لن تكون مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، كما قبلها؛ فحجم التغيير المتوقع سيكون بمقدار التداعيات التي أوجدتها عملية "طوفان الأقصى" التي فاقت بنجاحها العسكري حتى توقعات واضعيها. غير أن تدحرج الوضعَين العسكري والسياسي ما بعد العملية كان خارج التوقعات، بل خارج الاحتمالات التي فكر فيها المخططون؛ فما هي السيناريوهات المتوقعة لمستقبل التنظيمين الأكثر فاعلية في هذه المعركة: حركتَي "حماس" والجهاد الإسلامي؟
المقاومة الإسلامية: الصعود والتحديات
لم يكن صعود المقاومة الإسلامية في فلسطين، "حماس" والجهاد الإسلامي، سهلاً، ولا سيما "حماس" لما امتلكته مبكراً من تطلعات تمثيلية، ومن قدرة على ترجمة تلك التطلعات إلى ممارسة، ثم منافسة القيادة التقليدية للفلسطينيين ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى رأسها حركة "فتح" التي ظلت لفترة طويلة التنظيم الفلسطيني الأكثر تغلغلاً في جماهير الفلسطينيين وبُناهم الاجتماعية، وهو أمر تعزز حين تحولت "فتح" من حركة تحرر إلى سلطة.
عوامل القوة هذه التي امتلكتها "حماس"، كانت بدورها عوامل تحدٍّ من جهة أُخرى، فالخشية من القادم الذي يبدو مختلفاً، ومن خارج الأطر المعهودة للحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى الرغم من تاريخ من التداخل والالتباس في علاقة الإخوان المسلمين الفلسطينيين بتاريخ "فتح" المبكر، كانت تدفع القوى التقليدية، "فتح" وقوى اليسار، إلى محاصرة الظاهرة التي أخذت تطلّ برأسها منذ أواسط السبعينيات، من خلال الجماعة الإسلامية في السجون (الائتلاف الإسلامي الاعتقالي الذي جمع المعتقلين الإسلاميين من مختلف المشارب)، وظهور الكتل الطالبية الإسلامية في الجامعات الوطنية حديثة التأسيس، ومشاريع المجمع الإسلامي والجامعة الإسلامية والجمعية الإسلامية في غزة. وشرعت هذه المنافسة تتعزز مع الانتفاضة الأولى، حين التحق بها الإخوان باسم جديد، هو "حركة المقاومة الإسلامية - حماس"، التي امتازت من "القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة" بأطر قيادة خاصة بها، انبثقت منها فاعليات نضالية موازية لفاعليات القيادة الموحدة الجامعة لفصائل منظمة التحرير.
علاوة على ظروف الإقصاء الوطني، واجهت "حماس" عمليات استهداف استئصالية من الاحتلال بعد وقت قصير من تأسيسها، وتحديداً بعد عمليتَي الأسر اللتين نفذتهما الحركة في سنة 1989: الأولى في شباط / فبراير حين أسرت الجندي الإسرائيلي آفي ساسبورتس، والثانية في أيار / مايو حين أسرت الجندي الإسرائيلي إيلان سعدون. وتبع ذلك عمليات اعتقال شاملة طالت البُنية التنظيمية الصلبة للحركة، وهو ما تكرر في كانون الأول / ديسمبر 1992 مع أسر الجندي الإسرائيلي نسيم توليدانو، في حملة اعتقالات طالت الكوادر الناشطة في الحركة، والذين أُبعد المئات منهم، إلى جانب العشرات من حركة الجهاد الإسلامي، إلى الجنوب اللبناني فيما عرف بـ "مخيم مرج الزهور".
