السيطرة الإسرائيلية المتصاعدة على الضفة الغربية بعد أكتوبر 2023
نبذة مختصرة: 

تبدو الحرب الدائرة الآن وعلى عدة جبهات كأنها الأكثر ضراوة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي منذ حرب 1948، نظراً إلى مدّتها ودمويتها وتعدد جبهاتها وأبعادها الإقليمية والدولية. ومع أن مرور الوقت، وتغير الموازين الميدانية، قد يغيّرا من نتائجها التي يصعب الوقوف عندها في هذا المرحلة، إلّا إن بعض المعالم بدأ يتضح بما يمكّن من إجراء تحليل أولي لبعض نتائجه.

النص الكامل: 

مقدمة

على غرار حربَي 1948 و1967، سيكون للحرب الأخيرة على قطاع غزة ولبنان، والضفة الغربية، تداعيات جذرية وبعيدة المدى على توازنات القوى الإقليمية، وعلى العلاقات العربية، فضلاً عن علاقات الإقليم بالدول الكبرى المهتمة بالمنطقة. فالحرب التي بدأت بين إسرائيل وحركة "حماس" في غزة، والتي سرعان ما انضم إليها حزب الله، وإن بشكل خجول في عامها الأول، حاولت أن تُخفي في طياتها محاولات لتعديل موازين القوى الإقليمية بين القوتين الرئيسيتين المتنافستين على النفوذ في المنطقة: إيران، وإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة.

لقد كان لهزيمة 1967 تداعيات استراتيجية من ضمنها الانهيار المتدرج للتيار القومي العربي الذي قاد المواجهة مع إسرائيل والغرب بأيديولوجيا وشعارات قومية لما يقارب نصف قرن، وقد فتح سقوطه بسبب هذه الهزيمة الباب أمام التيار الديني السياسي البديل للصعود، والذي سرعان ما أخذ دعماً وزخماً من انتصار الثورة الإسلامية في إيران في سنة 1979، بحيث انتهى الأمر بأن يقود المواجهة مع إسرائيل التيار الديني الإسلاموي ممثلاً في محور المقاومة الذي أنشأته أيران، معتمداً على الأيديولوجيا والشعارات الدينية.

وعلى الرغم من أهمية الأبعاد الإقليمية والدولية لهذه الحرب الجارية التي لم تتضح بما فيه الكفاية بعد، والتي سينشغل الباحثون والمحللون في دراستها أعواماً طويلة، فإن أثرها الأكثر سرعة ووضوحاً هو ما يجري من تغيرات دراماتيكية في التفكير والموقف والسلوك الإسرائيلية تجاه رؤية إسرائيل إلى نفسها، وإلى مستقبل علاقتها بسائر المناطق الفلسطينية، وتحديداً الضفة الغربية بما فيها القدس، وطبعاً قطاع غزة.

وستركز هذا المقالة على تحليل ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، في محاولة لفهم تداعيات هذه الحرب على الضفة بما فيها القدس الشرقية، وتحديداً مظاهر وأبعاد اتجاه إسرائيل إلى زيادة وتسارع سيطرتها على هذه المناطق.

فبعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وفي موازاة إعلان الحرب على قطاع غزة، بدأت إسرائيل تشنّ حملة على الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، من ثلاثة اتجاهات: الأول زيادة تقييد الحركة وتفتيت الوطن؛ الثاني تسريع وتيرة التوسع الاستيطاني والسيطرة على الأرض؛ الثالث يتمثل في العقوبات والضغوطات الاقتصادية على المواطنين والمؤسسات، بما فيها السلطة الوطنية الفلسطينية. 

تقييد الحركة وتفتيت الوطن

مع اندلاع الحرب على غزة، بدأت إسرائيل تفرض عدداً كبيراً ومتزايداً من الحواجز الإضافية بين معظم التجمعات السكانية في الضفة الغربية والقدس، بما في ذلك المدن والقرى والمخيمات، والتي يقطنها نحو 3,3 مليون فلسطيني. وتضمنت هذه القيود حواجز ثابتة وأُخرى متنقلة، علاوة على بوابات تُغلِق الطرق بشكل كامل ودائم، وحواجز تفتيش تعوق الحركة وتجعلها بطيئة للغاية.

ووفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، بلغ عدد الحواجز العسكرية الإسرائيلية المعوقة للحركة، حتى تشرين الأول / أكتوبر 2024، نحو 793 حاجزاً تعمل بشكل دائم أو متقطع لضبط وتقييد ومراقبة حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية.

وفي سياق توثيق مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة لهذه الحواجز الإسرائيلية، تبيّن أنها تشمل: "89 نقطة تفتيش متواصلة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع؛ 149 حاجزاً جزئياً غير آهل دائماً (46 منها لها بوابات)؛ 158 تلة ترابية (تمنع الحركة بشكل دائم)؛ 196 بوابة طريق (122 منها مغلقة عادة)؛ 104 حواجز على الطرق؛ و97 إغلاقاً خطياً يسدّ كل منها طريقاً واحداً أو أكثر، مثل حواجز الطرق والجدران الترابية والخنادق."[1]

ولتوضيح مدى جسامة هذا الإجراء، يؤكد مكتب الشؤون الإنسانية نفسه، أن ما لا يقل عن 40% (316 من أصل 793) من هذه الحواجز تَحُول بشكل ثابت ودائم دون الوصول المباشر بين المدن والقرى الفلسطينية و8 طرق رئيسية.

وإلى جانب الهدف الرئيسي لهذه السياسة الإسرائيلية، والمتمثل في التحكّم في الضفة الغربية ومعاقبة سكانها الفلسطينيين، فإن ثمة عدة تداعيات سلبية على الحياة اليومية، أبرزها تعطيل انتظام الخدمات التعليمية والصحية. غير أن الأثر الأكبر والأصعب يكمن في التبعات الاقتصادية القاسية لهذه القيود، والتي تؤثر بشكل مباشر في الاقتصاد الفلسطيني ومستوى معيشة المواطنين.

ولتوضيح هذا الأثر بشكل عملي وموثق، فقد أجرى "معهد الأبحاث التطبيقية" (أريج)، ومقره في مدينة بيت لحم، دراسة تهدف إلى تقييم الآثار الاقتصادية والبيئية للقيود على الحركة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على حـركة المـواطنين الفـلسطينيين وتنقّلهم بين مدن الضفة الغربية وقراها. وأظهرت نتائج هذه الدراسة التي استمرت تجمع البيانات على مدار 6 أشهر "أن الفلسطينيين يخسرون حوالي 60 مليون ساعة عمل سنوياً [....] والتي تُقدّر تكلفتها بحوالي 270 مليون دولار سنوياً، بالإضافة إلى استهلاك وقود إضافي بحوالي 80 مليون لتر في السنة تُقدّر تكاليفها [بـ]135 مليون دولار أمريكي، يؤدي استهلاكها إلى زيادة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحوالي 196 ألف طن سنوياً."[2] 

التوسع الاستيطاني

تمثل الأرض محور الصراع الأساسي بين الشعب الفلسطيني الذي يحاول الصمود والتمسك بأرضه باعتبارها ضمانة بقائه وانتصار قضيته العادلة، وبين المحتل الإسرائيلي الذي يرى في الاستيلاء على الأرض وطرد أصحابها الفلسطينيين منها، وإقامة المستعمرات اليهودية عليها، أداته الأساسية للانتصار وتحقيق حلمه بعيد المدى بإقامة إسرائيل الكبرى على كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر.

ويعتقد معظم الإسرائيليين والفلسطينيين، وخصوصاً المقيمين على الأرض الفلسطينية، أن حسم الصراع التاريخي بين الطرفين يتوقف على ما يجري من صراع على الأرض، ولذلك نلاحظ أن القاسم المشترك بين جميع التيارات السياسية والأيديولوجية الإسرائيلية هو السعي الدؤوب والمستمر للسيطرة على الأرض عن طريق التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي.

