مقدمة
مثلما رثى إلياس خوري المدينة وشخصياتها الهامشية، جعل من مقالاته التأبينية مساحة أخيرة يُحيي فيها مَن غاب من المثقفين العرب. فعلى صفحات "الملحق" الأدبي لصحيفة "النهار"، كتب خوري عشرات المراثي التي تكشف عن رؤية الكاتب إلى ماهية الأدب، وعن تجربته مع الصداقة، وتشخيصه لمأزق المثقف العربي في اللحظة المعاصرة، مرسخاً مفهومه للأدب والقيم السياسية التي دافع عنها طوال مسيرته. قرأ خوري غياب المثقف بعين الكاتب الملتزم الذي لا يسيّس موت المثقف فحسب، بل يضع تصوراً لسياسة الحداد أيضاً، فيدل قارئه على كيف يكون السياسي ملازماً للحداد، وكيف يكون الحداد التزاماً. وفي موازاة الرواية والمقالة السياسية، تشكل مراثي إلياس خوري الضلع الثالث لمسيرته الفكرية التي تضافر فيها الأدبي والسياسي.
الراثي والمراثي
لم يتعب إلياس خوري من الرثاء. رثى بيروت التي دمرتها حروبها الأهلية قبل أن تستفيق على هول الحريرية وسياسات إعادة الإعمار التي لم تلتفت لا إلى ذاكرة المدينة، ولا إلى إتمامها عملية الحداد. رثاها في أعماله الروائية، فكان "غاندي الصغير" وأليس، و"يالو" وفهد بدر الدين، ووجوه الشهداء البيضاء على الجدران، وآخرون ممّن سقطوا سهواً أو عمداً من سرديات العنف الرسمية. ومثلما رثى خوري المدينة وشخصياتها الهامشية في رواياته، جعل من مراثيه الصحافية مساحة أخيرة لنقل وصية المثقف.
كتب خوري عشرات المراثي على صفحات صحيفة "النهار"، وتحديداً في "الملحق" الأدبي الذي رأس تحريره على مدى 17 عاماً بين سنتَي 1992 و2009. وقامت تلك الحقبة على تلاقي ثلاث تجارب مع الخسارة، هي بمثابة "ما بعد" لحظات تاريخية مفصلية، منها مرحلة "ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية" (1990) حين استفاقت بيروت على أنقاض وعود التحرر والآمال بوعود مستقبلية بالازدهار بقي فيها زمن المدينة معلقاً، ومحكوماً بعنف أهلي سيبقى مؤجلاً وعائداً حتماً عند كل منعطف. وهناك أيضاً مرحلة "ما بعد حرب الخليج" (1991) التي جاءت لتؤكد حتمية الاقتتال العربي الداخلي، وترسُّخ النفوذ الأميركي في المنطقة. وأخيراً مرحلة "ما بعد اتفاق أوسلو" (1993) التي أعلنت نهاية المقاومة المسلحة الفلسطينية، وبدء بناء هيكل لدولة فلسطينية لن ترى النور. وقد عاش الكتّاب الملتزمون، وأبرزهم إلياس خوري، تلك التحولات الجذرية كحلقة أخيرة في سلسلة الخسارات السياسية التي بدأت منذ الستينيات.
كانت التسعينيات، إذاً، زمن الوقوف على الخسارات المتوازية والمتعاقبة وإعادة التعريف بمفهوم الالتزام السياسي الذي كان خوري وضع له تصوراً في أول أبحاثه النقدية في مجلتَي "مواقف" و"الآداب" في السبعينيات. وقد رثى خوري في مقالاته التأبينية في "الملحق" مثقفين سابقين لجيله، وآخرين مجايلين له، هم فنانون، وأكاديميون، وصحافيون، وروائيون، وشعراء، وقياديون. رثاهم في مقالات طويلة وعبر تحايا مقتضبة وفي ملفات خاصة، في ذكرى الأربعين السنوية، عقب اغتيال أو موت طبيعي. وإذا كان خوري كتب الخسارة في رواياته ومقالاته النقدية، فإن ما من مساحة أكثر تعبيراً عن التحام الفقد الفردي والجماعي والنظرة إلى ماهية الكاتب والكلمة، كالمرثية التي تقدّم مساحة للكاتب كي يؤدي مهمته في رصد الخسارات المتتالية للمثقف العربي وتأويلها.
البقاء للكلمة
في مراثي إلياس خوري، ولا سيما للأدباء الذين عرفهم وشهد على غيابهم، يتضح مفهومه لماهية الأدب ودور الكاتب. فعندما نعى خوري جبرا إبراهيم جبرا، ركّز على جانب الأديب فيه، أي الجانب الذي كان لا يزال يؤمن بالبُعد الإنسانوي للأدب، وبضرورة تحييده عن التباسات السياسة.[1] وعندما نعى سعد الله ونّوس وعبد الرحمن منيف، تطرّق إلى شخصهما كمثقفَين سارتريَّين رأيا في كتابة الملحمة الإنسانية امتداداً للممارسة السياسية، مثلما نصّ عليها مفهوم جان بول سارتر في "ما الأدب؟" (1948).
هكذا رثى خوري نمطَين من المثقفين افترقا في رؤيتهما إلى الأدب وإلى دور الكاتب، لكنهما التقيا على تصور خوري للكاتب بأنه كيان يبدأ بالكمون قبل موته الفعلي، أي منذ لحظة نشره النصّ الأدبي. قرأ خوري العمل الأدبي بمعزل عن صاحبه. فالنص ليس امتداداً حتمياً للكاتب، لأن الكاتب ليس إلّا كياناً وضع النص للقارىء قبل أن يبدأ بالتلاشي. يحاكي إلياس خوري من خلال تلك الرؤية مفهوم رولان بارت للكتابة كممارسة تنطلق من الكاتب، إلّا إنها لا تلبث أن تتخطاه، مثلما ينصّ بارت في "موت المؤلف" (1967): "الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل. الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللفّ الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة. إنها السواد - البياض الذي تضيع فيه كل هوية، ابتداء من هوية الجسد الذي يَكتب."[2]
بهذه الروحية، ينفي إلياس خوري الموت عن الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا: "جبرا لم يمت، لأن لا أحد يموت. كلنا نبقى في الآخرين… أمّا الروائي، فيعلن موته الفردي لحظة تتملكه الجرأة على نشر أولى رواياته."[3] هكذا كان إلياس خوري ينعى الكاتب، عبر إعادة التشديد على أنه ينتهي قبل موته الفعلي، أي عند صدور عمله، وأن نصوصه وشخوص أعماله تتجاوز موت مؤلفها، لأنها الوحيدة التي يُكتب لها الخلود. وعند غياب جسد الكاتب، تحيا شخصياته التي تحتل حيزاً أساسياً في المراثي التي تتواتر فيها مفردات مثل "الكلمات" و"الحكاية"، التي يعود إليها خوري مراراً كي يقول إن المثوى الأخير للأديب هو الكلمة، وإن الأديب ليس إلّا حكاية تكتبها الكلمة.
