وداعاً إلياس
في ذكرى
1948 - 2024
النص الكامل: 

قرابة الساعة العاشرة والنصف من يوم 15 أيلول / سبتمبر 2024، وخلال توجهي في السيارة إلى مدينة أريحا شرقي الضفة الغربية، تلقيت اتصالاً من زميلتي ناهد جعفر، مديرة التحرير التنفيذية في "مجلة الدراسات الفلسطينية" في بيروت، تخبرني فيه بوفاة الصديق العزيز إلياس خوري الذي عانى طوال 14 شهراً أمضى خلالها أياماً وليالي طويلة في المستشفى أكثر من منزله. وقع الخبر عليّ كالصاعقة؛ إذ فقدتُ صديقاً وزميلاً ومعلماً في ذروة القتل والتهجير والتدمير التي تمارسها دولة الاحتلال في لبنان وفلسطين.

لم ينقطع إلياس، على الرغم من مرضه وآلامه الشديدة، عن متابعة ما يجري في غزة ولبنان، وكتب عشرات المقالات عن حرب الإبادة في غزة، ومنها افتتاحية في المجلة بعنوان "أين تقع غزة؟". لقد كان حديثنا الدائم عن الحرب وحالة الشعب الفلسطيني تحت وطأة الإبادة، وكان دائم الإلهام بأفكار ومشاريع لامعة لننفذها في المؤسسة، بحسب ما تسمح به حالته الصحية.

لقد رحل صديقي الاستثنائي بقدرته غير العادية على التعبير عن هوياته الوطنية والقومية والأخلاقية، فهو العروبي النقي الذي لم يساوم يوماً على هذه الهوية وعلى لغتها ومفرداتها، ولم تختلط عليه المتغيرات والأوهام، وخصوصاً وهم السلام والعيش المشترك. أمّا بالنسبة إلى هويته الوطنية والأخلاقية فليس أعمق وأكثر اختصاراً من احتفاظه بمقولة وشعار ظل يرددهما طوال حياته، وهما: "موقفي الأخلاقي من أي كان مرتبط بموقفه من قضية فلسطين."

لحظة سماعي الخبر، حاولت تهدئة زميلتي ناهد التي كانت تلازم إلياس في منزله وفي المستشفى طوال فترة مرضه، حيث ظل يراجع ويواكب معها تفصيلات العمل في المجلة التي صدرت في موعدها وكانت مواكبة لمسارات حرب الإبادة بثقلها وتفرعاتها وتداعيتها كافة.

عدتُ إلى رام الله فور تلقي خبر الوفاة، واتخذتُ القرار بالسفر فوراً إلى بيروت، حتى قبل أن تعلن عائلة إلياس مراسم الدفن والعزاء. انطلقتُ نحو جسر الكرامة للسفر عبر مطار عمّان إلى بيروت، لكن عند نافذة الجوازات، طلب مني أحد الموظفين الانتظار في القاعة. وبعد نحو ساعة، بلّغني ضابط إسرائيلي أنني ممنوع من السفر، فأخبرته بأنني متوجه إلى المشاركة في جنازة صديق توفي اليوم، لكنه أصرّ على أن أعود من حيث أتيت. لم أتخيل يوماً أن أُمنع من حضور جنازة وتكريم صديق وزميل وأستاذ.

ومع ذلك، تأملت قرار منعي من السفر، ووجدت فيه معنى يتماشى مع مسيرة إلياس الأدبية والسياسية والنضالية التي كرّسها للكتابة عن الحرية بأوسع معانيها. رحل إلياس مدركاً تماماً أننا نخسر مزيداً من حريتنا، في مواجهة عدو لا يكتفي بسلبها، بل يسعى لقتلنا وإبادتنا. منعي من السفر لحضور الجنازة كان مجرد صورة مصغرة للجرائم التي يرتكبها الاحتلال في حقّ شعبنا في فلسطين، وفي لبنان حيث موطن إلياس. 

