محادثة مع الأديب إلياس خوري
النص الكامل: 

من دواعي سروري أني حظيت بفرصة ترجمة رواية "رجل يشبهني" عندما مكثت مع إلياس خوري في معهد الدراسات المتقدمة في نانت، فرنسا (L'Institut d'Études Avancées de Nantes) في شتاء سنة 2022، وبدأتُ بترجمة الرواية حينها قبل انتهاء خوري من كتابتها. كانت هذه تجربة فريدة من نوعها، بدَت فيها الترجمة الأدبية النصية أشبه بالترجمة الفورية، والمترجِم الأدبي، كالمترجِم الفوري، لا يعرف كيف ستتطور مجريات القصة. كان خوري يكتب في الصباح، ثم بعد الظهيرة يقرأ لي ما كتبه، لأبدأ بعدها بالترجمة؛ وأحياناً تحت عينيه المتفحصتين. كانت هذه السيرورة، بطبيعة الحال، تجريبية ومركبة، بطيئة وغير خطية، تخللتها عمليات حذف وإضافة، وتطلّب تنفيذها تنسيقاً وثيقاً بيننا. كانت حركة الترجمة ثنائية الاتجاه واقتضت تحليلاً معرفياً دائرياً وعميقاً. هذه هي طبيعة الحوار أن يكون متعدداً وجذمورياً (rhizomatic)، وفي الأساس دائرياً. والحوار في هذه الحالة، يشكل كما الترجمة، فعلاً سياسياً وليس أدبياً فقط، ذلك بأنه يسعى لاستحضار مكاني وزماني لأجسام مُعَرَّفَة مرت بعمليات فصل سياسية وجغرافية وتاريخية، لكن مساراتها تعود لتتقاطع بحثاً عن نقطة بداية مشتركة.

اعتمدت ترجمة رواية "رجل يشبهني" على عملية حوارية مضاعفة، حوار مع مؤلف الرواية إلياس خوري، وحوار يستند إلى نموذج سلسلة "مكتوب"، مع منى أبو بكر، محررة الترجمة التي قرأت النص الأصلي والترجمة بعناية وقدمت ملاحظات عديدة ذات زخم.

في شتاء سنة 2023، التقيت إلياس خوري مرة أُخرى في معهد الدراسات المتقدمة في نانت، وأجريت معه الحديث التالي بمناسبة صدور الرواية بالعبرية. ودار الحديث حول ثلاثية "أولاد الغيتو" وإمكان إنهائها، ذلك بأن خوري لم يعودنا على الاختتام، بل على ختام يتبيّن أنه استهلال جديد.

"رجل يشبهني"

هذه الرواية هي الثالثة والأخيرة في ثلاثية "أولاد الغيتو" التي تنتهي بها رحلة آدم دنون بين اللد وحيفا ويافا ونيويورك. وعلى غرار الروايتين السابقتين ("اسمي آدم" و"نجمة البحر")، تتركب هذه الرواية أيضاً من طبقات زمانية - مكانية محبوكة حول التاريخ العام وسيرة آدم الذاتية التي تتنقل بين الماضي والمستقبل، وبين عوالم موازية، مثل آلة سفر عبر الزمن.

في "أولاد الغيتو: اسمي آدم" نقابل رجلاً فلسطينياً في أيامه الأخيرة. زمن الرواية يدور في العقد الأول من القرن الحالي، وفيها يحاول الرجل أن يحكي بصيغة المتكلم ذكرياته في غيتو اللد، فهو يعيش في نيويورك حياة لا حاضر فيها، لأن الحاضر يتلاشى ويتحول إلى ذكرى بمجرد حدوثه. هكذا يجد آدم نفسه عالقاً بين مستقبل محدد مسبقاً، وماضٍ لا يكف يقضّ مضجعه؛ حصار يمتد حتى تصرعه الشياطين والأرواح المتهافتة على أبواب عالمه المكبوت، تحت ملابسات تذكّرنا بقصة موت الشاعر الفلسطيني راشد حسين. يترك آدم وراءه دفاتر يصف فيها سيرة حياته بناء على قصص عن طفولته سمعها في غيتو اللد. كتاباته مرقعة من عدة نصوص: مؤلَّف أدبي للشاعر وضاح اليمن، وكتابات وخواطر لا ينجم عنها قصة مترابطة واحدة، بل تنتهي بالصمت. تتناول الرواية طرفَي البداية والنهاية في قصة حياة آدم، طفولته وخريف حياته، بينما يغيب عنها المحور المركزي في سيرته الذاتية.

"نجمة البحر" (أو "ستيلا مارِس" كما سُميت بالعبرية) هي رواية تأهيل آدم التي تحاول استكمال القطع الناقصة. تعيدنا الرواية إلى مرحلة مبكرة من حياته، حيث المحور المركزي في سيرة آدم الذاتية، وتقع أغلبية أحداثها في مدينة حيفا في ستينيات القرن العشرين. تعرض الرواية صوراً من الحياة في حيفا، وتكشف عن الآليات المحركة للأدب الذي كُتب عنها، وتتتبَّع الحِيَل الهُوياتية التي يختبرها الشاب الفلسطيني في الدولة اليهودية. وفي هذا الجزء، يتنازل آدم عن ملكية صوته - ربما لفشله في سرد قصة متكاملة في الرواية السابقة - ويسلّمه لراوٍ يكتب بضمير الغائب. وهنا يكمن المفتاح لفهم الرواية التي تُستهل بالسؤال عن هوية الراوي الذي يتحدث باسم آدم. هل هو آدم نفسه بعد أن انفصل عن قدرته على أن يقول "أنا"، أي عن قدرته على أن يكون فاعلاً ذا سيادة؟ أو ربما يتظاهر بأنه راوٍ بضمير الغائب؟ أو ربما صادر المؤلف الخفي الدفة فعلاً من يدَي آدم ونَقَلها إلى غائب آخر، بعد فشل آدم المبهر في حكاية القصة في الرواية الأولى؟

