عتبات الحب والألم: الزيتونة المتوهجة
في ذكرى
1948 - 2024
النص الكامل: 

 إلى إلياس،

بصبر أيوبَ عبرتَ وادي ظلّ الموت

عكّازك الحب،

ورحلت متوهّجاً بالألم

كزيتونة عتيقة 

كان لقائي الأول بإلياس خوري في 1 تموز / يوليو 1997 في ندوة لتكريم إدوارد سعيد في مسرح بيروت بتنظيم مشترك مع دائرة علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت وجريدة "النهار". كنت من المعجبين بكتاباته ورواياته، وكنت أدرّس رواية "الوجوه البيضاء" لطلاب مادة السردية العربية، كما كنت وطلابي قد حضرنا قبل ذلك بأعوام مسرحية "مذكرات أيوب" ونالت حيّزاً من النقاش الذي احتدم بيننا. قدّمتُ في الندوة ورقة تتناول "متشائل إميل حبيبي والأدب الهامشي"، وفوجئت بإلياس يرتقي درجات خشبة المسرح ويعانقني مهنئاً.

في بداية صداقتنا شعرت بنقزة من طبعه الحاد ومن سخريته وعدائيته أحياناً، غير أني عندما تخطّيت عتبة هذه الواجهة التي يختبىء خلفها، اكتشفت جوهر روحه المعطاء، وإخلاصه وعقله الحرّ، ورِفعته الأخلاقية.

وإلياس معلم قدير صاحب صنعة يُخفيها بإتقان عبر سلاسة السرد والحكي. نشأنا على مقالاته الأسبوعية الجريئة التي تتصدى للسلطات والمؤسسات الفاسدة، وعلى رواياته التي نضجت في مصهر العمل اليومي في قضايا المجتمع وفي الصراع ضد الاستعمار - الاستيطاني الصهيوني ومطامعه. هناك، بين الناس وفي مخاض إنتاج وعيٍ تحرري استنبط إلياس لغته الروائية، وشرع يُرهف تقنياته واستراتيجياته النصية، فأتت رواياته موسيقى تعبّر عن حيوات أهل بلاد الشام وتاريخهم ووجعهم وقصص حبّهم، لينتج خطاباً يؤكد قدرة الفن على إضفاء أبعاد تخييلية على الخبرة الحياتية، الإنسانية والاجتماعية - التاريخية، وعلى إعادة تشكيل هذه الخبرة وتأويلها.

في سنة 2005 بعد اغتيال سمير قصير الذي هزّ كيان إلياس وضعضعه، وفي أثناء موجة الاغتيالات التي طالت سياسيين ومثقفين، إذا بإلياس يتصل بي في بعد ظهر يوم تمّوزي، ويدعوني إلى لقائه في مقهى نجّار في الأشرفية. مسافة الطريق من رأس بيروت في السرفيس وأجده جالساً أمام قهوته، غير أنه كان قلقاً. أخبرني أن التهديدات بالاغتيال طالته، وأن المجموعة قررت التخفيف من استخدام الهاتف المحمول، وتغيير أمكنة المنامة، والامتناع من ركوب سيارة من الطريق مجهولة السائق. اتصلت بسائق أعرفه وعدت مع إلياس إلى منزلي. أمضى عندي نحو ثلاثة أسابيع متنقلاً عند الضرورة مع سائقين من معارفي. وخلال هذه الأسابيع ابتدأ بكتابة الفصل الأول من "كأنها نائمة"، وإلى هذه الفترة تعود علاقته بوضّاح اليمن الذي قرأ أخباره في كتاب "الأغاني"، وفي كتاب آخر أحضرتُه له من مكتبة الجامعة.

في تشرين الثاني / نوفمبر 2018 عندما أخبرته في مقهى مطلّ على بحر بيروت أنني سأخضع لجراحة لا تحتمل التأجيل لاستئصال أورام خبيثة، صفن إلياس وتطلّع إلى البعيد، ثم تلعثم وبكى، لكنه تماسك من جديد وأخذ بالمزاح التشجيعي. وعندما توالت زياراتي للمشفى لإجراء الفحوصات والصور أرسل إليّ: 

أكتب لك لأنني أعلم أن الكلمات بلسم الروح، لكنني أعرف أيضاً أنك محاصر بالأطباء، وباحتمالات العملية الجراحية، في مواجهة المرض، وأعرف أنك تريد أن تكون وحيداً، وأنا أحترم ذلك، ولا أريد أن أثقل عليك، لكنني أريد أن أقول إننا سننتصر على المرض ونقاوم، وأنني إلى جانبك ومعك، فأنت أخي وصديقي ورفيق الدرب والحلم.

طمني عنك عندما تستطيع

ولا تنسَ أنني أحبك،

إلياس 

لم ينقطع عن زيارتي في المشفى بعد العملية وفي أثناء العلاج في البيت، يوماً بعد آخر، وما كنت أستطيع الكلام أو الحركة، لكنه كان يحكي ويمزح... وعلمت من أهلي بعد أن تعافيت أنه كان يتكىء على الحائط ويبكي كلما خرج من عندي. وإلياس هو الذي اخترع بعد أن عاوَدْنا التردد على المقاهي والمطاعم فكرة أن للألم ذاكرة، وأوضح لي أن المحيطين بالمريض هم الذين يحملون "ذاكرة الألم".