تحديات الإقصاء الوطني، والتفكيك التنظيمي من طرف الاحتلال، لم يقضيا على الحركة، وإنما دفعاها إلى تطوير عملها النضالي، في نمط من العمل العسكري وَسَم أواخر الانتفاضة الأولى، قبل توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، وكان من أبرز معالمه ما سمّته الحركة "العمليات الاستشهادية"، الأمر الذي سعت لدفعه إلى الأمام بعد تأسيس السلطة التي اصطدمت بالحركة مباشرة بعد دخولها قطاع غزة، كما في حادثة مسجد فلسطين التي وقعت في تشرين الثاني / نوفمبر 1994، وسقط فيها عدد من ناشطي الحركة، وأعطت مؤشراً واضحاً إلى مستقبل العلاقة بين السلطة الناشئة والحركة المصرّة على خطها، إذ طبع الدمُ هذه العلاقة منذ اللحظات الأولى. ولم تكن حركة الجهاد الإسلامي بمنأى عن ذلك، ففي شباط / فبراير 1996 قتلت قوات من السلطة الفلسطينية القياديَّين في جناحها العسكري عمار الأعرج وأيمن الرزاينة.
وكان تأسيس السلطة الفلسطينية الاختبار الأقسى لقدرة "حماس"، ومعها حركة الجهاد الإسلامي، على الصمود والاستمرار، فمشروع التسوية بات له تجليات واقعية، ويحظى بدفع إقليمي ودولي، وقدر من الثقة والأمل من جماهير الفلسطينيين، علاوة على كون السلطة نتاج حركة تحرر منحت شرعيتها النضالية لوليدها الجديد. وفعلاً، وعلى الرغم من استمرار "حماس" في عملها العسكري، فإن السلطة تمكنت من تفكيك البُنى التنظيمية للحركة إلى حد كبير في غزة، ودفعت بالحركة إلى حالة من الحيرة والشكّ والاستقطاب الداخلي بشأن الموقف من السلطة والعمل العسكري، الأمر الذي كانت مفاعيله في الضفة الغربية أقلّ تأثيراً، إلى حين ضربات سنة 1998 التي يمكن القول إنها شلّت فاعلية البُنى التنظيمية للحركة في الضفة الغربية، وهي ضربات مزدوجة تعرضت لها الحركة من الاحتلال والسلطة، لكنها عززت حضورها الشعبي في الأوساط الطالبية، وهو ما انعكس بفوزها المتكرر في انتخابات الجامعات الوطنية في الضفة الغربية.
وجاءت الانتفاضة الثانية فرصة كبيرة لحركة "حماس" كي تستعيد عافيتها وتجدد حضورها، ولتؤكد صوابية خطها السياسي في مقابل خطّ التسوية الذي بدا فشله معلناً بعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد في تموز / يوليو 2000، الأمر نفسه الذي جدد الحضور والحياة لحركة الجهاد الإسلامي. وقد منحت الحركتان طابعهما المسلح ورؤاهما الخاصة إلى كيفيات النضال لتلك الانتفاضة، بحيث إن الفصائل الفلسطينية الأُخرى اقتفت أساليبهما في النضال، بما في ذلك شرائح واسعة من حركة "فتح"، ومن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهو ما أدى إلى إضعاف السلطة، ومراكمة حركة "حماس" لقوتها في قطاع غزة، لأسباب موضوعية، منها تفكيك الاحتلال لمستعمراته من قطاع غزة في سنة 2005، في مفارقة أسست لاختلافات موضوعية عميقة بين الضفة الغربية وغزة، بعدما كان الاحتلال قد أعاد اجتياح المنطقة "أ" في الضفة الغربية منذ سنة 2002.
صعدت الانتفاضة الثانية بـ "حماس"، وساهمت في فوزها في الانتخابات التشريعية في سنة 2006، وهو ما كفل لها تشكيل حكومة، لكن الحصار المحلي والإقليمي والدولي ضُرب عليها مباشرة. وهذا الصعود، وكذلك عدم الاعتراف (العملي) من حركة "فتح" وتمثلاتها العميقة في أجهزة السلطة بفوز "حماس"، أفضيا إلى انقسام سنة 2007 الذي منح "حماس" ثقلاً خاصاً بحكم الأمر الواقع، وهو ما أوجد انطباعاً بأن الحركة ستعطي تكريس سلطتها الأولوية على حساب برنامجها المقاوم.