في رواية "رجل يشبهني"، يعود آدم إلى دور الراوي بصيغة المتكلم، ويسلط ضوءاً جديداً على تلك النهاية المعروفة مسبقاً. تجري أحداث الرواية بشكل أساسي في نيويورك، وفي مركزها "الكتاب الأزرق"، الذي يعثر عليه مصادفة في أحد أكشاك الكتب المستخدمة، في تقاطع الشارع رقم 13 والجادة الثالثة.[1] والكتاب عبارة عن مذكرات قسّ فلسطيني من مواليد اللد اسمه عودة الرنتيسي. تلقي المذكرات ضوءاً جديداً على سيرة آدم دنون الذاتية وتقلب حياته رأساً على عقب، إذ تُعْلِمنا أن كل محاولة لسرد القصة تؤول إلى انقلاب في الحبكة. وعلى مدار الرواية، يواصل آدم محاولته فهم ما حدث له في سنة 1948 في اللد، وتفكيك معنى اكتشاف "الكتاب الأزرق" وإسقاطاته على ما جرى في الماضي (نكبة 1948). لهذا الغرض، يلتقي بشخصيات أدبية بينها خليل أيوب (بطل رواية "باب الشمس")، وجوليانو مير (بشخصية نعيم من رواية "ملجأ" لسامي ميخائيل)، والشاعر القومي الفلسطيني راشد حسين (الذي توفي في نيويورك في سنة 1977)، ويكتشف أنه موجود في خضمّ "نكبة مستمرة" تتعاقب أحداثها في مخيم جنين وفي أزقة نابلس القديمة في سنة 2002 أيضاً. تقول له إحدى الشخصيات: "سقى الله على أيام النكبة، هذي النكبة يا ابني، النكبة لحقتنا لهون."[2] وفي أعقاب اللقاء مع جوليانو مير ومشاهدة فيلمه الوثائقي "أولاد آرنا"، يقول له آدم: " 'بس فيلمك عن النكبة'. 'فينا نسميه نكبة في النكبة'."[3]

على شاكلة الأجزاء الأُخرى للثلاثية، تُقرأ رواية "رجل يشبهني" كنص مفتوح مركب من مقتطفات تتحرك بطبقات ودوائر تتفتح كل منها مثل أوراق وردة. فخوري لا يلتزم بتسلسل زمني بسيط، بل يتنقل بحركات مفاجئة نحو الماضي والمستقبل مع تمويه الحدود بين "الواقع" و"الخيال"، بحيث تحصل لديه الرواية القصصية الخيالية، والواقع، والخيال والذاكرة على مكانة شبيهة في بعض الأحيان. هذا جزء لا يتجزأ من التجريب الذي يمارسه خوري مع جانر [gener]، الرواية، ومن محاولته المستمرة في توسيع حدود القراء وصبرهم. وكما في رواياته السابقة، فهو يقوم بذلك من خلال عملية تأمل متواصلة في فعل الكتابة. والسؤال المركزي في الرواية يتمحور حول هوية كاتب دفاتر آدم، التي تتأرجح على خط التماس بين الحلم والواقع، الأمر الذي يفتح إمكان أن يكون مَن كتب آدم هو شخص على هيئته، كاتب سيطر على جسده وروحه. هذا الانفصال يجعل اليد المدونة هي خالقة النص بينما يصبح آدم هو المتلقي. وقد يكون هذا السبب هو الذي جعل آدم يدخل صمته الطويل في روايته الأولى، وقد يكون أيضاً هو الذي جعله يروي قصة وضاح اليمن، شاعر من فترة بني أمية مات بالصمت كي ينقذ حبيبته.

في المحادثة التي أجريتُها مع إلياس خوري، في إبان صدور النسخة العبرية لرواية "رجل يشبهني"، طلبت منه أن يتطرق إلى هذه الجوانب وغيرها.

الرواية والراوي والقارىء

في الرواية الأولى "أولاد الغيتو: اسمي آدم" تحدّث آدم بصيغة المتكلم إلى أن غرق في صمته لظروف نتعرف إلى بعض منها الآن فقط. الرواية الثانية، "نجمة البحر"، كُتبت بصيغة الغائب، أي أنك صادرت حق آدم في الكلام. أمّا في الرواية الحالية، "رجل يشبهني" فأنت تعيد إليه حقه في الكلام وهو يتحدث بصيغة المتكلم. لكن، مثلما يتضح في النهاية، ربما لا يكون هذا صوت آدم أصلاً، وإنما صوت شخص آخر. هل هذا تفسير صحيح؟

نعم. عملياً، هناك ثلاثة أصوات تشارك في الروايات الثلاث. في الرواية الأخيرة، نصل إلى ذروة الصراع على إمكان رواية القصة. في الأولى، لم يتحدث واختار الصمت. كان الصمت هو الصوت المهيمن. في الرواية الثانية، كان بمثابة غائب - حاضر، ومنحتُ إمكان الكلام لراوٍ بصيغة الغائب. وفي الرواية الثالثة، يحاول أن يستعيد صوته لكنه يكتشف هذه المرة أيضاً أنه ليس صوته. الحديث لا يدور على صوت واحد فقط، بل على أصوات متعددة أيضاً تتجسد، في نهاية المطاف، بالحلم الغريب الذي يراوده، أو بما يشبه الرؤيا، عن شخص أتى وكتب قصته وأجبره على العودة إلى بداية القصة. العودة إلى قصته كطفل يستلقي على صدر والدته الميتة عند طردهم من اللد في سنة 1948. وهكذا عملياً يصمت آدم في نهاية الأمر.