بناء على تلك الرؤية إلى النص الأدبي وماهية الأديب، يستعيد إلياس خوري الكاتب الغائب من خلال إعادة إحياء شخصياته الأيقونية: ينبعث أمامنا متعب الهذال في مراثي عبد الرحمن منيف، ووليد مسعود في مراثي جبرا، وإسكندر الحماني في مراثي يوسف حبشي الأشقر. وقد يسترجع خوري نص الكاتب الذي يرثيه من خلال التناصّ الذي يُحيي من خلاله الآخر عبر استعارة كلماته، ولا سيما طريقته في الرثاء، وإدخالها في نصه. ففي رثائه لمحمود درويش، يستعير إلياس خوري من قصيدة "طباق" التي رثى فيها درويش إدوارد سعيد،[4] ويستعير من محمود درويش رثاءه لراشد حسين كي يبكي غياب الشاعرَين الفلسطينيين في المرثية ذاتها.[5] ففي مرثيته الأخيرة لمحمود درويش، يقول خوري إن درويش كان "أكثر دهاء من أن يترك لنا مهمة الرثاء، فرثى نفسه بنفسه، وصار علينا أن نستعير كلماته كي نرثيه بها."[6] يستدعي خوري إلى مراثيه مراثي الآخرين، فيكتب الحدادَ على نص حداد سابق، هو بدوره امتداد لحداد آخر، في سلسلة طويلة من الشهادات على الموت سيدوّنها إلياس خوري في المراثي، وسيبحث عن معنى فيها.
الموت اختتام مرحلة
يمارس إلياس خوري دوره كمثقف ملتزم بقضايا عصره، فلا يتوانى عن البحث عن معنى للموت يخصّ الجماعة. فهو وضع تصوراً للالتزام السياسي تتلاقى فيه رؤى نهضوية - من البستاني إلى الشدياق - مع مفهوم سارتر لماهية الأدب ودور المثقف. ولم يتبنَّ خوري الشرخ الجيلي الذي طبع علاقة جيل الأدباء المكرّسين بالجيل الجديد من المثقفين الاشتراكيين في مصر الخمسينيات،[7] وإنما رأى في التوجهين المتناقضين لشخصَي الأديب والمثقف مصدراً للإلهام الأدبي والسياسي. فإذا كان الكاتب، بحسب رؤية خوري، نتاجَ الشروط المادية والتاريخية التي تحكم مساره، وشرطَ تغييرها، فلا بدّ من أن يكون لانقضاء حياته معنى، وأن يكون غيابه دليلاً على تحوّل جذري طرأ على المرحلة، أو إعلاناً مبيّتاً بانقضائها. فبعد وفاة ألبرت حوراني الذي لا يزال كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939" (1962) مركزياً على الرغم من النقد المعاصر للتأريخ الحديث للنهضة، كتب إلياس خوري: "يرحل حوراني، ومعه تمضي آخر علامات زمن النهضة الذي أسسه مفكرون آمنوا بأن الكتابة الفكرية والتاريخية، تستحق أن تتحول إلى نمط حياة."[8] يقرأ إلياس خوري في رحيل ألبرت حوراني، مؤرخ النهضة ومكرّس أعلامها، انقضاء آخر رموز النهضة العربية في نهاية الألفية، حين كان العالم العربي يقف على أنقاض المشاريع التحررية الكبرى راصداً انحسار الخطاب النهضوي. هكذا يدل موت المثقف على اختتام مرحلة.
كذلك نظر إلياس خوري إلى غياب "آخر الرفاق"، الشاعر والكاتب والمسرحي اللبناني عصام محفوظ، كانعكاس لانتهاء حقبة الستينيات التي قامت على الانخراط السياسي والحداثة الشعرية والمسرح اليساري. ففي لحظة غياب محفوظ، يلتفت خوري إلى غياب المسرح: "من هنا يأتي موت عصام محفوظ ليحيلنا على الموت الأكبر. إنه موت المسرح اللبناني أو سُباته الذي يشبه الموت."[9] لا يشي غياب محفوظ بانحسار السياسة فحسب، بل يدل على ما هو أكثر خصوصية أيضاً: على أفول المسرح اللبناني الطليعي الذي كان قد تبنّى لغة مسرحية حية تنمّ عن رؤية أخلاقية وإنسانية إلى العالم العربي بعد حرب 1967.
الموت تشخيصاً للعنف
كان إلياس خوري يرصد حال المدينة التي رآها في حال مثقفيها الذين شهدوا على خرابها في الحرب، ثم عادوا وشهدوا على خراب ذاكرتها في زمن إعادة الإعمار.[10] رأوا ما رأوه في تلك المدينة، فسقطوا في قعرها ميتين.
في الأعوام الأولى على انتهاء الحرب الأهلية، وبينما كانت المدينة تحصي خسائر حروبها، فقدَ الحقل الثقافي أحد أبرز أعلامه: مارون بغدادي الذي كان قد أخرج أكثر من 16 فيلماً ووثائقياً عن بيروت في ظل الحرب الأهلية، عاد إلى لبنان كي يعمل على فيلم يمزج فيه السيرة الذاتية بالسرد التاريخي، فيسرد قصة المدينة التي سكنها وسكنته. لكن في ليلة بيروتية معتمة، سقط بغدادي من منور المبنى الذي كان يقيم فيه، ومات. وعن موت مارون بغدادي كتب إلياس خوري: "هو كان مسكوناً ببيروت كما رآها، أو كما ظهرت له. حاولها وحاولته، وحين جاء إليها يبحث عن سيرته الذاتية، قتلته. نحن نحب بيروت ونعلم أنها تقتل. ربما نحبّها لأنها تقتل."[11] ينعى خوري مارون بغدادي في مقالة يرصد فيها أبرز محطات حياة المخرج، ثم لا يلبث أن يجعل المقالة رسالة إلى بغدادي ينهيها مخاطباً زميله الغائب: "لكن هذه المرة، قتلتكَ بيروت بهدف عجيب، كأنها كانت مدفوعة بغريزة حبها إلى قتل أبنائها وعشاقها."[12] يبحث خوري في الحادث الذي قضى فيه مارون بغدادي عن معنى يخصّ الجماعة، فينسبه إلى العنف البُنيوي، إلى ظلامها الحرفي والمعنوي والسياسي الذي أودى بالمُخرج العائد إليها. يقرأ الحادث الفردي دليلاً على غريزة المدينة القاتلة، هي التي تنقضّ على أبنائها العائدين إليها والراغبين في التصالح معها. فالمدينة المشروط تاريخها بالعنف، هي الضحية والجلاد معاً، تقتل مَن أحبّها، وتعيد الكرّة مرة بعد مرة.
