ظل جدي الجريح
التاريخ: 
14/12/2024

لم يكن جدي سعيد يتذكر من طفولته سوى القليل، وأكثره كان الخوف من أحذية الجنود البريطانيين التي كانت تدك تراب قريته بئر السبع. كان عمر جدي سبع سنوات فقط حين طردته الميليشيات الصهيونية بالقوة، فحملته والدته عبر مسارات وعرة، هاربة من أهوال المدفعية الثقيلة والأسلحة، معتقدة أن لجوءهم إلى غزة لن يدوم سوى بضعة أيام. لكن تلك الخطوات كانت بداية لحياة اللجوء التي امتدت لعقود. فقد أصبحت غزة، التي كانت ملاذهم، مكاناً لمعاناتهم أيضاً.

في غزة، ترعرع جدي على حكايات وطن آخر؛ صور من زمن قديم حُفرت في ذاكرته. تخيّل العودة ذات يوم، ونسج حكايات عن ذلك المكان لأولاده، وسرعان ما أدرك أن الأحلام لم تكن كافية. فمنذ صغره، التزم بدراسته، إذ كان يعتقد أن التعليم هو الضمانة الوحيدة لمستقبل كريم على الرغم من الاحتلال. تمكّن من إكمال دراسته الثانوية، متحمّلاً الصعوبات الهائلة والكفاح المالي. فقد قاده تصميمه إلى مصر، حيث حصل على شهادة في الأدب العربي، ثم عمل في ليبيا واستقر في نهاية المطاف في المملكة العربية السعودية، حيث عمل مدرساً متفانياً في عمله بشغف ونزاهة.

كتب درويش ذات مرة: "كم هو صعب أن تعيش بلا وطن، غريباً في كل مكان، حياً ولكنك لا تعيش". كان جدي يحن إلى غزة، المدينة التي استقبلته كلاجئ شاب، والتي كان ينتمي إليها كما كانت تنتمي إليه. لقد اختار العودة في عام 2002، على أمل أن يقضي ما تبقى من أيامه بسلام بين أهله، وأن ينعم بالحياة الهادئة التي لطالما اشتاق إليها.

لم يتحقق السلام البسيط الذي كان يتوق إليه جدي في نهاية رحلته، كأن الظلم كان قدره منذ طفولته. فقد شهد في غزة أربع حروب في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021. وكانت حربه الخامسة في عام 2023، حرباً لا مثيل لها؛ حرب لم يسبق لها مثيل في التاريخ الفلسطيني وربما في العالم الحديث - إبادة عرقية جماعية.

في ليالي الحرب التي كانت تعج بأصوات الطائرات الحربية، كان جدي هو الحضن الدافئ وسط هذه القسوة. فقد كان يجمعنا ويروي لنا حكايات فلسطين القديمة وبركاتها ومعالمها الشاهدة على تراثها الكنعاني والعربي قبل أن يسرقها الاحتلال ويصبغها بالصبغة العبرية. كان يصف شوارعها قبل النكبة، بعيون طفل يودّعها، كأن الذاكرة بعد كل هذه السنوات ما زالت متشبثة بألمه العميق.

كانت ملامحه قوية وعيناه تشعّان بالحكمة والصمود. كان جدي أكثر من مجرد اسم على قائمة الضحايا، فلطالما عرفته رمزاً للقوة، إذ كان يقف شامخاً في وجه كل تحدٍ مهما يكن عظيماً. لم أعتقد أبداً أن الحرب ستسلبه قوته.

كانت الحرب الطاحنة تضرب قوته وكبرياءه يوماً بعد يوم؛ بدأ بصره يخبو، ووجهه الذي كان يوماً مليئاً بالحياة أصبح شاحباً ومليئاً بتجاعيد تحكي قصصاً من الحزن. في بضعة أشهر، فقد ما يقرب من نصف وزنه، وذبل جسده من الجوع وقلة الرعاية، يعاني في صمت من دون وجود ما يخفف ألمه. لم يكن هناك دواء يخفف أوجاعه، ولا طعام يناسب جسده المتقدم في العمر. وكأن الحرب تآمرت لتدفعه ببطء نحو الموت.

تدهورت حالته النفسية مع كل انفجار، ما فاقم معاناته. أصيب بتجلط دموي، ثم آخر، إلى أن أصبح طريح الفراش. جدي الذي كان يوماً رياضياً قوياً، أصبح هيكلاً هشاً، بالكاد يغطي عظمه جلد. حولته الحرب من رجل قوي إلى ظل لنفسه.

يوماً بعد يوم، كنت أرى وجهه يتغير وينهك. رأيته آخر مرة في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، حين حملت عناقنا الأخير معاني الوداع التي يعجز عنها الكلام. انزلقت دمعة صامتة على وجهه المتجعد الذي شهد حروباً لا تعد وأحزاناً عظيمة. وكأن تلك الدمعة كانت وداعاً أخيراً، تخبرني أنه على وشك الرحيل. ما زلت أتذكر تلك الدمعة وأتساءل: كم كان شفاؤه أسهل لو لم تكن هناك حرب؟ كم كانت أيامنا أفضل لو لم يكن هناك احتلال إسرائيلي؟

غادر جدي غزة، تاركاً وراءه إرثاً من الذكريات وجرحاً لن يندمل. ذهب ليلتقي بمن سبقوه، إلى مكان أنقى وأكثر اتساعاً، يليق بنقاء روحه، بينما نبقى نحن هنا، نحصي خسائر لا تنتهي ونرثيها في صمت. رحلوا بأجسادهم، لكن قصصهم بقيت حية في داخلنا، تُنقل كحقيقة وذاكرة. وفي النهاية، ندرك أنهم لم يكونوا مجرد أرقام أو قصص من الماضي. إنهم روح هذه الأرض، ضحايا لظلم لا يُغتفر.

عن المؤلف: 

غادة أبو معيلق: هي طالبة أدب إنكليزي وترجمة في الجامعة الإسلامية في غزة.