إلياس خوري المتعدد الفريد
في ذكرى
1948 - 2024
النص الكامل: 

"لا يُعدّ ولا يُحصى": ربما كانت هذه الكلمات الأربع التي كتبها أحمد بيضون عن إلياس خوري يوم وفاته أدقّ وصف يمكن أن يوصف به، فإلياس، على كثرة ما قيل عنه، كاتباً وصحافياً ومثقفاً نقدياً ومناضلاً وطنياً ديمقراطياً، عصيّ على الحصر. قد يستطيع صديق من أصدقائه المقرّبين أن يسرد بدقّة سيرته الشخصية أو المهنية منذ شبابه الأول، حين أصبح في بداية السبعينيات عضواً في هيئة تحرير مجلة "مواقف"، ثم حين تولّى مهماته مديراً لتحرير "شؤون فلسطينية". وقد يستطيع قارىء من قرّائه المدمنين تعدادَ أعماله الأدبية عن ظهر قلب، منذ صدور أولى رواياته: "عن علاقات الدائرة"، في سنة 1975، حتى آخرها: "رجل يشبهني" في سنة 2023. لكن الأهم في تعريف إلياس ليس التنويه بسيرته المذهلة في تشعّب مسالكها، ولا بغزارة إنتاجه فحسب، بل بإبراز العلاقة الوثيقة في شخصه بين التعدد والتفرد، وفي مؤلفاته بين الوحدة والتنوع.

تكمن فرادة إلياس في الدرجة الأولى، في بقائه طوال حياته وفياً لما اختاره لنفسه في صباه، فكرياً وسياسياً وأدبياً. لا أعني أنه لم يتغير، فقد غيّرته الأحداث الجسام التي عاشها، وغيرته الكتابة فكان كمَن يولد من جديد في كل نصّ جديد، ثم يواصل السير في طريقه وقد ازداد معرفة بنفسه وبالآخرين. كان إلياس، وبقي، لبنانياً نهضوياً في فكره، وبقيت بيروت النهضوية المنفتحة على القريب والبعيد مرجعه الأثير، وقد وصفها بحنان في العديد من المناسبات وبكاها بمرارة في كوارثها وما أكثرها! وكان عروبياً في السياسة، عروبة صافية بريئة ممّا شابها من ويلات على يد الأنظمة والمنظمات التي حملت لواءها. أمّا في الأدب فكان الباحث الدائب عن أسراره، مفتوناً بالأسئلة التي طرحتها المدارس النقدية الحديثة. هزّته هزيمة 1967، ولم يكن بلغ العشرين بعد، وحفّزته انطلاقة المقاومة الفلسطينية المسلحة، مثل عشرات الألوف من أبناء جيله، على الانخراط في صفوفها، وعلى اعتبار فلسطين عنواناً لطموحات البشر التحررية. كان صادقاً في كلامه عن أسباب التزامه بقضية فلسطين حين قال إنها لم تكن في أول عهده بها سياسية أو قومية بل أخلاقية، وظلت قضيتها في نظره، قبل أي شيء، قضية إنسانية، بل كبرى القضايا الإنسانية في عصرنا لأنها تخصّ شعباً أُريدَ ويُراد محوُه بشتى الوسائل. لم يكن يعنيه أن تكون فلسطين أو لا تكون أرضاً مقدسة، أو لنقل لم يكن هذا الأمر يعنيه إلّا بالقدر الذي جُعلت فيه قدسية أرضها حجّة للتنكيل بشعبها. والأمر الأشد إيلاماً وأكثر تحريضاً على التماهي مع الفلسطينيين، مثلما قال مراراً، هو أنهم بعد أن هُجّروا ودُمّرت قراهم فُرض عليهم الصمت، وسادت في الغرب سردية المنتصر - سادت للتكفير عن جريمته في إبادة اليهود الأوروبيين، وسادت لأن مصالحه الإمبريالية كانت وما زالت تقتضي سيادتها. ولذلك ارتبطت قضيتهم في ضميره بقضايا الحرية والعدالة والديمقراطية بمعانيها السياسية والاجتماعية والثقافية على السواء. ولذلك أيضاً جهد في رواياته على أن يحكي الفلسطينيون قصتهم بلسانهم.