تتضح علاقة المثقف المضطربة بالبُنية العنيفة في مرثية إلياس خوري لمثقف آخر رأى في تراجيديا موته تشخيصاً لحال المدينة بعد الحرب. ففي سنة 1995، أي بعد عامَين على موت مارون بغدادي، فُجع الحقل الثقافي اللبناني، مرة أُخرى، بخبر مقتل الكاتب في "الملحق" والأكاديمي المتخصص بعلم النفس، ولا سيما الألم والطقوس الدينية، رالف رزق الله. كان رزق الله قد قاد سيارته في شوارع بيروت، ثم أوقفها على حافة الرصيف المطلّ على صخرة الروشة، ووقف على الناصية ورمى نفسه في البحر. في ذكرى أربعين رزق الله، حرر إلياس خوري ملفاً خاصاً في "الملحق" مستكتباً فيه أبرز مَن عرفوا رزق الله، والذين تحدثوا في أغلبيتهم عن الاكتئاب الذي لم يفارق الكاتب قبيل انتحاره.[13] وعلى الرغم من تركيز مستكتَبي الملف على حالة رزق الله النفسية، فإن خوري رجع ليبحث في موت زميله عن معنى. كتب خوري رسالة مفتوحة إلى رالف رزق الله وعنونها: "رالف رزق الله: الاحتجاج انتحاراً". لم يقرأ إلياس خوري انتحار رزق الله كعلّة نفسية، خاصة وفردية، وإنما كفعل احتجاج على ضيق الأفق السياسي وتردّي الثقافة في ظل الحريرية السياسية، الأمر الذي أودى برزق الله مثلما أودى بمارون بغدادي من قبله، إلى قعر المدينة قتيلاً. يخاطب إلياس خوري رزق الله على الرغم من غيابه: "هل أنت الأضحية باسم جيل وعن جيل ومن أجل جيل؟" فالمثقف الميت في عين خوري ليس كياناً خاصاً أو عاماً، بل هو كيان يرمز إلى العام من خلال خصوصية موته.[14]
توقفت دوامة موت المثقفين في بيروت عقداً كاملاً، ثم عادت. ففي بداية الألفية الثانية، شهدت بيروت سلسلة من النقاشات والنشاطات التي بدأت تُسائل وصاية النظام السوري على لبنان، وتدعم تحرّك عدد من المثقفين السوريين المنفيين. ولم يقدّم "الملحق" تحت إشراف إلياس خوري، مساحة اعتراضية للمعارضة اللبنانية فحسب،[15] بل لمعارضين سوريين أيضاً، طالبوا النظام السوري، من على صفحات "الملحق"، بالقيام بإصلاحات سياسية.[16] ومع اغتيال رفيق الحريري في سنة 2005، بدأت سلسلة من الاغتيالات كان أولها اغتيال سمير قصير، المؤرخ وزميل إلياس خوري في "النهار". كتب خوري عدداً من المراثي لسمير قصير، شدد في كل منها، على الرغم من فاجعة الاغتيال، أو بالأحرى رغماً عن الاغتيال، على أهمية إضفاء معنى على الخسارة، وذلك من خلال إكمال مسيرة المثقف الذي كان قد حلم بالتحرر ونشط في ساحات بيروت من أجل تحقيقه: "وأمامنا في كل الأحوال سمير قصير، حاضراً، وبقوة روحية وجوهرية لا مثيل لها، يقول لنا ما يريد أن يقوله للبنانيين والعرب، الفرنكوفونيين والأنغلوفونيين وأهل اللغة العربية على السواء: أكملوا المشوار، فالوقوف في أواخر الطريق لا يستحق."[17] وهنا يتضح المنطق الفدائي في تصور إلياس خوري لسمير قصير الذي لا معنى لغيابه إلّا من خلال تحقيق وصيته. فإذا كان بغدادي ورزق الله وقصير مرآة لحال المدينة، فإن سقوطهم مرادف لسقوطها الدائم في العنف، وهم الأضحية التي تنقذ جماعتها من لعنة العنف والنسيان. هكذا يترسخ المثقف الميت في بعض مراثي إلياس خوري رمزاً لاهوتياً.
تجاه تراجيديا موت المثقف، أكان اغتيالاً أم انتحاراً، وقف إلياس خوري متأملاً بما سمّاه "الموت العادي"، أي عندما يغيب وجه ثقافي في لبنان بسبب أزمة صحية وليس بسبب حادث تراجيدي. ففي سنة 2007، رحل جوزيف سماحة، الصحافي البارز ومؤسس صحيفة "الأخبار" التي استعْدَت معارضي حزب الله وحلفائه في لبنان. وعن غياب سماحة يكتب خوري: "أريد فقط أن أتوقف عند هذا الموت العادي الذي يغلفنا بالحزن، وأقول لجوزف سماحة إنه نجح في أن يجعل من موته أمثولة للموت العادي. آن لنا أن نطوي صفحة القتل ونموت كما الموت، ونقول إنه الحق الذي لا يجادَل."[18] عندما يكون المثقف في موقع سياسي يعتبره خوري قريباً من النظام القمعي الحاكم، يصبح موته اعتيادياً. فإلياس خوري الذي اعتاد تسييس موت أصدقائه من المعارضين، ها هو يفاجَأ بموت عصيّ على التسييس، موت في سبيل الموت فقط، موت يشتهيه في زمن كان خوري نفسه مهدداً فيه بالاغتيال.[19]
لم يَفُت إلياس خوري الربط في مراثيه بين اللحظات السياسية التي عرفتها بيروت في التسعينيات والعقد الأول من الألفية وما كان يشهده العالم العربي، أو بين لحظة الإعمار المتعثرة والسلم الأهلي الناقص ولحظة اغتيال المثقفين في الجزائر ومصر وقبوع مثقفين سوريين في السجون أو المنافي. فكان اغتيال المثقف في بيروت امتداداً لسياسة الإسكات التي كثيراً ما مارستها الأنظمة العربية والتيارات الإسلامية المعارضة - من الجزائر إلى مصر إلى سورية والعراق. غير أن إسكات المثقف سَجناً أو قتلاً، لم يُخف الكاتب الذي أصرّ، على الرغم من اغتيال أقرب مَن عمل معهم، على إكمال الطريق. يكتب خوري: "من حسين مروة إلى فرج فودة، يسيل دم الكتّاب والفنانين، كي يؤسس سياقاً جديداً. والسياق الجديد يتبلور في المعركة ضد هذا الزمن الأسود، عبر ولادة المعارضة الجديدة. معارضة ديمقراطية علمانية لسلطات القمع والوحشية التي تحكم المجتمعات العربية بالفساد والإفقار والقمع."[20] وفي إزاء تشاؤم العقل الذي لا ينفكّ يعدّد الخسائر، يلتزم خوري بتفاؤل الإرادة منهجاً كي يكمل مسيرته على الرغم من غياب رفقاء دربه.
سياسة الصداقة
تكشف مراثي إلياس خوري عن تصوره للصداقة ولسياسة الصداقة. فعن عبد الرحمن منيف وسهيل إدريس وسمير قصير ويوسف حبشي الأشقر وإدوارد سعيد ومحمود درويش، كتب إلياس خوري مقالات عديدة ودراسات يسترجع من خلالها المسيرة الفكرية لمَن يرثيهم، وتاريخ الصداقة التي جمعته بهم. ويبدأ خوري بالكلام عن بدايات الصداقة وتعثراتها التي ربما ينسبها إلى تباين فكري موقت ينتهي لحظة الإدراك أن ما يجمع بينه وبين الراحلين هو قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والالتزام بالقضية الفلسطينية كوِجهة سياسية وأخلاقية معاً.
في رثائه لسهيل إدريس، يسترجع خوري بدايات مسيرته الأدبية التي يعود الفضل الأول عليها إلى "دار الآداب"، وإلى الدعم الشخصي الذي قدّمه له الناشر سهيل إدريس. لقد أدرك إلياس خوري الشاب أنه سيكون رفيق سهيل إدريس في الكتابة والكلمة: "الكتابة موقف، وأن الكاتب الذي جعل من حياته موقفاً يدعى سهيل إدريس. وأنه صار صديقي إلى الأبد."[21] الصديق هو أيضاً سمير قصير الذي كان رفيق دربه في الإيمان بثلاث قضايا لا تتجزأ: العدالة الاجتماعية؛ القضية الفلسطينية؛ حرية الشعب السوري. والصديقة هي الناشطة الثقافية سعاد النجار التي عمل معها إلياس خوري على إحياء الثقافة الاعتراضية في بيروت، في زمن السلم الذي شُلّت فيه السياسة. لا الرواية ولا المقالة السياسية قادرتان على الكشف عن تصور إلياس خوري للصداقة بقدر المرثية التي تشي بمفهومه للصديق كـ "رفيق" يجمع بين الحيزَين الشخصي والسياسي، بصفته رفيق درب ورفيقاً بالمعنى الناشطي.
