
مدخل
وُلدت الدولة العبرية في لحظة تغير تراکمي في المساحات الجيوسياسية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لهذا، فإن بقاءها كدولة واستمراريتها كمشروع حيوي في الشرق الأوسط ظلّا يعتمدان على ما تفرزه المعادلات الجيوسياسية. وانطلاقاً من هذا الطرح، فإن إسرائيل بكل أشكالها، منذ أن كانت فكرة تاريخية وتطورت لتصبح مشروعاً سياسياً، وبعدها كياناً عسكرياً، وصولاً إلى إعلانها دولة نووية بطموحات واسعة، تبدو كأنها مخلوق سياسي وُلد من رحم الجيوبوليتيك.[1]
وفي الطرف الآخر من الشرق الأوسط، تَحْضُرُ إيران كدولة أسيرة للمنطق الجيوسياسي، مع فارق مهم يتمثل في التاريخ وحمولاته الحضارية، فضلاً عن تعدد النماذج السياسية التي حكمت هذه الدولة؛ فإيران، ومنذ بداية تشكلها التاريخي، حين كانت إمبراطورية، وحتى بعد دخولها الإسلام، أو في زمن الدولة الصفوية، وصولاً إلى الملكية القاجارية، وبعدها البهلوية الشاهنشاهية، وانتهاءً بما هي عليه الآن من جمهورية إسلامية، هي أسيرة المعطيات الجيوسياسية لتموضعها الجغرافي، بالإضافة إلى موقعها على خريطة الاقتصاد السياسي عالمياً، وتشابُك خطوط التجارة ونقل الطاقة، وفي تعريفها للأمن القومي الذاتي. ومن دون ضبط معادلة الجيوبوليتيك في حدها الأدنى، فلن تكون هناك إيران بالشكل الذي هي عليه، أو الأشكال التي عرفناها عبر تاريخها الطويل.[2]
هذا المدخل يهدف إلى تقديم ما يجري بين إيران وإسرائيل، وفي أحد أوجهه الأهم باعتباره لحظة صدام مباشر وعنيف يعيشها جيوبوليتيك الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى التي قادها الجناح العسكري لحركة "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تبع ذلك من حديث إسرائيلي متصاعد بشأن الذهاب إلى خلق شرق أوسط جديد.
جيوبوليتيك المواجهة.. من معارك الظل التراكمية إلى الحرب المفتوحة
في خط الصراع بين إيران وإسرائيل صعوداً وهبوطاً، تبرز مستويات عديدة يبدو أنها هي من تحكم وتتحكم في دينامية المواجهة في ساحاتها الأهم، وفي طليعة هذه المستويات، تحضُر خصوصية الأمن القومي الإيراني كحالة استثنائية في طريقة بناء غير تقليدية عبر مربعات أفقية وخطوط دفاع متتابعة أكثر منها كحالة ردعية واضحة بصورة مركزية. ويتبع ذلك نفوذ إيراني إقليمي متعدد الجبهات وعابر للجنسيات يؤدي دور الغطاء السميك الذي يحصّن مفهوم الأمن القومي لإيران بمعناه الجيوسياسي. هذا البناء الإيراني لمفهوم الأمن القومي يأتي مضاداً لنظيره الإسرائيلي؛ إذ إن أي تقدُم ونجاح لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي يعني تراجعاً لنفوذ إيران وقوتها الإقليمية، والعكس صحيح أيضاً.[3]
ومن خارج المشهد الأصيل للمواجهة الجيوسياسية عسكرياً وسياسياً، يضغط محددان آخران في توجيه آليات الصدام والتلاقي:
1- محدد البرنامج النووي الإيراني الذي يستمر في النضوج باعتباره بديلاً في حال رأت طهران أن قواعد أمنها القومي الراهن لم تعد فاعلة.
2- المحدد الأميركي الذي يلتزم أمن إسرائيل، وهو ما يعني منسوباً معيناً من مواجهة إيران في مساحات نفوذها، لكن من دون الذهاب إلى حرب مفتوحة.