كان إلياس شديد الوضوح في خياراته هذه، ولم يتخلّ يوماً عن أي منها لانشغاله بغيرها. كتب روايته الفلسطينية الأيقونية، "باب الشمس"، في الوقت الذي كان يتولى إدارة "مسرح بيروت"، في تسعينيات القرن الماضي، ومعها رئاسة تحرير "ملحق النهار". وقد جعل من هذا المسرح آنذاك فضاء تختلط فيه الأجناس الأدبية والفنية، وتنظَّم فاعليات رصينة، عن ذاكرة الحرب الأهلية مثلاً، أو عن النكبة في ذكراها الخمسين، وتُطرح بحرّية أغلب المسائل الحساسة المسكوت عنها في المناخ الذي فرضته وصاية النظام السوري بعد اتفاق الطائف. وبهذا أُتيح للجمهور اللبناني، بعد انقطاع طويل، أن يطّلع على الإنتاج الثقافي العربي في المشرق والمغرب، الأمر الذي جعل بيروت تستعيد خلال بضعة أعوام شيئاً من ألقها الثقافي الطليعي. وفي أثناء ذلك، وفي الأعوام اللاحقة حتى سنة 2009، أصبح "ملحق النهار" منبراً سياسياً وثقافياً لا مثيل له في أي قطر عربي من حيث مواكبة الأحداث وتنوّع المساهمات في مقاربتها. ناهض إلياس في "الملحق" في آنٍ معاً منظومة الفساد والإفساد المحلية وهيمنة الاستخبارات السورية وقَمْع المثقفين من طرف المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، كما فتح صفحاته أمام المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية، ودافع عن فلسطين في ظروف ما بعد أوسلو، وخصوصاً في سياق انتفاضة الأقصى، وندّد بمشاريع رفيق الحريري العمرانية، وطالب بالإفراج عن سجناء الرأي، ودعا من موقعه الوطني العربي إلى تفهّم المطالب السيادية اللبنانية... ولم يتزحزح إلياس فيما بعد، أي بعد "مسرح بيروت" و"ملحق النهار"، عن هذه المواقف، رابطاً ربطاً محكماً بين قضيتَيه، الفلسطينية والديمقراطية، مثلما فعل عندما انطلقت الانتفاضات العربية من تونس في أواخر سنة 2010، وعندما انخرط في سنة 2019 بحماسته المعهودة في الحراك الديمقراطي اللبناني.

كتب إلياس قبل "باب الشمس" 6 روايات "لبنانية"، إذا صحّ التعبير، بمعنى أن أحداثها، أو أغلبية أحداثها، تجري في لبنان، وخصوصاً في غضون الحرب الأهلية، وكتب 4 روايات بعدها، "لبنانية" أيضاً، وإن لم تغب فيها فلسطين، قبل أن يعود إليها في ثلاثية "أولاد الغيتو". وما يجمع بين هذه الأعمال كلها، وما لفت اهتمام النقاد، منذ أن كان إلياس في خطواته الأولى، هو نزعته التجريبية في السرد، واعتماده تقنيات صار يُعرف بها، مثل تعدد الرواة، وتكرار الحكاية من وجهات نظر متنوعة، والاستطراد، ومزج الفصحى بالمحكية، والتقديم والتأخير في بناء الجملة سعياً لإحداث إيقاع شفوي، إلى آخر ما انشغل به في مرحلته الأخيرة، كالعلاقة بين الكاتب والراوي وشخصيات الرواية، وعلاقتهم جميعاً بالقارىء.

لست ناقداً أدبياً ولا مؤرخاً للأدب كي أكتب عن الثلاثية أكثر من انطباعاتي عنها، كقارىء لأعمال إلياس وناشر لترجماتها إلى الفرنسية، وهي تتلخص في أنها رواية موسوعية فريدة من نوعها. ففي هذه الرواية تنفتح قصة آدم دنون على عوالم لا حصر لها، فتذهب بنا من نيويورك إلى دمشق في العهد الأموي، ومن غيتو اللد إلى غيتو وارسو، ومن مجازر النكبة إلى معارك الانتفاضة الثانية، وتندمج فيها الوقائع التاريخية الموثّقة والمجهولة بالتخييل، والمصائر الفردية العبثية بصيرورة التاريخ التي لا تقلّ عنها عبثاً في بعض الأحيان. وفي هذا السياق، يستحضر إلياس شخصيات من رواياته السابقة، وتتخلل سرده استطرادات فلسفية وإحالات إلى عدد كبير من المراجع الأدبية، من الشعر العربي القديم إلى الأدب العبري، وأسئلة عميقة عن ماهية الأدب وجدواه. ومن الطبيعي أن يستدعي هذا كله أكثر من قراءة متأنية واحدة. وقد يقال، وقيل فعلاً، إن الثلاثية، وخصوصاً جزأها الثالث، تتوجه إلى النخبة، بل إلى نخبة النخبة، إلّا إنها تكافىء قراءها، إذا بذلوا فيها ما تستحقه من جهد، بمتعة جمالية وفكرية نادرة. وإذا كانت "باب الشمس" أعطت إلياس خوري مكانة عالية في تاريخ الرواية الفلسطينية والرواية العربية عن فلسطين، إلى جانب روّادها الثلاثة، غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، فلا شكّ في أن الثلاثية أشمل ما كُتب حتى الآن في الأدب العربي عن النكبة.

