خطة الجنرالات: من توسعة غزة إلى عودة الاحتلال
نبذة مختصرة: 

لن يكون هناك أزمة إنسانية في غزة إذا لم يكن فيها مدنيون.

وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر 

إن الطريق التي يتم جرّنا إليها حالياً هي الغزو والاحتلال والاستيطان والضم والتطهير العرقي في قطاع غزة. ولإثبات ذلك، يكفي أن ننظر إلى ما يحدث في الجزء الشمالي من قطاع غزة.

وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعلون 

تأخذ "خطة الجنرالات" التي تُنسب إلى الجنرال غيورا آيلاند، مدى ميدانياً للتنفيذ من خلال ما يقترفه الجيش الإسرائيلي من عمليات قتل جماعية وتدمير شامل للبُنى التحتية والمساكن في محافظة شمال غزة. وعلى الرغم من محاولة تنصّل آيلاند من نسب الخطة إليه، فإن تصريحات رئيس هيئة الأركان ووزير الدفاع السابق موشيه يعلون جاءت لتؤكد المؤكد بشأن تنفيذ خطة الجنرالات في شمال قطاع غزة.

النص الكامل: 

خطة الجنرالات واجتياح جباليا

في 22 أيلول / سبتمبر 2024، عقدت لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي جلسة مغلقة ضمت مجموعة من الجنرالات المتقاعدين في الجيش الإسرائيلي إلى جانب وزراء في الحكومة بينهم بنيامين نتنياهو، للبحث في تطورات الحرب على غزة. وخلال الاجتماع عرض الجنرالات خطة سبق أن قدموها إلى المجلس الوزاري المصغر للحرب، للتعامل مع المقاومة المستمرة في غزة، سُميت فيما بعد "خطة الجنرالات"، وهي تُنسب كذلك إلى الجنرال غيورا آيلاند أحد الجنرالات الذين حضروا الاجتماع، والذي تولى سابقاً رئاسة مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، وهو شخصية ذات رؤية استراتيجية، لديه خبرة بتحويل الأهداف السياسية الكبرى إلى خطط عسكرية تقوم أساساً على إعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا، الفلسطينية طبعاً، وكانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على مدار تاريخها قدّمت شخصيات من هذه النوعية كان أبرزهم أريئيل شارون. وسنتحدث عن الجنرال آيلاند لاحقاً في سياق هذه المقالة.

الخطة التي سعى آيلاند لاحقاً للتنصّل منها، خشية، على ما يبدو، من الملاحقة القضائية خارج إسرائيل، نصّت على محاصرة الثلث الشمالي من قطاع غزة، بما فيه مدينة غزة. والحصار يشتمل على منع إمدادات الماء والغذاء بشكل كامل عن السكان الذين قدّرت الخطة عددهم بـ 300,000 (400,000 بحسب الأمم المتحدة)، مع إعطائهم مهلة أسبوع لمغادرة المنطقة، قبل إعلانها منطقة عسكرية مغلقة، ثم يتم اعتبار كل مَن رفض المغادرة مقاتلاً من حركة "حماس"،[1] فيكون مصيره إمّا القتل، وإمّا الاعتقال على يد جيش الاحتلال، وإمّا الموت جوعاً. وتدعو الخطة إلى سيطرة إسرائيل على الشمال لفترة غير محددة حتى تشكيل إدارة للقطاع مستقلة عن حركة "حماس"، بحسب التعبيرات الإسرائيلية، والتي تعني طبعاً أن تكون مستقلة عن أي مرجعية وطنية فلسطينية. وأخبر نتنياهو لجنة الخارجية والدفاع في الجلسة المغلقة أنه يدرس الخطة إلى جانب أفكار أُخرى قُدمت إلى المجلس الوزاري المصغر للحرب.[2]

في مطلع تشرين الأول / أكتوبر 2024، اقتحمت قوات الجيش الإسرائيلي مخيم جباليا الذي يُعتبر مركز محافظة شمال غزة، والمنطقة الأكثر كثافة سكانية فيها، وعلى تماسٍ مع مناطق شمالي مدينة غزة، وحاصرته من الجهات كافة. وترافقت العملية العسكرية مع أوامر جديدة لسكان الشمال بالمغادرة نحو الجنوب، في الوقت الذي أنشأت قوات الاحتلال حواجز لتفتيش النازحين والتحقيق معهم واعتقال مَن تشكّ في انتمائه إلى المقاومة، وهو ما جعل كثيرين من المراقبين يرون أن ما يجري هو تطبيق لخطة الجنرالات.