هذا النوع من الأمن القومي المعقد والمقيد بقوة بعناصر الجغرافيا السياسية فرض شكلاً معيناً للمواجهة بين إيران وإسرائيل، تمثل في استراتيجيا معارك الظل المتعددة الجبهات. وكِلا الطرفين، الإيراني والإسرائيلي، كانا يعتمدان على نتائج تراكمية أفعال المواجهة، إذ بقي هذا المفهوم للصراع صامداً لأعوام طويلة، حتى في أكثر حالاته تطرفاً. ومع عملية طوفان الأقصى، بدا واضحاً أن تمسُّك إسرائيل بمبدأ بقاء المواجهة مع إيران في الظل لم يعد ناجعاً، إذ لم يعط التقييم الإسرائيلي نفي طهران معرفتها بعملية طوفان الأقصى، أو تأكيد واشنطن عدم وجود ما يدلل على مشاركة إيران بالعملية أي أهمية. وجاء التقييم مدفوعاً بأربعة محددات شكلت معاً صلب عقيدة التحرك الإسرائيلي في مساحة الرد، وكانت إيران حاضرة في مركز هذه العقيدة:[4]
1- لا يمكن فصل طهران، كلاعب إقليمي يقود محور المقاومة، عن حركة "حماس". لهذا، فإن جزءاً من الرد الإسرائيلي سيطال إيران الدولة في جغرافيتها، وليس إيران الثورة في مساحات نفوذها.
2- إخراج جزء حيوي واستراتيجي من المواجهة مع إيران من الظل إلى العلن.
3- ضرورة تفكيك مصطلح "وحدة الساحات".
4- الدفع في اتجاه فتح مواجهة معلنة شرط أن تنتهي بحرب مفتوحة بين إيران وأميركا، وهو ما يعني فرصة نادرة لتحييد الخطر الإيراني دفعة واحدة، وباليد الأميركية.
شرق أوسط جديد.. نتنياهو وإسقاط وصايا المقاومة
ترجمت إسرائيل تقييمها أعلاه عملياً عبر تبنّي استراتيجيا متدرجة بدأت بتهشيم ما يمكن أن نصفه اصطلاحاً بـ "جيوبوليتيك المقاومة" باعتباره الشق الأصيل من المظلة الإقليمية للأمن القومي الإيراني. وكان الهدف إعادة إيران إلى داخل حدودها الجغرافية كدولة، وسلْبها الجزء الفعال من قوتها الجيوسياسية، وفي سبيل تحقيق ذلك، فقد تحركت إسرائيل في أربعة مستويات:
1- ضرْب عنيف لدوائر النار التي بنتها إيران عبر سنوات طويلة في مساحات الظل، سواء في غزة أو بدرجة أقل في الضفة الغربية، وصولاً إلى حزب الله في لبنان، فضلاً عن استهداف متتابع لخطوط الإمداد العسكرية في سورية.
2- استهداف إيران نفسها بهدف تثبيت مبدأ أن المحور الذي تقوده طهران لن يكون مجدياً لها في الدفاع عن أمنها القومي.
3- إسقاط قواعد الاشتباك التي حكمت مرحلة صراع الظل كافة.
4- اعتماد عقيدة الاغتيالات في حدها الأعلى عبر تصفية قيادات الصف الأول، السياسية والعسكرية، في محور المقاومة.[5]
وفي جانب من المراجعة التي قام بها بعض النخب الإيرانية، حضرت معطيات فحواها أن رؤية محور المقاومة وحساباته تجاه قدرة إسرائيل الجمعية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، لم تكن دقيقة بما يكفي، وقد برز ذلك في التساؤل بشأن صوابية ما يمكن تسميته بـ "وصايا المقاومة" للمعركة الفاصلة، إذ تبيّن أن إسرائيل الدولة والجيش والمجتمع والاقتصاد والعلاقات الإقليمية والدولية ليست هشة بالمقدار الذي يسمح بانهيارها من الداخل. وفي النقاط أدناه محاولة لصوغ مختصر لأهم هذه الوصايا:
-
أسر المقاومة عشرات المدنيين والعسكريين.