إذاً مَن هو الرواي أو الـ narrator؟

الصمت والخَرَس هما الـ narrator المركزي في الثلاثية. وبواسطة كسر الصمت، تعلو أصوات قد تكون فردية، لكنها تتراكم نحو صوت جماعي يعبّر عن التجربة الفلسطينية. قصص تدخل وقصص تخرج، يتداخل بعضها ببعض لتعكس التجربة الكارثية التي هي أيضاً تجربة هذا الرجل المركب الذي يسمى آدم. آدم فلسطيني لكن يمكنه أن يكون أي إنسان، أي إنسان مر بتعذيب مستمر كالذي مر وما زال يمر به الفلسطينيون. الجزء الثالث من الرواية هو نص مفتوح بهذا المعنى؛ لم ينتهِ بعد، ويتمحور حول سؤال مَن يكون الراوي، ومَن يكون الكاتب، ومَن المؤلف.

وأيضاً مَن يكون القارىء، أليس كذلك؟

صحيح، حذف القارىء هو جزء من الرحلة أيضاً. طرحتُ سؤال المؤلف كي أصل إلى فكرة كون القارىء هو المؤلف. هو ليس الكاتب بشحمه ولحمه، الذي هو أنا على ما يبدو، وليس آدم دنون، الذي كتب تلك الدفاتر. المؤلف هو القارىء نفسه. على القارىء أن يعيد ترتيب الرواية كما يريد. هذا هو جوهر المغامرة الأدبية. المغامرة الأدبية تخلق... عذراً، "تخلق" هي كلمة أقوى من اللازم، تدفع في اتجاه إمكان النص المفتوح الذي يستطيع أي شخص إعادة صوغه أو كتابته. 

هذا يذكّرني بنموذج المصدر المفتوح المستخدم في عالم البرمجة، فهو متعدد المشتركين، ومتاح للاستخدام وللتعديل مراراً وتكراراً.

هكذا أرى الأدب العربي الكلاسيكي، بدءاً بكتاب "ألف ليلة وليلة". هذه هي الكلاسيكيات. هناك تتهاوى الحدود كلها بين المؤلف والراوي والبطل والقارىء. يمكن أن تتحول كل شخصية رئيسية إلى بطل، وكل راوٍ إلى بطل، أمّا القارىء فيمكن أن يحل مكان الاثنين. لهذا السبب، تتطرق الرواية في كثير من الأحيان إلى الأدب نفسه. رواية "رجل يشبهني" هي محاولة لسبر أغوار الأدب، فالمؤلف هو القارىء، والقارىء هو المؤلف. هذه طريقة لقراءة الأدب من وجهات نظر متنوعة، والتوصل إلى ما أسمّيه "لحظة أدبية" (literary moment)، وهي لحظة فوضوية تحوِّلك من إنسان، من كاتب، إلى علامة استفهام. إنها لحظة تأمل للذات.

لماذا وكيف نروي القصة؟

اتسمت تجربتي بهذه الترجمة بالتجزؤ. ليس لأن كل عملية ترجمة تكون مجزأة فحسب، بل لأنه أيضاً من الصعب جداً ربط الخيوط لتكوين قصة متناسقة واحدة أو مركز ثقل واحد. وها أنت ذا تقول إن في الرواية تعدد أصوات، الأمر الذي يجعل إعادة ترتيبها مهمة صعبة علينا كقراء. فأنا مثلاً، أقرأها عبر محورين مركزيين: الأول، أن آدم مهووس بالسؤال عمّا جرى في سنة 1948، وفي الوقت ذاته يمر بتجارب ذكرتَها في كتابك عن تعريف "النكبة المستمرة".[4] أي بينما يتعذب لما حدث في سنة 1948، يكتشف أنه في خضمّ نكبة أُخرى. والمحور الثاني هو الشيطان، شبيهه أو العفريت الذي يكتب. هل تقرأ الرواية بهذه الطريقة كذلك؟

هذه قراءتك، وهي منطقية. لكنني أود التطرق إلى ما قلتَه عن التجزؤ. ظاهرياً، يمكنني أن أعيد ترتيب هذا التجزؤ. يمكنني أن أحكي قصة بسيطة عن ولد صغير وُجد على صدر والدته الميتة. يعيدونه إلى غيتو اللد حيث يتربى ويعيش تجارب كابن بكر، ثم يقع في حب دالية، وبعدها يهاجر إلى نيويورك ليفتح مطعم فلافل، وبعد ذلك يموت وخلص. أنت تسأل لماذا لم أسرد القصة بهذه الطريقة.

بصورة خطية..

نعم، بصورة خطية. لأنها ليست القصة التي أردت أن أحكيها. هذه ليست قصتي. قصتي جاءت من الحياة، والحياة مجزأة ومبنية من طبقات فوق طبقات. لم أبنِ قط خطة صارمة للعمل على الرواية. عرفت أن آدم سيلتقي مأمون في نيويورك، وأن الأخير سيروي له كيف وجده طفلاً مرمياً على صدر والدته الميتة، فأخذه إلى الغيتو، وهناك يكتشف البقية التي تجمعت. لا يمكنني أن أتصور آدم من دون لقائه المفاجىء بمارك إيدلمان، بطل غيتو وارسو الذي يقابله عندما يسافر إلى بولندا. مشكلة الأدب الواقعي أنه يبسط الأمور. عليك تبسيط القصص كي ترتبها، وهذا ما لا تقوم به الرواية الحديثة لدى مارسيل بروست أو جيمس جويس مثلاً. التحدي الحقيقي نجده في "ألف ليلة وليلة" حين تكتشف أن الراوي حي، وأنه لا يحكي قصة، بل يعيشها. وعلى غرار شهرزاد التي تروي الحكايات كي تبقى في قيد الحياة، فإننا نحن أيضاً نحكي القصص كي نعيش. هذه هي الحياة نفسها. وهذا ما نسميه تجزؤاً.

