إلياس خوري: الأستاذ
في ذكرى
1948 - 2024
النص الكامل: 

كانت سنة 2010 سنة تحوّل في مساري الأدبي عندما انضم الأستاذ إلياس خوري إلى "مجلة الدراسات الفلسطينية" ليكون رئيس تحريرها. تولى الأستاذ إلياس مهماته وبدأ يضع قواعد العمل المنوطة بكل شخص يعمل في المجلة. وكان من ضمن تلك القواعد أن العاملين في المجلة يجب أن يشاركوا في الكتابة فيها مرتين على الأقل خلال عام.

أصابني القلق، فمع أنني ملمّة بدقائق اللغة العربية وأعمل على تحرير المجلة بشكل كامل، إلّا إنني معروفة بترددي في الكتابة وخشيتي من نشر أي شيء أكتبه، لا لأنني لا أعرف، وإنما لأنني أحترم قدسية الحرف والكلمة، وأعلم أن كل جملة يجب أن تكون صحيحة وتصبح مرجعاً لمَن يريد اقتباسها.

المهم قلت للأستاذ: "أنا منغمسة الآن في كتابة مقالات عن حقبة الموريسكيين، وأعمل على تجميع ما أكتبه لأنشره في كتاب." سُرّ الأستاذ بذلك وقال: "هاتي ما عندك لأراه." أحضرت مقالاتي وسلمتها له وخرجت من مكتبه وأنا أرتجف بانتظار حكمه عليها. وما إن مرت ساعة حتى أرسل في طلبي قائلاً بلهجة آمرة: "تعالي". دخلت مكتبه مرتبكة فإذا به يقول لي بلهجة حنونة: "أنت كاتبة بالفطرة، ومقالاتك جميلة، وسأبدأ باختيارها واحدة تلو الأُخرى لنُغني بها القسم الذي سمّيته 'فسحة'، والمقصود منه أن ننشر فيه ما يكتبه أي أديب أو شاعر عن أي موضوع يختاره."

اختار الأستاذ مقالة لي وعنونها: "شرخ في جدار الزمن"، وكانت أولى محاولاتي في نشر أي شيء أكتبه. وتتالت المقالات مع صدور الأعداد، وازدادت ثقتي بكتاباتي وقلّ نوعا ما خوفي من الكتابة الذي لا يزال مسيطراً عليّ حتى الآن.

كان هذا هو التغيير الأول الذي أحدثه الأستاذ في مسار حياتي الأدبية.

أمضيت مع الأستاذ 14 عاماً أو أكثر كنت خلالها تلميذة تخزّن في ذاكرتها كل ما أتعلمه منه، بل كنت كالإسفنجة التي تحاول امتصاص أي شيء يقوله، ومع الوقت صرت أكثر قرباً منه، وأصبحت يده اليمنى في العمل الذي لم أكن أتلكّأ في متابعة أي تفصيل منه، بحيث ترقّيتُ إلى منصب "مديرة التحرير التنفيذية" للمجلة.

هذا التواصل اليومي مع الأستاذ خلق بيننا صداقة جميلة شاركني فيها أموراً لم يقلها لأحد، وشاركته أُخرى لا يعرفها غيري. كنا يومياً نترك العمل عند الساعة الثانية بعد الظهر، فنذهب إلى المطبعة لمتابعة سير العمل في العدد الذي كنا في صدد إصداره، ثم أوصله إلى بيته. وهذه الرحلة القصيرة التي كان من المتوقع أن تأخذ وقتاً قليلاً، كانت تستغرق أكثر من ساعتَين على الأقل بسبب زحمة السير، لكنها كانت بالنسبة إليّ عمراً كاملاً أتعلّم من الأستاذ ما أستطيع.

وكان الأستاذ كونه روائياً، يسألني عن تفاصيل صغيرة في أي شيء أخبره إياه، وكان قادراً على استخراج حكاية من أي شيء يقوله أحد له، بل كان فضوله الروائي يخترع حكاية في هاتين الساعتَين، ويقول لي: "اليوم سأضمّها إلى الأوراق الصغيرة الموجودة في جيب قميصي، والتي أكتب فيها ما يهمني من أمور."

