على العقول وتمرير السياسات والمعلومات بعدة أساليب، أبرزها التكرار الكثير، وصولاً إلى تنميط الصورة، وخصوصاً عندما تكون المعلومات كاذبة او مضللة.
الثاني، هو مفهوم حارس البوابة (gatekeeper) لتقنين تدفّق المعلومات والآراء، إذ يمارس الكيان عبر أدواته الرقابية (Sensors) والتوجيهات الأمنية والحكومية للإعلام العبري الصهيوني، فَلْتَرة المعلومات التي تصنع رواية تخدم سردية شاملة يتم إسنادها بصحافيين ومحللين يشكلون جزءاً من منظومة الاحتلال الأمنية، وذراعاً مكمّلة لها. وهذا الأمر يطال صحافيين ووسائل إعلام أجنبية وعربية تشكل جزءاً من المنظومة الإعلامية الاستعمارية الأشمل التي تشكل سنداً وبوقاً متعدد اللغات تتكفل بما لا يستطع البوق العبري الوصول اليه.
حذف المحتوى الفلسطيني
إلى جانب الإعلام المؤسساتي المؤطر، باتت وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي تؤدي دوراً استعمارياً مكملاً، سواء عبر حجب المحتوى التحرري المقاوم المؤيد للقضية الفلسطينية وتقييده، أو عبر تضخيم وتسهيل وصول المحتوى الاستعماري والعنصري إلى المتلقّين.
ووفقاً لتقرير نشره "المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي / حملة" في أيلول / سبتمبر 2024 بعنوان: "الحقوق الرقمية الفلسطينية في سياق الإبادة الجماعية ومسؤولية شركات التكنولوجيا الكبرى بعد عام من الحرب على غزة"، فإنه رُصد أكثر من 5100 حالة رقابة رقمية على المحتوى المؤيد للفلسطينيين بين 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 وأيلول / سبتمبر 2024، وكان بين المتضررين من هذا الأمر 150 وسيلة إعلام.
كما رَصد تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" بعنوان: "نكث الوعود: سياسات ميتا والرقابة على المحتوى المتعلق بفلسطين على إنستغرام وفيس بوك"، 1049 حالة إزالة وقمع محتوى مؤيد للفلسطينيين، في مقابل حالة واحدة مؤيدة لإسرائيل. وفي السياق ذاته، رَصد مركز "حملة"، في التقرير المشار إليه أعلاه، نحو 8 ملايين تغريدة على منصات التواصل الاجتماعي، صُنّفت على أنها خطاب عنف وكراهية ضد الفلسطينيين باللغة العبرية، من دون أن يُزال أي منها، أو يعاقَب ناشروها.
الهاسبراه
ومن أجل ترسيم وقوننة العمل الاتصالي والإعلامي والسيطرة على مخرجاته، يعمل الاحتلال من خلال نسق يُعرف بـ "الهاسبراه"، والذي اتخذ عدة أشكال ومسميات منذ نشأة الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً إلى وزارة الإعلام التي كانت إحدى وزارات الحكومة الحالية قبل استقالة وزيرتها غاليت ديستيل - أتباريان (Galit Distel-Atbaryan) بعد نحو شهر من بدء حرب الإبادة، ثم حل الوزارة نهائياً وإحالة جوانب عملها إلى صيغ جديدة وبمرجعيات متنوعة. وجوهر عمل "الهاسبراه" هو تبييض وتجميل الأنا الإسرائيلية ونبذ وشيطنة النقيض، وهو عمل يسير في موازاة عمل الوحدة الأمنية السيبرانية 8200 المتخصصة بكل ما له علاقة بالملاحقة والتخريب والتجسس الإلكتروني وبثّ الشائعات وتعميق التكرار الذي أشرنا اليه آنفاً.