أمّا بالنسبة إلى العفريت أو الشيطان أو الجني، فأنا أعتقد أنه كان هناك منذ البداية، لكننا لم نشعر به لأن آدم دنون لم يشعر به. في الرواية الحالية، يدرك آدم أن ما كتبه يأتي من مكان ما. وفي اعتقادي الشخصي، فإن هذا ما يشعر به الكتّاب كلهم حتى لو لم يجرؤوا على الاعتراف بذلك، وأعني بذلك الشعور بأن هنالك شيئاً ما يأتي من مكان ما ولا سيطرة عليه. من هنا جاءت الصورة بأن شخصاً ما يكتبه، أو أنه عندما ينام، يجد نفسه يكتب. وفي النهاية، يلتقي بالجني.

 ماذا يقصد آدم عندما يتوجه إلى سائق التاكسي في النهاية ويقول له "أنت"؟

سائق التاكسي هو الجني، شبيهه. يجب الانتباه إلى نقطتَي تحول في حياة آدم: الأولى تحدث عندما يلتقي آدم بمأمون في نيويورك، ويحكي له الأخير أنه هو ابن شجرة الزيتون، وأنه كان ولداً متبنّى لا يعرف أحد مَن كان والداه. أمّا نقطة التحول الثانية فتحدث عندما يجد "الكتاب الأزرق" الذي كُتب فيه عنه. عليه الآن أن يصدق القصة. لكن مَن كتبها؟

الكتاب الأزرق وتحول الرواية

ماذا كان الهدف من وراء تكرار قصة شجرة الزيتون؟ لماذا كنت بحاجة إلى القسّ البروتستانتي لتحكي القصة مرة أُخرى؟ هل لأنك، كإلياس خوري، فوجئت بأن "الكتاب الأزرق" يصف الواقعة نفسها التي تخيلتَها؟

هاتان صيغتان مختلفتان للقصة نفسها. الرنتيسي كان فتى صغيراً. مشى في قافلة الموت ورأى فجأةً طفلاً ينام على صدر أمه الميتة. لم يتوقف ليأخذه. مأمون هو مَن أعاده إلى الغيتو. عندما حكى له القصة، أعطى مأمون شجرة الزيتون أهمية كبيرة بسبب رمزيتها، لكنه لم يتحدث عن ثديي الأم على الرغم من قوة المشهد. لقد كان أعمى ولم يرهما. وفي المقابل، كان الرنتيسي فتى ولم يعِ رمزية شجرة الزيتون. آدم يخرج عن طوره لأن هذا القسّ رآه بأم عينيه. يحاول آدم أن يجد الرنتيسي من دون نجاح، ويكتشف في الوقت نفسه أنه لا يكتُب، بل يُكتب. هذه هي تجربة الكاتب. الكاتب يُكتب بينما يكتُب. نحن طبعاً نسيطر على كتابتنا، لكن السيطرة هي على الآلية لا على المضمون، فعلى مستوى المضمون، يوجد انفجار - بركان.

من أكثر الأمور المدهشة التي حدثتني عنها هو وصفك اللقاء مع هيلاري الرنتيسي، ابنة القسّ التي عرفت منها عن وجود "الكتاب الأزرق".

ما حدث معي لم يكن أقل اضطراباً ممّا حدث لآدم. تخيلت قصة عن طفل وُجد على صدر أمه الميتة. كنت واثقاً بأنني اختلقت القصة. شخصية آدم بُنيت على خلفية هذه الحادثة. بعد ذلك، عندما كنت في بيروت أو نيويورك أو بوسطن - لا أذكر - هاتفتني هيلاري الرنتيسي، وهي بروفسور في كلية ترينيتي في هارفارد، وقالت لي أنها قرأت "أولاد الغيتو: اسمي آدم" التي نُشرت باللغة الإنجليزية في حينه، وأنني أروي قصة والدها. سألتها مَن يكون والدها، فحكت لي قصته، ثم أرسلت لي نسخة عن "الكتاب الأزرق". لم أصدق ما رأته عيناي. قرأته مرة، ثم أُخرى. اعتقدت بأنني أتوهم. لا يمكن أن يكون هذا حقيقياً. قرأت هناك القصة التي تخيلتُها، وهذا الرجل رآها بأم عينيه. ما الخيال إذاً وما الواقع؟ لا مسافة بينهما. جعلني هذا أعيد قراءة أعوام آدم الأولى وأكتب أجزاء منها من جديد. وأصبح السؤال: مَن كتب القصة: خوري؟ آدم؟ الرنتيسي؟ حقاً لا أعرف.

وهذا يعيدنا إلى الشياطين، الأشباه وتعدد الأصوات.

طبعاً، لكني حقاً لا أعرف. هذه الحادثة أدت إلى تحوّل خلال الرواية. ومن هنا ظهر الكاتب الخفي. يمكننا أن نجد شياطين كهذه في الأدب الغربي، وأعتقد أن في إمكاننا أن نجدها في كل أدب. لكل كاتب أو شاعر شبيه أو جني يكتب من أجله. حاولت أن أفهم ماذا حدث لي عندما كتبت. أذكر أنني قلت لك، أو لصديق آخر، إن أحداً لا يصدق أن الخيال سبق الواقع. كلهم ظنوا أن القصة التي رويتها تعتمد على قصة الرنتيسي، لكن الحقيقة كانت العكس. حسناً، في إمكان الناس أن يصدقوا أو لا يصدقوا، لكن هذا جعلني أدرك أن هناك شبيهاً يكتب، ونحن نجده في الشعر العربي. وصلتني هذه القصة كي أدرك ماذا يحدث معي ككاتب، وأفسر ما يحدث مع آدم. ما حدث معه كان مأسوياً. فالعالم المتخيل ذاته الذي حاول التأقلم معه أردى به إلى الخلف. فهو لم ينجح في التأقلم، وهذا ما أدى إلى مصرعه. الجني هو مَن يحكي نهاية القصة، فالقصة تنتهي من دون البطل ومن دون الراوي.