غير أن ثقل "حماس" السياسي، المستفاد من شعبيتها العامة في فلسطين، ومن موقعها بصفتها سلطة في غزة، ومن شرعيتها النضالية، عانى خللاً جوهرياً بعد ذلك، في بُنيتها التنظيمية، وفي رؤيتها الاستراتيجية. فمن الناحية التنظيمية تمركزت قوة "حماس" الفعلية في غزة لأن هذه القوة اعتمدت على عناصر جديدة هي السلطة والإدارة الاجتماعية والتشكيل العسكري الكبير، وهي عناصر لا يمكن توفير مثلها في الضفة الغربية، على الأقل بسبب وجود الاحتلال المباشر. وانعكست هذه الحقائق على نمط القيادة الداخلي في الحركة، والذي تحوّل إلى قيادة تعتمد التقاسم المتساوي للأجهزة التنظيمية القيادية بين ثلاثة أقاليم هي: قطاع غزة والضفة الغربية وخارج الأرض المحتلة، لكن بحكم الأمر الواقع، كان عموم التنظيم يزداد ارتباطاً باستمرار بحضوره في غزة. بكلمة أُخرى بات مستقبل "حماس" في غزة، ونجاح مشروعها هناك، هما مستقبل "حماس" كلها، وذلك بسبب الاختلال في التوازن الناجم عن تلك الظروف الموضوعية والترتيبات التنظيمية التي سعت للتكيف معه.
هذا المشروع نفسه، واجه معضلة الجمع بين السلطة والمقاومة، إذ كيف للحركة التي أسرت جندياً (جلعاد شاليط)، فور فوزها في الانتخابات تقريباً، أن تطالب إسرائيل بتسليمها أموال المقاصة التي تجبيها لمصلحة السلطة؟ وهكذا تبيّن مباشرةً أن شعار "يد تبني ويد تقاوم" الذي رفعته الحركة في دعايتها الانتخابية للانتخابات التشريعية غير قابل للتحقق، وهي معضلة لم تعانِ جرّاءها حركة الجهاد الإسلامي في غزة، التي استفادت بدورها من هيمنة حركة "حماس" على غزة، إذ ظل تنظيم الجهاد في الضفة ملاحَقاً غير قادر على التمدد أو التكرس، لكنه في قطاع غزة طوّر ثاني أكبر بُنية تحتية عسكرية بعد "حماس"، من دون أن يتكلف مسؤولية إدارة الناس، أو تحمّل تبعات العمل المقاوم على عموم الناس، والتي كانت تتجلى في الدمار الذي يوقعه الاحتلال بالقطاع بعد كل مواجهة، وفي الأوضاع الاجتماعية القاسية والناجمة عن الارتفاع المطرد في أعداد الشهداء والجرحى، وعن الحصار المطبق.
خرجت الحركة من مواجهة سنة 2008 / 2009 بسلام، بعدما أرادت إسرائيل قطف رأس حركة "حماس" بضربة واحدة، وأثبتت الحركة في مواجهة سنة 2012 قدرتها على التعلم وتطوير جهازها العسكري، وقدمت أداء ملحمياً في سنة 2014، الأمر الذي أفضى إلى قدر من التوازن في الموقف إزاء اعتداءات الاحتلال حتى مواجهة سنة 2021.
في تلك الأثناء مرت حركة "حماس" باختبار عسير، بعدما فشلت رهاناتها المستعجلة على ما سُمي "ثورات الربيع العربي"، فقد خسرت مكانتها في سورية، الأمر الذي أثّر على نحو حادّ في علاقتها بإيران وحزب الله، وانعكس بقسوة على قدراتها الاقتصادية، وهو ما نجت منه حركة الجهاد الإسلامي التي لم تتخذ مواقف معلنة مناوئة للنظام السوري، وإنما كان يمكن ملاحظة تعبيرات من أوساط في جمهورها متعاطفة مع النظام، أو مع السياق الحامي له، والذي صار يُعرف تالياً بـ "محور المقاومة".