أكثر مراثي إلياس خوري حميمية هي التي كتبها بصيغة رسالة إلى صديق غائب، كالرسائل الثلاث التي كتبها إلى سمير قصير بعد اغتياله، وأُخرى إلى مارون بغدادي وعبد الرحمن منيف[22] ورالف رزق الله وسعد الله ونّوس. ففي تلك الرسائل التي يلتحم فيها الشخصي والسياسي، يسلسل خوري أبرز إنجازات الراحل الفكرية والسياسية، فيبدو كأنه يكمل معه نقاشاً كانا قد بدآ فيه بشأن مغزى الكتابة، والممارسة السياسية، ودور المثقف. وتشي تلك الرسائل المفتوحة بعدم تقبّل خوري لموت الرفيق الحاضر - الغائب، أقلّه ليس وقتَها، كأن الإقرار بموت الرفيق الفكري يعني إعلان بداية عملية الحِداد التي لا بد من أن تُفضي إلى النسيان. وهكذا تصبح الرسالة المفتوحة ممارسة في تأجيل نسيان الصديق، ومناورة مع الموت في لحظات النكران الأولى، إلّا إنه بعد انقضاء النكران وبداية عملية الحداد، يعود الكاتب - الراثي إلى وصية الصديق كي يقرأها أمام جمع المشيعين.
الإرث رثاءً
في الرثاء يعدد خوري ما تبقّى من الغائب، فيعيد إليه القدرة على الكلام من خلال استعارة مفرداته، وبثّ الروح في شخصيات روايته، وإقامة التناصّ مع عناوين أعماله. لكن في بعض المراثي لمثقفين كانوا رفقاء درب، تتضح لدى خوري حالة من التماثل مع الغائب، فيحيا الآخر في المرثية من خلال ممارسة في التماهي تتجلى في أسلوب إلياس خوري في استبدال الذوات وتذويب الضمائر.
تؤدي الضمائر هو / أنا / أنتَ / نحن في مراثي إلياس خوري دوراً دلالياً، إلّا إنه لا يبقى مستقراً. فالضمائر تشير إلى الفرد الذي غاب (هو / أنت) والفرد (أنا) والجماعة (نحن) الذين بقوا، بينما يكون الغائب مرادفاً للجماعة حيناً، ويحلّ مكان المخاطب أحياناً، ويستوي مرآة للذات دوماً. يخاطب إلياس خوري سعد الله ونّوس الذي رحل بعد صراع طويل مع المرض، في رسالة طويلة ينهيها بالإشارة إليه بصيغة الغائب: "هناك في دهاليز النفس الغامضة والمعتمة، حيث تختلط الشهوة بالحرية وتمتزج الخيبة بالعبث، كتب ونّوس ملحمة سرابه وسرابنا وسراب كل الناس."[23] غاب المسرحي الملتزم بعدما كتب تجربته الخاصة مع الخسارة، كتجربة جماعة المثقفين التي ينتمي إليها خوري، وكتجربة الخسارة التي عرفها "كل الناس"، أي الجماعة المتخيلة التي يمثلها المثقف الملتزم كسعد الله ونّوس وإلياس خوري. وليس في هذه الجملة القصيرة دلالة على انسياب الضمائر فحسب، بل على التماهي أيضاً فيما بينها، والتقاء ذات الراثي وذات المرثي وذات الجماعة الشاهدة على الغياب.
وأكثر ما آلَم خوري غياب مَن كان يرى فيه امتداداً لذاته، حين يصبح الحداد على شخصية عامة، لحظةً للتبصر في الخسارة الشخصية التي تأخذ بُعداً جمعياً، ولحظةً لقراءة بُعد شخصي في الخسارة الجمعية. ففي رسالة كتبها خوري لمارون بغدادي، الصديق الذي قرأ في موته العبثي شهوة بيروت للقتل، يتوجه خوري إلى الفقيد: "لكن هذه المرة، قتلتك بيروت بهدف عجيب… أي خسارة يا صديقي. جيل الخسارة نحن، جيل الحكاية الناقصة نحن، جيل اللااكتمال نحن، جيل الحروب الصغيرة الذي يُمنع عن حروبه الكبيرة."[24] يستعير خوري من بغدادي عنوان فيلمه "حروب صغيرة" (1982) كالتفاتة أولى في الوفاء إلى مَن رحل، ثم كممارسة في التماهي، وذلك كي ينقّب في موت المخرج عن معنى. وفي جملة واحدة، ينتقل خوري من التوجه المباشر إلى بغدادي ("قتلتك بيروت") إلى توصيف حال جيل بأكمله، هو الجماعة الفاقدة التي بات خوري ينتمي إليها ("جيل الخسارة نحن"). وهذه الانسيابية بين الذات المثقفة والجماعة ليست خاصة بإلياس خوري، بل هي حاضرة في لغة كتّاب جيله من الملتزمين الذين آمنوا بقدرة المثقف على تمثيل الجماعة، أو أقلّه الدلالة على مجايليه من المثقفين الملتزمين، وبحالة إلياس خوري ومَن رثاهم، وهي تمثِّل الاثنين معاً.[25]
يتكثف التماثل مع المثقف الغائب عندما يكون سبب غيابه سرّاً معلَناً لا مكان خطابياً له بسبب القمع السياسي. هكذا مات المفكر الشيوعي مهدي عامل الذي قُتل في إبان الحرب على يد إحدى الميليشيات الدينية التي عادت وترسخت في زمن السلم حزباً مقاوماً للاحتلال الإسرائيلي، لا جُرم منسوباً إليه. وفي سنة 1992، أي بعد 6 أعوام على اغتيال مهدي عامل، يستذكر إلياس خوري المفكر الشيوعي في مقالة تأخذ شكل سرد حُلُم رأى فيه خوري مهدي عامل حياً، باسماً، متأملاً بالمستقبل. وعند رؤيته لمَن كان يظنه ميتاً، يتساءل خوري في منامه: "هل الحكاية مقلوبة، والأحياء موتى والموتى أحياء؟"، بمعنى: هل أنتَ الميت أم أنا؟ ويكمل خوري نقاشه مع الغائب الذي بات شبحاً، أو بالمعنى النفسي، الميت الذي صار تجسيداً لسرّ اغتياله المعلَن، وطيفاً لن يستكين إلّا بعد التعرّف إلى قاتليه وتحقيق وصيته بالتحرر. وعن حلمه بلقاء مهدي عامل (واسمه بالولادة حسن حمدان)، يؤكد خوري التماهي مع المثقف المغيب: "في بيروت، نعيش معهم، الأحياء والموتى يختلطون، ننسى أنهم ماتوا، فنتحدث عنهم كأنهم أحياء، هم أيضاً، وهذه هي مفارقة لقائي بحسن، ينسون أنهم أموات ويأتون إلينا، ويتحدثون. كيف نحاورهم، كيف نجعل من حياتنا نقطة لقاء بينهم وبين المستقبل الذي حجبه الموت عنهم؟"[26]
يتماهى خوري مع المثقف الغائب، ولا سيما إن كان غيابه سرّاً معلَناً ومكتوماً، خارجاً عن القول والدلالة، تشديداً منه على التزامه بإكمال مسيرته. فإلياس خوري الحاضر، هو نفسه صوت مهدي عامل الغائب الذي يستعير نصّه وكلمته، فيتكلم باسمه ويستكمل مهمته الفكرية التحررية. ومن خلال مرثية إلياس خوري المتجذر في الحاضر، لا بدّ من أن ينتقل مهدي عامل إلى المستقبل الذي منعه الاغتيال من العبور إليه.