-
حرب طويلة الأمد.
-
مواجهة متعددة الجبهات.
-
اقتصاد إسرائيل هش وقابل للانهيار.
-
المجتمع الإسرائيلي ليس مجتمع حرب.
-
عائلات الأسرى كنواة ضغط.
-
تماسك الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
-
القانون الدولي وسردية إسرائيل للصراع.
-
تشظي الحالة السياسية داخل إسرائيل.
-
المسافة بين إسرائيل وأميركا بشأن مستقبل الشرق الأوسط.
وبعد أكثر من عام على عملية طوفان الأقصى، تبدو إسرائيل مصرة على متابعة إسقاط هذه الوصايا، على الرغم من الخسائر كلها التي تعرضت لها عسكرياً وأمنياً واستراتيجياً واقتصادياً واجتماعياً. كما تستمر إسرائيل في العمل على خلق شرق أوسط جديد، وهو ما يضغط بقوة على العصب الاستراتيجي الإيراني لتبنّي نظرية مواجهة جديدة تكون خارج إطار الحذر التاريخي، أو ما يقدَم اصطلاحاً باسم "الصبر الاستراتيجي".[6]
طهران خارج دائرة الحذر الاستراتيجي.. الضرب باليد الإيرانية
لفهم طبيعة العقل الاستراتيجي الإيراني، وكيفية تصرفه في أوضاع خطِرة ومعقدة في المساحات الجيوسياسية، نذكر مبدأين أساسيَين:
-
المبدأ الأول هو مركزية فكرة البقاء، فالنظام في إيران ليس نظاماً انتحارياً، كما أنه يفضل براغماتية البقاء بمنسوب مقبول من المبادئ الثورية والاستمرار في اتجاه ما يريد في مقابل المغامرة الثورية الحماسية لصناعة نموذج البطل الملتزم بحرفية الشعار المعلَن.
-
المبدأ الثاني يتلخص بالعمل دائماً على تدجين الموقع الجيوسياسي لمصلحة الأمن القومي بما يحفظ مفهوم الهوية الوطنية للأمة الإيرانية في إطار الدولة الوطنية – القومية.
وتحت هذا السقف، جاء جزء حيوي من التقييم الإيراني لمرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى حاملاً معه ثلاثة محددات ضابطة لأي تحرك قادم:
1- لأول مرة منذ أربعة عقود تذهب إسرائيل إلى تبنّي مفهوم عملاني لرفع مستوى التهديد لإيران يصل إلى حد اعتباره تهديداً وجودياً.
2- فرض التهديد الوجودي على إيران ولّد حالة اختلال خطِر في معادلة الصراع الجيوسياسي، وهو ما فرض حاجة إلى صوغ معادلة مواجهة جديدة تعيد ترتيب عناصر القوة الجيوسياسية.
3- أهمية إعادة ضبط الخط الأحمر الإيراني والتفريق بين ما هو مقبول وما هو محرم. وبهذا المعنى، فإن مفاضلة بين الاستسلام والحرب المفتوحة ستنتهي بحتمية الذهاب إلى الحرب، وفي مقابل ذلك، لا بد من توظيف البراغماتية في التعامل مع المقاربات الخاصة بمصطلحات من قبيل التراجع والانعطاف.
