حين صمتت الألحان: استهداف الموسيقيين في غزة
التاريخ: 
03/01/2025
المؤلف: 

حين كانت تتردد أنغام الموسيقى في شوارع غزة، لم تكن فقط ترفاً أو هواية، بل أيضاً روايات تُحكى عبر الأوتار والنغمات، ولغة تعبّر عن وجدان شعب يصارع الاحتلال يومياً للمحافظة على هويته الثقافية والوطنية، وجسراً يربط الماضي بالحاضر.

وفقاً لتقرير وزارة الثقافة السنوي، فقد استشهد 10 موسيقيين من مجموع 107 مسجلين من غزة. ومع ذلك، فإن الواقع يتجاوز الأرقام المسجلة، ليضيف وجوهاً جديدة إلى قائمة الفقد ممن كانت لهم أدوار بارزة في إثراء المشهد الموسيقي في القطاع. كما أن الموسيقيين الآخرين هم كلهم من المتضررين والنازحين بسبب العدوان الصهيوني الذي عاث في القطاع الفساد.

وهذا المقال ليس فقط عبارة عن أرقام أو إحصاءات، بل أيضاً محاولة لاستعادة وجوه بعض هؤلاء الموسيقيين الذين ارتقوا.

يوسف دوّاس: العازف والكاتب الذي عبّر عن حياة شعبه بأوتاره وكلماته

عُرف يوسف دوّاس بشغفه بالموسيقى، إذ كان عازف غيتار ماهراً، كما برع في الكتابة التي تعكس حياة شعبه تحت وطأة الاحتلال، ومع غيتاره، كان يوسف يرسم أنغاماً تشبه حياة سكان غزة: مملوءة بالأمل، ومتأثرة بالحروب، وحافلة بالتفاصيل التي لا ترويها الأرقام.

 

 

وكان ناشطاً في العديد من المبادرات التي تسعى لإظهار الوجه الآخر لفلسطين، كـ "لسنا أرقاماً"، إذ كان يساهم في توثيق معاناة الشعب الفلسطيني بعيداً عن الأرقام والإحصاءات، ليغرس فيها إنسانية القصص التي يعيشها أهل غزة. كما كتب أيضاً مقالاً بعنوان "من يدفع ثمن العشرين عاماً التي فقدناها؟"، الذي وصف فيه معاناة عائلته في غزة. كما سلطت كتاباته الضوء على جوانب أُخرى من الحياة اليومية تحت الاحتلال، كمقاله المؤثر عن عائلة فقدت بستانها في قصف إسرائيلي، ليُظهر كيف كانت المحنة تجمعهم على أمل البقاء معاً. وهذا المقال الذي نشره في موقع "الوقائع الفلسطينية"، اختصر بوضوح رؤية يوسف للحياة والموت، والتي كانت مملوءه بالوعي العميق للمخاطر التي تواجه الفلسطينيين.

هذا بالإضافة إلى أنه أبدع في كتابة العديد من الموضوعات الإنسانية التي تناولها في مقالاته باللغة الإنكليزية، ومن أبرز تلك القصص قصة عنان وريما، الزوجين الغزيَّين اللذين خاضا رحلة علاج صعبة في ظل الحصار الإسرائيلي. وقد أظهرت هذه الكتابات قدرته الفائقة على رصد التفاصيل الدقيقة للمشاعر الإنسانية وسط أوضاع الحرب.

ورحل يوسف، الذي كان يوماً ما شاباً يعزف ويكتب من أجل فلسطين، في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2023 في غارة إسرائيلية استهدفت منزله في شمال بيت لاهيا، وقتلت أيضاً العديد من أفراد عائلته. وعلى الرغم من رحيله، فإن عزفه وكتاباته شاهدة حية على إبداعه وحبه العميق لفلسطين.

محمود الجبيري: "النبطشي" الذي غنّى للفرح، وارتقى في أثناء النزوح

كان محمد الجبيري، المعروف بلقب "النبطشي"، رمزاً للفرح وصوت البسمة في قطاع غزة، وقد كان يجوب الأفراح والمناسبات الاجتماعية بفنه الشعبي وأغانيه التراثية، ناشراً البهجة في قلوب سكان غزة الذين يعانون تحت وطأة الحصار والحروب. وقد عُرف بحبه لتراث بلده، والتزامه إحياءَ الأغاني الشعبية الفلسطينية.

 

 

في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعدما أجبر جيش الاحتلال الصهيوني سكان شمال غزة على النزوح جنوباً، مدعياً توفير ممرات آمنة ومناطق خالية من الاستهداف، انطلق محمد مع آلاف المدنيين تحت زخات القصف، في رحلة نزوح محفوفة بالخطر، لكنه لم يصل إلى وجهته، إذ استهدفته غارة جوية إسرائيلية غادرة أودت بحياته في أثناء هذه الرحلة القسرية. وقد نعوه أصدقاؤه ومحبوه بألم شديد، مستذكرين ضحكته التي كانت تملأ المكان، وأغانيه التي لطالما خففت من ثقل المعاناة.