بما أن مقالاتي عن الموريسكيين كانت تدور حول حكايا وقصص الأشخاص المهمّشين الذين ورد ذكرهم في محاضر التفتيش، فإن أستاذي كان يحرص على انتقاد أي شيء أكتبه ويعلّمني أن أبتعد عن الأمور النظرية التي تُفقد الحكاية رونقها، ويقول لي: "استخدمي أساليب أُخرى، كالحوار مثلاً، لأنه يشد القارىء ويضفي متعة على القراءة. ويمكنك أيضاً اختراع أمور دراماتيكية تشرح ما قد يخفى على القارىء فهمه"، وهو ما فعلته في مقالتي عن طرائف الموريسكيين في المدونة التفتيشية.

وكان هذا ثاني تغيير يُحدثه الأستاذ في مسيرتي الأدبية.

كان الأستاذ صديقاً شخصياً لعائلتي الصغيرة ولعائلتي الممتدة، إذ كان يحرص على الالتقاء بأخي حبيب عندما لا يكون مسافراً، ويحرص على أخذي معه إلى هذه اللقاءات، ويقول لي: "اليوم ستتعلمين فن الكلام في المناسبات، فأنت خجولة بطبعك، ولا تحبين الكلام أمام الناس، كما أنك مصابة بحساسية مفرطة تجعل مَن يتحدث معك كمَن يمشي على زجاج لأنك تتأذين من أي كلمة قاسية أكانت مقصودة أم لا، وأنا سأمزق هذا الرهاب الذي ينتابك، وأجعلك تتحمّلين أي كلمة، وأساعدك كي تُبرزي عقلك النيّر وأفكارك الجميلة. غداً عندما تنشرين أول كتاب لك ستكون الأضواء مسلطة عليك لأنني واثق بأن كتاباتك جيدة وتستحق النشر، ويجب أن تكوني جاهزة للالتقاء بعدة أنماط من الناس."

لم أكن أعرف أن الأستاذ قد لاحظ فيّ هذه الصفة، فأنا أُعدّ امرأة قوية، وأحاول دائماً إخفاء هذا الجانب الذي يتجنب الوجود ضمن حلقة من الناس. غير أن الأستاذ استطاع أن يغير نوعاً ما من طبعي هذا، وذاك كان التغيير الثالث الذي يُحدثه الأستاذ في مسيرتي الأدبية.

كان الأستاذ يحرص على صداقاته حرصه على عينَيه وكان يقول لي: "إياك أن تخسري صديقاً، ولا تختاري إلّا مَن هم أهل لهذه الصفة، فالأصدقاء ملح الحياة، ومن دونهم لا طعم للاستمرار." وكنت أستغرب هذا القول من أستاذي، فأنا لديّ بعض الأصدقاء الجيدين وقد أثبتُّ لهم إخلاصي ووفائي، فلماذا يقول الأستاذ هذا؟ لكن عندما مررت بتجارب قاسية مع مَن كنت أعتبرهم "أصدقائي"، نظر إليّ بتمعن وقال: "هل فهمتِ الآن ما علمتك إياه؟"

أشحت بوجهي وأومأت بالإيجاب، لكنه قال: " انظري إليّ، واشكري الله على هذا الدرس الذي يجب أن يعطيكِ قوة للاستمرار لا للتراجع والحزن." سألته قبل وفاته بقليل: "مَن يحقّ له الحزن في هذا الزمن الرديء؟" أجاب والدموع في عينَيه: "أكيد لا غزة ولا فلسطين ولا أهلها، بل أولئك الذين خانوها وداسوا كرامتهم تحت نعال كل شهيد وشهيدة. فغزة سرّة العالم، وفلسطين بوصلته."

وكان هذا رابع تغيير في مسيرتي الأدبية.

كان الأستاذ يعشق الكلام العربي أكان نثراً أم شعراً أم خطبة وغير ذلك، ويقدّر مَن يمتلك ناصية اللغة العربية بجمالها ورشاقتها. وبما أنني من عشّاق هذه اللغة وتخصصي كان بها في الجامعة الأميركية في بيروت، فإن التقائي بالأستاذ كان حتمياً، ذلك بأن اللغة العربية فيها خاصية المغنطيس الذي يجذب عشاقها بعضهم إلى بعض. وبسبب عشقي لهذه اللغة طلب مني الأستاذ أن أحرر له رواياته التي كان يكتبها آنذاك، وقال لي ولغيري: "لا أسمح سوى لناهد بأن تحرر ما أكتبه، فإحساسها باللغة دقيق جداً، وأنا ممتنّ لها لأنها قبلت أن تقوم بهذا العمل." وكل مَن يقرأ روايات الأستاذ في تلك الفترة سيجد أنه يوجه إليّ شكراً على التحرير، وهو شيء كنا نتجادل فيه كثيراً لأنني كنت أرفض أن يذكر اسمي، لكنه كان يصرّ بكل نُبل قائلاً: "هذا حقك، وهذا ما أريده، وممنوع النقاش في الأمر."