لكن كيف أصبح الراثي وريثاً؟
حين يحدّ إلياس خوري على مثقفِ ما بعد الحرب، ومثقف الأنظمة القمعية في مصر وسورية والجزائر والعراق، فإنه لا يحدد معنى الغياب ويكرّس دور المرثي التنويري أو الملتزم فحسب، بل يؤكد أيضاً حقّ الراثي في الإرث، أي حقّ مَن شهد على حياة الغائب وموته في أن يحمل وصيته. ينظر إلياس خوري في عدد من مقالاته إلى الرثاء كمحاولة، ربما تكون الأخيرة، لإعادة تأكيد وصية المفقود الواعد بالتحرر، وذلك في سبيل حمل إرثه الفكري وصَوْنه، فيقول: "الرثاء هو إعلان حقّنا في الإرث [....] مَن يرثي هو الذي يَرِث، هذه هي المعادلة التي اجترحتها لغة العرب عندما جعلت من كلمتَي الرثاء والإرث مُتداخلتَي الحروف بحيث لا تنهض كلمة منهما من دون الأُخرى."[27]
يعلن خوري حقّه في أن يَرِث الغائب من خلال الحداد. فمن خلال ممارسة الرثاء، واللجوء إلى الكلمة، جوهر التحرر التنويري، يستخرج الراثي وصية المثقف الغائب ويقرأها علناً وجهاراً، مذكِّراً بالقيم التي قام عليها فكر الغائب، ومعدّداً التزاماته السياسية، وتراجيديا موته، ولا سيما إن كان قد قضى اغتيالاً. وهذه العناصر التي تلتقي على الالتزام السياسي، تجتمع كلها لتشكل وصية مبعثرة وغير مدوّنة، يعمل إلياس خوري على جمعها في مرثية تصبح بدورها نصّ وصية مكتملة لإرث معلّق ينتظر وريثاً. عندها، يتحقق قول الراثي في أن "الرثاء هو إعلان حقّنا بالإرث"، فيصبح إلياس خوري وريث المثقف الذي رحل.
يرث الراثي أباه الذي كثيراً ما تمثّل به. هكذا يذكر إلياس خوري لقاءه الأخير مع جورج حبش الذي بدا كأنه يسلّمه وصية مبعثرة عن فلسطين: "عندما سألته عن اللدّ، ضرب باطن كفه على جبينه وبكى، لا أدري لماذا تذكرتُ والدي. فالآباء حين يواجهون مصيبة ما، يفعلون ذلك، وأمس حين اتصلوا بي من بيروت ليخبروني بوفاة الحكيم، وضعت باطن كفي على جبهتي، وبكيت."[28] يتماثل خوري مع الأب البيولوجي والأب الرمزي على اختبار الخسارة، من خلال استدخال الانفعال ذاته الذي تُسبّبه الخسارة لدى الأبوَين والتمثل بها، فتستقيم كوصيّة واضحة المعالم عن مركزية القضية الفلسطينية على الرغم من الوجع الملازم لها.
وقد يرث الراثي أحياناً وصية يدرك جيداً صعوبة تحقيقها. فبحسب خوري الذي شهد على كثير من الوصايا التي لم تتحقق، "يصير ضعف الميت وعجزه امتداداً لضعف الأحياء وخوائهم، وبدل أن يكون الرثاء إرثاً، يصير عبئاً."[29] هكذا كانت وصية سمير قصير الذي رثاه خوري مراراً متوجهاً إليه في كل مرة: "علماني ومنفتح، عربي ولبناني. كأنك وأنت تسقط شهيداً، عمّدت الاسم بدمك، وحمّلتنا ما لا طاقة لنا عليه. أن نكون نحن أيضاً ورثة النهضويين، وحاملي قضية الحرية والديمقراطية في لبنان والمشرق العربي."[30] يعرف خوري جيداً مدى صعوبة تحقيق وصية قصير واستحالة أن يرث نهضوياً مثله، في مشرق يرزح تحت عنف مذهبي، وآخر استبدادي، وآخر استعماري. يرث الراثي الوصية لكن على مضض، لأنه أدرك أنه بعد دوامة الاغتيالات التي بدأت بقصير، سينتهي مع الإرث وحيداً، من دون رفقاء يشاركونه الحمل.
السياسة رثاءً
أبرز ما تكشف عنه مرثية إلياس خوري هو تصوره لدور المثقف في اللحظة التاريخية التي بقي ليشهد عليها. فعلى الرغم من تنوع المثقفين الراحلين، وتعدد التزاماتهم السياسية والفكرية، فإن المثقف ظل يظهر في مراثي إلياس خوري كقوة حديثة وتحديثية في الآن نفسه، يحاكي تصور فوكو للمثقف بصفته "الضمير، والوعي، والبلاغة معاً."[31] يصور خوري المثقف كشخصية منبثقة من قيم النهضة، موكلة بمهمة التحديث، ومناهضة للاستبداد حتى النهاية. وتنبع شرعية المثقف المرثي من الأُطُر المعرفية والأخلاقية التي وضعها لفهم العالم، ومن بلاغته في التحدث باسم الممنوعين من الكلام، ومن قدرته على تنوير أولئك القابعين في الظلمة، وقيادة مَن تاهوا عن طريق التحرر. إذاً، يعيد المثقف في مراثي إلياس خوري تشكيل المعنى في عالم كان قد فقدَ معناه بعد سلسلة من الخسارات التي تكثفت في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وما بعد حرب الخليج، وما بعد اتفاق أوسلو. ومع أن المثقف الذي رثاه خوري ربما يكون قد بدأ يشكك في إيمانه الأيديولوجي، أو ما يسميه خوري "اليقين"، إلّا إنه بقي في المراثي متمسكاً بالكلمة كوسيلة لتحقيق الخلاص الجماعي.
تتضح في مراثي إلياس خوري رؤيته إلى ما يجب أن تكون عليه علاقة المثقف مع السلطة. فما يجمع بين المثقفين الذين رثاهم خوري هو موقفهم المناهض للسلطة بأشكالها الاستعمارية والاستبدادية والدينية، ذلك بأن المثقف في تلك المراثي يرتاب من السلطة، ويرى فيها تجسيداً لقيم مناهِضة للعدالة والتحرر والعلمانية: هو عبد الرحمن منيف الذي عاش منفياً، أو سمير قصير ومهدي عامل وعبد القادر علولة الذين قضوا اغتيالاً، هو يوسف حبشي الأشقر الذي مات رافضاً أن يصطف مع أي طرف من الميليشيات اللبنانية المتنازعة. ومهما تتعدد انتماءات المثقف ومصائره وغيابه سجناً، أو موتاً، أو اغتيالاً، أو انتحاراً، فإن غيابه يعيد تأكيد نقطتين: أن المثقفين لا يشكلون جماعة في حياتهم فحسب، بل في موتهم أيضاً. وبالتالي، لا بد من أن يكون لموتهم معنى أسوة بالمعنى الذي كثيراً ما كانوا قد سعوا من خلاله لتأويل العالم كي يساهموا في تحريره. ومن هنا تلتحم ذوات الراثي والمرثي والجماعة في ممارسة الحداد.