إلهام فرح: معلمة الموسيقى التي نزفت حتى الموت

إلهام فرح، معلمة الموسيقى الثمانينية، كانت أحد الأسماء التي تركت بصمة في مجال التعليم الموسيقي، وهي من عائلة غزيّة الأصل، وظلت على مدى سنوات طويلة تُعلّم الأجيال كيفية العزف على آلات الأورغ والكمان والأكورديون وغيرها. ورفضت إلهام أن تترك غزة، وقررت البقاء على الرغم من الأوضاع الصعبة التي مرت بها في القطاع.

 

 

وكانت معروفة بابتسامتها التي لا تفارق وجهها، وبحرصها على نشر الفرح عبر الموسيقى. وكانت تعزف لتلاميذها الألحان التي تحمل رسائل أمل وصمود في مدرسة دير لاتين، ولم تقتصر مشاركتها على المدرسة، بل أيضاً كانت تعزف في مناسبات عديدة في المجتمع، بما في ذلك خلال شهر رمضان والأعياد، وهو ما جعلها محبوبة بين الناس.

وفي 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أُصيبت إلهام برصاص الاحتلال الإسرائيلي في أثناء تواجدها بالقرب من مستشفى الشفاء شمالي غزة. وقبل ساعات من وفاتها، أجرت آخر مكالمة هاتفية مع ابنة شقيقتها، وقالت لها وهي ملقاة على الأرض: "أنا مرمية في الشارع، ولا أشعر برجلي، ولا أستطيع الحراك." وكانت تلك كلماتها الأخيرة قبل أن تفارق الحياة في مكانها، وسط محاولات فاشلة للإسعاف بسبب حصار المستشفى بالدبابات الإسرائيلية، وهو ما جعل من المستحيل على أي شخص الوصول إلى الجرحى للمساعدة.

لبنى محمود عليان: عازفة الكمان التي لم يكتمل حلمها

لطالما كانت الموسيقى بالنسبة إلى لبنى محمود عليان أكثر من مجرد آلة؛ إذ كانت بالنسبة إليها وسيلة للتعبير عن الهوية والفرح. وفي سن مبكرة، بدأ شغفها بالموسيقى، فتعلمت العزف على آلة الكمان في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، وتخرّجت من مدرسة غزة للموسيقى، إذ أظهرت موهبة لافتة وقدرة على العزف بكل إحساس.

 

 

وكانت تطمح لبنى إلى الانضمام إلى الأوركسترا الفلسطينية والعربية والعالمية، لتكون صوتاً يمثل فلسطين في المحافل الدولية. وعلى الرغم من أنها لم تكمل عامها الـ 14، فقد كان لديها شغف وطموح يعكس قدرة الأطفال الفلسطينيين على تحدي الأوضاع ومواصلة السعي نحو الأفضل.

وفي صباح الثلاثاء 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، استشهدت لبنى وعائلتها في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزل عمتها في النصيرات، وكان هذا أحد أكثر الأيام دموية في غزة. وفقدت حياتها في تلك الغارة مع والدتها الشهيدة سالي موسى، ووالدها الشهيد محمود عليان، وإخوتها الشهداء زين وكنان وساري، بالإضافة إلى العديد من أقاربها الذين استشهدوا في تلك المجزرة.

كانت لبنى جزءاً من جيل جديد من الموسيقيين الذين حملوا على عاتقهم رسالة الأمل. وعلى الرغم من أنها رحلت مبكراً، فإن حلمها بالمستقبل الأفضل لفلسطين سيظل حياً.

 

 

محمود مراد ساق الله: بين الحرفة واللحن

إن محمود مراد ساق الله هو اسم تردده الأجيال في غزة، ليس فقط كرجل أعمال ناجح، بل أيضاً كرمز متعدد المواهب والإنسانية. ومنذ أكثر من خمسين عاماً، كان محمود من أوائل من عملوا في تجارة قِطَع غيار السيارات، إذ أسس شركة ساق الله لقِطَع غيار السيارات في جباليا، مختصاً بالكلتشات والمكابح.

 

 

لكن حياته لم تتوقف عند التجارة؛ فقد كان ملحناً وشاعراً، وقد حملت كلماته وألحانه طابعاً وطنياً وإنسانياً، وكتب أناشيد للأم، وأغاني وطنية، وحتى أغنية خصصها للرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي استقبله شخصياً في مقر المنتدى في غزة بعد حصوله على جائزة نوبل للسلام. ولم تكن الموسيقى فقط وسيلة للتعبير عن وطنه، بل أيضاً كانت أداة لإحياء الأمل في نفوس من حوله.