وقد دفع هذا الأمر وزيرَي الخارجية والدفاع الأميركيين أنتوني بلينكن ولويد أوستن، إلى إرسال رسالة وُصفت بشديدة اللهجة، إلى وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك يوآف غالانت، ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، يطالبان فيها إسرائيل بأن تنفّذ خلال 30 يوماً خطوات لتحسين الوضع الانساني في القطاع، وحذّرا من أن بقاء الوضع على ما هو عليه سيكون له تداعيات شديدة على إرساليات السلاح الأميركي إلى إسرائيل. بعد ذلك أمر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الجيش الإسرائيلي سراً بالاهتمام بإدخال 250 شاحنة مساعدات في اليوم إلى القطاع استجابة للطلب الأميركي، "وهو عدد لم يصل إليه الجيش" الإسرائيلي.[3]

وعلى الرغم من انشغال الإدارة الأميركية بالانتخابات الرئاسية في ذلك الوقت، فإنها ظلت تتابع العملية العسكرية في شمال غزة، حتى إن الوزير بلينكن هاتف غالانت قبل ساعات من افتتاح صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة، وإقالة الأخير في إسرائيل، لحثّه على إدخال مزيد من المساعدات إلى الشمال.

لا أحد في إسرائيل يعترف بأن ما يجري في الشمال هو تطبيق لخطة الجنرالات، لا الحكومة، ولا الجيش الذي تنصّل من الخطة علناً، لكنه في الواقع هو ينفذ جزءاً كبيراً منها.[4] فالسكان لم ينتقلوا إلى جنوبي نتساريم، وإنما تم طردهم فعلياً من ربع القطاع الشمالي إلى جنوبي جباليا، وربما حتى إلى مخيم الشاطىء في مدينة غزة.[5] وفي تشرين الثاني / نوفمبر وجّه الجيش الإسرائيلي أوامر إلى سكان الأحياء الشمالية الغربية من مدينة غزة بإخلائها لدفعهم أكثر نحو الجنوب، وتشمل تلك المنطقة مخيم الشاطىء وحيّ النصر ومدينة العودة وعبّاد الرحمن والكرامة.[6]

فضلاً عن تهجير السكان، يقوم الجيش بهدم البُنية التحتية بشكل كامل، وإنشاء محاور وطرق واسعة تقسم القطاع بشكل يمكن الاستنتاج منه أن الأمر ليس عملية تستهدف المقاومة والتنكيل بالسكان المدنيين فحسب، بل خلق لأمر واقع جديد يؤسس أيضاً لبقاء طويل الأمد في القطاع، ويجعل العودة إلى المناطق المُهجرة أمراً يخضع بالكامل لإرادة إسرائيل، كما يجعل حلم الاستيطان، وخصوصاً في شمال القطاع، أمراً واقعياً لا توجد أمامه عوائق ديموغرافية أو جغرافية، أي أنه رهن للقرار السياسي الإسرائيلي فقط. 

ماذا بقي من الشمال؟

منذ أن تشكّل قطاع غزة بعد نكبة 1948، كان شماله يضم مناطق بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا البلد وجباليا المخيم إلى جانب عدد من المناطق الصغيرة الأُخرى المجاوره لها. وكانت مدينة غزة حيزاً جغرافياً بحد ذاته يضمّ مخيم الشاطىء للاجئين. وفضلاً عن هاتين المنطقتين، ضم القطاع منطقة المخيمات الوسطى الواقعة مباشرة جنوبي وادي غزة، وكل من خان يونس ورفح. وعلى أساس ذلك قُسّم القطاع إلى خمس محافظات بعد إنشاء السلطة الفلسطينية في سنة 1994.

بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، فرضت إسرائيل تفسيراً جديداً لمصطلح "الشمال"، فأصبح هو كل المناطق الواقعة شمالي وادي غزة بما فيها مدينة غزة، عاصمة القطاع وكبرى مدنه التي كان يقطنها حتى ما قبل الحرب نحو ثلث سكانه، وذلك عندما أمرت جميع سكان هذه المناطق بإخلائها إلى جنوبي وادي غزة. وقد امتثل السكان، في معظمهم، للأمر، ولم يبقَ منهم سوى نحو 400,000 بحسب تقديرات الأمم المتحدة، بعد أن كان عددهم يقدر بـ 1,193,512 نسمة (749,100 في محافظة غزة، و444,412 في محافظة شمال غزة).[7]

ويتضح من هذه الأرقام أن مَن بقي في محافظتَي غزة والشمال يمثل 33,5% من السكان قبل الحرب، أي أن 66,5% من السكان تم تهجيرهم فعلاً، فضلاً عن أن مَن بقي في الشمال من السكان موجودون اليوم، في أغلبيتهم، في مدينة غزة، بعد أن اضطروا إلى النزوح إليها بعد العمليات الإسرائيلية الأخيرة التي تركزت في جباليا، في ظروف إنسانية غاية في البؤس، مع نقص حاد في إمدادات الطعام، وتراجع كبير في الخدمات الطبية، وعدم توفر لخدمات البلدية من نظافة وصرف صحي ومياه، أسوة بسكان الجنوب.

والسكان، في معظمهم، لا يجدون سقفاً يأويهم، فالركام الذي خلّفه التدمير الإسرائيلي الممنهج للأبنية في غزة يفوق 14 ضعفَ ما خلّفته الصراعات التي شهدها العالم منذ سنة 2008 مجتمعة،[8] بما فيها حرب كبرى كالحرب الروسية الأوكرانية، والحربين الأهليتين في سورية والسودان. وأظهرت صور أقمار صناعية عالية الوضوح التُقطت خلال الفترة 3-9 أيلول / سبتمبر 2024، أن نحو 163,778 مبنى لحقت بها أضرار دائمة في قطاع غزة، أي نحو 66% من مجمل الأبنية في القطاع. وكان المستوى الأعلى من التدمير في غزة والشمال: في محافظة غزة تم تدمير وإلحاق الضرر بـ 46,730 مبنى؛ في جباليا 13,131 مبنى؛ في بيت لاهيا 9543؛ في بيت حانون 5782؛ في مخيم جباليا 4134؛ في القرية البدوية (أم النصر) 1827.[9] هذه الأرقام هي قبل البدء بالعملية الإسرائيلية الأخيرة في الشمال، والتي قامت خلالها قوات الاحتلال الإسرائيلي بتدمير ممنهج وعلى نطاق واسع للمباني، وخصوصاً في مخيم جباليا. 

لا دخان بلا نار

في الأيام الأولى التي تلت 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، كان هناك توجّسات من وجود مخطط إسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر جنوباً، وهو ما ساهمت فيه تصريحات علنية لأعضاء في الحكومة والكنيست الإسرائيليين عن مسألة تهجير سكان غزة، مثل دعوة عضو الكنيست عن حزب الليكود أريئيل كالنر إلى إحداث نكبة في غزة تفوق تلك التي حدثت في سنة 1948.

تلك النغمة ترددت بكثافة في الإعلام الإسرائيلي وبشكل يومي في ذلك الوقت، على لسان كتّاب ومحللين، ومنهم ضباط متقاعدون ورسميون سابقون، لكن الفعل يبقى دائماً أكبر دلالة وأثراً من القول: فالحرب الإسرائيلية الوحشية، والإمعان في القتل واستهداف المدنيين والبُنى التحتية، أمور تشير إلى أن إسرائيل تدفعهم قسراً إلى الهرب من الجحيم الذي خلقته، ومكان الهروب بالضرورة هو مصر، الدولة الوحيدة التي تحدّ القطاع غير دولة الاحتلال.

وعزز هذا التوجّس أمرُ الجيش الإسرائيلي لسكان غزة والشمال بمغادرة أماكن سكناهم نحو جنوبي وادي غزة، وذلك في منشورات ألقتها على مدينة غزة في 13 تشرين الأول / أكتوبر 2023، أي بعد مرور أقل من أسبوع على الحرب. وكان لافتاً أن قناة "القاهرة الإخبارية" المصرية شبه الرسمية حين نقلت الخبر وضعته تحت عنوان "بداية مخطط تفريغ قطاع غزة"،[10] الأمر الذي أظهر مخاوف مصر الجدّية من التهجير، وخصوصاً مع دفع سكان القطاع نحو حدودها.