حرب إبادة إعلامية
هذا الأمر يشكل أحد فكّي الكماشة، أمّا فكّها الآخر فهو وأد الحقيقة وخنق وشيطنة كل رواية أُخرى، وطمس السردية النقيضة. ولتحقيق ذلك تسير سلطات الاحتلال في خطين متوازيين يلتقيان على الهدف ذاته:
الخط الأول هو ما يطلَق عليه الانتهاكات الناعمة، وممارسة النفوذ والضغوط والإخضاع، وأحد تجليات ذلك كان منع دخول الصحافيين وممثلي وسائل الإعلام الأجنبية إلى قطاع غزة منذ اليوم الأول لحرب الإبادة، وإقفال حدود القطاع في وجههم، فضلاً عن قصف مقارّ ومكاتب الوكالات الأجنبية التي كانت موجودة أصلاً في غزة لمنعها من العمل، ورفض تقديم أي حماية أو ضمانات في عدم التعرض لطواقمها، بل الطلب من إداراتها سحب صحافييها من غزة، بمَن في ذلك الفلسطينيون منهم.
وفي حالات نادرة أدخلت قوات الاحتلال بعض الصحافيين الإسرائيليين والأجانب كمراسلين عسكريين برفقة قواتها القتالية وضمن مسارات وأماكن محددة كانت تهيَّأ سلفاً بما يتلاءم مع أكاذيب الاحتلال وتضليله مثلما حدث في مستشفى الشفاء ليلة 15 / 16 تشرين الثاني / نوفمبر 2023. وهذا الخط يتكامل مع سيطرة اللوبي الصهيوني العالمي على طيف واسع من وسائل الإعلام والوكالات الدولية، علاوة على بعض وسائل الإعلام العربية التي تنخرط طوعاً في الجهد الإعلامي الصهيوني والاستعماري الغربي. وفي عدة حالات قدّم صحافيون عرب وأجانب استقالاتهم من أماكن عملهم رفضاً للانحياز والمساهمة في التضليل والخروج على قواعد مهنة الصحافة ومدونات السلوك والاخلاقيات.
إن نعومة هذه الانتهاكات لا تقلل من أهميتها وخطورتها، إذ جاء في بيان لرابطة الصحافة الأجنبية بشأن منع الصحافيين من الدخول إلى غزة، أن منع وصول الصحافة المستقلة يثير أسئلة عمّا لا تريد إسرائيل أن يراه الإعلام الدولي، بينما علّق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على الموضوع قائلاً: إن منع الصحافيين الدوليين من دخول غزة يسمح بازدهار المعلومات المضللة والروايات الكاذبة.
الخط الثاني هو الجرائم الدموية والانتهاكات الجسيمة في حقّ الصحافيين الفلسطينيين ووسائل الإعلام الفلسطينية والعربية والناشطين على منصات التواصل الاجتماعي، والتي مورست على نطاق واسع في غزة منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وطالت أيضاً الضفة الغربية ولبنان.
واتخذت هذه الجرائم والانتهاكات عدة أشكال بلغت حجماً وعنفاً بمستويات غير مسبوقة على مر التاريخ وفق ما صدر عن نقابة الصحافيين الفلسطينيين، وأكدته الفدرالية الدولية للصحافيين في بياناتها وعبر موقعها الإلكتروني، إذ أشارت إلى أن 72% من مجمل الصحافيين الذين قُتلوا في أنحاء العالم خلال سنة 2023، قُتلوا في غزة في الربع الأخير من تلك السنة، مضيفة أن 146 صحافياً قُتلوا بين تشرين الأول / أكتوبر 2023 وتشرين الأول / أكتوبر 2024، من ضمنهم 9 في لبنان، وصحافية واحدة في سورية. واعتبرت الفدرالية أن هذه هي الفترة الأكثر دموية في تاريخ الصحافة.
وتؤكد نقابة الصحافيين الفلسطينيين في بياناتها وتقاريرها وتصريحات مسؤوليها أن حجم الجرائم ضد الصحافيين لم تحدث في التاريخ البشري، بما في ذلك في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا في حرب روسيا – أوكرانيا المستمرة، ووصفت ما يجري بأنه حرب إبادة إعلامية تجري بالتوازي مع حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
وإذا كان مفهوم الإبادة وفق التفسيرات القانونية لا يتعلق بحجم القتل ونسبته فقط، بل بالقصدية والتعمد أيضاً، فإن توصيف ما يجري بـ "حرب إبادة إعلامية" يمكن دعمه بمعطيين:
الأول، أن نسبة الشهداء الصحافيين من الجسم الصحافي عالية جداً مقارنة بنسبة أي قطاع مهني آخر، إذ بلغت نسبة الشهداء الغزيين إلى عدد السكان الكلي للقطاع في العام الأول للحرب 1,82% تقريباً (41,974 شهيداً من أصل 2,300,000 نسمة)، بينما بلغت نسبة الشهداء الصحافيين إلى مجمل الصحافيين والعاملين في قطاع الإعلام في غزة 9,2% (167 شهيداً من أصل نحو 1800 صحافي).