ومن أكثر ما يلفت الانتباه عند مراقبة التغير في سلوك الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية بما فيها القدس بعد اندلاع الحرب، هو استغلال تركيز الأضواء والاهتمام بالمذابح الجارية في قطاع غزة، وفي فترة لاحقة في لبنان، من أجل تسريع وتيرة الاستيطان والاستيلاء على الأرض الفلسطينية إلى درجة غير مسبوقة، فاجأت حتى غلاة المستوطنين الإسرائيليين أنفسهم. فوزيرة الاستيطان الإسرائيلية اليمينية أوريت ستروك، وصفت "الفترة الحالية" بأنها "معجزة من حيث كثافة وتسارع الاستيطان." وقد شبهت الوزيرة التي تنتمي إلى الحزب الذي يرأسه وزير المال سموتريتش، شعورها تجاه سرعة الاستيطان في هذا الفترة في مقابلة مع إذاعة الجيش بالقول: "أشعر مثل شخص يقف على إشارة ضوئية، وفجأة تحول الضوء إلى أخضر."[3] وجاء حديثها في أثناء الإعلان في إحدى البؤر الاستيطانية في الخليل المحتلة بشأن شرعنة 5 بؤر استيطانية فيما وُصف بأنه أوسع مصادرة أراضٍ قامت به إسرائيل منذ ما قبل اتفاق أوسلو في سنة 1993.[4]

فإسرائيل التي تضرب بقسوة وبوحشية غير مسبوقة في غزة ولبنان، تبقى عينها على مطمعها الأساسي وهو الأرض الفلسطينية، موضوع الصراع الأساسي. وفي الحقيقة، فإن جميع المراقبين لاحظوا استغلال إسرائيل للحرب من أجل تحقيق هدفها الأساسي والأكثر أهمية بالنسبة إليها، وهو التقدم في اتجاه حسم الصراع على الأرض الفلسطينية. فقد لاحظ تقرير أعدّته الأمم المتحدة تنفيذاً لقرار الجمعية العامة 78 / 78 الذي غطى النشاط الاستيطاني خلال الفترة 1 / 6 / 2023 – 31 / 5 / 2024، أنه "حدثت زيادة غير مسبوقة في الأنشطة الاستيطانية منذ 7 أكتوبر [تشرين الأول]، شملت زيادة سيطرة المستوطنين بشكل متزايد على المنطقة 'ج' في الضفة الغربية، الأمر الذي أدى إلى زيادة في تهميش السكان الفلسطينيين. وقد تم هذا كله بدعم وتخطيط وترويج من طرف السلطات الإسرائيلية، بما في ذلك من خلال تمويل البؤر الاستيطانية الزراعية."[5] 

العقوبات الاقتصادية

أخذت حملة العقوبات الاقتصادية الإسرائيلية الموجهة ضد الشعب الفلسطيني ومؤسساته في الضفة الغربية ثلاثة أساليب: الأول، منع العمال الفلسطينيين من الوصول إلى أماكن عملهم في إسرائيل؛ الثاني، احتجاز وسرقة مبالغ، بشكل تصاعدي، من الضرائب الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية وفق الاتفاقية الانتقالية الموقّعة بين الطرفين في سنة 1994؛ الثالث، منع الفلسطينيين في إسرائيل من الوصول إلى التسوق في مدن الضفة الغربية.