بعدها بأيام، وتحديداً في 18 تشرين الأول / أكتوبر، عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مباحثات في القاهرة مع المستشار الألماني أولاف شولتز، تلاها مؤتمر صحافي ألقى فيه السيسي كلمة بدأها بالقراءة من ورقة، ثم تحدث بشكل مرتجل، وعبّر بمفرداته وحتى نبرة صوته عن مدى القلق والتوجس المصري من فكرة التهجير، وأشار إلى أن هذه المسألة أخذت حيزاً من مباحثاته مع شولتز، الأمر الذي يشي بأن الموضوع ربما يكون أكثر من قلق وتوجّس، وأن هذه المسألة كانت محل تداول في الأروقة الدولية في ذلك الوقت. وقال السيسي: "نَقْل المواطنين الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء هو عبارة عن نقل فكرة المقاومة... فكرة القتال، من قطاع غزة إلى سيناء، وبالتالي تصبح سيناء قاعدة للانطلاق بعمليات ضد إسرائيل، وفي هذه الحالة سيكون من حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها وعن أمنها القومي، فتقوم كرد فعل بتوجيه ضربات إلى الأراضي المصرية... مصر حرصت على السلام بإخلاص، وبالتالي نحتاج لأن نساهم جميعاً بألّا يتم تبديد الاستثمار الكبير الذي وضعناه بالسلام بفكرة غير قابلة للتنفيذ."[11]

ثم أضاف السيسي: "إذا كانت هناك فكرة للتهجير توجد صحراء النقب في إسرائيل، يمكن أن يتم نقل الفلسطينيين إليها حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة، 'حماس' والجهاد الإسلامي وغيرها في القطاع، ثم بعد ذلك تعيدهم إذا شاءت."[12]

هذا الاستطراد أثار كثيراً من الجدل في حينه، لكن من الممكن أنه فُهم خطأ، إذ ربما هو محاولة منه للرد على مَن يطالبونه بفتح الحدود – وقد يكون شولتز أحدهم - لاستقبال المدنيين الفلسطينيين حتى انتهاء الحرب إيفاء بالالتزامات التي يمليها القانون الدولي على بلده، كأنه يقول إن كان القصد حماية المدنيين، فإن في إمكان إسرائيل أن تفتح الحدود من ناحيتها، وتستقبل المدنيين الفلسطينيين في صحراء النقب.

ثم أنهى السيسي تصريحه بالقول: "مصر فيها 105 ملايين، [و] إذا اقتضى الأمر أن أطلب من الشعب المصري الخروج للتعبير عن رفض هذه الفكرة فسترون ملايين من المصريين يخرجون للتعبير عن رفض الفكرة ودعم الموقف المصري في هذا الأمر."[13]

اعتبرت أحزاب الموالاة في مصر تصريحات السيسي دعوة إلى التظاهر، فحشدت لتظاهرات في 20 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وفعلاً خرجت تظاهرات في عدة مدن مصرية "تلبية لنداء الرئيس برفض تهجير الفلسطينيين."[14] بعدها في 31 من الشهر نفسه صرّح رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي من مقرّ إحدى كتائب الجيش المصري في سيناء بأن "مصر مستعدة لبذل ملايين الأرواح كي لا يقترب أحد من أي ذرة رمل من سيناء."[15]

من اللافت استخدام شخص كمدبولي، التكنوقراطي الرتيب، مثل هذه اللغة الحماسية والمفردات التي عادة ما تجيء على لسان الأيديولوجيين، كذلك الدعوة النادرة إلى التظاهر في بلد لم يعد فيه للشارع دور في التأثير السياسي منذ أعوام، وقبلها تصريحات السيسي في مؤتمر شولتز. وهذا كله يشير إلى أي حدّ كانت القيادة المصرية تأخذ موضوع التهجير على محمل الجد، بل من الصعب عزو هذا الأمر إلى مجرد تكهنات وتوقعات، بينما الأقرب إلى المنطق هو أن مسألة التهجير كانت حاضرة في المناقشات السياسية الدولية، وكانت خياراً مطروحاً لإنهاء التحدي الوجودي الذي وُضعت إسرائيل أمامه بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