بات أمام "حماس" بعد ذلك جملة من المهمات تتمثل في وضع حل لمعضلة إدارة قطاع غزة مع الحفاظ على بُنيتها العسكرية، وإعادة ترتيب علاقاتها الإقليمية من خلال تعزيز العلاقة مع إيران، والتي أخذت طابعاً مثيراً مع مساعي الحركة للتصالح مع النظام السوري، نظام بشار الأسد في حينه. ومن المؤكد أن هذه المهمات التي تتطابق في جوهرها مع مشروع الحركة العسكري، أوجدت استقطابات حقيقية داخل الحركة التي أبدت في عدد من المحطات، جدية للتنازل عن إدارتها لقطاع غزة، كما في اتفاق الشاطىء في نيسان / أبريل 2014، واتفاق القاهرة في تشرين الأول / أكتوبر 2017، وتفاهمات إستانبول في تشرين الأول / أكتوبر 2020. بيد أن الشرط الإسرائيلي والإقليمي والدولي لم يكن ليسمح للسلطة بأن تنفّذ هذا كله، كما أن "حماس" لم تكن لتتخلى عن سلاحها وتنظيمها العسكري.
جاءت هبّة أيار / مايو 2021، بعدما ألغى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الانتخابات التي كان متفقاً عليها على أساس تفاهمات إستانبول، والتحقت الحركة من قطاع غزة عسكرياً بالهبّة التي كان مركزها مدينة القدس والمسجد الأقصى، فيما سمّته "معركة سيف القدس". وبدا للحركة بعد معرفة عناصر قوتها وثغراتها من تلك المعركة، إمكان البناء عليها لحشد الجماهير مجدداً في فعل نضالي عميق وطويل تستثمر فيه الحركة بُنيتها التنظيمية والعسكرية في غزة، وتقطع به الطريق على مشاريع التطبيع المتجاوزة للقضية الفلسطينية، وتجرّ به المنطقة إلى مواجهة أوسع مع الاحتلال، بما ينتهي إلى إنجاز سياسي واضح، وهو ما سعت له في عملية عسكرية كبيرة، كانت ناجحة في حدودها بالمعايير العسكرية الصرفة، أي في عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023.
المقاومة الإسلامية ما بعد 7 أكتوبر
بعدما امتنعت حركة "حماس" من خوض معركتين خاضتهما الجهاد الإسلامي وحدها في آب / أغسطس 2022، وأيار / مايو 2023، فاجأت العالم، ولا سيما إسرائيل، بعملية بالغة العمق والنجاح بالمعايير العسكرية، والدلالة على جدية المشروع المقاوم للحركة، وهو ما كان يعني أنها توفر قوتها بامتناعها من مشاركة الجهاد الإسلامي في معركتَيها لمصلحة عمليتها التي أرادت بها فتح بوابة كبيرة لها ولفلسطين وللمنطقة. غير أن هذه العملية الناجحة عسكرياً، سريعاً ما استدعت على الحركة الأسئلة السياسية بشأن دقة حساباتها السياسية، ومدى توقعاتها لردة فعل الاحتلال، ومستوى جهوزيتها لحرب مدمرة سريعاً ما بدا أنها حرب إبادة جماعية. وبينما أظهر الفرقاء السياسيون توقعاً بهزيمة سريعة وساحقة للحركة، صمدت هذه الأخيرة في غمرة حرب إبادة جماعية صموداً تجاوز توقعاتها هي، إلّا إن وطأة الدمار والتشريد والأعداد المهولة للشهداء والجرحى فيما وُصف بالنكبة الثانية للشعب الفلسطيني، ركّزت تقييم عملية طوفان الأقصى، في الثمن الفادح الذي دفعه الفلسطينيون داخل قطاع غزة. وهنا يمكن القول إن هذا هو التحدي الأخطر للحركة، وجوداً ومستقبلاً، قياساً بجميع التحديات التي مرت بها في تاريخها، وقد جرت الإشارة إلى بعضها فيما سبق.