وإلى جانب موهبته الفنية، كان مدرباً لكرة القدم، وصانعاً ماهراً في مجال الحلويات، ومعروفاً بحبه للعمل والإبداع في شتى الميادين. وعلى المستوى الشخصي، كان أباً حنوناً لأربعة أبناء وبنتين، وقد وصفه كل من عرفه بِطِيبِ القلب، والفكاهة، والميل الدائم إلى مساعدة المحتاجين.

وفي 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وبينما كان لاجئاً في منزل في حي الرمال الجنوبي، استهدفت صواريخ الاحتلال المنزل لتحصد حياته، وتترك وراءها إرثاً غنياً من الإنجازات والذكريات.

أكرم العجلة: عازف الإيقاع الذي أسكته الحصار

كان أكرم العجلة عازف إيقاع موهوباً، استطاع أن يجمع بين التراث الفلسطيني والأنغام العصرية، ويروي رحيله قصة أُخرى من قصص معاناة أهل غزة؛ إذ رحل في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعد صراع مع المرض في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، ليس بسبب المرض وحده، بل أيضاً بسبب حصاره بدبابات الاحتلال آنذاك، والذي حرم المستشفى من الأدوية والمعدات الطبية اللازمة لإنقاذ حياة المرضى.

 

 

محمد أبو ناجي: عازف العود الذي غُيّبت ألحانه برصاصة قناص

لم يكن محمد أبو ناجي، عازف العود الذي حمل موسيقاه للتعبير عن الألم والأمل، فيعزف للذاكرة والحلم، مجرد موسيقي، بل أيضاً كان شاهداً على واقع يومي يعيشه أهل غزة تحت الحصار والقصف.

 

 

وفي كانون الأول/ديسمبر، اضطر محمد إلى ترك منزله في شمال غزة بعد أن أصبحت المنطقة خطِرة بسبب القصف المستمر، فلجأ إلى مدرسة تابعة للأونروا في بيت لاهيا بحثاً عن الأمان، لكن المدرسة التي اكتظت بأصوات الأطفال الباكية والأنفاس الثقيلة للنازحين، والتي كان من المفترض أن تكون ملاذاً آمناً، لم تكن كذلك. ومع اقتراب الدبابات الإسرائيلية ومحاصرة المنطقة، ضاقت المدرسة بالنازحين، وأصبح الخطر حاضراً في كل لحظة.

وحتى داخل هذه الجدران، لم يكن محمد في مأمن؛ ففي 9 كانون الأول/ديسمبر، أصابته رصاصة أطلقها قناص إسرائيلي.

وتقول روايات أقاربه إنه كان يردد دائماً أن الموسيقى طريقه ليحكي للعالم عن غزة، ليعبّر للعالم عن حب شعبه للحياة على الرغم من الألم، لكن رصاصة الاحتلال لم تمنحه الفرصة، ولم تترك له وقتاً ليودع ألحانه التي رافقته طوال حياته.

كمال دويك: أنغام الحرّية تحت حصار الدبابات

وُلد كمال دويك سنة 1960 في قطاع غزة، وكان أحد أبرز الأسماء في مجال العزف على الكمان في غزة. ومنذ الثمانينيات والتسعينيات، أصبح كمال شخصية معروفة، ليس فقط لمهارته الفائقة في العزف، بل أيضاً لقدرته على نقل روحه عبر الألحان التي كان يعزفها. وعلى مدار عقود، قدّم كمال موسيقى ملهمة وحية، وكان له دور كبير كمدرب في العديد من مراكز الموسيقى في القطاع.

 

 

وعلى الرغم من التهديدات المستمرة من الاحتلال، فقد رفض كمال مغادرة بيته في بيت لاهيا، المنطقة التي كانت تتعرض للاجتياح والحصار بالدبابات، وكان متمسكاً بالبقاء في أرضه، على الرغم من الخطر المحدق، مؤمناً بأن وجوده في بيته هو شكل من أشكال المقاومة الصامتة في وجه محاولات الإجلاء القسري. وعلى الرغم من الأوضاع المأساوية التي كان يعيشها، فقد ظل مخلصاً لأرضه، ومع وصول قذائف الدبابات العشوائية إلى بيته، اضطر إلى مغادرته، ليعود بعد يوم ويتفقد بيته الذي أصبح ركاماً، ويستهدفه صاروخ زنانة ليودي بحياته في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 . ولم يكن استشهاده مجرد خسارة شخصية لأهالي غزة، بل أيضاً خسارة ثقافية.

وتطول قائمة الموسيقيين الذين أصبحوا في مرمى القصف، إذ إن كل نغمة يعزفونها تحمل رسالة إلى العالم، تذكرهم بأن فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل أيضاً هي وطن ينبض بالحياة، ومفعم بروح المقاومة.

 

 

المصادر:

عن المؤلف: 

مجد ستوم: خريجة بكالوريوس علاج طبيعي من جامعة الأزهر في غزة.