انتهى التقييم أعلاه بأن مواجهة إسرائيل باليد الإيرانية بصورة معلنة ورسمية انطلاقاً من الأراضي الإيرانية باتت ضرورة استراتيجية.[7] وقيام طهران بذلك عملياً يحتاج إلى تحصين استراتيجي مسبق لمفهوم الأمن القومي، وهذا ما دفع الإيرانيين، لأول مرة وبصورة رسمية، إلى ربط أمنهم القومي بالمعنى الوجودي وعقيدتهم النووية.[8] وفي التطبيق العملي لمفهوم الردع الجديد، برزت عقيدة "الوعد الصادق" العسكرية كرادع متدرج:
عملية الوعد الصادق الأولى/استعراض القوة: جاءت في 13 نيسان/ أبريل 2024 كرد مباشر على قصف إسرائيل للمبنى الملحق بالقنصلية الإيرانية في دمشق في 1 نيسان/ أبرايل 2024، والذي أدى إلى مقتل عدد من قياديي الحرس الثوري الإيراني، وهذا الرد جاء تحت سقف استراتيجي عريض، وهو استعراض القوة،[9] وهو وفقاً للمحددات أدناه:
-
ضخم في الشكل.
-
محدود في الخسائر.
-
ملغّم برسالة فحواها أن طهران جادة.
-
نظيف بلا دماء.
عملية الوعد الصادق الثانية/استخدام القوة: ردت إسرائيل على عملية الوعد الصادق الأولى رداً متدرجاً كان وقعه قوياً بالنسبة إلى النفوذ الإيراني ومراكز قوته الجيوسياسية في الشرق الأوسط. وفي 19 نيسان/ أبريل 2024، قصفت إسرائيل منظومة الدفاع الجوي في القاعدة الثامنة التابعة للجيش الإيراني باعتبارها ذات طابع دفاعي قرب منشأة نطنز النووية في أصفهان، باعثة برسالة فحواها أن في إمكان إسرائيل الوصول إلى المنشأة النووية نفسها إذا أرادت. وبعد أكثر من شهرين، وفي 31 تموز/ يوليو من السنة نفسها، اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية خلال تواجده في طهران، ولم يمض شهران على اغتيال هنية حتى أقدمت إسرائيل على اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله في بيروت في 27 أيلول/ سبتمبر 2024. وقد قرأت طهران نهج إسرائيل وفق محددَين أساسيَين:
-
نهج إسرائيلي لا لبس فيه، فحواه أنه لا توجد خطوط حمراء بعد الآن، وأن إسرائيل عازمة على ترسيم حدود الشرق الأوسط الجديد بالدم، وتحديداً بدم عناصر القوة الخاصة بالنفوذ الجيوسياسي لإيران.
-
إسرائيل تفرض على طهران منطقاً؛ إمّا المواجهة بلا سقف وإمكان الذهاب إلى حرب مفتوحة، وإمّا الاستسلام المعلن.[10]
-
وقد التزمت طهران نهجها الاستراتيجي الذي رسمته لنفسها، وقررت الذهاب إلى المرحلة الثانية من عمليات الوعد الصادق في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، والتي جاءت بالمواصفات التالية:
-
استخدام القوة عملياً بدلاً من استعراض القوة شكلياً.
-
ضرورة تحقيق مكسب عسكري مباشر، وليس إيصال رسائل سياسية، وقد برز ذلك في مروحة الأهداف التي تم استهدافها، وتنوعت بين مقر الموساد، وموقع التخزين الرئيسي لمقاتلات F35، ومدارج المطارات في قاعدة نوفاتيم، وصولاً إلى قاعدة حتسريم الجوية وقاعدة تل نوف العسكرية، ورادارات التوجيه، ومراكز تجمُع الدبابات.
-
استخدام الجزء الحيوي من المنظومة الصاروخية المتمثل في صواريخ فرط صوتية من طراز فتاح 1 وفتاح 2، والتي احتاجت إلى أقل من 13 دقيقة للوصول إلى أهدافها في عمق الداخل الإسرائيلي.