باتت الحركة أمام مسؤولية ملحّة هي وقف حرب الإبادة الجماعية، من دون تقديم تنازلات سياسية، ولا سيما أن الحركة التي ساهمت إلى جانب سائر قوى المقاومة في دفع الاحتلال إلى الخروج من غزة في سنة 2005، باتت تواجه اليوم قواعد عسكرية حديثة التشييد في قلب قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، يسعى التيار الديني القومي في إسرائيل لاستثمارها في تجديد الاستيطان داخل قطاع غزة. غير أن موازين القوى الدولية والإقليمية لم تسمح لـ "حماس" بإنجاز اتفاق حدّ أدنى يضمن وقف الإبادة الجماعية، ويوفر في الوقت نفسه، الأسس لانسحاب قوات الاحتلال وإعادة الإعمار تالياً. وقد اشتغلت الحركة على محاولة إنجاز اتفاق حدّ أدنى كهذا من خلال الارتكاز إلى جملة عوامل هي: صمودها في الميدان؛ محاولة جرّ أطراف "محور المقاومة" إلى إسناد أكثر عمقاً وتأثيراً؛ التعامل مع مقترحات الوسطاء لإنجاز ذلك الاتفاق؛ السعي لإنجاز تفاهم مع مجمل القوى الوطنية، وعلى رأسها "فتح"، بشأن كيفية إدارة غزة بعد انتهاء الحرب، أي السعي لقطع الطريق على ما يسميه الإسرائيليون والأميركيون "اليوم التالي للحرب".
ولم تكن موازين القوى هذه هي التي حالت بمفردها دون قدرة "حماس" على إنجاز هذا، ذلك بأن عملية طوفان الأقصى، وعلى الرغم من استثنائيتها، لم تتمكن من حشد جماهير الفلسطينيين في فعل كفاحي واحد يشتت قوى الاحتلال ويوحّد الجماهير في إطار النضال المشترك، كما أن إدارة "محور المقاومة" كانت حذرة للغاية ولم تتمكن من التأثير في مجريات الحرب في غزة، وهو ما انتهى تالياً إلى خروج حزب الله من المعركة بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، لتجد "حماس" نفسها، هي ومَن معها من قوى المقاومة، وحدهم في غزة، من دون أن يكون لملف الأسرى الإسرائيليين مفاعيل سريعة وحاسمة في التأثير في صانع القرار أو الجمهور الإسرائيلي.
من المؤكد أن الكيفية التي ستتوقف بها الحرب على غزة، وأي صفقات موقتة أو ذات طبيعة دائمة لوقف الحرب، سيكون لها دور واضح في التأثير في موقع حركة "حماس" ومكانتها خلال المرحلة التالية، الأمر الذي لم يكن محسوماً بعدُ حين كتابة هذه المقالة. بيد أن ثمة عناصر أُخرى بالغة الأهمية ستكون ذات دور شديد الأهمية في صوغ "حماس" خلال المرحلة المقبلة.
لا يمكن لـ "حماس" أن تتجاوز في المدى القريب، وربما المتوسط، الثمن الفادح الذي كبّده الإسرائيليون لقطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، إلّا إن الحركة، وعلى الرغم من جميع الأسئلة التي ستُطرح موقتاً بشأن جدوى المقاومة المسلحة، ستبقى عميقة الحضور في الوعي الشعبي في سائر مناطق الفلسطينيين وفي الإقليم والعالم، ليس فقط بسبب الطابع الملحمي والنجاح الاستثنائي لعملية طوفان الأقصى التي ستبقى استعادتها دعائياً مستمرة، بل لكون الحركة قاتلت أيضاً بشرف وبسالة في ظرف مستحيل، وفي غمرة حرب إبادة، وانقطاع الإمداد.