وفي المجمل، ألحقت هذه السياسات أضراراً بالغة بالاقتصاد الفلسطيني، فوفق تقرير صادر عن "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني" ("ماس")، فإن القيود الإسرائيلية المشددة في الضفة الغربية، والإغلاقات والمداهمات واعتداءات المستوطنين، وقرصنة أموال المقاصة، والحالة الشديدة من عدم اليقين، أمور أدت كلها إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 22% خلال العام الأول للحرب.[6]

بالنسبة إلى وقف العمل في إسرائيل، مع دخولها الحرب وإعلانها حالة الطوارىء، أغلقت إسرائيل معابرها وحواجزها العسكرية مع الضفة الغربية، ومنعت أكثر من 225,000 عامل فلسطيني فيها من الوصول إلى أماكن عملهم داخل الخط الأخضر، لتتفاقم بذلك معاناتهم الاقتصادية، ولا سيما أن السواد الأعظم منهم لم يجد بديلاً من العمل في مناطق الضفة الغربية.[7] ويؤدي منع العمال الفلسطينيين من العمل في إسرائيل إلى حرمان الاقتصاد الفلسطيني من واحد من أهم موارده المالية التي كانت تصل إلى نحو 1,5 مليون شيكل شهرياً، أي ما يقارب 400 مليون دولار.

أمّا فيما يتعلق بالضرائب، فمثلما هو معروف، فإن الاتفاقية الانتقالية بين منظمة التحرير وإسرائيل نصّت على أن تقوم الاخيرة، بحكم سيطرتها على الحدود في المرحلة الانتقالية بمهمة تحصيل الضرائب المتوجبة قانوناً على التجار الفلسطينيين من التجار الفلسطينيين المستوردين لبضائع من الخارج، لمصلحة السلطة الفلسطينية بشكل شهري ومنتظم، وذلك في مقابل رسوم مقدارها 2%. وقد قامت إسرائيل بذلك منذ قيام السلطة في سنة 1994، إذ كان يُعقد في بداية كل شهر لقاء لإجراء مقاصة يتم خلالها تحويل مبلغ الضرائب بعد أن تخصم إسرائيل مستحقات لها على السلطة لأسباب متنوعة. وتشكل قيمة الضرائب الشهرية التي يتم تحويلها ما لا يقل عن 65% من فاتورة الرواتب الشهرية المترتبة على السلطة لموظفيها.

وكواحدة من أشكال الضغوط الاقتصادية على الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، قامت إسرائيل منذ بداية الحرب في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 باقتطاع مبلغ شهري من هذه الضرائب مقداره 275 مليون شيكل (75 مليون دولار أميركي)، وهذا المبلغ مساوٍ للمبلغ الذي تحوّله السلطة الفلسطينية شهرياً كرواتب لموظفيها في قطاع غزة، والبالغ عددهم نحو 50,000، معظمهم موظفون في قطاعَي التعليم والصحة. علاوة على ذلك، هناك مبلغ 53 مليون شيكل شهرياً كانت إسرائيل تقتطعة منذ شباط / فبراير 2019، وما زالت تقتطعة حتى الآن، وهو مساوٍ للمبلغ الذي تدفعه السلطة الفلسطينية إلى أهالي الشهداء والمعتقلين كرواتب شهرية.

وإلى جانب احتجاز ما يعادل مخصصات قطاع غزة، ومخصصات عائلات الشهداء والأسرى التي بلغت 6,03 مليارات شيكل، فإن إسرائيل ما زالت ترفض أيضاً تحويل عائدات السلطة الوطنية الفلسطينية من ضريبة المغادرة على المعابر في اتجاه الأردن، والتي تراكمت منذ أعوام وتجاوزت 900 مليون شيكل، ليصل المبلغ الكلي للاقتطاعات إلى ما يقارب 6,93 مليارات شيكل.[8]

وقد لاحظ تقرير البنك الدولي الأخير الصادر في أيلول / سبتمبر 2024 بشأن تداعيات الحرب الجارية على الاقتصاد الفلسطيني، أن القيود الإسرائيلية المفروضة على الحركة في داخل الضفة، ومنها إلى أماكن العمل في إسرائيل، وكذلك اقتطاعات إسرائيل المتزايدة من الضريبة الفلسطينية، أدت إلى انكماش اقتصاد الضفة بنسبة 25% في الربع الأول من سنة 2024. واستخلص التقرير المذكور أن انخفاض الطلب أدى في المجمل إلى تراجع الاستهلاك بنسبة 28%، لأن العمال، في معظمهم، فقدوا عملهم، ولأن موظفي السلطة يحصلون على رواتب جزئية، ولأن معظم الاستهلاك مرتبط بالبضائع المستوردة، وهو ما أدى إلى انخفاض الاستيراد أيضاً بنسبة 31% في الربع الأول من سنة 2024.[9]

