محمد صالح خليل: يرسم من أرض المعركة
التاريخ: 
05/12/2024
المؤلف: 

على الرغم من الهوية الخاصة التي حاول محمد صالح خليل رسْمها طوال مسيرته الفنية، فإنه لم ولن يستطيع عزْل فنه عما يجري في محيطه، لذا، فقد عكس في فترة الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة في أعماله الفنية صوت الموت والدمار وصورتهما بأسلوبه عن طريق معرضه "بث حي" الذي أقيم في المتحف الفلسطيني، إذ تناولت الأعمال ملامح الجسد والمكان وكأنها تروي أحداث الإبادة، وقد حمل العمل الواحد أكثر من قصة لإظهار ما حدث في غزة، والذي بحسب قوله في افتتاحية المعرض: "ما حدث في غزة ما من خيال يتجاوزه. كل أنواع الموت صارت في غزة." ومن الواضح أن خليل كان، ولا يزال له نهجه الخاص في ظل كل ما يحدث للفلسطينيين، والمنعكس في أعماله الفنية.

وفيما يلي مقابلة مع الفنان الفلسطيني محمد صالح خليل الذي وُلد في عمّان سنة 1960، ويعيش حالياً في رام الله. نشأ خليل في أُسرة متوسطة الحال، وكان والده فدائياً يغيب أشهراً، وكان لهذا أثر في نشأة خليل الفنية الثورية بحسب ما يقول، وقد كانت بدايته في الثورة على النظام المدرسي، ثم على سلطة الوالد الذي منعه من الرسم على الرغم من كونه ثورياً متنوراً، لكن فكرة العزوف عن الدراسة والتوجه إلى الرسم كانت تؤرق الأب دائماً، وتثير كثيراً من المشاجرات.

 

أقبية الموت ٣، أكريليك على قماش، ٢٠٢١

 

وقد دفع إصرار خليل على الرسم والده إلى تقبّل رغباته في أن يصبح فناناً، وأصبح يقدمه إلى أصدقائه. يقول خليل: "في إحدى المرات، اصطحبني أحد أصدقاء والدي إلى مكتب الراحل أبو عمار في بيروت مع بعض أعمالي الفنية، وكانت آنذاك بالألوان الزيتية البدائية، وعندما رأى أبو عمار لوحاتي، عبّر عن سعادته بها، وسألني عن شهادتي الثانوية العامة، فأخبرته بأنني لم أحصل عليها بعد، فقال: ’اذهب واحصل على الشهادة، وبعدها يمكنك الاختيار بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا للدراسة‘، فأجبت مباشرة بألمانيا. وعلى الرغم من عدم ولعي بالدراسة، فإنني حصلت على شهادة الثانوية وغادرت للدراسة في دريسدن الألمانية."

وحصل خليل هناك على شهادة الماجستير في الفنون التشكيلية، وتخرج سنة 1988، وتوجه بعد ذلك إلى مخيم اليرموك، حيث تعرف إلى مصطفى الحلاج، وعندما شاهد الحلاج أعماله في الطباعة على النحاس، والتي كانت نتاج مشروع تخرّجه، أُعجب بها، وافتتح أول معرض لخليل في دمشق سنة 1989، في قاعة ناجي العلي التي كان يترأسها آنذاك. وبعد ذلك، انتقل خليل إلى نيقوسيا، وتوالت معارضه الفنية في قاعات العرض القبرصية، والتي كانت تشهد حضوراً فلسطينياً كبيراً، إذ كانت نيقوسيا معقل الإعلام الفلسطيني في ذلك الوقت، وبقي خليل لخمسة أعوام هناك. ويشير إلى أن الحضور وقتذاك كانت له توقعاته المتعددة في الأعمال، كالرموز الفلسطينية التقليدية المتعارف عليها، والتي بحسب ما يقول: "من الصعب أن يجدوها في أعمالي، لأن لي طرقاً وأساليب عديدة في العمل. صحيح أن القضية الفلسطينية همّ أساسي بالنسبة إليّ، لكنها ليست همّي الوحيد، ولطالما مثّلتها، ولا تزال في أسلوبي وفكرتي وذاتي أنا، وليس ما يتوقع مني الجمهور أو سوق الفن."