وفي حين أن هذا الجانب المعنوي يمكن أن يوفر للحركة أسباب النهوض من جديد في أوقات تالية، فإنها ستجد نفسها أمام مجموعة من التحديات التنظيمية والسياسية الضخمة، ذلك بأن المحور الذي عوّلت عليه لإسنادها في معركتها المصيرية، كان بالغ الحذر في دعمها وإسنادها، كما أن التضحيات الجسيمة التي قدمها حزب الله من صفه الأول وكادره التنظيمي ومخزونه التسليحي، والتي اضطرته إلى الانسحاب من المعركة، أمران انعكسا في استثمار قوى المعارضة السورية المتمركزة في إدلب لهذا الظرف بالزحف الذي انتهى بدخول دمشق وإسقاط النظام السوري، ليتكشف الاختبار العملي عن حدود محور المقاومة، مفهوماً وقدرة. وفضلاً عن ذلك، فإن الضعف الذي أبدته قوى المحور وعلى رأسها إيران، في مواكبة التحولات المتسارعة من حرب غزة إلى حرب لبنان إلى انهيار النظام السوري، يعني انتهاء التوازن الذي خدم "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي خلال الأعوام الماضية، والذي بدا في مفارقة تاريخية، أنه كان من عوامل الضعف في مواجهة حرب الإبادة الجماعية، إذ انكسرت رهانات "حماس" والجهاد الإسلامي على محور المقاومة بعد انسحاب حزب الله، ومحدودية تأثير جبهات الإسناد، وهو ما ألقى بظلال قاتمة على الحركتين وهما في قلب المعركة.
إن انكشاف محدودية المحور كان يعني إدخال الحركتين في موقف سياسي صعب، ذلك بأن اختلال التوازن الإقليمي سينتهي بالضرورة إلى مصلحة القوى العربية الصريحة العداء للحركتين، بحيث يصبح سائر الدول العربية الأُخرى أكثر حذراً أو أقل ترحيباً في العلاقة مع "حماس". وهذا الأمر ربما يتخذ، على الأقل في المدى المنظور، حصاراً سياسياً ودبلوماسياً للحركتين، فقد يضطر عدد من قيادات "حماس" إلى مغادرة قطر، ومن غير المؤكد أن تكون إقامة بعضهم في تركيا دائمة أو ناشطة أو واضحة. أمّا حركة الجهاد الإسلامي فغادر أمينها العام زياد النخالة وقائدها العسكري أكرم العجوري دمشق بعد سقوطها في يد المعارضة، على الأرجح إلى طهران، وهي مكان لا يصلح لأن يكون مقرّ قيادة حركة "حماس" مجتمعة، وذلك لاختلاف طبيعة "حماس" عن الجهاد الإسلامي، ومنها عمق علاقاتها بأوساط شعبية عربية عديدة متحفظة تجاه إيران.
وفي حال لم تعد الحركة هي الفاعل الأهم في قطاع غزة، فإن النظام في مصر لن يجد نفسه في درجة الاضطرار نفسها إلى التعامل مع الحركة. ومع أن سقوط نظام بشار الأسد لا يمثل خسارة مباشرة لـ "حماس"، لأن المصالحة بين الطرفين لم تكتمل، حتى لو بدا أنها تُوجت في وقت سابق بلقاء جمع قيادات من الحركة مع بشار الأسد في دمشق في تشرين الأول / أكتوبر 2022، إلّا إن من غير المتوقع أن يفتح حكام دمشق الجدد أبوابهم أمام الحركة، ليس فقط لأن هذا الحكم سيكون مشغولاً بأولوياته الداخلية والسعي لتكريس استقراره، بل أيضاً للالتباسات التي اعترت علاقة الحركة بالثورة السورية بعدما كانت "حماس" أوضح القوى الفلسطينية انحيازاً إليها، والطرفَ الوحيد غير السوري الذي دفع ثمناً لأجلها، ذلك بأن علاقة الحركة المتجددة بإيران، وسعيها للمصالحة مع النظام السوري، وإشادتها المستمرة بأركان "محور المقاومة"، ساهمت في توليد نقد لها، وأحياناً عداء، من أوساط ناشطة في المعارضة السورية.