وبالنسبة إلى القيود على دخول الزوار من فلسطينيي الداخل إلى مدن الضفة الغربية من أجل التسوق والتعلّم في الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي بدأت بشكل صارم مباشرة بعد اندلاع الحرب، فقد كان لها أيضاً أثر سلبي كبير في الاقتصاد الفلسطيني. وتكفي الإشارة إلى أن سلطة النقد الفلسطينية كانت تُقدّر ما يُنفقه فلسطينيو الداخل بنحو 3 مليارات شيكل سنوياً (أي ما يقارب 823 مليون دولار سنوياً).[10] 

الرأي العام في الضفة والحرب على غزة

تابع الشعب الفلسطيني الموجود في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، الحرب التي اندلعت في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، والعدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع، بقدر كبير من التضامن الذي لا يخلو من إحباط على الرغم من التعاطف والتضامن، والتأييد العارم الذي تلا عبور 7 تشرين الأول / أكتوبر الذي شفى غليل شعب عانى لعقود اضطهاد الاحتلال وتنكيله.

فقد أظهر أول استطلاع بشأن رأي الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية المحتلة، والذي أجراه "مركز القدس للإعلام والاتصال" في 23 تشرين الأول / أكتوبر 2023، أن أكثرية الجمهور (72,6%) تعتقد أن هجوم المقاومة في 7 تشرين الأول / أكتوبر يمثل الطريقة المثلى لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ولتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، بينما قال 18,5% فقط عكس ذلك. كما أظهر الاستطلاع تفاؤلاً حيال نتيجة الحرب، إذ توقعت نسبة 67,1% من المستطلعين أن نتيجة الحرب الحالية بين إسرائيل والمقاومة ستكون لمصلحة المقاومة، بينما قالت نسبة 16,8% إنها لن تكون في مصلحة أي من الطرفين.[11]

وجاءت نتائج الاستطلاع الثاني بعد الحرب، والذي أجراه مركز آخر هو "المركز الفلسطيني للدراسات البحثية والمسحية" في 1 كانون الأول / ديسمبر 2023 مشابهة تماماً، فقد وجد الاستطلاع أن 72% يعتقدون أن "حماس" كانت "محقة" في شنّ هجومها في 7 تشرين الأول / أكتوبر على إسرائيل، إذ أيد الهجوم ما نسبته %82 من المستطلعة آراؤهم في الضفة الغربية، و%57 في غزة.[12]

غير أن التفاؤل تراجع بالتدريج، ربما بسبب وحشية العدوان وجسامة التضحيات وطول مدة الحرب، لكن أيضاً بسبب غياب أي دعم أو إسناد حقيقي، عسكري أو دبلوماسي أو حتى إنساني، من النوع الذي يمكن أن يلجم العدوان المستمر أو يجعل الجروح تلتئم. ولذلك، لاحظت الأبحاث المسحية اللاحقة بعض التغيرات في الرأي العام في الضفة الغربية، بما فيها القدس، إزاء بعض جوانب الحرب الجارية.

ففي الاستطلاع الذي أجراه "مركز القدس للإعلام والاتصال" بمناسبة مرور عام على هجوم 7 تشرين الأول / أكتوبر، بدا الجمهور في الضفة الغربية بما فيها القدس، منقسماً تجاه الحرب الجارية، إذ قال أقل من نصف المستطلعين (45%) إن الهجوم الذي شنّته "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأول / أكتوبر الماضي يخدم المصلحة الفلسطينية، في مقابل (24,5%) يعتقدون أن الهجوم أضرّ بالمصلحة الوطنية الفلسطينية، في حين أن 20,1% يعتقدون أنه لم يقدّم ولم يؤخر.