كانت أغلبية مَن رثاهم إلياس خوري، إذاً، من الرجال، حتى إن دُعيت إلى محفل المرثيين، امرأتان، هما المخرجة السينمائية رندة الشهال، والناشطة سعاد النجار. كانت رندة الشهال اليسارية مرادفاً لـ "بيت" دافىء، أكان صغيراً في بيروت، أم كبيراً في باريس، بيتٍ حاضن لمخرجين معارضين، ولمساحة تجعل السينما اليسارية والمعارضة ممكنة، لعمر أميرلاي ومحمد ملص وأسامة محمد وسيمون بيتون. أمّا سعاد نجار الداعمة للفن، ولا سيما للمسرح الاعتراضي، فكانت "شعلة تضيء"، فهي التي "احتضنت الهمّ الثقافي"، وكانت "الملجأ الذي يذلل الصعوبات"، ومعها أقام خوري "علاقة تمزج الأمومة بالصداقة، والثقافة بالحب. فهذه المرأة كانت لنا بيتاً نلجأ إليه، وحكمة نسألها المشورة، ومناضلة تستفزّ حيويتها وشبابها الدائمان حبنا للحياة وقدرتنا على تجديد أنفسنا في هذا الزمن اللبناني الصعب."[32]
تتواتر في مرثيتَي سعاد نجار ورندة الشهال توصيفات تشير إلى التزامهما بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، غير أن التشديد يبقى على دورهما الرعائي، لا القيادي أو الرؤيوي، أي على قدرتهما على خلق بيئة حاضنة لعملية الإبداع المعارض. وقد تظهر النساء أحياناً في مراثي إلياس خوري كشخصيات ثانوية تقف إلى جانب المثقف المرثي مؤدية أدواراً رعائية. فهذه مايا يوسف حبشي الأشقر الأمينة على أرشيف الأب - المؤسس الأدبي وعلى صوره الشخصية، وفايزة سعد الله ونّوس المؤتمنة على نقل الكلمة الأخيرة للمسرحي السوري من على فراش موته. هنّ رفيقات درب، يقفن ثكالى، يحرسنَ الوصية وينقلنَها إلى الراثي - الوريث المؤتمن على تحقيقها.
يلحّ علينا غياب النساء عن مراثي إلياس خوري بعدة أسئلة. هل يعود غياب النساء المرثيات إلى سمة أساسية في المراثي، من العصور السابقة للإسلام حتى النهضة، إلى أن النساء والرجال يَرْثون الرجال، من دون أن يكون هناك مَن يرثي النساء؟ أم إن الإجابة، في الحقيقة، متجذرة في تصورنا النهضوي لماهية الأديب؟ ألهذا السبب نفسه نشر شوقي أكثر من 60 مرثية، 4 منها فقط لنساء، واحدة منهن عملت في الشأن العام؟[33] والوضع لا يختلف كثيراً في تصور المثقف لذاته وللآخر في التراث الفكري الأوروبي. فعندما ننظر إلى مجموعة مراثي دريدا التي نعى فيها 14 مثقفاً مجايلين له، منهم ألتوسير، وبارت، ودولوز، وليوتارد، ندرك أنه لم ينعَ سوى مثقفة واحدة هي الفيلسوفة سارة كوفمان.[34] هل عدم دخول النساء محفل المرثيين دليل على تصور أوروبي حديث لدور المثقف المشروط بأداء ذكورة متخيلة ومركّبة؟
الراثي من دون كلماته
توسعت مراثي إلياس خوري من كونها تحية أخيرة إلى مثقفين، لتشمل المنابر الأدبية التي كانوا يتحدثون عبرها. فكتب عن أفول مجلات فكرية عريقة كـ "شعر" و"الآداب"[35] اللتين رأى في قطبَيهما خط الصدع السياسي الذي كان بدأ يشرخ المدينة منذ الستينيات، كما قرأ في كمونهما دلالة على ضيق الحقل الثقافي بالأسئلة الفكرية، ولا سيما في بيروت ما بعد الحرب الأهلية. وفي سنة 2009، حين فُصل إلياس خوري من منصبه في "الملحق"، سيرثي خوري "الملحق" بصفته آخر المنابر التحررية.
ففي مقالة عنونها "المقال الأخير"، لم يعد لإلياس خوري إلّا رثاء المنبر الذي عرفه طوال 17 عاماً، وبنى حوله حالة ثقافية اعتراضية تكاد تكون الوحيدة في بيروت التسعينيات. وكان فصله عن المنبر الثقافي الأخير في بيروت لحظةً للتبصر، وللنظر في جدوى الكتابة كممارسة أخلاقية أخيرة، بفاعليتها للإفصاح باسم الآخرين، وبإمكان بقاء اللغة شرطاً للتحرر والانعتاق. قرأ إلياس خوري في تغييبه عن "الملحق" ما قرأ في غياب مجايلين له، إذ قرأ فيه انعكاساً لاختتام مرحلة، وتحجيماً للكلمة التنويرية والملتزمة ذاتها التي كان قد تبنّاها وتتبّعها في أثر غيره.
لكن إذا تمعنّا جيداً في شاعرية حِداد الكاتب على منصّته الأخيرة، سيتضح لنا أن إلياس خوري لا يرثي إلّا ذاته. ففي لفتة إلى المتنبي، الشاعر الذي استلهم خوري من شعره كثيراً في رواياته كما في مقالاته، يعود خوري إلى مفهوم المنفى الذي يجمعه بالفلسطينيين إدوارد سعيد وراشد حسين ومحمود درويش، كمنطلَق فكري وأخلاقي لتشكيل الذات المفكِّرة والمعارضة، ويكتب: "نحن أبناء الكلمة، وﺍلكلمة تعرف أننا لا نخونها. نمضي ﻭلا ننظر إلى الوراء، نصنع حياتنا كل يوم من جديد ونعرف أن أمكنتنا تصنعها خطواتنا."[36] وعلى غرار المراثي القديمة التي ينتهي فيها الرثاء إلى لحظة فخر الجماعة بذاتها، هي التي، وعلى الرغم من خساراتها، ستبقى متماسكة بفعل الفقدان ورغماً عنه، يدل الكاتب على نفسه كذات ربما تكون فقدت عمودها الفقري بغياب منبرها، إلّا إنها لم تفقد وجهتها. وهكذا يصبح انتهاء دور إلياس خوري في "الملحق" لحظة حِداد على العام والخاص يعيد الراثي التشديد فيها على ما فُقد من جهة، وعلى الإصرار على العَوْد إلى البدء "من الأول" مثلما يقول يونس في "باب الشمس"، وكما اعتاد أن يقول خوري كلما خسر منبراً أو بكى صديقاً.[37]
خسر إلياس خوري "الملحق" وعاد إلى البدء. ومثلما بدأ الكاتب مسيرته الفكرية على صفحات مجلة "شؤون فلسطينية" و"الكرمل" مع رفيق دربه محمود درويش، عاد خوري إلى الكتابة عن فلسطين من منبر فلسطيني. فقبل بدء الانتفاضات العربية في سنة 2011، اتخذ إلياس خوري من "مجلة الدراسات الفلسطينية" منبراً يعيد فيه تأكيد ما كان التزم به طوال عمره، وحتى أيامه الأخيرة: القضية الفلسطينية هي وجهة سياسية وأخلاقية معاً. وفي المجلة، رثى راشد حسين، وتوفيق الصايغ، ورثى مجدداً محمود درويش. كما واظب على أن ينشر في "القدس العربي"، مقالات رأي رثى فيها وجوهاً عربية، وأضاء على وجوه فلسطينيين مجهولين سقطوا على يد الاحتلال.