وعلى أي حال، وبما أن تركيا هي أكثر القوى الإقليمية استفادة من التحولات التي حدثت في سورية بعد طوفان الأقصى وانسحاب حزب الله من معركتها، فإنها مؤهلة لمحاولة احتواء "حماس" وفق أسس وقواعد جديدة، ولا سيما أن تركيا لا تزال تحتفظ بعلاقاتها مع "حماس"، وتستضيف عدداً من قياداتها ومكاتبها فيها، كما أنها دخلت بهدوء شديد على خطّ الوساطة في المفاوضات بين إسرائيل و"حماس". وعلى الأرجح، فإن تركيا هي الخيار المفضل أميركياً ومن "حماس" نفسها، خلال المرحلة القريبة بعد انتهاء الحرب؛ لتكون الطرف الأكثر قرباً من "حماس"، وهو أمر ربما يكون له تأثيرات في موقف الحركة السياسي، على الأقل في مرحلة موقتة إلى حين انهيار أي توازنات قد تنشأ بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية، وانكشاف محدودية "محور المقاومة".
وستظل القضايا الأيديولوجية النضالية الأساسية التي منحت الحركة المشروعية السياسية لتصدّر النضال الفلسطيني، محل الترقب، أكان ذلك على المستوى الأيديولوجي، بحيث تقدّم الحركة خطاباً جديداً بشأن الكفاح المسلح والتسوية السلمية مع إسرائيل، أم إن تراجع حضور جهازها العسكري بعد حربه الملحمية في غزة، وضعفه الجاري في الضفة، ومحدوديته خارج الأرض المحتلة، ستجعل سؤال: "ما العمل؟" أكثر كثافة وإلحاحاً، ولا سيما أمام الجماهير التي ارتفعت "حماس" لديها وحازت شرعيتها عندها بفضل مقاومتها تحديداً، والإلهام المتجدد الذي أحدثه جناحها العسكري.
أمّا على المستوى الفلسطيني الداخلي، فإذا كانت الأسئلة عن التكلفة الفادحة والجدوى الملتبسة من طوفان الأقصى ستقوي الخصم السياسي لـ "حماس"، أي حركة "فتح" المتجسدة مصالحها في السلطة الفلسطينية، وستجعل "حماس" أكثر اضطراراً إلى التفاهم معها، إلى درجة رجوع السلطة بصيغة أو بأُخرى إلى إدارة قطاع غزة، فإن مستقبل مشروع السلطة من جهة مضامينه الوطنية، سيكون أمام اختبار خطر في حال نفّذت إسرائيل مشاريع ضم الضفة الغربية، ودفعت أكثر نحو تحويل جهاز السلطة إلى جهاز إداري محدود بلا أفق سياسي وبمهمات أمنية مشروطة بالإرادة الإسرائيلية، الأمر الذي من شأنه أن يجدد "حماس" على مستوى الفاعلية الوطنية، من جهة المقولة، أو من جهة الفعل والتأثير.
يبقى الجانب التنظيمي الداخلي في "حماس"، الذي يحتاج إلى ترتيبات تالية بعد استشهاد قادة الحركة: صالح العاروري وإسماعيل هنية ويحيى السنوار، وعدد غير معروف بعد من أهم كوادر الحركة وقياداتها في غزة. فقد أنشأت الحركة مجلساً قيادياً موقتاً برئاسة رئيس مجلس الشورى فيها محمد درويش لإدارة الحركة، إلّا إن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، بل ستخضع أي ترتيبات جديدة للتوازنات الداخلية الناجمة عن طوفان الأقصى، وللتقييم المتبادل لأداء أقاليم الحركة في الحرب. فإذا كان يمكن القول إن أقاليم الحركة الأُخرى لم تتمكن من مواكبة طوفان الأقصى، فإنه يمكن القول في المقابل إن طبيعة البُنية القيادية للحركة التي تقوم على التقاسم بين ثلاثة أقاليم منعت من تكامل الرؤية والوعي الكافي بعموم أوضاع الحركة وقدراتها في سائر أقاليمها، كما أنها أخلّت بالتوازن حين ركزت مشروع الحركة في إقليم جغرافي واحد، من دون القدرة على البحث في تقوية الأقاليم الأُخرى بعناصر قوة خاصة بها، وهو ما يتطلب في نهاية الأمر تعديل اللائحة الداخلية للحركة، وإعادة البناء التنظيمي على أسس جديدة، كاعتماد أسلوب المؤتمر العام مثلاً.