في كتابه "حرب" الذي صدر في النصف الثاني من سنة 2024، ينقل الصحافي الأميركي بوب وودوارد جانباً من لقاء جمع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالقيادة الإسرائيلية في 12 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وخلاله وجّه بلينكن سؤالاً مباشراً إلى نتنياهو: "ماذا ستفعل إسرائيل بشأن المدنيين في غزة؟"، وكان لدى نتنياهو رد جاهز: "لنقم بإنشاء ممر إنساني، سنأخذهم جميعاً إلى مصر ونتركهم يذهبون إلى هناك." رد بلينكن: "قد يكون هناك مخاوف بشأن ذلك، لكن دعونا نتحدث مع الآخرين."

من المثير للاهتمام أن بلينكن لم يرفض الفكرة من حيث المبدأ، بينما قال وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر: "لن يكون هناك أزمة إنسانية في غزة إذا لم يكن فيها مدنيون"، مضيفاً: "رجل واحد – السيسي - لن يقف في الطريق."

عقب لقائه بالقيادة الإسرائيلية، باشر بلينكن جولة مكوكية على عدد من عواصم المنطقة، وبعدها عُقد لقاء السيسي - شولتز، ويبدو أن بلينكن كان قد "تحدث مع الآخرين" بشأن مسألة التهجير بحسب رده على نتنياهو، الأمر الذي وصل إلى القيادة المصرية بشكل مباشر، أو عبر أحد "الآخرين" الذين التقاهم بلينكن، وهو ما أثار مخاوفها وسخطها ودفعها إلى هذا التصعيد غير المعهود، والذي وصل حد التلويح بأن المضي بمخطط التهجير سيهدد معاهدة السلام.

لم يؤكد أي طرف ما جاء في كتاب وودورد، كما لم ينفِه أحد، لكن على كل حال، ما جاء فيه استكمل الفراغات في الصورة العامة، وهي ليست فراغات جوهرية، ذلك بأن الأحداث على الأرض بيّنت ملامح الصورة الأساسية، غير أن سدّ تلك الفراغات يجعلها أكثر وضوحاً. وإذا كان هذا ما حدث بالضبط، أو كان هناك وقائع مخفية، فمن الصعب الافتراض أن هذا الدخان كله الذي عبق في أجواء المنطقة بشأن موضوع التهجير لم يكن هناك نار وراءه.

يدل على ذلك تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعلون، والتي أدلى بها مؤخراً إلى قناة "ديموقراط" الإسرائيلية، وهي تصريحات بالغة الأهمية اتهم فيها الجيش الإسرائيلي بارتكاب تطهير عرقي في غزة، مؤكداً أنه "لم يعد هناك بيت لاهيا، أو بيت حانون. إن الطريق التي يتم جرّنا إليها حالياً هي الغزو والاحتلال والاستيطان والضم والتطهير العرقي في قطاع غزة. ولإثبات ذلك، يكفي أن ننظر إلى ما يحدث في الجزء الشمالي من قطاع غزة."[16]

وتجدر الإشارة إلى أن يعلون لم يكن يُعَدّ يوماً من الحمائم في القيادة الإسرائيلية، فهو مستوطن في مستعمرة "موديعين" التي يقع جزء منها على أراضي الضفة الغربية، وعندما خرج من الجيش انضم إلى حزب الليكود وشارك في حكومة نتنياهو، وخلال خدمته العسكرية شارك فعلياً في عملية اغتيال خليل الوزير، وهو مَن أطلق النار عليه بحسب شهادة انتصار الوزير.[17] 

التهجير القسري "الناعم"

في 29 أيار / مايو 2024، أعلن الجيش الإسرائيلي اكتمال سيطرته العسكرية على محور فيلادلفيا،[18] وذلك بعد أن اجتاح منطقة رفح التي كان قد أعلنها منطقة إنسانية آمنة للمدنيين في بداية الحرب، وأمر السكان بالانتقال إلى منطقة المواصي المحاذية لشواطىء رفح وخان يونس ودير البلح، بعيداً عن الحدود المصرية، وهو ما عنى فعلياً أن إسرائيل أقرّت عملياً بعدم إمكان تهجير السكان قسراً عبر تكديسهم على حدود مصر لدفعهم إليها.

