عن مَن سأحكي؟ لبنان يحترق والمنطقة بأكملها ترتجف مثل قلبي المشتاق إليه.
عن مَن سأحكي؟ عن إلياس الكاتب؟ الفدائي؟ عن إلياس ومسيرته في جريدة "السفير"؟ عن إلياس وجريدة "النهار"؟ عن إلياس وجامعة كولومبيا؟ عن صداقاته مع تلاميذه في جامعة نيويورك (NYU) عن عطائه في مؤسسة الدراسات الفلسطينية؟ إلياس ومسرح بيروت؟ إلياس وتجربته في السينما؟ عن إلياس والحرب الأهلية؟ عن محاربته للمرض والوجع 14 شهراً؟
رميت هذه الأفكار كلها وقررت أن أحكي عن إلياس "بيّي"، حبيب قلبي. سأخبركم كم قصة من صناديق القصص والحكايات والذكريات التي لا تنتهي.
منذ صغري وهو يقول أنه سيخبرني أهمّ قصة، فيروي لي: "كان ليل، كنت واقف على البلكون بالليل، شفت نجمة عم بتضوي بالسما، كانت أحلى نجمة. ركضت عالبيت وجبت سلّم… وصرت أطلع أطلع، أطلع أطلع، كمشت النجمة بإيدي، وصرت إنزل إنزل، إنزل إنزل، وحطيتها دغري ببطن إمّك. وصار بطنها يكبر يكبر، يكبر يكبر، وخلّفت هالنجمة وطلعت عبلة." هذه قصة ولادتي؛ صدّقته عندما كنت طفلة، وظل كل عام، حتى العام الماضي ليلة عيد ميلادي، وعلى الرغم من وجود أصدقاء وأصحاب، يخبّر هذه القصة بتفصيلاتها ونضحك ليتأكد أنني أعرف أصلي.
***
عندما كنت في الرابعة من عمري، أقنعني بأنني فدائية. حمل كلاشينكوف، وعلّمني كيف أستخدمه وصوّرني معه. كان من طولي تقريباً.
"نحن فدائية، والفدائية ما بخافوا من شي"، قال لي. صدّقته أيضاً واقتنعت على مدار السنين بأننا لا نخاف من شيء.
***
في المدرسة كانوا يسألونني ماذا يشتغل أبي، وبكل فخر كنت أقول: "صحافي وكاتب". طبعاً سأكون فخورة، فأول كتاب "عن علاقات الدائرة" كتبه عندما كان عمره 22 عاماً… لكن بيني وبين نفسي لم أكن أفهم، لماذا لدينا مليون كتاب في المنزل، وكرسي مكتبه خشبه قديم، وليس لدينا تلفزيون ملوّن (كل يوم أحد كنا نصعد عند جيراننا آل طبارة، في عائشة بكّار، كي نشاهد الرسوم المتحركة الملونة)، ولماذا لا يملك سيارة ويتنقّل بالسرفيس؟
فقررت بكل اقتناع أن أقول له: "يا ريت إنت صاحب ميني ماركت أو سوبر ماركت، مش كانت الحياة أحلى؟"
يضحك، ويسمّيني "بنت الكلب"، ويبدأ بقول أشعار لا تنتهي لامرىء القيس (الذي أقنعنا بأنه "جدّ جدّك")، والمتنبي، وشعر عنترة بن شداد:
لا تَضحَكي مِنّي عُبَيلَةُ وَاعجَبي
مِنّي إِذا اِلتَفَّت عَلَيَّ جُيوشُ
ويقول لي: "بكرا وقت تكبري بتفهمي."
هناك سؤال ظللت لسنين أسمعه: "كيف يعني كاتب؟ كاتب يعني أكيد مزاجي، غريب، أناني، عصبي…".
"يا عمّي بيّي بيّ تقليدي، حنون، كريم، مهضوم، مسخرجي، متواضع، بِضحِّك، بِعيِّط للبنات عمّو، فنّاص، ما بعرف إذا القصة اللي عم بخبّرها مزبوطة أو عم يفنّص متل ما بقول."
***
يستفيق الساعة 6 صباحاً ليكتب رواياته، ثم يذهب إلى العمل. موظف عادي، يسمع قصصنا، ويتابع مشاريعنا، وينام ساعة بعد الغداء، ويفرح عندما أهديه ثياباً جديدة، ولديه قصة حبّ قديمة مع الطعام.