الأعمال الفنية والجمالية

وأنا في طريقي إلى مرسمه، تبادرت إلى ذهني صور تقليدية كثيرة للمكان والأعمال الفنية، لكن جميعها سرعان ما تفككت لحظة وصولي إلى المرسم الذي ظهر باتساعه وجدرانه العالية مكتظاً بفوضوية عفوية، ليبدو المرسم كلوحة فنية لأرض معركة حقيقية يخوض فيها الفنان كل حروبه ليشهد المرسم على انتصاراته وخيباته ومشاعره بكل مراحلها والتي يتوجها في كل مرة بلحظة الميلاد لكل عمل جديد يقوم به. ويقول خليل: "إن ميلاد الأعمال لم يكن سهلا،ً لأنني أحمل إحساساً عالياً بالمسؤولية تجاه هذه الأعمال منذ بداية تشكّل الفكرة، ولا أستطيع النوم، وأمضي ليالي أقلّب مشاهد العمل، كما أشعر بالغضب والتوتر في أثناء الرسم، ولا أجلس، وأكون سريعاً إذ أرسم من دقيقتين إلى ثلاث دقائق، وأجلس قليلاً، ثم أعود إلى الرسم، وأشعر وكأنني داخل معركة، أمّا عندما لا أرسم، فإنني أكون هادئاً وخاملاً."

 

أغيثوا غزة، أكريليك ومواد أخرى على قماش، ٢٠١٥

 

وعند سؤاله عن الجمالية في الأعمال الفنية، وما إذا كانت هناك حاجة إلى أن تكون أعماله الفنية جميلة بالمعنى التقليدي للجمال لكي تحظى بنسبة بيع عالية، قال: "لا، ليس بالضرورة ذلك، فالنهج الجمالي يتنافى تماماً من نهج كثير من الفنانين، وهو ما يصنع وعياً تصويرياً جديداً عبر نماذج غير معتادة عما هو متعارَف عليه. وعن طريق ملاحظاتي لأعمال خليل، يبدو أنه سواء بإدراك منه أو بعدمه، يبدو أنه ينطلق من قاعدة بريخت التي تقول: ’لا تبدأ من الأشياء القديمة المقبولة، إنما من تلك الجديدة غير المستحبة‘."[1]  ويؤكد ذلك بقوله إن أعماله الفنية لا تباع في المجمل كغيرها، لأنها غير مقبولة نظراً إلى اختلافها وعدم عكسها الرموز المتعارَف عليها لدى الجمهور. وبالنسبة إليه، فإن الفن لم يعد وسيطاً مهذباً ومطيعاً لنقل الجمال أو الرموز التقليدية التي يطلبها سوق الفن والمؤسسات الفنية التي تخضع للبيروقراطية في طريقة عملها، لأنه ليس بالضرورة أن يكون الجمهور مغيباً في تأملاته، فربما يتفاعل ويفكر ويحتاج إلى تنوع، وهذه التفاصيل المتوقعة المعتادة التي نجدها في الأعمال الفلسطينية ليست معياراً لتفوّق فنان على آخر، وكأنما خليل في طرحه يستجيب "في حقيقة الأمر لمبدأ الخلخلة، وهو مبدأ ضروري من أجل البدء بالتغيير، وهنا بالضبط يتداخل الفن باللافن."[2]  كما أن النهج الذي نلاحظه في أعماله متنوعة؛ المجرد، والعري، والطباعة على النحاس، والرسم بالرصاص، والألوان الزيتية، وغيرها، وربما تكون بالنسبة إليه وإلى غيره من الفنانين الطريق إلى تلك اللحظة الحاسمة التي يتعرض فيها "مفهوم الجمال هو الآخر للنقض والهدم والتراجع والاستبعاد والتهميش، ثم أخيراً الاختفاء نهائياً"،[3]  والمحك لهذا الاختفاء أو الاستمرارية هو الزمن والشاهد عليه، وهو الجمهور من جيل إلى آخر.