أمّا بالنسبة إلى حركة الجهاد الإسلامي، وقد كانت الطرف الفلسطيني الأكثر عمقاً في العلاقة مع إيران، والأكثر إيماناً بـ "محور المقاومة" وتعويلاً على "وحدة الساحات"، حتى إنها سمّت معركتها في آب / أغسطس 2022 "وحدة الساحات"، ودفعت إلى جانب "حماس" كثيراً من التضحيات في مواجهة حرب الإبادة الجماعية على غزة، وكانت أسرع المتضررين من التحولات التي حدثت في دمشق، فإنها ستكون الأقل قلقاً من "حماس"، ذلك بأن حضور حركة الجهاد الإسلامي الجماهيري ظل محدوداً، من دون أن يكون لها تطلعات تمثيلية أو منافسة، فانحصر دور مؤسستها السياسية في خدمة عملها المقاوم، كما أن امتداداتها الشعبية بين الجماهير العربية لم تتطور، وذلك بخلاف "حماس" التي تملك عمقاً كبيراً بحكم علاقتها التاريخية بجماعة الإخوان المسلمين وامتداداتها والأطر القريبة منها. لكن على الرغم من الضعف الذي ستعانيه مقاومة الجهاد الإسلامي في غزة بسبب ارتدادات الحرب، فإنها لن تعاني خسائر كبيرة على المستوى التنظيمي، لأن الخسارة الهائلة وقعت على الجميع، وهي الأثمان المدفوعة من الناس كلهم في غزة، والذين منهم أُسَر كاملة، والآلاف من الأفراد الذين ينتمون إلى حركتَي "حماس" والجهاد الإسلامي. غير أن رضى حركة الجهاد عن نفسها، وثقتها برؤيتها، سيرتبطان بالضرورة بتحولات "محور المقاومة" صعوداً وهبوطاً، وستكون أي تراجعات سياسية، ولا سيما من إيران، أو عسكرية، شديدة الوطأة على الحركة، إلّا إن ذلك كله لن يدفع الحركة إلى مراجعة أيديولوجيتها الكفاحية، وخصوصاً أن قضية تمثيل الفلسطينيين أو إدارتهم، لم تكن يوماً من ضمن همومها.
وفي الواقع، فإن عملية طوفان الأقصى أعمق تأثيراً في "حماس" ومستقبلها من حركة الجهاد الإسلامي، ولهذا ستجد "حماس" نفسها بالضرورة أمام وقائع جديدة وتحديات خطرة، حتى لو منحتها حضوراً راسخاً في وعي الجماهير لأعوام طويلة إلى الأمام، الأمر الذي يحفظ وجودها وقابليتها للتجدد واستئناف مشروعها. بيد أن المعاناة ستلازم الحركة في الأعوام المقبلة وما قد يرافقها من تحولات في البُنية التنظيمية، وربما أطروحات سياسية جديدة، إلّا إن فَرضت السيولة القائمة واقعاً جديداً يضع الجميع أمام التمدد الإسرائيلي، فالموقف في لبنان هشّ، والعدوان على سورية متصاعد، واستمرار الاحتلال لغزة وتعاظم السياسات العدوانية في الضفة من شأنه تجديد المقاومة، وفي القلب من ذلك "حماس".