في عمّان كان لقاؤنا الأول

تعرفت إلى الصديق إلياس خوري شخصياً في العاصمة الأردنية عمّان، في صيف سنة 2010، خلال الأيام الأولى لانضمامه إلى أسرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية محرراً لمجلتها الفصلية باللغة العربية، "مجلة الدراسات الفلسطينية". وكان هذا اللقاء لقاء عمل امتد ثلاثة أيام، وهدفه البحث في آليات وطرق لإثراء المجلة بجيل جديد من الكتّاب الفلسطينيين والعرب، ورفدها بموضوعات جديدة ومسارات عمل مبتكرة، وبثّ روح متجددة فيها.

وما لفت انتباهي خلال هذه اللقاءات في عمّان هو هاجس إلياس العميق في البحث وطرح الأسئلة عن أدق التفصيلات، وخصوصاً فيما يتعلق بجغرافيا فلسطين وناسها. فعلى سبيل المثال، إذا ذكرت له "قصر رام الله الثقافي"، كان ينهال عليّ بسلسلة من الأسئلة عن موقعه، وتاريخه، وملكيته، وحتى أسماء المتاجر المجاورة. ومن الواضح أن إلياس لم يكن يطرح عليّ فقط مثل هذه الأسئلة، بل كان يطرحها على آخرين في أوقات ومناسبات أُخرى. وللمفارقة، فإن إلياس ليس شخصاً يهتم بالتفصيلات في حياته اليومية، غير أن اهتمامه غير العادي بها كان ينبع من رغبته في توظيفها في كتاباته – أكان ذلك في المقالة، أو الرواية، أو المحاضرة، أو في المجلة. 

إلياس خوري: "محطات وتواريخ" 

النكبة ومدينة اللد

يتنقل إلياس خوري بين ثلاث محطات مفصلية: الأولى سنة ميلاده (1948)، والثانية يوم وشهر ميلاده (12 تموز / يوليو)، والثالثة تاريخ وفاته (15 أيلول / سبتمبر)؛ فسنة 1948، هي السنة التي ستظل عالقة في حبره وورقه، وفي ذاكرته وإنتاجه، ليس كسنة ميلاده فقط، بل كنقطة تحول تاريخية – نكبة فلسطين، والتي عبّر عنها بالأرقام "1948"، وبالكلمات "النكبة"، وبالفعل الحاضر عبر صوغ مصطلح "النكبة مستمرة"، وقد كتب كثيراً تحت هذا العنوان.

بعد يومين من مولده، في 12 تموز/ يوليو 1948، احتُلت مدينة اللد، وهو ما ظهر في رائعته "أولاد الغيتو". وهنا أتذكر أنه طلب مني مرة المشاركة في كتابة مقالة لملف بعنوان "العودة المتخيلة" في العدد 116 من "مجلة الدراسات الفلسطينية"، فكتبتُ: "مرة أُخرى فاجأني إلياس بمدى إلمامه بتفصيلات ما جرى، ومرة أُخرى أتعرّف منه أكثر وبأدق التفاصيل، إلى واحدة من أبشع جرائم التطهير العرقي التي ارتُكبت. فكل الشكر للصديق إلياس خوري الذي ساهم في تصويب معرفتي عن مدينتي."[1]

أبصر إلياس النور قبل يومين من سقوط مدينة اللد، تلك المدينة التي شغلته وأثارت اهتمامه بحثاً وتأليفاً وتأملاً وحزناً عليها وعلى مصير أهلها الذين بقوا في الغيتو، أو الذين هُجّروا قسراً. ولهذا لم يقتصر إلمامه على أحداث السقوط أو ما سبقها فحسب، بل امتد أيضاً إلى مصير العائلات التي هُجِّرت، ومصير الأحياء العربية التي ظلت عربية على الرغم من محاولات الاحتلال تهويدها وإفقارها وتحويلها إلى مرتع للجريمة.