استدعاء الشخصيات الخيالية

قبل أن يلقى آدم حتفه، يلتقي بثلاث شخصيات أدبية: خليل أيوب، وجوليانو مير، وراشد حسين. أتساءل لماذا استدعيتَ شخصيات خيالية. فقد كان في إمكان آدم أن يقابل جوليانو مير في نيويورك كما قابلتَه أنت. عوضاً عن ذلك، يظهر لنا بشخصية نعيم في رواية "ملجأ" لسامي ميخائيل. أفهم التقنية التي تستخدمها عادةً لتعيد كتابة نصوص أدبية إسرائيلية، مثلما تدخلت في رواية "العاشق" للكاتب أ. ب. يهوشواع، وكيف أعدتَ كتابة حادثة الكراج في "نجمة البحر". هل تقوم بشيء شبيه هنا مع رواية سامي ميخائيل؟

الشخصيات الثلاث خيالية بالمعنى التالي: خليل أيوب يأتي من "باب الشمس" وفي نهاية الرواية، يقف بجانب قبر يونس، لكني عرفت أن القصة لم تنتهِ هناك، ولهذا أنهيتها بالجملة التالية: "أقف؛ المطر حبال تمتد من السماء إلى الأرض، قدماي تغرقان في الوحل، أمدّ يدي، أمسك بحبال المطر، وأمشي وأمشي وأمشي"[5] أرسلت الرواية إلى الناشر وقلت له: لا تضع نقطة في نهاية الجملة. وفعلاً، لا يوجد نقطة، فهو يواصل سيره. فكرت أن خليل أيوب سيذهب إلى فلسطين، لكني لم أعرف ماذا أفعل به. تجري أغلبية أحداث الثلاثية في فلسطين في سنة 1948. من ناحية خليل أيوب، من الواضح أن النكبة مستمرة، فقد قدم إلى فلسطين كي يعيش حياة طبيعية. تزوج، ورزق بطفل سمّاه يونس. ظاهرياً، تبدو حياته طبيعية ويبدأ بإنتاج مشروب العرق، لكن الانتفاضة تنطلق بعد ذلك ليجد نفسه داخلها. يقتل الجيش الإسرائيلي ابنه فيجد نفسه مرة أُخرى في مواجهة الموت.

"وفجأة، حلقت طائرة أباتشي في الجو وبدأت تلقي قنابلها. سقطت بندقية خليل من يده عندما سمع الانفجار الأول. وتوالت القذائف. سقط خليل على الأرض محاطاً برغوة الصابون، وامتلأ فضاء المكان بأقواس القزح."[6]

اخترتَ هذا الاقتباس للغلاف الخلفي للرواية العربية.

نعم. لقد قُتل في مصنع الصابون في نابلس. نابلس كانت معروفة بإنتاج الصابون. سقط على الأرض، محاطاً برغوة الصابون.

وجوليانو؟

تعاملت مع جوليانو كشخصية خيالية لأن لقائي الأول به كان كلقائي بنعيم في رواية "ملجأ" لسامي ميخائيل. بعدها تعرفت إلى جوليانو شخصياً عندما أتى إلى نيويورك مع فيلم "أولاد آرنا". زارني في بيتي واحتسينا الكثير. أمسكت كتاب ميخائيل وحاولت أن أفهم كيف وُصف هناك. كان لديّ ملاحظات مكتوبة بقلم رصاص على صفحات الكتاب، لأنني كنت أُدرّس الأدب العربي والمقارن في تلك الفترة في جامعة نيويورك. استخدمت كتاب ميخائيل كي أتعلم عن شخصية الفلسطيني في الرواية، ورأيت كيف أفسَدَ شخصية جوليانو وفلسطينيين آخرين مثل محمود درويش وسميح القاسم. بالنسبة إليّ، كان جوليانو في البداية شخصية أدبية. وهل هناك شخصية أدبية أكثر منه؟ شخصيته أرسلته إلى مخيم جنين، وخليل أيوب قادني إلى أزقة نابلس العتيقة، وفي هذه الأماكن يتضح مرة أُخرى معنى مصطلح "نكبة مستمرة".

وماذا عن الشاعر الفلسطيني راشد حسين؟

القصة مختلفة مع راشد حسين. في "أولاد الغيتو"، كتب آدم قصة وضاح اليمن التي كانت مدهشة بقدر ما كانت مروعة. لقد وجد حتفه في الصمت، في صندوق الحب. هو لم يكن شاعراً عظيماً، فلا يمكن مقارنة شعره بمجنون ليلى والمتنبي وآخرين من أبناء جيله. لكن وضاح جسّد الشعر في حياته. راشد حسين كان شاعراً وكتب شعراً جميلاً، كما أنه على غرار وضاح، جسّد الشعر في حياته، لا بل حققه. انشغلتُ بأشعار راشد حسين بعدما سمعت كيف مات جرّاء حريق في غرفته في نيويورك في سنة 1977. عندما كنت في نيويورك، أخذني صديقي كمال بُلّاطة إلى البار حيث كان يقدم راشد شِعره. قابلت هناك امرأة يهودية، كانت زوجة صاحب البار، وحكت لي قصصاً عن راشد حسين من تلك الفترة، لكني لم أستخدمها قط. وفي جميع الأحوال، نحن نتعامل هنا مع شخصيتين - الشاعر والشعر. أهناك ما هو خيالي أكثر من الشعر؟ كان راشد حسين رمزاً بالنسبة إلى الفلسطينيين. كان الشاعر الفلسطيني الأول بعد النكبة، وقد سبق درويش والقاسم وغيرهما. جميعهم أُعجبوا بشخصيته. لذلك، اعتقدت أن هذه الشخصيات الثلاث: خليل أيوب وجوليانو وراشد هي ثلاث مرايا لآدم. فقد تقبّلنا أن آدم ليس الكاتب الحقيقي، وأن هناك شخصاً - شبيهه – يكتبه، أو أن قوة الأدب هي التي تدفعه كي يكتب ما كتب. 