الإطار المؤسسي العام والخاص وتداخلاته:

لا يستطيع الفنان أن يفصل فنه وحضوره عن محيطه المؤسسي، سواء الخاص أو العام، وفي هذا السياق، كان لدي العديد من التساؤلات للفنان محمد خليل، كـ "هل تم توجيهك من جانب المؤسسة البيروقراطية إلى إنتاج أعمال محددة، أم إنك تنتج ما تريد؟"، و"هل حظيت برعاية مؤسسات السلطة أو المؤسسات التي تمثل الفن؟"، و"من أين تأخذ شرعيتك؟"

وفي توضيحه لهذه العلاقة بالتسلسل، يقول خليل إنه أسس منتدى الفنانين الصغار في شارع المكتبة العامة في رام الله، وهناك بدأ وربى أجيالاً من الفنانين لمدة 14 عاماً، كما تولى سابقاً منصب مدير عام دائرة الفنون في وزارة الثقافة والفنون. ويقول: "إن وزارة الثقافة كانت وما زالت تشتري مني بعض الأعمال، وتوجد أعمال معروضة لي في الوزارة، وأيضاً في مجلس الوزراء." أمّا حالياً، فهو محاضر في جامعة بيرزيت في كلّية الفنون. ويضيف أنه في كثير من الأحيان، يكون لدى المؤسسات، سواء الخاصة أو العامة، معارض بعناوين محددة، وعند توجيه الدعوة، يتم انتقاء مجموعة من الفنانين بشرط أن تتلائم أعمالهم مع ثيمة المعرض المعلَن، وفي حال وافق، يستطيع الانضمام إلى المعرض، وهذا ما يؤكده خليل، فيقول على سبيل المثال لا الحصر إن مؤسسة القطان كان لديها معرض بالتزامن مع إطلاق كتاب عن حياة إسماعيل شموط، ودارت ثيمة المعرض بشأن "كيف يكون الفنان داخل مرسمه؟"، وتم اختياره للمشاركة بشرط التزام الثيمة المطروحة، فأخبرهم أن الموضوع إن لم يكن ضمن اهتماماته ولم يحرك خيالاً معيناً في نفسه، فلن يشارك في المعرض. لكن طرْحهم حرك في خياله مشاهد مرتبطة بذاته في المرسم، وفعلاً، شارك في مجموعة من الأعمال المجردة التي تمثلنه في أثناء وجوده في المرسم.

 

الألم، اكريليك ومواد اخرى على قماش، ٢٠٢٠

 

أمّا بشأن ما يتعلق بالسوق وبيع الأعمال الفنية، يقول خليل إن كثيراً من الفنانين التشكيليين لا مهنة لهم، لذا، فإن الحاجة تدفعهم إلى فن السوق مجبَرين لا مخيّرين. لذا، نجد الفنان مضطراً إلى التماشي مع ثيمة المؤسسات و الجاليريات، ويقوم بوضع إضافات وزركشات لبيع اللوحة. أمّا الفنان الذي لديه وظيفة، فإن لديه إمكانات مادية تغطي مستلزمات حياته، فيصبح غير مضطر إلى الركض وراء حاجة السوق، و"أنا مكتفٍ مادياً، لذا، لست مضطر إلى اتباع سوق الفن. لكن ومع هذا، فإن بيع الأعمال الفنية أو عرضها ضرورة أيضاً، لأن بيعها بالنسبة إلى الفنان ليس فقط للدخل المادي، بل أيضاً يعطي الفنان شعوراً بالراحة لقبول فنه من المحيط، وهذا يرضي غرور الفنان، وإذا بقي العمل الفني في الدرج، فإنه يصاب بالتعاسة، ولا نستطيع إنكار ذلك."