الثاني، حتى إن كان مفهوماً أن الصحافيين هم من الفئات الأكثر عرضة للخطر بحكم طبيعة المهنة والعمل، فإن تعمّد القتل والقصدية، ووجود دلائل قاطعة عليهما من خلال التحريض والتهديد المسبق وتشريع استهداف الصحافيين، يقطعان الشك باليقين، إذ نشر الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي في 23 تشرين الأول / أكتوبر 2024 قائمة بأسماء ستة صحافيين غزيين يعملون في شمال غزة، ادعى أنهم ناشطون إرهابيون في حركتَي "حماس" والجهاد الإسلامي، وأنه يجب معاقبتهم، وهو ما اعتبرته المقررة الأممية الخاصة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز حكماً بالإعدام عليهم.
كما كشف تحقيق لصحيفة "الغارديان" البريطانية نُشر في نهاية حزيران / يونيو 2024، عن تعمّد طيران جيش الاحتلال تنفيذ عمليات اغتيال مخطط لها ضد صحافيين فلسطينيين، وأن نحو ثلث ضحايا الصحافة الفلسطينية في غزة هم من العاملين ضمن وسائل إعلامية يعتبرها الجيش الإسرائيلي أهدافاً مشروعة للطيران.
ولم يقف الأمر عند استهداف الصحافيين أنفسهم، بل طال عائلاتهم أيضاً بنيّة الانتقام والردع كما في العديد من الحالات، وأبرزها استهداف الصحافي الكبير مصطفى الصواف الذي استشهد مع 30 فرداً من عائلته بمَن فيهم ابنه الصحافي مروان، بينما أصيب ابنه الصحافي منتصر بجروح بالغة، ثم عاد إلى العمل بعد نحو أسبوعين وجرى استهدافه وقتله في قصف جديد. وهناك أيضاً الصحافي وائل الدحدوح الذي فقد 13 فرداً من أفراد عائلته بينهم زوجته وابنَيه في قصف لمنزله المعروف لسلطات الاحتلال، ثم أصيب هو نفسه بجروح بالغة في قصف آخر، ولاحقاً قُتل ابنه الصحافي حمزة. وفي المجمل، فقد استشهد 514 شخصاً من عوائل الصحافيين جرّاء استهداف 115 منزلاً تعود إليهم، وذلك وفقاً لتقرير نقابة الصحافيين الخاص بمرور عام على حرب الإبادة.
ويشير التقرير نفسه إلى أن سلطات الاحتلال ارتكبت 1639 جريمة وانتهاكاً جسيماً في حقّ الجسم الصحافي في غزة والضفة، إذ فضلاً عن استشهاد 167 صحافياً، أصيب 357 صحافياً بقذائف ورصاص جيش الاحتلال ومستوطنيه، بينما اعتُقل 125 صحافياً، ولا يزال صحافيان في قيد الاختفاء القسري. أمّا العدد الأكبر من الانتهاكات فيتعلق بالاحتجاز الموقت والمنع من التغطية وتحطيم المعدات، فضلاً عن الانتهاك اليومي الدائم للحقّ في التنقل الحر للصحافيين الفلسطينيين كافة.
إدانات دولية
أمام حجم هذا الجرائم، صدرت مواقف وإدانات من جهات دولية مهمة، بما فيها موقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي أعرب عن فزعه من العدد الكبير من الصحافيين الذين قُتلوا في غزة.
ومنحت منظمة اليونسكو جائزتها السنوية القيّمة (غييرمو كانو) لسنة 2024 للصحافيين في غزة، معتبرة إياها "رسالة تضامن وتقدير للصحافيين الذين يغطون في مثل هذه الظروف المأسوية، والذين تدين البشرية لهم بالكثير لشجاعتهم والتزامهم بحرية التعبير."