تَستخدم هذه التقنية الأدبية في كثير من الأحيان. آدم يستدعي شخصيات أدبية وهذه تُنسينا حقيقة كونه أيضاً شخصية أدبية.

آدم حقيقي، أقسم لك. صحيح أنه من صنع الخيال، لكني أشعر بأنه حقيقي أكثر مني حتى. إذا كان هناك شخصية خيالية بيننا فإنها أنا وليس هو، لأنه بالنسبة إليّ حقيقي.

الروائي وشخصيات رواياته

ربما هذه فرصتي لأسألك عن علاقة إلياس خوري بآدم. في الرواية الأولى هناك توتر بينهما، إذ يقول آدم أنه لم يستلطف خوري عندما التقى به في السينما في نيويورك. كيف تطورت هذه العلاقة وكيف انتهت؟

لا مشكلة بين إلياس وآدم. المشكلة هي بين آدم وشخصية إلياس خوري. كان آدم ينتقد كل نص أدبي يقرأه، ومنها "باب الشمس". كان متحفظاً من الطريقة التي وصفتُ بها خليل أيوب، كما ادّعى أن خوري لا يعرف خليل أيوب من "باب الشمس" بينما كان هو يعرفه شخصياً. في "رجل يشبهني"، نكتشف أنه على حقّ، وأنه عرفه فعلاً بينما لم يعرفه إلياس خوري. فآدم هو شخصية أدبية وخليل كذلك، ولذا يمكن أن تلتقي أرواحهما. كبشر، لا يمكننا متابعتهما دائماً. عرف آدم أن خليل كان محبطاً، وتمسَّك بحبال المطر ومشى من دون توقف. ذهب إلى حلحول، تزوج، ثم مات في نابلس. عرف قصته برمّتها. التوتر الحقيقي يسود بين مصائر الشخصيات ووَضْع الكاتب.

وَضْع الكاتب؟

الكتّاب دائماً هامشيون. عندما يكتب الكاتب رواية جيدة حقاً، يختفي. ننساه. وفي المقابل، عندما يحاول الكتّاب دخول الرواية، يفسدونها. الجميع يتحدث الآن عن التخييل الذاتي (auto fiction)، لكنني لا أحب ذلك. هذه ترهات. عندما يدخل الكاتب إلى الرواية يدمرها ويدمر نفسه. في هذه الحالة، الرواية هي التي أدخلت إلياس خوري إليها وحوّلته من كاتب إلى شخصية هامشية. كانت وظيفته أساساً أن يتحدى آدم، وخصوصاً من خلال علاقته مع الطالبة الكورية. كان إلياس خوري أستاذها، وآدم كان صديقها. يشكك آدم في أساتذة الجامعة ويعتقد أنهم يقيمون علاقات مع طالباتهم. لم يكن بين إلياس خوري ككاتب وآدم أي توتر. لقد أحببتُ هذا الرجل منذ البداية. شخصيته تجسد الاغتراب. آدم مغترب. هو إنسان يبحث عن جذوره ويجد نفسه في مكان يشعر فيه بأنه غريب. يجد نفسه في مركز الحدث من خلال هامشيته. لذا فإنه الشخصية المثالية التي كنت أبحث عنها، وبعد أن وجدته، استغرقني كثير من الوقت لفَهمه. عندما تكتب رواية، عليك أن تؤمن بأن هذه الشخصية موجودة. إذا لم تؤمن تكون قد فشلت، والأفضل أن تتوقف عن الكتابة. عندما تصدقها، فإنك تبدأ بفهمها. بدأت أشعر بآدم وأحببته. شعوري في بيروت، ككاتب وليس كشخصية داخل رواية، يشبه شعوره إلى حد كبير. أنا مغروس في المدينة، لكن جذوري كلها مقتلعة. أنا غريب في مدينتي وفي بلدي. كتب أحد النقاد أن آدم يقلد أسلوب إلياس خوري في الكتابة. أجبته بأن العكس هو الصحيح: فأنا أقلد أسلوب آدم في الكتابة. هذه هي الحقيقة. تأثيره فيّ كان رهيباً. وعندما مات، حزنت جداً. راودني شعور مشابه عندما كتبت "باب الشمس"، فعندما مات يونس أصبت بالاكتئاب. وهنا أيضاً، أتى الموت وفرقنا. 

عندما مات آدم، في بداية الرواية الأولى، جعلتَ القراء يعتقدون أنه مات مثل راشد حسين. هكذا ظننتُ أنا على الأقل. لكنك في الرواية الحالية غيرت هذا الانطباع قليلاً.

في الرواية الأولى، لم أصف كيف مات، لمَّحتُ إلى ذلك فقط، لأنني لم أعرف ماذا حدث بالضبط. أمّا في الرواية الحالية، فقد رأيت كيف مات بأم عيني. وصفت الأمر كما رأيته بالضبط. لكن، مثلما لمَّحت، كان هناك علاقة بين هاتين الميتتَين. كلاهما احتسى المشروب، وكلاهما دخّن السجائر في السرير وكلاهما اختنق بالدخان. قلنا إن راشد حسين كان أحد مرايا آدم، فلماذا لا يكون آدم مرآة راشد؟

هل كانت دالية مرآة أيضاً؟ يبدو أن دورها كان مهماً في الروايات الثلاث، وهو دور مركزي. أتساءل كيف ترى أنت دورها أو الوظيفة التي أدتها؟

