"كيف نجمع الصفر؟"
النص الكامل: 

كتب إلياس خوري مقالة في جريدة "السفير" اللبنانية، بتاريخ 21 أيلول / سبتمبر 1980، أشار فيها إلى أن "الأزمة الثقافية هي أزمة خيارات تبدأ من اللغة وتنتهي إليها." وكتب مقالته تلك في فترة الحرب في بيروت، مشيراً فيها إلى الثقافة العربية. وفي مقالة أُخرى له في "السفير" أيضاً، أشار إلياس إلى اكتشاف "بسيط وناصع" هو أن "الأشياء لم تعد ممكنة" في الحرب الأهلية (9 آب / أغسطس 1980). وبعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت بنحو 4 أعوام، كتب إلياس: "فالخصم لبس ثيابنا وجلس بيننا وأعادنا من جديد إلى نقطة الصفر [....] كيف نجمع الصفر؟ وكيف نخترع من الصمت لغة؟" ("السفير"، 5 تموز/يوليو 1986).

يقول إلياس: "وفي كل مرة كان يُطرح فيها السؤال، كانت الثقافة العربية تكتشف أنها تبدأ من الصفر أو من دائرة الصفر، كأن الأشياء لا تتراكم، أو كأن السؤال الثقافي لا يستدعي جوابه، بل يقوم بتأجيل الجواب أو إلغائه" ("السفير"، 22 شباط / فبراير 1986).

من جهة أُخرى للنظر إلى الصفر بما هو موقع معرفي عصياني، يشير الفيلسوف الكولومبي سانتياغو كاسترو غوميز، إلى الصفر بما هو موقع لكتابة معرفية عصيانية، فيما سمّاه "غطرسة النقطة صفر". فالصفر ما عاد تمثيلاً لعدمية افترضتها المعرفة والثقافة الغربية للصفر، فقط ليتّزن العالم بها، أو مثلما يقول - على غير ما عنى - مهدي عامل: "في موقع الصفر بين الضدين لا يوجد للتاريخ مكان [....] بين الضدين صراع لا يلغيه طموح الصفر إلى إلغاء الضدين، ليبقى القائم ضد الممكن."

كيف نجمع الصفر؟ ما مجال الحركة الذي يمكن أن يتحمله الصفر بما هو، بناء على وصف عامل، لامكانٌ تاريخي؟ هل الصفر هو العدم، وهل ما يحدث حولنا، وفي لغاتنا ومدننا تحديداً، وفي جميع هذه الإبادة والحرب الكثيفة، هو تصفير لشكل وجودنا العربي المعاصر أمام أعداء لبسوا ثيابنا وجلسوا بيننا؟

كيف ومن أين تبدأ الكتابة عن إلياس خوري في هذا الظرف العام الذي يمر به عالمنا العربي، من غزة إلى اليمن، وبيروت والعراق، إلى ليبيا ومصر، وفلسطين، وأخيراً سورية! كيف لنا أن نقرأ إلياس وأثره في خضمّ هذا كله؟ الكتابة هنا ليست في حضرة الموت، فالحاضر لا يموت، وإنما في حضرة الانعتاق الذي بشّر وآمن به إلياس. ففي اللحظة التي نرى المحرَّرين من سجون الأسد، أطفالاً ونساء ورجالاً وشيوخاً، وما حملته الحرية لهم ولنا، نعي أن مَن هم مثل إلياس على ندرتهم، هم الأقدر على حياكة التاريخ مثلما يجب أن يكون: على لسان الضحية المنتصرة والمنبعثة من أصفارها، وأصفادها، واللغة هنا محض تأويل.

وفي اللغة أمر كثيراً ما تنبّه إليه إلياس، وحثّنا على اتّباع أثره. يقول: "إن الصراع باللغة وعلى اللغة، يؤدي دوراً كبيراً في رسم ملامح الحاضر، فالتلاعب بالاسم الفلسطيني كان مقدمة لإحداث تغييرات فعلية حملت في بعضها أبعاداً كارثية." والسؤال هنا: كيف يتواطأ الصفر واللغة؟ وألا تعني الإبادة شكلاً من أشكال هذا التواطؤ؟

إلياس رجل الكلمة بما هو روائي وكاتب، والمدينة بنت الكلمة بما هي كتابة لمتفق العلاقات بين الغرباء حين يُضمرون شيئاً مشتركاً بينهم، وهي بنت الكتابة واللغة. أمّا الإبادة فهي في تصفير اللغة، والدفع بها إلى ما دون الصفر من حيث التدمير والتخريب.

إن فعل الكلام مدينيّ بالضرورة، والكتابة تأريخه وتاريخه، وماديته المدينية في تجسّدها، وهو ما يدل عليه ارتباط الرواية كفنّ حداثي، بالمدينة كنتاج للحداثة. وعليه، كان لإلياس خوري مدنه المكتوبة في كل نص. مدن تخرج عن طوع الأصفار وتدفع بها إلى مقاومة الاحتلال والمحو. ولعل شاهدنا الأبرز هنا، هو كتاب "حب في المخيم"، والذي كان نتاج ورشة كتابة إبداعية نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في خريف سنة 2018، وشارك فيها لاجئون ولاجئات فلسطينيات في لبنان. يقول إلياس في الكتاب: "لا شيء يشبه الحب في قدرته على تجديد المعاني وإضفاء نكهة الشهوة إلى الحياة. حب يطلع من ركام الأشياء، ويتحول إلى جسر يصل المخيم بالوطن المحتل" (ص 15). وهنا يعي إلياس جيداً ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي ليوتارد: حين قال: "إن فلسفة عصرنا مطمورة في الخرائب."