والأمر هو نفسه بالنسبة إلى شعبية حركة "حماس" التي تقود المقاومة في قطاع غزة، إذ تراجعت نسبة الذين يعتقدون أن الحرب ستنتهي بتحسّن مكانتها من 71,6% في تشرين الأول / أكتوبر الماضي إلى 56,5% بعد مرور نحو عام. 

في الخلاصة

سياسات الاحتلال الإسرائيلي المجحفة في الضفة الغربية، والتي تم عرضها حتى الآن، ليست جديدة، ذلك بأن أهدافها المتعلقة بالسيطرة على الضفة الغربية، وخصوصاً القدس المحتلة، قائمة منذ أكثر من نصف قرن. أمّا الأمر الجديد فهو التسارع غير المسبوق في هذه السياسات، كأن إسرائيل وجدت في تركيز الأضواء السياسية والدبلوماسية والإعلامية على الأحداث الجسيمة في غزة ثم لبنان، فرصة لتحقيق أهدافها بعيدة المدى بوتيرة أسرع.

من ناحية أُخرى، لا يبدو أن لإسرائيل مطامح حالية في الأرض اللبنانية، فهدفها المركزي والاستراتيجي، سياسياً وأمنياً ودينياً، يبقى الضفة الغربية بما فيها القدس، لأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وكذلك العربي - الإسرائيلي، نشأ في جوهره من سعي إسرائيل لاستكمال السيطرة على فلسطين التاريخية. بناء على ذلك، من المتوقع أن تعمل إسرائيل على تصفية حساباتها مع أعدائها، سواء في لبنان أو العراق أو اليمن أو إيران، عبر استغلال الحرب الجارية لتكثيف محاولاتها لحسم معركتها ضد الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين، وهي السياسة ذاتها التي يسمونها في إسرائيل "تدفيع الثمن".

وما يزيد في خطورة الوضع ويشكل دوافع إضافية إلى هذه السياسات، هو التركيبة السياسية الجديدة في إسرائيل. فعلى صعيدَي الرأي العام والنخبة السياسية، انتقلت إسرائيل بشكل نهائي من حالة الانقسام بين معسكرَين: الأول يدعو إلى السيطرة الدائمة على فلسطين التاريخية كلها مع تقاسم وظيفي مع السلطة الفلسطينية، والثاني يدعو إلى حلول وسط وتقاسم إقليمي. وتشكلت الآن حالة إجماع صهيوني على التمسك بالسيطرة الإسرائيلية المباشرة على فلسطين التاريخية كلها، عسكرياً وإدارياً، بالتوازي مع تسريع وتيرة الاستيطان بهدف تكرار تجربة 1948. وفي الواقع لم يعد هناك أي أقلية داخل إسرائيل تؤيد التخلي عن السيطرة على أي جزء من أراضي 1967.

وتتجلى هذه التوجهات في تصريحات جديدة، أبرزها ما صدر عن وزير المال بتسلئيل سموتريتش، ممثل حزب الصهيونية الدينية في حكومة نتنياهو، إذ كتب في منشور على منصة "إكس" (تويتر سابقاً) داعياً ضمنياً إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية خلال العام المقبل، قائلاً: "'2025 عام السيادة (الإسرائيلية) في يهودا والسامرة'"، مستخدماً مصطلحاً يُشار من خلاله في إسرائيل إلى الضفة.[13] ولم يقتصر هذا الرأي على ممثلي الاتجاه الأكثر تطرفاً، إذ صرّح رئيس الحكومة نتنياهو بأن "مسألة ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل 'يجب أن تعود إلى جدول الأعمال'، مع تسلّم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مهام منصبه مطلع العام المقبل."[14]

العبرة في كل هذا أن الحلقة المركزية اليوم في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تدور حول الأرض في الضفة الفلسطينية. فهذا الصراع الذي يتفاقم يوماً بعد يوم، يتركز في المواجهات اليومية في عشرات المواقع، وخصوصاً تلك المحاذية للمستعمرات، بين المستوطنين المدعومين من حكومة وجيش فاشيّين، وبين أصحاب الأراضي الذين يكافحون يومياً بشتى الوسائل للبقاء على أراضيهم. علاوة على ذلك، هناك الصراع المستمر في القدس وضواحيها بشأن الأماكن المقدسة، والأراضي، والمنازل التي تمثل رمزاً وحقاً مقدساً لأصحابها.