التزم خوري بالتأويل السياسي للخسارة في مراثيه الأخيرة، فكان موت علي دوابشة، الرضيع الفلسطيني الذي قُتل وعائلته احتراقاً على يد مستوطنين، حدثاً دالاً. لكن على عكس تأويلات خوري السابقة، فإن هذا الحدث كان حدثاً يدل على أفول الكلمة التي كثيراً ما كانت الملاذ الأخير للكاتب في أكثر لحظات حياته مواجهة مع الموت. ينظر إلياس خوري إلى التنظيمات السياسية الفلسطينية التي نعت الطفل، ويقرأ في حِدادها أداء سياسياً فارغاً وعجزاً أخلاقياً لا بد من أن يتحول إلى عجز شخصي لدى الراثي: "لكن ما فات جوقة الندب والتهديد اللفظي والتلويح بمحكمة الجنايات الدولية، هو أن الحكي خلص، ولم يعد أحد يمتلك حق رثاء الضحية [.......] طعم الرماد في حلوقنا حوّل الكلام رماداً لا نار فيه ولا حياة."[38] وبعدما فقدَ الراثي "الملحق" كمنبر اعتراضي ومحرّك أساسي للثقافة الاعتراضية في بيروت التسعينيات، يبدو الراثي في العقد الأخير من عمره كأنه فقدَ الكلمة نفسها التي تمسّك بحقه فيها طوال مسيرته. وأمام فقدانه المنبر والكلمة، يبقى الراثي أمام الحِداد، وحيداً عاجزاً غير قادر على نقل الوصية.
الراثي الأخير
في موازاة الرواية والمقالة السياسية، تشكل مراثي إلياس خوري الضلع الثالث لمسيرته الفكرية التي تضافر فيها الأدبي والسياسي. فالكاتب لا يفصل السياسة عن الحِداد في مراثيه التي تُظهر كيف يمكن للرؤية الأخلاقية والسياسية التي كثيراً ما أطّرت أعماله الأدبية والنقدية أن تتكثف في حِداده على المثقفين وطقوس ممارسته. فرثاء الآخر، كما الكتابة الروائية عند إلياس خوري، تدل على تلاقي الشخصي بالسياسي، ولا سيما في تأويل الخسارة كتشخيص لحال الجماعة، ولحال السياسة في زمن انحدارها.
لقد أعطت مراثي إلياس خوري للآخر الغائب منبراً أخيراً يعلن منه وصيته الأخيرة. فمرثية خوري تعيد دوراً لمَن كان قد أُبعِد عن الممارسة السياسية في حياته، فتلاشى منفياً، أو معتقلاً، أو مقتولاً. ويستدعي رثاء المثقف عند إلياس خوري السياسة في لحظة تغييبها القسري، ويُحيي الذاكرة الجمعية في لحظة محوها الممنهَج. فخوري يرثي نظيره المثقف من خلال الإصرار على الكلمة بصفتها طريقاً للانعتاق، وأداة أخيرة في وجه السلطة، في خطاب يعود بنا إلى التاريخ والذات المثقفة معاً: إلى نقطة محددة في التاريخ حيث كان مستقبل التحرر لا يزال ممكناً، وإلى الذات المثقفة بصفتها المسؤولة عن صون إرث الغائب الذي لم يعش ليشهد على التحرر. فتلك المراثي، ومع أن خوري يبكي فيها الآخر في زمن تفكك الدولة وانحسار مشروع التحرر الأوسع، إلّا إنها تقدّم نفسها منبراً أخيراً لإعادة تأكيد ضرورة التمسّك بالمشاريع التحررية الكبرى. إذاً، الرثاء مثلما تصوره إلياس خوري، هو ممارسة لإبقاء المثقف في الحيز السياسي حتى بعد موته، بحيث يتكرّس بعد رحيله حارساً للقضية الوطنية، حتى لو شهد في حياته على تفككها.
يُحيي خوري المثقفَ الذي أفقده الموت القدرة على الكلام من خلال استعارة لغته وتبنّي شخصيات رواياته، إلى حدّ التماثل الذي تتلاحم فيه الضمائر وتتكدس الشهادات، مرثيةً فوق أُخرى. حين يحدّ إلياس خوري على مثقف غائب، فإنه لا يُؤوّل الغياب فحسب، بل يؤكد أيضاً حقّ الراثي في الإرث، أي حقّ مَن كان رفيق الغائب والشاهد على موته، في أن يحمل كلمته، وأن يأخد بوصية المثقف المرثي الذي لم يُكتَب له مستقبل لتحقيقها. يرثي خوري المثقف الغائب، فيجمع وصيته ويقرأها أمام الجماعة الفاقدة، كي يعيد تأكيد الكلمة سبيلاً إلى الانعتاق.
عندما ترك إلياس خوري المنبر الذي قام عليه خطابه التحرري طوال ما يقارب عقدين، بحث عن ذاته من تحت ركام الحاضر، وحاول إعادة تجميعها كي يتمكن من الاستمرار في رثاء مَن بقي من مجايليه، وهو رثاء نمط من المثقفين كان قد بدأ يتلاشى منذ التسعينيات، عقب غياب جيل من التنويريين والملتزمين الذين عمل خوري على تدوين وصيتهم والتمسّك بإرثهم حتى النهاية.
ربما يكون الرثاء والحمل الثقيل للوصية قد أتعبا خوري في النهاية، ففي مرثيته لرندة الشهال، وقف مناشداً: "لكن أيها الأصدقاء توقفوا عن الموت قليلاً. نحتاج إلى فسحة للبكاء، بين موت وموت. توقفوا عن الموت كي نستعد لموت يليق بنا."[39] استعدّ إلياس خوري على مدى عام كامل، قبل أن يذهب إلى الموت.
أمّا وقد غاب إلياس خوري، فهل هناك مَن يرثيه، هل هناك مَن يرثي الراثي الأخير؟
المصادر:
[1]عن جبرا إبراهيم جبرا وموقفه من الالتزام السياسي، ولا سيما في روايته "البحث عن وليد مسعود" (1978)، يُنظر: زينة الحلبي، "المنفى الفلسطيني ومآلاته: جبرا إبراهيم جبرا وإيليا سليمان"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 112 (خريف 2017)، ص 128 – 139.
[2] رولان بارت، "موت المؤلف"، في: "درس السيميولوجيا"، ترجمة بنعبد العالي (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط 3، 1993)، ص 81.
[3] إلياس خوري، "جبرا إبراهيم جبرا: البئر الأولى"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 17 كانون الأول / ديسمبر 1994، ص 19.
[4] إلياس خوري، "مات الشاعر"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 17 آب / أغسطس 2008، ص 21.
[5] تُنظر مقالة إلياس خوري عن راشد حسين والشعر الفلسطيني في المنفى، في: إلياس خوري، "راشد حسين الغائب الحاضر"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 96 (خريف 2013)، ص 54 - 62.
[6] إلياس خوري، "مرثية تأخرت أربعة عشر عاماً"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 134 (ربيع 2023)، ص 32.
[7]عن الصراع الفكري بين جيل الأدباء الذين يمثلهم طه حسين وجيل المثقفين الاشتراكيين الذي نشطوا على صفحات مجلة "الآداب"، يُنظر السجال بين طه حسين ورئيف خوري، في: رئيف خوري، "الأديب يكتب للكافة"، "الآداب"، العدد 5 (أيار / مايو 1955)، ص 2 – 8؛ طه حسين، "الأديب يكتب للخاصة"، "الآداب"، العدد 5، (أيار / مايو 1955)، ص 9 – 16.