كان إلياس خوري أسبق الكتّاب اللبنانيين من أبناء جيله إلى نشر أعمالهم بغير لغتهم الأصلية، فقد تُرجمت رواياته تباعاً، منذ "الجبل الصغير" في سنة 1987، إلى أغلب اللغات الأوروبية، ولا سيما الإنجليزية والفرنسية، وتُرجم فيما بعد بعض منها إلى التركية والفارسية والعبرية. ومن المعروف أن "باب الشمس" حظيت منذ صدورها باهتمام نقدي واسع، ولعلها كانت، في جميع اللغات التي تُرجمت إليها، من أكثر الأعمال الأدبية العربية مبيعاً (فقد بيع منها باللغة الفرنسية، على سبيل المثال، أكثر من 20,000 نسخة)، وأُعيد بعد ذلك نشرها مرتين في سلسلة شعبية، ومعها ثلاث من رواياته الأولى، بحيث صارت تُعتبر من كلاسيكيات الأدب العربي الحديث. ومن المعروف أيضاً أنه كُرّم بجوائز عديدة، عربية وأجنبية، وكُتبت عنه عشرات الدراسات النقدية في العالم العربي وخارجه، إلّا إن أسعد يوم في حياته، بشهادته وشهادة أقرب المقرّبين إليه، كان نهار 11 كانون الثاني / يناير 2013 عندما تجمّع فلسطينيون من الجليل ومن الضفة الغربية في موقع بالقرب من القدس، نصبوا فيه خيامهم فاتحة لتأسيس قرية سمّوها "باب الشمس" تيمناً بروايته، واحتجاجاً على الاستيطان الإسرائيلي. وكان لا بدّ، بطبيعة الحال، من أن تُجرف القرية الوليدة بسرعة لأنها تتحدى المشروع الصهيوني برمّته، كما كان لا بدّ من أن يُعتقل بُناتها. وكثيراً ما افتخر إلياس، مُحقّاً، في مقابلاته الصحافية بأن هذا الحدث، خلافاً للمألوف في الأدب، كان المرة الأولى، أو من المرات الأولى التي يتجسد فيها عنوان رواية فيصبح اسم قرية، وهذا أثمن من أي جائزة وأي تكريم.

ولمّا كنت من أصدقاء إلياس المخضرمين، فمن حقّ الصداقة عليّ أن أضيف هنا شيئاً عنها. التقيت به أول مرة في المدينة الجامعية في باريس عندما جاءها لدراسة التاريخ الاجتماعي في أواخر سنة 1971، أو أوائل سنة 1972. وكنا من مشرب سياسي واحد، يساريين وفتحاويين، لكن ما وطّد صداقتنا الناشئة كان هوسنا المشترك بالشعر، ولا أذكر أننا اجتمعنا مرة واحدة على انفراد إلّا وهو موضوع حديثنا. لم أره في الأعوام اللاحقة إلّا لماماً، فهو في لبنان وأنا في فرنسا، لكني كنت أشعر في كل لقاء بأنه الصديق الذي لا تحول صداقته بمرور الزمن، ولا ببعد الدار عن الدار. وكانت الأحداث الكبرى في المنطقة تجدد صداقتنا بانتظام، من تدخّل الجيش السوري في لبنان في سنة 1976، إلى الاجتياح الإسرائيلي ومذبحة صبرا وشاتيلا في سنة 1982، إلى انتفاضة الحجارة في سنة 1987، إلى "عملية السلام" واتفاق أوسلو في سنة 1993... وجدّدتها أيضاً دموعنا يوم قُتل عزّ الدين قلق، ويوم اغتيل سمير قصير، ويوم مات محمود درويش. وقد اختارني إلياس بعد صدور "باب الشمس" ناشراً لرواياته باللغة الفرنسية، وازددتُ معرفة في الأعوام اللاحقة بعاداته اليومية في حالتَي جدّه وهزله، إذ كان دؤوباً في عمله، يجلس إلى مكتبه كل صباح في الساعة الخامسة قبل أن ينصرف إلى ما ندب له نفسه من مهمات، مثابراً على قراءة التراث الأدبي العربي والعالمي، مقبلاً على الحياة، يستمتع ويُمتّع أصدقاءه في الكلام عن ملذاتها، يحبّ الحبّ والمُحبّين، صريحاً جارحاً في التعبير عن آرائه ومشاعره، ساخراً مُقذعاً أحياناً في ممازحة أصحابه. كان جميلاً ونبيلاً.

ملاحظة أخيرة لا بدّ منها بعد أن فَجعنا إلياس بغيابه، تتعلق بما كتبه أو قاله قُبيل مرضه عن الموت، موته هو. من الواضح أنه لم يكن يخشاه، وإنما كان يجيد التعامل معه، وكانت الكتابة وسيلته لمحاورته. ثم إن الموت حاضر أصلاً حضوراً طاغياً في جميع أعماله، بما فيها رواياته الأولى. ألم يكن طوال حياته يحيلنا إلى شهرزاد "ألف ليلة وليلة" دليلاً على أن الكتابة، أو الحكي، نقيض الموت؟ ألم يكلّف خليل أيوب، في "باب الشمس" بأن يحكي عشرات القصص كي ينتصر بطله يونس على الموت المحدق به؟ ولنتذكر أنه حرص حتى رمقه الأخير على إملاء مقالاته الأسبوعية في "القدس العربي"، على الرغم ممّا كان يعانيه من آلام مبرّحة، متابعاً حواره مع الموت، وموصياً قرّاءه بحبّ الحياة.

السيرة الشخصية: 

فاروق مردم بك: كاتب ومؤرخ سوري.