ما سبق لا يعني أن خطر التهجير زال، بل هناك نغمة جديدة ترددت في الأشهر الأولى للحرب وما زالت، وهي "الهجرة الطوعية". وأكثر مَن روّج لهذه الفكرة كان وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا إلى تخفيض عدد سكان القطاع إلى النصف بعد إعادة احتلاله، عبر تشجيع سكانه على "الهجرة الطوعية".[19] وهذه الدعوة تتكرر كذلك باستمرار على لسان الوزير المتطرف الآخر إيتمار بن غفير، وهي فكرة ليست جديدة، فقد كشفت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية أن نتنياهو يعمل على وضع خطط لتشجيع الفلسطينيين على الهجرة الطوعية، وذلك خلال لقاء مغلق جمعه بنواب حزبه الليكود في الكنيست، وأن العقبة في وجه ذلك هو إقناع عدد من الدول باستقبالهم.[20]

قبل أي شيء، لا يوجد شيء اسمه "هجرة طوعية" للسكان عندما يُقتلون بالمئات يومياً وتُهدم منازلهم ويُجوّعون ويُحرمون من خدمات الماء والكهرباء والصرف الصحي، وتدمَّر مدارسهم وجامعاتهم ومنشآتهم الاقتصادية، وتُجرَف طرقهم، وتبور أراضيهم الزراعية.

هذه الأفعال هي جرائم حرب، وارتكابها هو فعل إبادة جماعية، وعلى هذا الأساس تنظر محكمة العدل الدولية في الدعوى المرفوعة أمامها من جنوب أفريقيا التي انضمت إليها دول عدة، كما صدرت مذكرة الاعتقال الدولية من محكمة الجنايات في حقّ بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت.

وتجدر الإشارة هنا إلى نص المادة التوجيهة 29 من القانون الدولي الإنساني العرفي، والتي جاء فيها: "وتشدد ممارسة الدول أيضاً على واجب أطراف النزاع في الحيلولة دون النزوح الذي تتسبب به أعمالها، وعلى الأقل تلك الأعمال المحظورة (كترويع السكان المدنيين أو القيام بهجمات عشوائية)."[21] 

استيطان "الشمال"

إن الدعوات إلى تهجير سكان القطاع، أو تقليص عددهم، وإقامة مستعمرات على أراضيه، رافقتها أعمال جيش الاحتلال على الأرض، والتي تجعل من تحقيقها أمراً ممكناً إذا ما توفرت الإرادة السياسية لحكومة إسرائيل مع غطاء دولي يسمح لها بذلك. فقد قامت قوات الاحتلال بهدم واسع للمباني في أرجاء القطاع كله، وهذا الهدم تكثّف في تشرين الثاني / نوفمبر، وخصوصاً في الشمال وجنوبي شرقي رفح وفي النصيرات، وأخيراً صدرت الأوامر بإخلاء مناطق في خان يونس.

وأفادت تقارير صحافية باستعانة جيش الاحتلال بشركات إسرائيلية خاصة بتنفيذ عمليات الهدم،[22] الأمر الذي يدل على اتساع رقعة الهدم. وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن الجيش الإسرائيلي وسّع محور فيلادلفيا الحدودي مع مصر، بحيث أصبح بعمق يتراوح بين 2 إلى 3 كيلومترات، وبطول 14 كيلومتراً، كما أنجز أعمال توسعة محور نتساريم الذي أصبح أوسع من منطقة تل أبيب مثلما أوضحت الصحيفة.[23] وعلاوة على ذلك اجتُزىء شريط بعمق يتراوح بين كيلومتر إلى كيلومترين على طول الحدود الشرقية والشمالية من القطاع ليكون منطقة عازلة بمساحة 60 كيلومتراً من أصل 360 كيلومتراً مساحة القطاع الكلية.[24]

عند هذه النقطة نعود إلى الجنرال غيورا آيلاند الذي تُنسب إليه خطة الجنرالات، والذي حاول التبرؤ منها بعد ذلك، حتى إنه طالب بإنهاء الحرب على غزة معتبراً السيطرة على فيلادلفيا بأنه هراء يجب أن يتوقف.[25] وربما جاء موقفه الأخير خشية الملاحقة القضائية الدولية، ولا سيما أنه يمتلك شركة استشارات تقدم خدماتها لشركات دولية.