وعن اللد كتب إلياس مرة أُخرى، وحاضر عن "العطش" في يوم الرحيل، مستشهداً بلوحة الفنان إسماعيل شموط التي تجسد هذه المعاناة، فقال: "لم أفهم لوحات شموط الصارخة في واقعيتها إلّا عندما قادتني الحكاية إلى اللد، وفي اللد اكتشفت عطشي إلى الكلمات السجينة في الغيتو الذي سوّره الإسرائيليون الغزاة بالأسلاك الشائكة. تحوّل الغيتو إلى تمرين على العطش والصمت، عطش إلى الماء وعطش إلى الحياة. أمّا الذين وصلوا إلى نعلين، فحملوا معهم ميراث العطش إلى أقاصي المنافي."[2]

لكن مثلما احتلت اللد حضوراً كبيراً في أعمال إلياس الأدبية والفكرية فإن أمكنة أُخرى في فلسطين احتلت مساحة كبيرة في أدبه، كحيفا، ونابلس، ومخيم جنين، وغيرها.

بعد يوم من رحيله، أي في 16 أيلول / سبتمبر، دوّنَتْ الروزنامة الفلسطينية مناسبة سوداء تضاف الى قائمة المناسبات التي سبقتها، والمناسبات على الطريقة الفلسطينية هي مجازر واغتيالات؛ ففي ذلك التاريخ من سنة 1982، ارتُكبت مجزرة صبرا وشاتيلا التي امتدت 3 أيام وحصدت آلافاً من الأرواح، وهذه المجزرة حضرت بقوة في أعمال إلياس الأدبية والصحافية، وظلت تحضر كل عام في ذكراها. وعن المجزرة التي حرص إلياس طوال 4 عقود على إبقائها حية في ضمير العالم، كتب عن ذكراها الأولى ما يلي: "في 16 أيلول / سبتمبر 1983، ذهبت إلى مخيم شاتيلا للاشتراك في الذكرى السنوية الأولى لضحايا المجزرة. مشيت في اتجاه المخيم تحت رذاذ بدايات الخريف. كانت هذه هي المرة الأولى، منذ الغزو الإسرائيلي للمدينة، التي أشمّ فيها رائحة الأرض التي أيقظها المطر الأول."[3]

في الذكرى الـ 42 لمجزرة صبرا وشاتيلا رحل إلياس خوري، ولم تعد سيرة المجازر حكراً على مجزرة صبرا وشاتيلا كأنها آخر المجازر التي اعتاد إلياس أن يُحيي ذكرها في كل عام، فالمجازر باتت خبرنا اليومي في رفح وخان يونس وجباليا وبيت حانون وغزة وحي الزيتون والتفاح، وفي الضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك وقرى الجنوب اللبناني.

هذه المجازر والجرائم مجتمعة "التي نُفّذت وتُنفّذ وستُنفّذ" تشكل في مجملها ما اعتدنا على تسميته حرب الإبادة بكل ما تحمل من معنى. 

في المستشفى وفي المنزل

كنت أزور إلياس في المستشفى أو في المنزل كلما سنحت الفرصة، وكان يفاجئني، على الرغم من شدة الألم الذي كان يكابده، بتعلقه بالعمل وضرورة إنجاز مهماته، كأنه كان يشعر بأنه يسابق ساعة تزداد سرعتها مع حرب الإبادة التي تُشنّ علينا. ولهذا كان يقول لي: "مع أن ألمي كبير جداً، لكنني ما زلت أشعر بأنني سأستطيع بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع استئناف عملي، فأحضر إلى مكتبي في المؤسسة لمتابعة أعمالي والإشراف على المجلة والكتابة." وكنت أقرأ في هذا تعلّق إلياس بدوره وبقلمه في هذه الظروف القاسية والصعبة أكثر من تعلقه بالحياة بمعناها المجرد.

وفي إحدى الزيارات برفقة طارق متري رئيس مجلس الأمناء قال لنا: "لقد بدأتُ حياتي في مركز الأبحاث الفلسطيني قبل نحو ٥٠ عاماً، وسأختمها في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فهل هناك أجمل من أن يكرس الشخص حياته من أجل هذه القضية النبيلة؟"

 

المصادر:

[1] يُنظر:

خالد فرّاج، "عن فرح وعن الفرح"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 116 (خريف 2018)، ص 79.

إلياس خوري، "العطش"، "المدونة"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، 10 / 7 / 2018، في الرابط الإلكتروني.

[3] يُنظر:

إلياس خوري، "مقدمة لقراءة النكبة المستمرة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 135 (صيف 2023)، ص 1، في الرابط الإلكتروني.