ميلاد الأعمال الفنية

ميلاد الأعمال الفنية لدى خليل مرتبط بشرارة الإلهام التي إذا اشتعلت في الرأس عن موضوع محدد، يبدأ العمل الفني، أمّا إذا لم يكن هناك أي تماس أو إحساس عالٍ بما يفكر فيه، فإنه يهمل الفكره. ويقول خليل: "إن كل عمل أنتجه هو عبارة عن عدة أعمال مركبة في عمل واحد، وإذا لم يصل العمل إلى درجة النضج التي أريدها، أُكسّر العمل بالألوان، وأركّب عملاً آخر فوقه، وليست لدي مشكلة في ذلك. تولد الفكرة في مكان، وتنتهي في مكان آخر تماماً في بعض الأحيان." ويضيف: "أنا أخرج عن طوري عندما يحدث شيء في الحياة، فعلى سبيل المثال؛ تأثرت بما حدث كثيراً في ليبيا، لكن لم تولد شرارة لعمل فني. وفي مشهد استشهاد شيرين أبو عاقلة، آخذ وقتاً لميلاد العمل الفني المرتبط بهذا الحدث." ويضيف أنه "ليس بالضرورة في كل مرة أن تتأثر موضوعاتي أو تنغمس بالحياة اليومية، إنما أنا أمثّل ما أفكر أو أشعر به، بغض النظر عن المحيط، على الرغم من ارتباطي به. فالانتفاضة والأحداث التي تجري في فلسطين، على لا سبيل المثال، كانت جزءاً من أعمالي وليست كلها، فرسمتُ عن أطفال الحجارة وعائلة الحاج بكر واستشهاد الأربعة أطفال، ورسمتُ الطفل الذي نام بين قبرَي والدَيه، لكن ليست هذه كل تجربتي، فأنا لا أعمل بإيقاع واحد. والمخرج النهائي لأي عمل لدي مرتبط بأسلوبي، فأنا أهتم بالصورة والعرض بحيث لا يبقى العمل الفني فقط موضوعاً ولوحة تحافظ على كونها معطى جمالياً، فالمفترض باللوحة في الدرجة الأولى أن تقف كمعطى ثقافي عالي الجودة، ولا أريد العمل الفني إذا لم يقف أمام الجمهور كمحتوى ثقافي ويترك أثراً وانطباعاً لديه، وذلك لا يحدث إلاّ إذا تضمّن العمل داخله رؤية إخراجية. كما أن الأشياء ليست جمالية فقط بالنسبة إليّ، بل أيضاً معقدة جداً، وتحتاج إلى جمهور ذي ثقافة بصرية عالية، لذا، فقد تحولت من التجريدية في أعمالي الفنية إلى التعبيرية." ويضيف خليل أنه بسبب نهجه الفني المتنوع، فقد واجه كثيراً من التحديات والنقد.

الفن الفلسطيني بعين الفنان محمد خليل

لا شك في أن الحالة الفلسطينية المركّبة التي يعيشها الفنان الفلسطيني أينما وُجد تنشئ خصوصية لطروحاته الفنية. وفي ذلك، يضيف خليل أنه على الرغم من هذه الخصوصية، فإن الفن الفلسطيني فقد جاذبيته وحضوره إلى حدٍ ما بسبب الإيقاع الواحد النمطي السائد، كما أنه، في رأيه، فن أعرج لأنه لا يوجد فيه نحت أو رسم مجرد من دون ألوان، وهذا النوع من الرسم التفصيلي هو امتحان صعب للقدرات ويكشفها.

في الختام، يؤكد خليل: "إلى أن ينتهي بي العمر، سأبقى أرسم ما أحب، ويجب ألاّ نلاحق الآخرين في ما يريدون من الفنان رسمه. إذا أراد الفنان النجاح، فعليه أن يرسم الشغف الذي داخله هو، وليس ما هو داخل الآخرين، فإذا دفعه شغفه إلى مشاركة الآخرين، كان بها، وإن لم يدفعه شغفه إلى هذه الدائرة، فيجب أن يتبع شغفه الخاص."

 

* ملاحظة: جميع ما ورد من أقوال على لسان الفنان محمد صالح خليل هي نتاج حوار تم إجراؤه مع الفنان في 17/9/2023 في مرسمه الخاص في بيتونيا، رام الله.

 

[1] Translated by Anna Bostock (London: Verso, 1977), p.121.Understanding Brecht.

[2] فاروق يوسف، "الفن في متاهة" (بيروت: المؤسسة العربية للنشر والدراسات، 2014)، ص 15.

[3] يوسف، المصدر نفسه، ص 16.

عن المؤلف: 

رهام سماعنة: كاتبة وباحثة في الموسوعة الفلسطينية، وتتركّز اهتماماتها على البحث في الحقل الفني.