ويُنظر سجال آخر بين طه حسين ومحمد مندور، في: طه حسين، "واقعيون!"، "الرسالة الجديدة"، العدد 25 (نيسان / أبريل 1956)، ص 4 - 5؛ محمد مندور، "نحن واقعيون"، "الرسالة الجديدة"، العدد 26 (أيار / مايو 1956)، ص 7.
[8] إلياس خوري، "ألبرت حوراني"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 23 كانون الثاني / يناير 1993، ص 3.
[9] إلياس خوري، "مفارقة الالم"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 12 شباط / فبراير 2006، ص 15.
[10] عن بيروت وقضية الذاكرة المفقودة، يُنظر: إلياس خوري، "الذاكرة المفقودة" (بيروت، لبنان: دار الآداب، 1990)؛ مقابلة سونيا ميشار الأتاسي مع إلياس خوري التي يتحدث فيها عن مركزية المدينة والذاكرة في أعماله الروائية والنقدية في:
Elias Khoury and Sonja Mejcher, “Interview with Elias Khoury: The Necessity to Forget and to Remember”, Banipal, no. 12 (2001), pp. 8-14.
[11] إلياس خوري، "مارون بغدادي: جيل الخسارة"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 18 كانون الأول / ديسمبر 1993، ص 19.
[12] المصدر نفسه.
[13] كَتَب في ملف "الملحق" المخصص لرالف رزق الله كل من: الشاعرَين عباس بيضون وبسام حجار، والباحثة الأكاديمية منى فياض، وأحمد زعزع. يُنظر: "رالف رزق الله: الخيار الأخير"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1995، ص 4 – 6.
[14] عن رثاء خوري لرزق الله ونقد ربيع جابر لإلياس خوري في روايته "رالف رزق الله في المرآة" (1997)، يُنظر:
Zeina G. Halabi, “Elegy for the Intellectual”, in: Zeina G. Halabi,The Unmaking of the Arab Intellectual: Prophecy, Exile, and the Nation (Edinburgh, United Kingdom: Edinburgh University Press, 2017) pp. 65-95.
[15]عن البعد السياسي لخطاب "الملحق" الاعتراضي، يُنظر: خالد صاغية، "إعادة إحياء اليسار في لبنان ما بعد الحرب الأهلية: سيرة سياسية للملحق الأدبي لجريدة النهار"، "ميغافون"، 25 شباط / فبراير 2023.
[16] نشر "الملحق" بياناً وقّعه 99 مثقفاً سورياً منهم المفكرون أنطون مقدسي وبرهان غليون وصادق جلال العظم وميشيل كيلو وطيّب تيزيني، والسينمائيان محمد ملص وعمر أميرلاي، والأديبان عبد الرحمن منيف وأدونيس. ونصّ البيان تحديداً على أن "أي إصلاح، سواء أكان اقتصادياً أم إدارياً أم قانونياً، لن يحقق الطمأنينة والاستقرار في البلاد، ما لم يواكبه، في شكل كامل، وجنباً إلى جنب، الإصلاح السياسي المنشود." يُنظر: "بيان الـ99"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 30 أيلول / سبتمبر 2000، ص 2.
[17] إلياس خوري، "لوريان إكسبرس العيد العاشر: مرحباً سمير قصير"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 20 تشرين الثاني / نوفمبر 2005، ص 2.
[18] إلياس خوري، "تأملات في موت عادي"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 5 آذار / مارس 2007، ص 15.
[19] بعد أقل من أسبوعين على اغتيال سمير قصير، نشر "الملحق" افتتاحية بتوقيع "الملحق" عنوانها: "كلا لن نخاف"، جاء فيها: "لأننا ماذا ارتكبنا كي نكون يقظين - بمعنى خائفين - ولكي نصمت؟ فنحن لسنا مرتكبين ولا إرهابيين ولا انتحاريين ولا سافكي كرامات شخصية وعامة ولا طالبي ولايات وكَراسٍ وقصور. نحن كتّاب ديموقراطيون. نحن كتّاب فقط لا غير، ووظيفتنا أن نكتب، وأن نكتب فقط لا غير. ووظيفتنا أن نكتب أقدار الحرية. وإذا لم نستمر في أقدار الكتابة الحرة، نكون نخون أنفسنا وحياتنا الشخصية والوطنية. ونكون نخون معنى الثقافة." يُنظر: "كلا لن نخاف"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 12 حزيران / يونيو 2005، ص 2.
[20] إلياس خوري، "سلام المذابح"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 26 آذار / مارس 1994، ص 19.
[21] إلياس خوري، "صديقي إلى الأبد"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 24 شباط / فبراير 2008، ص 3.
[22] إلياس خوري، "رسالة إلى عبد الرحمن منيف: المنام البغدادي"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 20 نيسان / أبريل 2003، ص 15.
[23] إلياس خوري، "عرش الموت"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 24 أيار / مايو 1997، ص 5.
[24] إلياس خوري، "مارون بغدادي: جيل الخسارة"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 18 كانون الأول / ديسمبر 1993، ص 19.
[25] تتجلى تلك الانسيابية بوضوح، مثلاً، في مقالة سعد الله ونّوس التي كتبها بعدما حاول الانتحار عقب اتفاقية كامب دايفيد. يُنظر: سعد الله ونوس، "أنا الجنازة والمشيعون"، "السفير"، 29 تشرين الأول / أكتوبر 1978، ص 9.
[26] إلياس خوري، "اللقاء الأخير"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 29 أيار / مايو 1993، ص 3.
[27] إلياس خوري، "خلص الحكي وانتهى الرثاء"، "القدس العربي"، 3 آب / أغسطس 2015.
[28] إلياس خوري، "تحية إلى الحكيم جورج حبش"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 3 شباط / فبراير 2008، ص 15.
[29] إلياس خوري، "إنه الموت"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 5 شباط / فبراير 2005، ص 15.
[30] إلياس خوري، "قتلوك يا أخي وحبيبي"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 5 حزيران / يونيو 2005، ص 15.
[31] Michel Foucault, “Intellectuals and Power”, in: Language, Counter-Memory, Practice: Selected Essays and Interviews, edited by Donald F. Bouchard (Ithaca, New York: Cornell University Press, 1980), p. 207.
[32] إلياس خوري، "الست سعاد نجار"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 10 شباط / فبراير 2007، ص 13.
[33] هي الأميرة فاطمة إسماعيل التي نشطت في سبيل تأسيس الجامعة المصرية.
[34] Jacques Derrida, The Work of Mourning, translated by Pascale-Anne Brault and Michael Naas (Chicago: University of Chicago Press, 2001).
[35] يُنظر: إلياس خوري، "الآداب وبيروت"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 6 آب / أغسطس 1994، ص 19؛ إلياس خوري، "العدد الخاص عن مجلة 'شعر': "الورثة يتكلمون"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 11 شباط / فبراير 2007، ص 2.
[36] إلياس خوري، "المقال الأخير"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 4 تشرين الأول / أكتوبر 2009، ص 19.
[37] تُنظر مقالة المخرج السوري محمد علي الأتاسي التي يتوقف فيها عند عبارة إلياس خوري الشهيرة "من الأول"، ويرصد علاقتها بخسارات خوري الخاصة والعامة: محمد علي الأتاسي، "من الأول: عن إلياس خوري وله وإليه"، "ميغافون"، 17 تشرين الثاني / نوفمبر 2024.
[38] إلياس خوري، "خلص الحكي وانتهى الرثاء"، "القدس العربي"، 3 آب / أغسطس 2015.
[39] إلياس خوري، "توقفوا عن الموت!"، "النهار"، "ملحق النهار الأدبي"، 31 آب / أغسطس 2008، ص 3.