كما اعتبرت مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحرية الرأي والتعبير آيرين خان، أن الصراع في غزة هو الأكثر فتكاً وخطورة على الصحافيين، وخلصت إلى نتيجة مهمة أقرّت فيها بعجز المنظومة الدولية عن القيام بأي فعل لحماية الصحافيين الفلسطينيين، فهناك قتل وإفلات من العقاب وغياب لأي نوع من العدالة.
هذه النتيجة التي وصلت إليها آيرين خان تنسف جميع الهياكل والتوجهات التي انتهجتها الأمم المتحدة لحماية الصحافيين وتوفير بيئة عمل آمنة لهم، بدءاً بإعلان ويندهوك التاريخي لسنة 1991، مروراً بما أفضى إليه إعلان تبنّي الجمعية العامة في سنة 1993 لقرار اعتبار 3 أيار / مايو من كل عام يوماً عالمياً لحرية الصحافة، وإتباعه بالقرار 163/68 بإعلان يوم 22 تشرين الثاني / نوفمبر من كل عام يوماً عالمياً لمنع إفلات مرتكبي الجرائم في حقّ الصحافيين من العقاب، وصولاً إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2222 لسنة 2015 الذي يُلزم الدول الأعضاء، علاوة على عدة نقاط أُخرى، باحترام الاستقلال المهني للصحافيين وموظفي وسائط الإعلام، واعتبار المعدات والمنشآت الإعلامية محمية حتى في حالات النزاع المسلح.
تاريخ من الانتهاكات وعجز دولي
إن حرب الإبادة الإعلامية التي ينفذها الاحتلال في سياق ما يعتبره معركة الوجود، أو حرب البعث مثلما سمّاها لاحقاً رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ليست منفصلة عن سياق تاريخي من الجرائم المتواصلة، بقدر ما هي تكثيف لحالة مستمرة بدأها باغتياله الشهيد الصحافي والأديب غسان كنفاني في بيروت في 8 تموز / يوليو 1972، وصولاً إلى القتل العمد لأيقونة الصحافة الفلسطينية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وما بينهما من محطات قتل مكثف كما في انتفاضة الأقصى في سنة 2000، والحرب على غزة في سنة 2014.
وسياق هذه الجرائم مرتبط أيضاً بسياق عجز المنظومة الدولية عن وقف أو اتخاذ أي خطوات عملية لحماية الصحافي الفلسطيني، أو تنفيذ قراراتها بعدم إفلات مرتكبي الجرائم في حقّ الصحافيين من العقاب، بما في ذلك عدم التعامل الجدي مع 3 قضايا مقدمة إلى محكمة الجنايات الدولية منذ سنة 2021، بل حتى عدم البدء بالتحقيق بها من طرف نيابة المحكمة، على الرغم من الأدلة الدامغة كما في حالتَي قتل الشهيدين الصحافيين أحمد أبو حسين وياسر مرتجى في غزة في ربيع سنة 2018، والشهيدة شيرين أبو عاقلة في جنين في أيار / مايو 2022، وهو ما حدا برئيسة الاتحاد الدولي للصحافيين دومينيك برادلي، إلى التصريح بأن هذا العام يمثل مرة أُخرى يوماً حزيناً للإفلات من العقاب، وأنه ليس ثمة بيئة حرة وآمنة لعمل الصحافيين.
إن الإفلات من العقاب، والذي يناقض قرارات وتعهدات الأمم المتحدة والدول المتعاقدة عليها، وغياب الجدوى العملية لمواقف المؤسسات والجهات الداعمة لحقوق الصحافيين، يضعان الصحافيين الفلسطينيين أمام تحديات كبيرة، ويطرحان السؤال عن جدوى العمل في مهنة الصحافة في ظل المخاطر والأثمان التي يدفعها الصحافيون. غير أن جواب هذا السؤال يترجم في إصرار الصحافي الفلسطيني على مواصلة عمله، بل في انضمام أعداد متزايدة من الصحافيين إلى العمل في المهنة حتى من دون مقابل مادي أحياناً، وهم بهذا يُفشلون استراتيجيا الردع التي ينتهجها الاحتلال، ويساهمون في التصدي لمخرجات "الهاسبراه"، وإحباط جزء من عمل الوحدة السيبرانية 8200، ويصونون سردية الحقيقة والحقّ الفلسطيني.