عملية الوعد الصادق الثالثة/إمكان تجاوُز المحظور: اعتبرت إسرائيل أن إيران تجاوزت الخطوط الحمراء خلال عملية الوعد الصادق الثانية، وأن الرد الإسرائيلي القادم يمكن أن يطال مراكز الطاقة والموانئ البحرية والمطارات ومحطات الغاز والنفط، فضلاً عن المنشآت النووية واغتيالات في قيادات الصف الأول للدولة. لكن عملياً، لم تفعل إسرائيل ذلك، إنما ذهبت في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 إلى تنفيذ ضربة عسكرية مختلفة؛ إذ استهدفت جزءاً مهماً من العقيدة الاستراتيجية الإيرانية، عبر قصْف مواقع عسكرية متخصصة بتطوير البرنامج الصاروخي الباليستي، فضلاً عن استهدف منشأة بارجين العسكرية شرقي طهران، والتي تُعتبر منشأة حيوية في حال قررت طهران إدخال تغيرات معينة في عقديتها النووية.
وقابلت طهران ذلك بقرار الذهاب إلى النسخة الثالثة من عملية الوعد الصادق، وبحسب التصريحات الرسمية، فإن هذا الرد الإيراني يراد له أن يكون غير متوقع في شكله ومضمونه ومستوى تدميره والأهداف التي يمكن أن يطاله.[11] وتبدو عملية الوعد الصادق الثالثة حجر الزاوية في انتقال طهران إلى مرحلة جديدة من الردع والتموضع في أي شرق أوسط جديد. وفي معزل عن شكلها ومضمونها وتوقيتها، فإن النسخة الثالثة مع الوعد الصادق تبدو مأطرة بالتالي:[12]
-
المعطى السياسي بعد عودة دونالد ترامب رئيساً في أميركا.
-
أهمية الهدف ومركزية الخسائر بدلاً من تعدد الأهداف ومساحة الاستهداف.
-
استبعاد مبدأ الضرب النظيف بلا دماء.
حزب الله اللبناني.. مركزية البقاء وحدود التأثير
ليس حزب الله اللبناني كغيره بالنسبة إلى إيران في نموذجها الراهن المتمثل في الجمهورية الإسلامية، ولا كغيره في النشأة أو البناء العقائدي أو حدود الدور الأكثر أهمية الذي وضعه بمثابة درة تاج النفوذ الإيراني في المنطقة. وبهذا المعنى، يتموضع حزب الله في الشق العملي من العقيدة الإيرانية عبر تأديته ثلاثة أدوار معاً:
1- مواجهة إسرائيل من المسافة صفر وفق عقيدة الثورة الإسلامية في إيران.[13]
2- ضبط عدادات المعادلة الداخلية اللبنانية بما يمنع انتصار مشاريع الآخرين الخاصة بتموضع لبنان في الشرق الأوسط.[14]
3- إقليمية حزب الله عسكرياً وتنظيمياً عبر تأدية أدوار حيوية، انطلاقاً من سورية والعراق واليمن ومناطق أُخرى.[15]
ولا تنظر طهران إلى هذه الأدوار الثلاثة بعين واحدة ومنطق واحد، فهي تعطي أهمية قصوى إلى التفريق بينها على قاعدة أن ما يمكن قبوله في مساحة أحد الأدوار يمكن أن يكون خطاً أحمر في مساحة دور آخر. وبهذا المنطق، يبدو من الوجاهة التساؤل بشأن كيفية التعاطي الإيراني وحدوده ومحدداته مع الدور المستقبلي لحزب الله في مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر وعملية طوفان الأقصى.
وفي الإجابة عن هذا السؤال، يتمركز قلق طهران في اتجاه الدور الأول للحرب؛ أي مواجهة إسرائيل عسكرياً، باعتباره الرافعة والضامن للقيام بالدورين الآخرَين بصورة فاعلة. وفي هذه المساحة، يجد صانع القرار الاستراتيجي في طهران نفسه مضطراً إلى التعامل مع مستقبل هذا الدور انطلاقاً من محددَين اثنين:
-
القرار الدولي رقم 1701 كمدخل إجباري لأي هدنة.