ارتبط اسم آيلاند قبل نحو ربع قرن بخطة للحل النهائي تشمل انسحاباً إسرائيلياً من قطاع غزة، وتوسعة مساحته عبر اقتطاع 720 كيلومتراً من سيناء وضمها إليه، على أن تقوم إسرائيل بتعويض مصر بأجزاء من صحراء النقب، بينما يتنازل الفلسطينيون عن أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل.[26] ورفض الفلسطينيون والمصريون الخطة بشكل قاطع ولم يطبَّق منها سوى الانسحاب من غزة في عهد شارون.

إن الرجوع إلى خطة غيورا آيلاند الأصلية يساعد في فهم الرؤية الإسرائيلية إلى غزة، إذ يبدو أن هناك تناقضاً جوهرياً بين خطة اقترحت مضاعفة مساحة القطاع، وأُخرى اقترحت احتلاله وتهجير سكان الشمال، وكذلك بين انسحاب شارون من غزة في سنة 2005، وعودة إسرائيل إليها وتقديم مشاريع للاستيطان فيها اليوم. وفي الواقع هناك تناقض لكن على مستوى الآليات لا الجوهر؛ فإسرائيل ترى أن قطاع غزة قنبلة ديموغرافية ستنفجر في وجهها إن عاجلاً أم آجلاً، وأن جميع الخطط التي وضعتها، والتي يعود بعضها إلى بداية السبعينيات، هدفها تفكيك هذه القنبلة، فالأطماع التوسعية الحقيقية لإسرائيل هي في الضفة الغربية، وهذا مبحث آخر.

وجهود إسرائيل لتفكيك قنبلة غزة الديموغرافية كانت في السابق عبر اقتراح توسيع القطاع إلى ناحية سيناء، والآن عبر تهجير سكان القطاع، إمّا قسراً مثلما كان يُتداول في بداية الحرب، وإمّا بـ "الهجرة الطوعية" التي يروّج لها اليوم.

إن التحدي أمام الفلسطينيين كبير، والمرحلة المقبلة ترتفع فيها أهمية العمل السياسي على الصعيد الرسمي والشعبي لمحاصرة هذه المؤامرة، الأمر الذي يتطلب أن يقدّم الفلسطينيون أنفسهم أمام العالم بشكل موحد ومحترم؛ ومن هنا تتعاظم أهمية إنجاز الوحدة السياسية الفلسطينية، إلى درجة أن تصبح استحقاقاً وجودياً. كذلك من المهم جداً استمرار وتصاعد حركة دعم فلسطين العالمية، التي تستطيع أن تُصعّب مهمة التسويق الدولي للمؤامرة الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين.

إن قيادة فلسطينية موحدة متمسكة بحقوق الشعب الفلسطيني ومتواصلة مع الحراك الشعبي الدولي وفاعلة دبلوماسياً، تستطيع أن تقف في وجه مخطط التهجير، مستفيدة من التناقضات التي ستظهر داخل المجتمع الإسرائيلي إن عاجلاً أم آجلاً تحت وطأة الجرائم التي ارتكبتها دولتهم، ومعمقة لها، وهي التناقضات التي بدأت تظهر فعلاً من خلال تصريحات يعلون والردود عليها، وعبر توالي خروج شهادات لجنود إسرائيليين على جرائم الحرب التي ارتكبها جيشهم في غزة.

 

المصادر:

[1] Julia Frankel, “Netanyahu Mulls Plan to Empty Northern Gaza of Civilians and Cut Off Aid to Those Left Inside”, “Associated Press” (AP), 14 October 2024.

[2]Sam Sokol, “Netanyahu Tells Lawmakers He’s Considering ‘Generals’ Plan’ to Lay Siege to Northern Gaza”, Times of Israel, 22 September 2024.