العبرة الأُخرى هي أن القوى المنظمة، من أحزاب وتنظيمات ومنظمات أهلية، مطالَبة بتكريس جلّ طاقاتها لتعزيز صمود المواطنين وتمكينهم من مواجهة هذه السياسات. كما أن على السلطة الفلسطينية دوراً محورياً، ليس فقط على الأرض، بل على الصعيد الدبلوماسي والقانوني الدولي أيضاً، والإنجازات المتمثلة في قرارات محكمة لاهاي مثال حي لما يمكن للعمل التراكمي أن يحققه.

في النهاية، هذا الصراع لن يُحسم بضربة قاضية، بل بالنقاط وعلى المدى الطويل. وما يمنح الأمل هو أن الجيل الفلسطيني الجديد يُظهر رفضاً ومقاومة للاحتلال كأن هذا الاحتلال بدأ بالأمس، الأمر الذي يعزز الأمل بالمستقبل البعيد الذي يجب أن نراكم نحوه الإنجازات جيلاً بعد جيل.

 

المصادر:

[1]Movement and Access in the West Bank | September 2024”, OCHA, 25/9/2024.

[2] "الفلسطينيون يخسرون حوالي 60 مليون ساعة عمل سنوياً بسبب الحواجز العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية"، "معهد الأبحاث التطبيقية – القدس" ("أريج")، 1 / 7 / 2019، في الرابط الإلكتروني.

[3]"Toi Staff and Sam Sokol, “Far-Right Minister Extols ‘Miracle Period’ of Settlement Expansion”, The Times of Israel, 7/7/2024. 

[4] Ibid.

[5] "تقرير أُممي: زيادة مقلقة في المستوطنات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة والجولان السوري"، "الأمم المتحدة"، 2 تشرين الأول/أكتوبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[6] يمكن الوصول إلى تقرير "نشرة الاقتصاد الفلسطينية: تشرين الأول 2024"، "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني" ("ماس")، بصيغة "بي. دي. أف."، من خلال الرابط الإلكتروني.

[7] عاطف دغلس، "دون عمل ولا تعويض.. العمال الفلسطينيون بإسرائيل مشردون بالضفة"، "الجزيرة"، 8 / 4 / 2024، في الرابط الإلكتروني.

[8] "إسرائيل تقتطع نحو 6,93 مليار شيقل من أموال المقاصة وترفض إعادتها"، "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية" ("وفا")، 18 / 8 / 2024، في الرابط الإلكتروني.

[9]Impacts of the Conflict in the Middle East on the Palestinian Economy”, “World Bank Economic Monitoring Report”, September 2024.

[10] "المراقب الاقتصادي" الصادر عن "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني" ("ماس")، و"الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني"، و"سلطة النقد الفلسطينية"، و"هيئة سوق رأس المال الفلسطينية"، ص: 15، في الرابط الإلكتروني.

[11]Poll no. 101 October 2023 West Bank”, “Jerusalem Media and Communication Center”, October 2023.

[12] "نتائج استطلاع الرأي العام رقم (90)"، "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية"، 22 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني.

[13] "هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضمّ الضفة الغربية في 2025؟"، "بي. بي. سي." عربي، 12 / 11 / 2024، في الرابط الإلكتروني.

[14] المصدر نفسه.

السيرة الشخصية: 

غسان الخطيب: عضو مجلس الأمناء في جامعة بيرزيت، وأستاذ الدراسات الدولية فيها.