دالية هي قصة حب، قصة حب حقيقية وطويلة جداً. لكن الحب مترسخ دائماً في الحياة ويجابه تحديات من أماكن أُخرى. دالية هي "الأُخرى" التي يحبها آدم. عندما قابلها، تظاهر بأنه يهودي - إسرائيلي. كان يكتب بالعبرية حينها في مجلة محلية في تل أبيب. أراد أن يقبله المجتمع الإسرائيلي، وقد أدت دالية دوراً في محاولته للاندماج، لكنه اكتشف أن دالية نفسها لم تندمج كلياً، مثل قصة الباذنجان العراقي المقلي الذي أحضرَته إلى المدرسة فجعلها محط سخرية. لكن ليس هناك هوية جامدة وحيدة. والدة دالية عراقية ولديها تجارب مرت بها كعراقية. أمّا جدها من جهة والدها، غوستاف، فهو يهودي بولندي عاش في الغيتو. اُنظر ماذا يحدث عندما تأخذه إلى غيتو وارسو: يفقد ذاكرته هناك. تأخذه إلى معقل "الذاكرة" وتكتشف أنه فقد ذكرياته كلها هناك. ما معنى الفظائع التي اقترفها النازيون في حقّ اليهود إذا لم يكن هناك ذاكرة؟ وماذا عن الفظائع التي يقترفها الإسرائيليون في حقّ الفلسطينيين؟ هل علينا أن ننساها؟ كيف ننسى؟ بالعربية نقول "إنسان" وهي مشتقة من كلمة "نسيان" لأننا ننسى. علينا أن ننسى كي نحافظ على بقائنا. علينا أن ننسى كي نبني مستقبلاً جديداً. أعتقد أن ذاكرة المحرقة، مثلما هي في إسرائيل اليوم، مشوهة، وتشكل نوعاً من أنواع النسيان. النسيان لا يمكن أن يكون فعلاً فردياً، بل على البشر أن ينسوا بشكل جماعي. وبسبب هذه التناقضات، تترك دالية آدم في نهاية المطاف، ويبدأ انكسارها بفيلم أساف الذي كان جندياً في الجيش، وذلك عندما ترى تسجيل الفيديو للجندي الإسرائيلي الذي يعلن أنه سيُقدم على الانتحار.

مثل الاستشهاديين الفلسطينيين.

نعم. شعرتُ بأن صورة الجندي الشاب الذي يقلد الفلسطينيين تثير القشعريرة. فمن أجل أن يندمج الإسرائيليون في المنطقة، عليهم أن يصبحوا فلسطينيين بهذه الطريقة أو غيرها، وتؤول هُوياتهم المضاعفة والمركبة إلى انفجار. هوية آدم أيضاً تكون في طريقها إلى الانفجار، لذلك يقرر الهجرة عندما يدرك فشله في دخول الهوية الإسرائيلية، وعندها، يكتشف هويته بعيون جديدة. إذا كنتَ تذكر، فإنه ينتظر دالية في النهاية لتأتي إلى نيويورك وتعرض فيلمها. لكن يحدث سوء تفاهم ولا ينجح في لقائها. ينتظرها، لكنها لا تأتي، وفي تلك اللحظة يموت. فلا طريقة لجعلهما يلتقيان مرة أُخرى. 

دالية هي أيضاً الشاشة التي تعكس عليها علاقة اللغتين العربية والعبرية. كمترجم، أستمتع بالتحديات التي تفرضها الألعاب بين اللغتين، مثلاً عندما يعدد آدم عشرين كلمة مرادفة للحب بالعربية، لا تجد دالية إلّا سبعة فقط بالعبرية، وفي هذه الحالة، فإن ترجمة الكلمة "الدقيقة" تكون عشوائية وتخلق حلقة لغوية. أو في موقع آخر، عند وصف الحادثة المروعة حين يسأل الفلسطيني المسنّ الجندي الذي يصوب بندقيته نحوه: "إيش هادا؟"، فيجيب الجندي "هادا إيش" ("إيش" تعني نار بالعبرية) ويطلق النار عليه. أو في اللعبة الاشتقاقية بين "هستوري" (بمعنى تاريخ) و"هستيريا" في الرواية الثالثة. لديّ انطباع بأن استخدام جمل وكلمات بالعبرية (بأحرف عربية) في النص الأصلي يميز هذه الثلاثية من غيرها من الروايات التي كتبتَها، هل هذا صحيح؟

صحيح للغاية.

الكلمات ومعناها

أنت تبدأ رحلة الفلسطيني نحو الهوية الإسرائيلية من خلال العلاقة بين اللغتين. لماذا تجذبك هذه العلاقة؟

أولاً، لانجذابي إلى الكلمات، فأنا لديّ فضول عن كيفية تطور الكلمات، وكيف ينمو معناها ويتغير. فالمادة الوحيدة الموجودة في حيازتنا هي الكلمات، ونحن نلعب بها مثلما يلعب الرسامون بالألوان. لهذا، فإن السؤال الأكبر بالنسبة إليّ هو ما معنى الكلمات؟ وأنت تجد هذا الانشغال في الأجزاء الثلاثة من الرواية. مثلاً، في علاقة وحشية بوحشَة: كلمتان يمتد بينهما حيز دلالي بين الوحدة والضراوة. كل كلمة كهذه لها تاريخ، وهو تاريخ التجربة البشرية، واللعب بالكلمات يشكل جزءاً أساسياً من إنتاج الأدب، وإنتاج معنى للكتابة. أمّا فيما يتعلق باللغة العبرية، فإنه لا يمكنني القول أنني أتقنها، لكن عندما خططت لكتابة الثلاثية، أردت أن أعرفها، ولهذا السبب، تعلمت درجة أساسية منها عندما كنت في نيويورك.

أردتَ أن تتعلم اللغة التي أتقنها آدم.

نعم، أردتُ أن أتعرف إلى عالمه اللغوي، مثلما تعلمتُ الآرامية عندما كتبتُ "يالو". واكتشفت أن معرفتي بالعربية والآرامية تسمح لي بفهم كثير من الكلمات العبرية. فهي ثلاث لهجات مختلفة للغة نفسها. لكن العبرية الحديثة مختلفة وأنا أشعر بأنها لغة استعمارية. ولا أعني اللغة نفسها، وإنما طريقة استخدامها. فالعبرية الحديثة تتعامل مع العربية بشكل متضارب إن لم نقل سلبي.