في العامَين الأخيرَين، بعد أن أُغلق فندق البريستول حيث كنا نجتمع على الغداء، بدأنا نلتقي كل يوم جمعة في منزلي على ترويقة كنافة وركوة قهوة، فنجلس على شرفة الياسمين والجيرانيوم ليدخن سيجارته، ونتحادث عن مشاريعنا الكتابية، ونقرأ لبعض، ونتناقش في السياسة ونختلف؛ فمع أن فلسطين وحّدتنا، إلّا إننا كنا نختلف في السياسة اللبنانية، ونضحك، ونتذاكر الشعر قديمه والحديث. وكم من مرة أخذَنا الحوار إلى قضايا السرد وتقنياته، وإلى علم الكلام الإسلامي، ولاهوت الأيقونة، وزيتون جنين وبطولات مخيمها، وإلى مصابن نابلس وأزقّتها، وكنيسة برقين، قريتي.

تقول الأغنية "كذبك حلو"، وهو ما ينطبق على إلياس، أو بالأحرى على "تفنيص" إلياس بمعنى القدرة الفذّة على التخييل والتركيب والقصّ، وقد قالت العرب: إن "أعذبَ الشِّعر أكذَبُه". وإلياس هو الدكتور الأكثر استحقاقاً وجدارة؛ قلت له مرة أني أخطط لتصميم مادة دراسات عليا تتناول بُنية رواياته وتوزيع الحكي فيها، وتتعامل مع فهمه الإبداعي للنظريات الأدبية، وتَحاوُره مع النقد العربي القديم، وصوغه لنظريات تندرج في تركيب المحكي الروائي.

وإلياس هو الذي علّمنا معنى فلسطين... صحيح أن مَن حَمَلنا إلى فلسطين القضية هو "فتح" والكتيبة الطلابية، غير أن "معنى فلسطين" الذي تعلمناه من إلياس، كان شيئاً آخر... علّمنا أن القضية – أي قضية - هي أخلاق أولاً وحبّ، ثم بعد ذلك تأتي التضحية في سبيل الناس، هذه خلاصة "القضية". ومعنى فلسطين الذي صاغه لنا إلياس هو طيف أرواح الذين ضحوا لفلسطين، فقرائها ونسائها وشهدائها الأحياء. ثم إنه استَكْنه معنى المعنى عبر تناصّه مع كبار أدباء فلسطين وشعرائها ومفكّريها.

في مرضه الذي استمر 14 شهراً، فهمت معنى "ذاكرة الألم". كنت قد محوت من ذاكرة جسدي الأوجاع التي مررت بها، ولعله محو إرادي، ذلك بأن محاولة النسيان نعمة، غير أن "ذاكرة الألم" عادت طريّة بيننا في مرضه الطويل. فإلياس الذي كان مقبلاً على الدنيا، وكان حديثه بشاشة، وهو الذوّاقة الذي يغترف من الحياة ويرفّ لها قلبه، شفّ تحت وطأة الألم الممضّ وازداد تألقاً في إنسانيته وعظمة روحه، فالوجع نصب خيمته في جواره وأخذ يناغيه ويلاعبه بمخالب قط شرس، ويخرمش منه الروح. كان صبوراً، ينظر إلى البعيد ويتوحد مع عذابات الفلسطينيين، ففلسطين بالنسبة إليه كانت شعباً ووجعاً وأملاً، وما نظر إليها كأرض، بل كان يسخر من مسألة "الأرض المقدسة"، ولعله في هذا ينهل من اللاهوت الأرثوذكسي، فالإنسان هو مَن يتقدّس. كان يغيب في الألم بين عمليات جراحية لا تني تتوالد، ويصحو ليسأل عن شعب غزة وأهل الضفة وفدائيي فلسطين وأبطال الجنوب اللبناني المقاوم بنبل وعزّة.

صداقة إلياس هدية عنت لي الكثير، ففيها الإيثار والعطف، والفرح بالآخر وإنجازاته، والحثّ على الخلق والتسامي. ولعل أجمل ما في إلياس أنه كان يتستر على عيوب أصدقائه ويدافع عنهم، "ويستر همّ صاحبه ويستر أنه ستَرَه."

ولعل قول ابن حزم هو أصدق تعبير عن صداقتي مع إلياس: "ومن الأسباب المتمناة في الحب أن يهب الله عز وجل للإنسان صديقاً مخلصاً، لطيف القول، حسن المأخذ دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المـُساعفة، نبيل المدخل، طيب الأخلاق، سَرِيّ الأعراق، مكتوم السر، كثير البرّ، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحسّ، صحيح الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء." 

في هدأة الألم

أُمسك يداً معروقة

ويدٌ على جبين من فضّة الزيتون

وأراه يرتفع،

يتّكىء على كلماته ويرحل بنُبل وصمت. 

أراك هناك على ربى الناصرة، أو أستشرفك مطلاً من شرفة الكرمل على بحر حيفا،

أو متوحّداً مع دنّون

في مقام اللد،

فلسطيني الهوى،

والارتفاع. 

وداعاً، ولك كل الحب.

السيرة الشخصية: 

ماهر جرّار: أستاذ الأدب العربي ودراسات الحضارة في الجامعة الأميركية في بيروت.