كنت أسكت ملبية رغبته في عدم المناقشة، وأذكر قوله لي: "اِقرأي ما استطعتِ من لغتنا، وتعلّمي دقائقها، لتصبحي مرجعاً لنفسك أولاً، ولغيرك ثانياً. ومنذ الآن سأبدأ بالتفكير في اللقب الذي يجب أن أطلقه عليكِ."

عملت بنصيحة أستاذي وازدادت قراءاتي لكتب اللغة التي لم أتوقف يوماً عن قراءتها، حتى فاجأني الأستاذ يوماً عندما كنت في معرض الكتاب أشارك مع زملائي حفل توقيع رواية له. فعندما اقتربتُ منه ووضعت أمامه نسختَين من الرواية كي يوقّعهما لي، واحدة لي والأُخرى لأخي، سألته: "ماذا ستكتب لي؟" قال بكل هدوء: "لقبك". كتب بسرعة وأعطاني النسختَين وانسحبتُ فاسحة المجال لغيري كي يحصل على توقيع الأستاذ الكبير.

ما إن أصبحت خارج المعرض حتى سارعت إلى فتح النسختَين، وأول ما طالعني في نسختي أربع كلمات فقط هي: "إلى سيدة اللغة العربية." وبات هذا لقبي عنده، وكلما أخطأت في شيء كان يهددني بسحب اللقب مني، فأرجوه ألّا يفعل ذلك، وأعده بأني سأبذل جهداً أكبر.

وكان هذا التغيير الخامس الذي أضافه الأستاذ إلى مسيرتي الأدبية.

شيء آخر لم أستطع تعلّمه من أستاذي الكبير وهو حفظ الأشعار، فالأستاذ كان حافظاً ممتازاً لأشعار الكبار كالمتنبي وامرىء القيس وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد وتأبّط شراً ومحمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني وغيرهم أكثر كثيراً. وكان أستاذي يحثّني على حفظ الأشعار ودائماً ما كانت محاولاتي تنتهي بعاصفة من الملامة لفشلي في هذا الأمر، والضحك لأنني كنت أتلو الشعر "ملخبطاً"، وكان الأستاذ يقول لي: "خلص، وجعني راسي، وصوت هؤلاء الشعراء في أذني الآن يعترضون على هذا اللحن في الكلام."

وكان هذا التغيير السادس الذي حاول الأستاذ إضافته إلى مسيرتي الأدبية غير أني فشلت في تشرّبه، لكني أعاهد روحه على أني ساظل أحاول لعلّي أنجح.

كان الأستاذ يقدّر صفة النبل والإخلاص لدى الأشخاص، ويقول: "هذه صفة يجب ألّا تُطلَق جزافاً، فالنبل يجب أن يكون مقترناً بظروف صعبة يختار فيها الشخص أن يكون نبيلاً أو خسيساً." لم أفهم كثيراً ما قصده الأستاذ، لكني تعلمت منه صفة الصبر لأن الأيام دائماً ما كانت تكشف لي صحة قوله. ففي أثناء مرضه صرت أسمع من كثير من الناس أن الأستاذ بات يطلق عليّ صفة النُّبل، فسألته ذات يوم: "لماذا تقول هذا؟" قال: "إن ما تفعلينه كي تستمر المجلة في الصدور بقوتها المعتادة، وذرعك الطرقات جيئة وذهاباً بين العمل والمطبعة والمستشفى أو بيتي، أو تعاونك المثمر مع الذي كلّفتُه خطياً بمتابعة سير العمل معك، ووصلك الليل بالنهار وأنت تتابعين كل تفصيلة تتعلق بالعدد، أو تفريغك لمقالاتي المسجلة التي سأنشرها في 'القدس العربي' عندما لا أكون قادراً على طباعتها، أمور لا يفعلها إلّا مَن كان النُّبل صفة متأصلة فيه. احرصي دائماً على التعامل مع مَن يمتلك مثل هذه الصفة، فهي المدماك الذي ستبنين فوقه دائرة أصدقاء تجدينهم في وقت الشدة كشدتي هذه."