لكن هناك أيضاً العبرية القديمة التي سمّاها أنطون شماس "لغة النعمة".

نعم، بحسب الأعراف العبرية، كانت هذه اللغة هي التي تحدث بها آدم في الجنة، أمّا بحسب الأدب العربي الكلاسيكي، فإن آدم تحدث بالعربية. لكن، مثلما ذكرتُ سابقاً، فإن الفرق ليس كبيراً بين هذه اللغات، مع أن العبرية الحالية التي يُكتب بها الأدب العبري هي لغة استعمارية، ومن المثير مقارنتها بالعبرية القديمة وليس العربية. عندما تعلمت العبرية في جامعة نيويورك، لفظتُ الكلمات العبرية كما يلفظها اليهود الشرقيون في إسرائيل. وفي إحدى المرات، سألتني المدرّسة: "هل أنت يمني؟"، أجبتها: "لا يا مدام، أنا لا يمني ولا يهودي." فسألت باستغراب: "إذاً ما أنت؟"، فأجبتها بأنني عربي، عربي لبناني، وأن في إمكانها أن تعتبرني فلسطينياً. انصدمَتْ. 

إلياس، أريد أن أعيدنا إلى الحاضر. اليوم بالضبط (20 شباط / فبراير 2023) نشرت مقالتك الأسبوعية في"القدس العربي" عن كتاب عاموس كينان "الطريق إلى عين حارود". أتساءل إن كنت ترى أي صلات ترابطية بين ما يجري اليوم من هجوم المستوطنين على حوّارة، وبين رواية كينان.

رواية "الطريق إلى عين حارود" ليست عملاً أدبياً كبيراً. إنها جيدة، وتحوي أجزاء أفضل من غيرها. لكن يمكنها أن تعلّمنا شيئاً عمّا يجري اليوم، إذ نجد لدى كينان النمط ذاته عن شخصية العربي الذي نجده في كتابات أ. ب. يهوشواع وعاموس عوز وحتى غروسمان. إن العربي أو الفلسطيني هو، دائماً وأبداً، ظِلّ الإسرائيلي، لأن العلاقة بينهما هرمية دائماً. كان لدى كينان فرصة كي يحيد عن هذا المسار في روايته لأن البطل الفلسطيني محمود هو الوحيد الذي يعرف الطريق. عندما قرأت ذلك قلت في نفسي: الآن سيخرق كينان هذا النمط، وسيتولى محمود القيادة؛ لكن كينان لم يتجرأ على أن يخرج عن الخيال الصهيوني. الحديث عن "النكبة المستمرة" ليس مسألة فلسطينية فحسب، بل هو مسألة إسرائيلية عميقة أيضاً، ويجب قراءته عبر عيون إسرائيلية، وعبر كيفية تأثيره في المجتمع الإسرائيلي. أتذكر تحذيرات يشعياهو ليفوفيتش منذ الستينيات، وأتذكر بأنني قرأته وصُدمت. لقد كان وطنياً ودافع عن إسرائيل لكنه استطاع رؤية مخاطر الاحتلال وسقوط الأساطير الصهيونية، وهي تسقط لأن الاحتلال لا يوجد خارج المجتمع الإسرائيلي. الضفة الغربية وغزة والقدس تفتح الاحتلال على إسرائيل قاطبة وتفضح النظام الكولونيالي. لا أريد أن أبالغ وأقول إن إسرائيل تقف على عتبة حرب أهلية، لكن هناك شرارة بداية. خذ على سبيل المثال جميع الذين حسبوا إسرائيل وطناً لهم، ومكاناً محمياً، أمّا الآن فيشعرون كأنهم في المنفى. 

ذكرتَ في مقالتك المذكورة نابلس وجنين اللتين تؤديان دوراً مهماً في رواية "رجل يشبهني".

إذا أردتَ الذهاب إلى عين حارود، فعليك أن تمر أولاً بمخيمات اللاجئين. وإذا أردتَ أن تبني شيئاً جديداً، فعليك أن تبدأ من هناك، من جنين ونابلس. عليك أن تبني مع الفلسطينيين، وإلّا فستبقى عين حارود مجرد ديستوبيا إلى الأبد.

 

* جرت المحادثة في معهد الدراسات المتقدمة في نانت في 20 شباط / فبراير 2023، وترجمتها كفاح عبد الحليم. ونُشرت هذه المحادثة كخاتمة لرواية "رجل يشبهني" بنسختها العبرية الصادرة عن سلسلة "مكتوب - أدب عربي" بالعبرية.

 

المصادر:

[1] "الكتاب الأزرق" هو كتاب مذكرات كتبه قسّ فلسطيني بروتستانتي اسمه عودة الرنتيسي كان وهو فتى من ضمن الذين مشوا في قافلة الترحيل التي خرجت من اللد في سنة 1948. يُنظر:

 Audeh Rantisi, Blessed are the Peacemakers: The Story of a Palestinian Christian (Michigan: Eagle, 1990).

[2]إلياس خوري، "رجل يشبهني" (بيروت: دار الآداب، 2023)، ص 170.

[3] المصدر نفسه، ص 171.

[4] إلياس خوري، "النكبة المستمرة" (بيروت: دار الآداب، 2024).

[5] إلياس خوري، "باب الشمس" (بيروت: دار الآداب، ط 7، 2017)، ص 527.

[6] خوري، "رجل يشبهني"، مصدر سبق ذكره، ص 278.

السيرة الشخصية: 

يهودا شنهاف - شهرباني هو المحرر الرئيسي لسلسلة "مكتوب" المختصة بترجمة الأدب العربي إلى العبرية، وهو مَن ترجم إلى العبرية ثلاثية إلياس خوري "أولاد الغيتو" الصادرة عن السلسلة.