حواريات الصداقة
في ذكرى
1948 - 2024
النص الكامل: 

يجب أن أعترف أولاً بأنه ليس من السهل بالنسبة إليّ أن أتكلم عن إلياس خوري.

أشعر بأن ليس في إمكاني أن أتكلم عن صداقة دامت أكثر من خمسين عاماً، صداقة لم تنقطع يوماً، ورافقتني في أيام الفرح وأيام المصاعب.

في الحقيقة، لم يكن إلياس يشبهني كما لم أكن أشبهه. تكلمنا مراراً عن هذا السر الغريب الذي جعل من شخصيتينا كأنهما وجهان لشخصية واحدة. وأخبرني إلياس مرة عن كتاب للروائي التركي أورهان باموق، يروي قصة رجل إيطالي قبض عليه العثمانيون في أثناء إبحاره من البندقية، وأهداه باشا إستانبول إلى هوجا، لمساعدته في التجارب التي كان يقوم بها في العلوم والطب والفلك. ويروي الكتاب كيف أن العلاقة بين هذين الشخصين تطورت مع الوقت، إلى أن تبادلا شخصيتيهما فلم يعد أحد ليفرق بينهما. وأصبح الهوجا أحد أعيان البندقية، بينما تحول الإيطالي إلى كبير المنجمين في بلاط السلطان.

صحيح أن إلياس لم يكن يشبهني. لكننا كنا كتوأمين لا تشابه بينهما. ومنذ أن غاب إلياس عنا، شعرت كأن الصمت أصابني. تذكرت صمت وضاح اليمن في كتاب إلياس "أولاد الغيتو – اسمي آدم"، وتذكرت صمت ميليا في روايته "كأنها نائمة"، كما تذكرت قول العرب: "زيادة القرب حجاب".

فقررت أن أحاول وضع مسافة بيني وبين هذا الآخر الذي تغيب الكلمات كلما حاولت أن أستذكره، وقررت أن أبتعد عن تذكّر ذكرياتي مع إلياس، فالذكريات تحجب الذكرى أحياناً.

لن أتكلم إذاً عن الأعوام الأولى حين كانت بيروت غارقة في الحرب، وكيف تمزقت أحياؤها وسيطرت عليها الميليشيات المتصارعة، مقتطِعة منها بالعنف مناطق نفوذها الطائفية، كي تحوّلها إلى مجموعة ضواحٍ لمدينة لم يعد لها وجود. كنا مجموعة صغيرة رفضت الالتحاق بما كانوا يسمونه "بيئتنا الطبيعية"، فقُطعت صلة إلياس بجبله الصغير، كما قُطعت علاقتي بجبلي الكبير.

وبعد ان أبعدتنا الحرب عن عائلتينا وأقربائنا، كوّنا عائلة بديلة قائمة على الصداقة والقناعات المشتركة. عائلة تعمّدت بالسهرات الطويلة التي كنا نُعيد فيها رسم عالم تحكمه قيم الحرية والعدل، والجلسات مع رفيقات العمر والأولاد الصغار، حيث كنا نعيد رسم خرائط المحبة والعشق.

لا أريد أيضاً أن أتذكر تلك الرحلة الغريبة، حين نزلت مع إلياس إلى أسواق بيروت فور إزالة المتاريس، بعد أن قيل لنا إن الحرب انتهت، وإن بيروت القديمة ماتت.

قالوا لنا: عفا الله عمّا مضى، لقد حان الوقت لتأسيس مدينة جديدة شبيهة بمدن الخليج. نزلت مع إلياس إلى وسط بيروت وتجولنا بين المباني التي أنهكتها المعارك وتركت بصماتها على واجهاتها، واكتشفنا معاً أن هذه المدينة التي أرهقتها حرب دامت 15 عاماً، لا يزال قلبها ينبض تحت الرماد.

كنت أحاول يومها، مع عاصم سلام ومجموعة من المعماريين، إطلاق مبادرة لإنقاذ المدينة من هندسة الحرب والخراب، وكان إلياس معنا على صفحات جريدة "السفير"، ثم "ملحق النهار" الذي تحول إلى ميدان لمعركتنا. ما كنا نطمح اليه هو ألّا نسمح لما أنتجته الحرب، بأن يمحو ذاكرة المدينة ويحولها إلى آثار مبعثرة وسط مشهد مديني لا تحكمه سوى قيم رأس المال المتوحش.

كان إلياس يقول لي: عندما تتحول الحياة إلى آثار تموت المدينة. تتجسد الذاكرة أحياناً بالحجر، أي كما بقي من بعلبك وصور وجبيل أو أجزاء من بيروت الرومانية. لكن الآثار تحوّل الذاكرة إلى أنصاب ومواقع للنسيان. الآثار هي موت الذاكرة وموت المدينة.