-
مستقبل سلاح حزب الله في سياقات القرار 1701.
وفي التفريق بين ما هو استراتيجي والآخر التكتيكي، باركت طهران وقف إطلاق النار المعلن وفق القرار الدولي رقم 1701 بمعزل عن تناقضه مع جزء من تاريخية شعارات حزب الله، أو عدم انسجامه مع المفاهيم الإيرانية للمواجهة مع إسرائيل، ومن غير الواضح كيف ستتعاطى طهران مع مفاعيل القبول بهذا القرار وأهم مفرزاته:
-
انتهاء معركة الإسناد لغزة و"حماس".
-
تعطيل مبدأ وحدة الساحات.
-
نزع سلاح حزب الله في مرحلة قادمة.
-
استمرار حرب إسرائيل في قطاع غزة.
-
طوق محكم يمنع إيران من إعادة تسليح حزب الله عبر سورية.
وفي الشق الحيوي، يبدو أنه من الصعوبة أن تقبل طهران بطرح كهذا كونه سيُعتبر بداية لتراجع متدرج قد يفضي إلى تنازُل استراتيجي في توقيت مميت يسمح بولادة نسخة إسرائيلية من الشرق الأوسط.
إيران وإسرائيل.. من الجيوبوليتيك إلى ذاتية الردع
إن أحد الأسئلة الملحة في المراجعات الإيرانية لمرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر جاء بشأن جدوى الآليات الراهنة في المواجهة الجيوسياسية مع إسرائيل، وقد حضر هذا التساؤل عبر أربعة أشكال تطالب بإعادة النظر في عقيدة البلد الدفاعية:
1- طرح ينادي بضرورة إدخال تغييرات جوهرية في العقيدة الدفاعية، وخصوصاً بعد أن تحول جزء من المواجهة مع إسرائيل من حرب بالوكالة إلى حرب معلنة ومباشرة.[16]
2- طرح آخر يطالب بتقديم مبدأ ذاتية الردع كضرورة لتعبئة الفراغات في مساحة الردع المتعدد المستويات الذي يعتمد على أسلوب الحرب غير المتكافئة.[17]
3- تيار عريض يطالب بتغيير العقيدة النووية للبلد عبر الذهاب في اتجاه مبدأ الردع النووي.[18]
4- طرح مركّب يطالب بدمج كل النقاط أعلاه بهدف بناء استراتيجيا مواجهة تتناسب مع سياقات المرحلة الجديدة. وبالنسبة إلى هذا الطرح، فإن هناك مؤشرات عملية ترجحه، حتى ولو أنها جاءت بمثابة إرهاصات أولية غير مكتملة، منها:
- تغيير جوهري في تموضع إسرائيل في العقيدة العسكرية الإيرانية، وانتقالها من كونها جزءاً من عقيدة طهران الأوسع الخاصة في مواجهة أميركا وحضورها العسكري في الشرق الأوسط، إلى تدوين استراتيجيا مواجهة خاصة بإسرائيل حصراً.
- الفصل في سيناريوهات التعامل بين أميركا وإسرائيل.
- إعطاء الأولوية لزيادة القدرة الذاتية في ردع إسرائيل والاستثمار في المجالات التي تدعم ذلك وتحصنه. وقد بدا هذا واضحاً في زيادة حجم ميزانية الدفاع الأخيرة،[19] فضلاً عن تركيزها على ما يُعرف بأرضيات "التكنولوجيا الأم" في البُعد العسكري، وأهمها:
-
دعم مشروع خاص بالأقمار الاصطناعية وتطويره كحاجة استراتيجية خلال 20 عاماً قادمة.
-
زيادة دقة المنظومة الصاروخية بهدف تصفير هامش الخطأ.
-
زيادة مديات المنظومة الصاروخية.
-
زيادة قدرة الصواريخ على حمل رؤوس غير تقليدية من جهة الوزن والقدرة التدميرية.