وكان هذا سادس تغيير يضيفه أستاذي إلى مسيرتي الأدبية.

إن التغييرات التي أضافها الأستاذ إلى مسيرتي الأدبية كثيرة جداً، ولا مجال لذكرها كلها هنا. ولهذا سأكتفي بذكر بعض النقاط التي ربما يجهلها كثيرون:

- كان الأستاذ يقدّر المؤسسة والعاملين فيها كثيراً، بل كان يقدّر عمل كل عامل فيها وفي غيرها، وكان يحرص على أن يكون لطيفاً يمزح مع الجميع بحنان غير مصطنع. وكانت علاقته مع مديرها العام الأستاذ خالد فرّاج مميزة جداً فقد كان يرى فيه صديقاً وفياً ونبيلاً جداً وقف معه في محنته ولم يتوانَ عن زيارته كلما جاء إلى لبنان. وكان يحب فيه نشاطه لتظل المؤسسة واقفة على قدمَيها، وكثيراً ما كان يقول لي: "كيف يتحمّل السفر طوال الوقت؟ لو كنت مكانه لكنت نمت يومين بين سفرة وأُخرى." وكان دائماً يقول لي: "هل تعرفين لماذا قبلت العمل في هذه المؤسسة؟ فأجيبه: لا، فكان يقول: لأنني أردت أن أختم حياتي، مثلما بدأتها، بفلسطين، وهذه المؤسسة أكثر المؤسسات احتراماً لقضية فلسطين، وأنا عندما آتي إلى مكتبي أدخل إلى بيتي، ففلسطين بيتي و'داري' والمكان الذي أشعر بأن روحي سعيدة فيه."

- كانت عبلة ابنة الأستاذ أقرب الأشخاص إلى قلبه، ودائماً ما كان يقول لي: "مكانتها في قلبي لا أحد سيشغلها." وبما أنني كنت موجودة دائماً تقريباً معها ومع الأستاذ، لاحظت كم أنها كانت متأثرة بوعكته الصحية، وكثيراً ما كنت أراها تتمتم أي صلاة تعرفها تدعو الله فيها أن يشفي والدها. فعبلة كأبيها، كانت ترى الأديان كلها واحداً، فلا تفرّق بين صلاة وأُخرى. فهل قليل عليها أن تكون أم أبيها؟

- كان يحب أكل السمك مع الباذنجان والقرنبيط المقلي، وكلما كان يزورني في بيتي كانت أصناف الأكل هذه مطلوبة منه دائماً، وكان كثيراً ما يمازح ابنتَي اللتين تكتبان باللغة الإنجليزية ويقول: "يا خسارة! لازم يتعلموا منك اللغة." وأذكر حادثة طريفة سأختم بها مقالتي الصغيرة هذه لتظل ذكرياتنا عن أستاذي الكبير تبهج روحنا لأن وجوده معنا بحد ذاته كان البهجة نفسها.

أنا أم فخورة بابنتَيها كثيراً، وبتعليمهما وتفكيرهما الراقي، وكنت متأكدة من أنهما تعرفان الأمور البديهية. وبما أن الأستاذ كان عاشقاً لشعر المتنبي الذي يرى فيه أعظم الشعراء قاطبة، سألتهما بفخر أمامه: "إلى أي عصر ينتمي المتنبي؟ هيا اجعلا الأستاذ فخوراً بكما أيضاً." التفتت ابنتاي إحداهما إلى الأُخرى وأجابتا بما يشبه الهمس: "العصر الجاهلي؟" وهنا ترك الأستاذ الطاولة وهرع إلى الشرفة ليرمي بنفسه منها، فأسرعنا خلفه قائلين: "لا"، فقال: "هذا أكثر ممّا أستطيع تحمّله. وعقاباً لهما، ممنوع أن تأكلا من 'الكنافة' التي أحضرتها معي."

كان الجو مفعماً بالضحك، لكن هذا لم يمنع الأستاذ من التراجع عن عقابه لابنتَيّ.