لقد فشلت محاولتنا. فمشروع إعادة إعمار وسط بيروت الذي كانت قد أطلقته شركة "سوليدير"، والذي حاولنا أن نقف في وجهه، كان يندرج ضمن مشروع سياسي اقتصادي مالي وثقافي متكامل، ارتكز حينها على رهان خطأ بأننا أصبحنا قيد أنملة من تحقيق السلام العربي - الإسرائيلي، وأن بيروت ستستعيد الدور الذي أدته خلال الستينيات كمركز اقتصادي ومالي وسيط بين الشرق والغرب.

فشلت المحاولة إذ لم نكن قادرين على إنتاج مشروع بديل، في ظل أوهام أوسلو ومؤتمر مدريد وتراكُض الجميع لجني ثمار سلام كانوا يعتقدون أنه سيؤسس لشرق أوسط جديد.

كان إلياس يقول لي: ربما خسرنا معركة الواقع، لكننا صنعنا مدينتنا بكلماتنا وأحلامنا. لقد أخذتني صداقتنا الطويلة إلى عوالم جديدة. أنت كمعماري تحوّل الخيال واقعاً، من خلال رسم معالم العالم الذي نعيش فيه، بينما يقوم الكاتب بتحويل الواقع إلى متخيل تصنعه أحلامنا، بحيث تصير العمارة كتاباً نعيش بين سطوره، وتصير الرواية عمارة نعيش مع أبطالها الذين يصبحون حقيقيين في وعينا، بل ربما أكثر حقيقية من الحقيقة التي نراها.

أتوقف هنا، إذ أجد نفسي أغوص، على الرغم مني، في الذكريات. لكن الذكريات غالباً ما تقوم بتحوير الحقيقة إذ يُقرأ الماضي من خلال الحاضر.

سأحاول إذاً الابتعاد عن تذكّر الذكريات، وسألجأ إلى الأدب، إذ ربما أجد فيه المسافة التي تسمح لي بأن أتكلم عن إلياس عبر الشخصيات التي خلقها في رواياته.

أذكر قصةً كتبها عن شاب يعيش في فرنسا، يسمي نفسه سينالكول، يعود إلى لبنان ليبحث عن شاب آخر يسمى سينالكول، كان يمشي في عتمة الليل في شوارع طرابلس، يكتب اسمه بالطبشور الأحمر على أبواب المحال التجارية ثم يختفي. أُلِّفت حول هذا الشاب العديد من القصص، لكن أحداً لم يكن ليعرف ماذا حل به.

قال لي إلياس في أحد الأيام: أنا لا أعرف طرابلس جيداً، فهل تأخذني إلى هناك كي تعرّفني إلى المدينة القديمة؟

مشينا معاً في شوارع المدينة المملوكية كأننا نمشي بين سطور رواية كتبها الزمن. وفي أزقة القبّة وباب التبانة، وفي أسواق البزركان وسوق حَراج، وفي خان الصابون وخان الخياطين، كنت أروي له تاريخ المدينة، وكان يبحث عن أزقة روايته.

وبعد أن خرجنا من باب المدينة القديمة تحت المسجد المعلق، ووصلنا إلى مقبرة باب الرمل قرب جامع طِيْنال، فحّت رائحة زهر الليمون، فقال لي: الأشياء هي رائحة الأشياء، وحين تذوب الرائحة فهذا يعني أن كل شيء انتهى.

عندما كان يونس يفلش شعر نهيلة في تلك المغارة المعلقة فوق قرية دير الأسد، كانت تفوح منها أيضاً روائح الزعتر والياسمين والعليق، وروائح الأعشاب والأزهار البرية. في كل موسم تأتي كهفه برائحة جديدة. وهذا الرجل الذي سمّاه والده الأعمى يونس كي يحميه من الموت في بطن الحوت، مضى حياته في بطن مغارة سمّاها باب الشمس.

سألت إلياس: لماذا سمّيتَ مغارتك باب الشمس؟ أَلِتَدلّ على بابٍ للدخول إلى فلسطين بعد النكبة، أم لتروي قصة النكبة التي لم تُكتب؟

أجابني: صحيح أنني استمعت إلى أهالي المخيمات واكتشفت كم هو مهم أن نسمع صوت الذين لا صوت لهم، لكن النكبة ليست من الماضي. النكبة مستمرة إلى اليوم. وفي الحقيقة، التقطتُ اللحظة من أجل كتابة قصة حب: عندما دخل يونس إلى المغارة، كانت أشعة الشمس تلهب عينيه اللتين كانت تحيط بهما دوائر العرق والتعب. ثم رآها. كانت ظلاً في أقصى المغارة. مشى يونس في اتجاهها فرآها تتداعى، كأنها كانت في انتظاره كي تسقط أرضاً.