خاتمة
لقد أفرزت عملية طوفان الأقصى معطيات مستجدة تركت بصمتها عميقاً في مساحات المواجهة بين إيران وإسرائيل. وبالنسبة إلى طهران، فإن إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن إيران باتت أكثر جرأة ومغامرة حين قررت تجاوُز المحظور باستهدافها العمق الإسرائيلي بصورة معلنة ورسمية. عملياً، تدرك النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة في طهران أن ولادة شرق أوسط جديد بدأت، وأن استمراريتها حتمية، ولهذا، فهي تركز على إبطال مفعول تعريف إسرائيل لمبدأ شرق أوسط جديد. وفي التقييم الاستراتيجي للأحداث في مرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى، فإن الشرق الأوسط شهد - وما زال يشهد - مواجهات عنيفة في حيز الصراع الجيوسياسي بين إيران وإسرائيل من دون أن ينزلق الطرفان إلى حرب مفتوحة، حتى لو أنهما وقفا على هاويتها في بعض الأحيان. والثابت الأكثر وضوحاً في سياقات ما يجري هو أن إيران بعد طوفان الأقصى باتت إيران أُخرى في هيئة نفوذها وتعريفها لأمنها القومي، وكذلك إسرائيل باتت إسرائيل أُخرى وهي تخوض حروبها لاستعادة هيبتها ودرعها الإقليمي.
وهنا يَبْرُزُ المحدد الأميركي القادم بعد عودة دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة باعتباره أهم وأعقد وأخطر المحددات التي ستعطي الصراع الجيوسياسي بين إيران وإسرائيل هويته الجديدة القادمة شرق أوسطياً، إمّا عبر الدفع في اتجاه معركة فاصلة وكبرى، ولو بالتدريج، وإمّا عبر معطيات السياسة والبراغماتية وجمْع الملفات على طاولات السياسة والتفاوض.
[1] حسينى, سيد حامد, (1401), اسرائیل و معماری نوین ژئوپلیتیکی (اسرائيل والبناء الجيوسياسي المعاصر) (2022)، مرکز پژوهش های علمی و مطالعاتی استراتژیک خاورمیانه, تاريخ انتشار در سایت مرکز: 28 خردماه 1401 (يونيو 2022).
[2] سمنانى, عليرضا عباسى (1397) (2018)، موقعیت ژئوپلیتیکی ایران در مناسبات قدرت منطقه وجهان (الموقع الجيوسياسي لإيران في الأحداث الإقليمية والعالمية), اطلاعات جغرافیایی (سپـهر)، فصلنامه ای, دوره 22 ، شماره 86, ص 98, ص 99.
[3] جمشیدی, محسن یحیی بنی هاشمی مریم اصغری, (1402) (2023)، سیاسی تهدیدات نفوذ خاورمیانه ای رژیم صهیونیستی و تاثیر ان بر امنیت ملی – منطقه ای جمهوری اسلامی ایران (نفوذ الكيان الصهيوني وتداعيات تهديداته الساسية على الأمن القومي والاقليمي لايران)، پژوهشگاه علوم انسانی و مطالعات فرهنگی, دوره 1 بهار و تابستان 1402 (2023) شماره 1, ص 24.
[4] جعفری, امیرحسین, (1403) (2024)، هفتم اکتبر، جنگ سایه میان ایران و اسرائیل را پایان داده اما آیا ایران برای جنگ مستقیم آماده است؟ (انتهاء حرب الظل بين ايران واسرائيل بفعل 7 اكتوبر لكن هل ايران مستعدة لحرب مباشرة ؟)، سايت خبرى وتحليلى رويداد 24, تاریخ:08 آبانماه 1403 (ابريل 2024).
[5] رهبر, عباسعلی, (1403) (2024), بازخوانی مواجهه محور مقاومت با اسرائیل (مراجعات للمواجهة بين محور المقاومة واسرائيل)،موسسه آینده پژوهی جهان اسلام, تاريخ انتشار 04 مهرماه 1403 (سبتمبر 2024).