"القشطة أطيب فواكه بالعالم" يقول، و"إذا اسْتَسْمَكتُم فاستحلوا"، "ما بجوز سمك بلا حلو عربي"، و"الله أكبر" كلما تذوّق "أكلة طيّبة"، و"أهم شي التمريّة بعيد مار الياس"، و"بالقدس السنة الجاي" مع كل كأس عرق، و"الكنافة أكل الملوك"، وأكيد "كل الأكل ناقصو ملح"، فالمملحة الصغيرة لا تفارق جيبه، و"سودة الدجاج ما بتتاكل إلّا مع دبس الرمّان"، و"هالكبّة الأرنبية chef d’œuvre"، و"أهمّ شي البصلة مع الفول"، وشراب الورد والتوت "اختراع تاريخي"، صفات للغزل بالطعام لا تنتهي.
لذيذ بيّي، بِضحِّك… يريدني أن أنتبه على وزني، وكلما كنت أذهب مرة في الأسبوع (نهار الجمعة)، لأنام في منزل أهلي في الأشرفية، "نخطّط" قبل أسبوع عن "شو رح ناكل"… هناك أيام بكل بساطة نأكل صحن لبنة أو جبنة، لكننا نعيش الحالة كأنها "وليمة"، و"غطّسي التين بالزعتر ودوقي، أطيب شي بالعالم"، ومن الأكل ندخل إلى قصص من التاريخ والجغرافيا، و"زيتون فلسطين" و"زعتر الأردن" وشجر "الأكّيدنيا" في شوارع بيروت القديمة…
ينتهي العشاء ونبدأ بالبحث عن فيلم مصري بالأسود والأبيض. يبحث عن سعاد حسني "أحلى مرا بالعالم"، أو فاتن حمامة "الحنونة"، أو رشدي أباظة "ملك الـ sex". نشاهد الفيلم؛ أنا أستلقي على كنبة الصالون (سريري)، وهو جالس على طرفها. ينتهي الفيلم فتبدأ أم كلثوم في الغناء وأنا أنام مبتسمة… نستفيق صباح السبت، فيحكي لي سيناريو فيلم شاهده بعدما استسلمتُ للنوم، وطبعاً "شو روّحتي عليكي"، وأنا متأكدة أن الحكاية دائماً من تأليفه… وكانت أجمل قصص.
***
لست جاهزة لأتكلّم عن إلياس والمرض والمعاناة التي عاشها 430 يوماً، ولست جاهزة لمشاركة القصص التي أمضيتها على مدى 10 ساعات يومياً بقربه.
لكن هناك قصة واحدة وهذه آخر قصة لليوم.
أصابته الجلطة ليلة عيد ميلاده، دخل العمليات ثم العناية الفائقة. كنت جالسة قربه في العناية، فنظر إليّ وقال: "طلّعي التلفون"، ففعلت، قال لي: سجّلي، فكبست recording بلا تردّد. وبدأ يسجّل مقالة كاملة بلا توقّف.
مُحاطاً بالأنابيب والمكنات التي تُطَنْطِن وجروحات بطنه والأوجاع الهائلة والمسكّنات المعلقة، سجّل مقالة. دموعي تنهمر وهو يقول: "فالألم لا أبطال له، لكنه في المقابل لا يُقاوَم سوى بالحب." أقطع أنفاسي كي لا يسمع بكائي ويتابع: "في وحدتي وألمي، لست بطلاً ولا أدّعي البطولة"، أبتسم فيختم: "فصار الحب ندّاً للألم، تمهيداً للانتصار عليه وأنا أكتب هنا لأشهد لنور الحب."
هذا إلياس المناضل، الحنون، المخلص لأصدقائه، الحسّاس، إلياس "يللي أكبر من الحياة."
إلياس الذي أجبره المرض على التوقف عن الطعام… ولم يتوقف عن الكتابة. وظل يقول: "أنا نمر، بس نمر مجروح."
من أين أبدأ، وأين أتوقّف؟
إلياس الآن مع أصدقائه إدوارد، محمود، سمير، جيزال، مع أمّه أدال، وأخته ناديا…
"ما تبكي يا حبيبي هيدا منام، بس تفتح عيونك بيرجع كل شي لمطرحو، وبتكتشف إنو ما في شي بخوّف" (من روايته "كأنها نائمة").
إلياس الآن نائم قرب ميليا، وعندما يستيقظ ينظر إليّ وأنا أمشي في الجبل الصغير لأذهب إلى مكتبه في المنزل، أجلس على الكرسي في مقابل كرسيّه وأقول له: "اشتقتلك قدّ الدني".
* العنوان مقتبس من صفحة إهدائه لي على كتابه "أولاد الغيتو".