[3] عاموس هرئيل ويانيف كوفوفيتش، "الدمار الذي يُحدثه الجيش في شمال القطاع يشير إلى نية الحكومة: نحن هنا لنبقى"، "هآرتس"، "مختارات من الصحف العبرية"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، العدد 4479، 5 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه.

[6] "أوامر إخلاء وقصف عنيف.. الاحتلال يرتكب مجزرة جديدة في شمال غزة"، "التلفزيون العربي"، 8 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[7] "عدد السكان المقدر في منتصف العام حسب التجمع 2017 - 2026"، "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني"، 30 أيار / مايو 2021، في الرابط الإلكتروني.

[8] هذا التقدير هو وفقاً لتقييم شامل أجراه برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UNHABITAT، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP، باستخدام تحليل صور الأقمار الصناعية المقدمة من مركز UNOSAT التابع لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث UNITAR.

[9] مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية UNOSAT، "التحديث التاسع للأضرار التي لحقت بالمباني في قطاع غزة"، 30 أيلول / سبتمبر 2024.

[10] "تهجير السكان إلى الجنوب.. بداية مخطط تفريغ قطاع غزة"، قناة "القاهرة الإخبارية"، 13 تشرين الأول / أكتوبر2023، في الرابط الإلكتروني.

[11] يُنظر خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الصفحة الرسمية للرئاسة المصرية، في تطبيق "يوتيوب"، في الرابط الإلكتروني.

[12] المصدر نفسه.

[13] المصدر نفسه.

[14] "مظاهرات بالقاهرة والمحافظات تلبية لنداء الرئيس برفض تهجير الفلسطينيين"، "الهيئة الوطنية للإعلام" في مصر، 20 تشرين الأول / أكتوبر 2023، في الرابط الإلكتروني.

[15] "مصر.. رئيس الوزراء: مستعدون لبذل ملايين الأرواح من أجل حماية سيناء"، CNN عربية، 31 تشرين الأول 2023، في الرابط الإلكتروني.

[16] "تقرير: يعلون يصرّ على تصريحاته التي أكد من خلالها أن الجيش الإسرائيلي يقوم بتطهير عرقي في قطاع غزة"، "يديعوت احرونوت"، "مقتطفات من الصحف العبرية"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، العدد 4501، 2 كانون الأول / ديسمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[17] تُنظر معلومات عن موشيه يعلون في موقع "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية" (مدار)، في الرابط الإلكتروني.

[18] "نقطة حوار: ما خيارات مصر بعد إعلان إسرائيل السيطرة الكاملة على محور فيلادلفيا"، موقع "بي. بي. سي." بالعربية، 30 أيار / مايو 2024، في الرابط الإلكتروني.

[19] "سموتريتش يجدد دعوته لاحتلال غزة ويرفض صفقات تبادل الأسرى"، "الجزيرة نت"، 2 كانون الأول / ديسمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[20] "هجرة طوعية لأهل غزة... نتنياهو يقرّ 'نعمل على ذلك' "، "العربية نت"، 26 كانون الأول / ديسمبر 2023، في الرابط الإلكتروني.

[21] يُنظر: "القاعدة 128: النزوح"، موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في الرابط الإلكتروني.

[22] "فيديو يكشف مساهمة شركات إسرائيلية في هدم منازل رفح"، "الجزيرة نت"، 3 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[23] "الجيش الإسرائيلي يوسع محور فيلادلفيا الحدودي برفح ويقترب من إتمام 'المنطقة العازلة' داخل غزة"، وكالة "سما الإخبارية" الفلسطينية نقلاً عن "يديعوت أحرونوت"، 3 كانون الأول / ديسمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[24] "يديعوت أحرونوت: الجيش أقام منطقة عازلة في غزة"، "الجزيرة نت"، 3 كانون الأول / ديسمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[25] "صانع خطة الجنرالات: 4 أسباب تستوجب إنهاء حرب إسرائيل بغزة"، "الجزيرة نت"، 22 تشرين الأول / أكتوبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[26] "خطة غيورا آيلاند عمرها 14 عاماً"، "الشرق الأوسط"، 8 أيلول / سبتمبر 2014، في الرابط الإلكتروني.

 

السيرة الشخصية: 

حسن شاهين: صحافي وكاتب فلسطيني.