وعلى خطى إدوارد سعيد في وعيه بجغرافيا الأفكار، يحفر فعل إلياس اللغوي في الدلالات الفكرية للمكان، فيعيد المكان إلى أصله اللغوي، بكتابته. ولئن كان "اختراع الطباعة قد جسَّد العالم في مكان"، فإن الكتابة "كسلسلة من الإشارات الصغيرة تسير في خطّ منتظم كجيوش النمل، عبر صفحات وصفحات من الورق الأبيض" كانت، "موضعة محددة لفكرة مجردة." هكذا هي الحال بالنسبة إلى المكان، وكيفية كتابته، ببنائه وأحيازه، وما تستبطنه تلك الفضاءات كلها من معانٍ مقاوِمة أو خاضعة.

شاهِدنا الثاني، ما فعله ناشطون فلسطينيون في كانون الثاني / يناير 2013، حين أقام أكثر من 200 فلسطيني وفلسطينية، وصلوا من جميع المناطق في فلسطين، قرية فلسطينية جديدة أطلقوا عليها اسم "باب الشمس"، على أراضي ما يُعرف بمنطقة E1، قرب مستعمرة معاليه أدوميم، شرقي القدس المحتلة. تلك الأرض التي هُجر أصحابها، والتي أعلن الاحتلال قبل أشهر فقط إقامة 4000 وحدة استيطانية عليها، نصب فيها أولئك الناشطون الخيام، ووضعوا جميع المعدات للتمكن من البقاء حتى تثبيت القرية.

"باب الشمس"، استدعاء استعاري وجغرافي منبثق من رائعة إلياس التي تحمل الاسم نفسه. وهي انتصار للبُنية الأنثوية الفلسطينية المتمثلة في القرية الأقرب إلى الأرض / الإيثار وعلاقاتها التراحمية، على البُنية الذكورية في المدينة / المستعمرة الأقرب إلى السماء / الأنا، بما في هذه الأخيرة من الإحساس بالقوة والذاتية والسطوة والألوهة - باسم الحداثة. "باب الشمس" شاهدٌ حيّ على أكذوبة "المدينية / المدنية" الصهيونية، تلك التي لم توجد بسيرورة "الاجتماع" أو "العصبة" (بالمنطق الخلدوني) الإنسانية الطبيعية لأي مدينة. فأي مدينة إسرائيلية هي في الأصل كيان استيطاني إحلالي، قام على "إحلال" بشر وكيان مادي مهندس، مكان بشر أقدم وكيان مادي أقدم، مستخدماً وسائل النفي كلها، بداية من النفي المادي عن طريق التهجير والقتل أو الهدم وصولاً إلى النفي اللغوي من المكان بتغيير الأسماء العربية و / أو تشويهها أو عبرنتها. ها هي إسرائيل دولة كاملة لا تزال تعادي "قرية" برسم الخلق، وتُهزم أمامها.

يقول "جان جاك لوسركل" في كتابه "عنف اللغة" (1990) إن "هناك رابطة طبيعية تسلسلية بين القراءة والكتابة والفعل والتدمير"؛ أي أن قراءة مكان ما، تستلزم تدميراً ما، ليُكتب من خلال العمارة، "والتدمير المذكور هو في الوقت ذاته مصدر ألم ومصدر معافاة، إنه علاج مؤلم، كما هي اللغة نفسها، التي هي نظيرته، فاللغة أيضاً تفعل وتدمر." وجميع أدوات التورية والمجاز والوصف والإدراك اللغوية، بقدر ما تحدث في ذهن الكاتب، فهي تحدث أيضاً في اللغة نفسها، وتحدث في العمارة والمكان والفراغ معاً. فالعنف اللغوي هنا، هو "عنف جسدي – عنف دمار العالم، عنف نهاية الوجود"، مثلما يصفه "لوسركل"، حيث ينشأ هذا العنف بالخلط بين ما هو "مجازي" وما هو "حَرفيّ"، وفي الحالة المكانية، يحدث الخلط بين المجازي المتخيل والمادي الموجود، فعلياً.

بالعودة إلى الصفر المشار إليه سابقاً، يعي إلياس أن الصفر هنا إمكان تحرري كامن ضد ثنائيات الحداثة العنيفة. يقول إلياس: "ففلسطين صارت تقع في الغياب، وبدا أن فعل المضارع 'تقع'، تخلى عن مضمونه الحديث الذي يدل على اسم المكان، واستعاد معناه الكلاسيكي الذي نعثر عليه في المعاجم العربية، حيث يحمل فعل 'وقع' معنى السقوط، وحيث الموقع هو اسم مكان السقوط."

طرح إلياس مقاربته الذكية بشأن النكبة، بما هي أداة صفرية حداثية للاحتلال قامت على تصفير الوجود الفلسطيني جسداً ومكاناً / جغرافيا وزماناً / تاريخاً، لتصبح النكبة المستمرة، وما يقتضيه ذلك من مدّ إمكان الصفر بما هو حالة معرفية عصيانية تقوم ضد الثنائيات التي فرضها علينا السياق الاستعماري الحداثي والرأسمالي، بل حتى السياسي العربي.

ومن أجل بناء أطروحته، يستعيد إلياس مقاربة قسطنطين زريق في تعريف "النكبة"، وهو الذي استكشف "كنه الكارثة بصفتها تحدياً شاملاً للوجود العربي، ومن هذا المنطلق سكّ الكلمة التي صارت اليوم عصية على الترجمة." وما فعله إلياس بنحته هذا للمفهوم هو بناء على بناء زريق، وكتابة على كتابته، بحيث انطلق الاثنان من صفرية مُدّعاة للحداثة الغربية الاحتلالية، إلى تفكيك وجود هذا العدو الذي "لبس ثيابنا وجلس بيننا."

السيرة الشخصية: 

عبد الله بياري: باحث من فلسطين.