[6] سیاست «صبر استراتژیک» خط قرمزهای ایران را شامل نمیشود (سياسة الصبر الاستراتيجي لا تضمن خطوط إيران الحمراء)، سايت خبرگزاری جمهوری اسلامی, تاريخ انتشار 06 فروردین 1403 (مارس 2024).
[7] ایران چگونه میتواند مانع تکرار عبور اسرائیل از خطوط قرمزش شود؟ (كيف يمكن لايران منع اسرائيل من تجاوز خطوطها الخمراء مرك أخرى)،سايت خبرگزاری دانشجویان ایران, ايسنا, تحليل خبرى, تاريخ انتشار 14 مهرماه 1403 (اكتوبر 2024).
[8] المرجع السابق رقم 7.
[9] جابری انصاری: عملیات وعده صادق یک نمایش قدرت بزرگ بود (جابري أنصاري: عملية الوعد الصادق 1 استعراض كبير للقوة)، سايت خبرگزاری جمهوری اسلامی, گفتگوی تفصیلی, , تاريخ انتشار 06 اردیبهشت 1403 (ابريل 2024).
[10] وعده صادق 2 " عبور از نمایش قدرت به سوی اعمال قدرت (الوعد الصادق 2 والعبور من استعراض القوة إلى استخدام القوة)،سايت قوه قضائيه, دادگستری استان یزد, تحليل خبرى, تاريخ انتشار 13 مهرماه 1403 (اكتوبر 2024).
[11] سردار فضلی: وعده صادق ۳ پاسخ دندانشکن به دشمن خواهد بود (الجنرال فضلي : الوعد الصادق 3 سيكون حاسما ومدمرا)، خبرگزاری صدا و سیما, تاريخ انتشار 17 آبانماه 1403 (نوفمبر 2024).
[12] گزینه های ایران برای عملیات وعده صادق ۳ (خيارات ايران المطروحة خلال الوعد الصادق 3)،سايت مسير اقتصاد, تحليل خبرى, تاريخ انتشار 09 آبانماه 1403 (اكتوبر 2024).
[13] موسوی, سید صالح, مرتضی علویان, (1401), پرســى وجوه افتراق واشتراك انديشه سياسى جنبش حزب الله لبنان با انديشه سياسى انقلاب اسلامى ايران (دراسة المشتركات والاختلافات بين الفكر السياسي لحزب الله في لبنان والفكر السياسي للثورة الاسلامية في ايران)، فصلنــامه اندیشهسیاسی در اسلام, شماره 31, بهار 1401, ص 114.
[14] المرجع السابق رقم 13 ص 117.
[15] لمرجع السابق رقم 13 ص 120.
[16] رئیس هیأت عامل صندوق توسعه ملی : لزوم تغییر دکترین دفاعی برای ایجاد بازدارندگی کامل (ضرورة تغيير العقيدة الدفاعية للبلاد بهدف صناعة الردع الكامل)، سايت روابط عمومی صندوق توسعه ملی, تاريخ انتشار 28 مهرماه 1403 (اكتوبر 2024).
[17] تغییر در دکترین دفاعی ایران با فرمان رهبر انقلاب؛ افزایش برد موشکها کلید میخورد؟ (تغيير العقيدة الدفاعية للبلاد بعد أوامر المرشد.. زيادة مدى الصواريخ)، سايت خبرى وتحليل هاى سياسى تابناك, تحليل راهبردى, تاريح انتشار تاريخ انتشار 13 ابانماه 1403 (نوفمبر 2024).
[18] المرجع السابق رقم 17.
[19] سخنگوی دولت: افزایش ۲۰۰ درصدی «بودجه نظامی» کشور (المتحدثة باسم الحكومة: زيادةحجم ميزانية الدفاع بنسبة 200 في المئة)، سايت حبرى انتحاب, تاريخ انتشار 08 ابانماه 1403 (نوفمبر 2024).