إنها قصة حب، لكن للحب وجوهاً كثيرة ودلالات لا تُحصى.

يروي إلياس في كتابه أيضاً أن نهيلة مشت بين الخراب بصحبة أهل الضيعة، عندما تقدمت وحدة من "البالماخ" نحو قرية عين الزيتون، ودحرجت عليها براميل من المتفجرات. مشت نهيلة حاملة ابنها على صدرها، فوق حطام حجارة المنازل وشظايا الزجاج المكسور. وعندما هاتفتُ إلياس لأطمئن عليه بعد انفجار مرفأ بيروت، قال لي أنه هو أيضاً كان يمشي بين حطام الزجاج المتطاير الذي غطى شوارع المدينة، وأنه شعر بأن الزجاج هو كالمرايا. هذه المدينة قال لي، كانت مرآة المشرق العربي، وها إن المرآة انكسرت.

ثم أضاف: في روايتي "يالو" عملت على فهم موت اللغة. وموت اللغة حدث مخيف في الوعي الإنساني. اللغة السريانية ذابت في اللغة العربية، فهي لم تمت بمعنى ما، بل دعني أقُل إنها تقمصت، مثلما ذكرتُ في كثير من كتاباتي عن موت الآلهة. فالآلهة لم تمت، وإنما ذابت في آلهة أُخرى. هذه أول مرة في بيروت أعيش تجربة موت مدينة. إن موت المدن قاسٍ بمعنى أنه يستطيع أن يمحونا.

ماذا كان إلياس ليقول لو أنه رأى هذا الوابل من العنف الهمجي الذي يتساقط على بيروت كما في غزة؟ ماذا كان ليقول أمام منظر الأحياء المدمرة وقرى الجنوب اللبناني وغزة التي سُويت بالأرض؟ لربما كان ذكّرنا بما كتبه في زمن الاحتلال، حين كان لبنان يعيش كابوس الاجتياح الإسرائيلي والحروب الطائفية والمذابح الجماعية، وحين كان آلاف الناس قد تحولوا إلى أشباح هائمة تحت القنابل، والموت، والجوع، والخوف.

لربما ذكّرنا بأن الدور الأساسي للحياة الفكرية والثقافية هو استعادة القدرة على التفكير والكلام؛ استعادة القدرة على تحديد المشكلة الرئيسية ومراجعة تجربة الماضي، من دون أن تتحول هذه المراجعة إلى تبرير لأخطاء الحاضر، أو لرهانات الاستسلام لواقع الاختلال في موازين القوى.

في ذاك الزمن، كان يقول، علينا أن نعيد طرح أسئلتنا، كي نكتشف الأشكال الحقيقية لمقاومة الاحتلال.

لا أدرى ماذا كان سيقول اليوم، في هذا الزمن الذي يشبه الهاوية، حيث الدلالات تتبدل قبل أن تستقر على معانيها، وحيث الأمكنة تتبدل في أزمنة متتالية، والأشياء تنتظر المعنى الغائب.

"نكتب لنقاوم الموت"، هكذا كان يقول وهو يروي لي قصة شهرزاد والملك.

وعندما كان ملقى على سريره في مستشفى أوتيل ديو يصارع الألم، ظل يكتب. أصرّ على كتابة الافتتاحية في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، ومقالته الأسبوعية كل يوم ثلاثاء في جريدة "القدس العربي". لكن عندما صدر عدد الثلاثاء في 26 آب / أغسطس 2024 خالياً من زاويته المعتادة، أدركنا أنه، مثلما فعلت ميليا قبل أن تنام، كان يستعد بصمته لمخاطبة الموت.

وفي آخر لقاء معه في المستشفى، قال لي: نعيش في زمن انتهى فيه تقليد كتابة الرسائل. فانا لا أملك منك سوى صور ذاكرتنا المشتركة...

أجبته، وأنا أحاول إخفاء الحزن الذي يحرق عينيّ: سنبقى يا صديقي، مع غاندي الصغير، ومريم، ويالو، سنبقى مع ميليا، ويونس، ونهيلة، وآدم، إلى أن نلتقي من جديد.

السيرة الشخصية: 

جاد تابت: مهندس ومخطط مُدني ونقيب المهندسين اللبنانيين السابق.