لم يكن ألم إلياس خوري متدرجاً، فمنذ لحظة دخوله إلى المستشفى، والألم خلال نحو 14 شهراً مرافقه اليومي، يشتد ولا يتراجع إلّا مع قليل من العقاقير والمسكنات القوية. لكن هناك نوعاً آخر من الآلام لم تخفف من حدتها المسكنات والعقاقير، وهو ألم رافق أستاذنا إلياس طوال حياته واشتد أكثر مع مرضه. فبعد أقل من ثلاثة أشهر من رحلة مرضه، شنّت إسرائيل حرب إبادة غير مسبوقة على قطاع غزة قتلت وجرحت فيها عشرات الآلاف، ودمرت مدناً وقرى ومخيمات بالكامل، كما امتدت حربها بالتدريج إلى الضفة الغربية حصاراً وسيطرة وضماً وتدميراً لمخيمات شمالها، وخصوصاً مخيم جنين الذي أحبه إلياس، وكتب عنه وتفاعل مع شبابه ومقاتليه. ولم تقف الحرب عند هذا الحد، وإنما انتشر سعيرها من قرى الحافة الأمامية إلى لبنان بجنوبه وبقاعه وضاحيته الجنوبية وعاصمته بيروت قصفاً وتدميراً وقتلاً واغتيالاً. وكانت ذروة هذه الحرب في يوم دفنه عندما فجرت دولة الاحتلال في 17 و18 أيلول / سبتمبر مئات أجهزة الاتصال (البيجر، والأجهزة اللاسلكية) بيد حامليها في واحدة من أكبر الجرائم التي تمارسها عادة مجموعات الجريمة المنظمة، لا دولة تدّعي أنها دولة ديمقراطية.
وعلى الرغم من أوجاعه واكب إلياس بشغف ما يجري في فلسطين، فكتب "أين تقع غزة"، وخصص كثيراً من مقالاته الأسبوعية عن حرب الإبادة في جريدة "القدس العربي". وطبعاً كانت المشاهد المروعة تزيد في ألم جسده الذي أنهكه المرض، ذلك بأن صور القتل والتدمير والجنازات القادمة من غزة لا يحتملها أي كان، فما بالكم بشخص كانت فلسطين تسكنه ونال منه المرض إلى أقصى الحدود؟ غير أن هذه الآلام كانت في الوقت نفسه تزيد في عزيمته، وفي حسرته: عزيمته على الكتابة، والتي كان يشحذها إيمانه بأن هناك مَن لا يزال يقاتل هذا المحتل ويقاومه، وحسرته لأن المرض أقعده وصادر جزءاً من دوره.
رحل أستاذنا إلياس خوري في 15 أيلول / سبتمبر 2023، وكان عدد المجلة الأخير (العدد 140) الذي أشرف عليه وهو على فراش المرض الشديد، يوشك على الانتهاء، فكانت الافتتاحية والغلاف "تحية إلى إلياس خوري". وبعد صدور العدد، بدأنا العمل مباشرة على العدد الحالي للمجلة، ورئيس تحريرها منذ نحو 13 عاماً غير موجود بيننا جسدياً، بينما روحه وأفكاره حاضرة تماماً.
وبما أن إنجاز عدد من دون وجود إلياس معنا هو أمر صعب، فقد اتخذنا قراراً أساسياً بأن نخصص جزءاً من هذا العدد ليكون ملفاً عنه، فمحبّوه كثر، ليس في فلسطين ولبنان فحسب، بل في أنحاء العالم كافة. وبالتالي، لم يكن سهلاً علينا استكتاب كل مَن أحبه، فاتصلنا بداية بمجموعة من الأصدقاء الذين لبّوا دعوتنا إلى الكتابة التكريمية عن راحلنا، إلى جانب نشر مقابلة سابقة لم تُنشر بالعربية، كان قد أجراها الكاتب يهودا شنهاف - شهرباني مع إلياس في سنة 2022، ودراسة أعدّتها زينة حلبي بعنوان: "الراثي الأخير: إلياس خوري وسياسة الحِداد".
ونظراً إلى أن عدد الأشخاص الذين استكتبناهم، أو أرسلوا، أو وعدوا بإرسال مادة تكريمية عن إلياس، كان كبيراً، قررنا في هيئة التحرير أن نخصص ملفاً ثانياً عنه في العدد المقبل (العدد 142) استكمالاً لملف هذا العدد.
والأمر المشترك بين جميع المواد التي وصلتنا وننشرها في هذا العدد، أو ستُنشر تباعاً، هو الحضور الكبير لفلسطين عند إلياس الذي لم يكن يرى فيها مجرد شعارات، وإنما حضور أخلاقي وإنساني مستند الى العدالة. كما أجمعت هذه المواد على هوية إلياس العربية بمفهومها القومي المستند الى ثقافة عميقة، وعلى قيمه الرفيعة، ونبله، ورفضه للاستبداد والقمع، وشجاعته في التصدي للظلم والطغيان، وعدم مساومته في القضايا الأخلاقية الكبرى ومجابهتها بغضّ النظر عن الأثمان.
رحل إلياس خوري تاركاً بيننا ومعنا نحن الذين عرفناه عن قرب، وكذلك عند قرائه وتلامذته ومتابعيه، إرثاً كبيراً من المبادىء والأفكار، وليس ملفنا هذا سوى نفحة وفاء مخلصة لذكراه الكريمة.