من تظاهرة غاضبة إلى عاصفة إلكترونية: جدوى التدوين على مواقع التواصل
التاريخ: 
04/12/2024
المؤلف: 

منذ اليوم الأول لمعركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، غابت الجماهير العربية عن الميادين العامة والشوارع بفعل القبضة الأمنية، وتُظهر استطلاعات الرأي التفاف الشعوب حول المقاومة الفلسطينية، وكشف استطلاع رأي قام به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في مطلع السنة الحالية أن 92% من العرب يرون القضية الفلسطينية قضيتهم، وأن 67% منهم يرون طوفان الأقصى عملية مقاومة مشروعة.[1]

واستغلت الأنظمة العربية الإجماع على القضية الفلسطينية، ورسمت حدود التضامن الشعبي ليتحول إلى ورقة سياسية في يدها، وحددت سقف تضامن شعوبها وتفاعلهم مع الأحداث، ولاحقت من يخرق هذا السقف واعتقلته.

وبهذا، تحولت الجماهير إلى ثوار تحت مظلة السلطة التي تركت باب التدوين على منصات التواصل مفتوحاً، وهو ما فتح أُفقاً لما بات يُعرف بـ "النضال الرقمي"، والذي اعتُبر سقفاً جديداً ومسرحاً للاشتباك مع السلطات، بينما يواصل أهالي غزة إطلاق نداءاتهم إلى العالم العربي والإسلامي والغربي المحملة بضرورة تكثيف الجهود الشعبية، والاعتصام في الميادين العامة، ووقف مناحي الحياة للجم الوحش الاستعماري.

وتوضع تلك النداءات في منشورات مزخرفة مضافة إليها الموسيقى، وموسومة بهاشتاغ يدعو إلى وقف الحرب، أو عبر تحويلها إلى عبارات مفرَغَة المعنى "لا تعتد المشهد"، أو "كل العيون على رفح/ALL EYES ON RAFAH"، لتنطوي تلك النداءات تحت مظلة عصر السرديات الصغرى"[2]  المنزوعة الأحشاء، والتي تشير إلى وجود نوع  الاستسلام الاجتماعي المرضي[3]  لدى الشعوب العربية بصورة خاصة عند الاكتفاء بالتدوين من دون الحراك الحقيقي على الأرض.

النضال الفلسطيني الرقمي

استثمر الفلسطينيون حالة النشوة التي حظيت بها منصات التواصل الاجتماعي، والتي حولتها السياقات إلى ميادين اشتباك بشأن السردية والرواية التي سيطرت عليها إسرائيل لأعوام طويلة بحكم الاستحواذ على الإعلام العالمي، وبحكم التحالفات الدولية والدعم الغربي والأميركي للمشروع الصهيوني.

وبالعودة إلى هبة الكرامة سنة 2021 في القدس والداخل المحتل الذي قام فيه الشباب الفلسطينيون بهواتفهم وعلى حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي ببث اعتداءات المستوطنين وتوثيقها وتضمين رباطهم وتحديهم لشرطة الاحتلال، باعثين برسائل تنادي بضرورة التحرك، وبعضهم الآخر بعث برسائل إلى المجتمع الدولي مطالبين شعوب تلك المجتمعات بالتحرك وإسناد الشعب الفلسطيني في مواجهة التهجير الذي تقوم به دولة الاحتلال.

وهو نفسه الدور الذي أداه التوأم محمد ومنى الكرد من حي الشيخ جراح في مدينة القدس المحتلة، حين أصدرت المحكمة الإسرائيلية قراراً يجبرهم على إخلاء منازلهم للمستوطنين، فما كان منهما إلاّ أن أمسكا بهاتفَيهما، وفتحا نوافذ للبث المباشر على مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي، ووزعا المهام فيما بينهما؛ فأخذ محمد[4]  على عاتقه التحدث عن قضيته باللغة الإنجليزية، موجهاً حديثه إلى المجتمع الدولي الغربي، بالإضافة إلى المقابلات الصحافية مع قنوات الغربية، أمّا شقيقته منى،[5]  فقد حملت السردية العربية، وكانت تُجري مقابلاتها مع قنوات عربية.

وألهم نموذج حي الشيخ جراح وبلدة سلوان النشطاء في نقاط الاشتباك الأُخرى التي كانت مشتعلة في مواجهة الاحتلال، فبدأت عمليات الإسناد الرقمي تنطلق في بلدة بيتا حيث المواجهة على جبل صبيح، وكذلك في مسافر يطا جنوبي الخليل، بل أيضاً ذهب النموذج إلى بدو بئر السبع في جنوب فلسطين، وصولاً إلى معركة سيف القدس.

وقد كشف إصرار الشباب، على بساطة طرحهم وقلّة ما عندهم من معدات وقدرات، عن إمكان نجاح الرواية الفلسطينية وتغليبها في معركة السرديات، الأمر الذي فشلت فيه المؤسسة الرسمية التي اكتفت منذ بداية مشروعها بتبنّي نهج فضح الاحتلال ومطالبة المجتمع الدولي بالتدخل، وحولت وزاراتها إلى مراكز للتوثيق ورصد الانتهاكات، وضمّنت ذلك في خطابها، وأَولته أهمية كبرى.

عاصفة إلكترونية

استثمرت المؤسسة الرسمية للسلطة حالة تصاعُد الالتفاف حول السردية الفلسطينية، وبدأت تدشّن حملات رقمية ترمي عن طريقها إلى تحقيق هدف سياسي، كحرّية أسير، أو وقف عمليات التهجير في الضفة الغربية.

وعملت مؤسسات الأَسرى على إطلاق حملات إلكترونية تطالب فيها النشطاء حول العالم بالتدوين للضغط على الاحتلال، وذلك عبر إثارة رأي عام لإطلاق سراح أسير تملك قصته إمكاناً عالياً للتعاطف الدولي، كحملة إطلاق سراح الأسير أحمد مناصرة، والجريحة إسراء الجعابيص، ووليد دقة (الذي استشهد في الأَسر في نيسان/أبريل الماضي).

وحققت هذه الحملات انتشاراً واسعاً وحراكاً في الشوارع الأوروبية تحديداً، وعرفت جماهيرها بشأن الأسرى والمناطق الفلسطينية المهددة بالمصادرة والإخلاء، إلاّ إن التعريف والنشر والتدويل ليس هدف تلك الحملات، إنما المطالبة بحرّية الأسير هي المبتغى.

تقويض إسناد المقاومة بالتدوين

أسقطت حرب الإبادة الحالية جدوى العمل الدبلوماسي، ومنه الرقمي، وفرّغتها من معناها، وجردتها من قيمتها، بعد أن فشلت في تحقيق أي منجز سياسي، بينما حققت صفقات التبادل بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، وآخرها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حرّية الجريحة إسراء الجعابيص، التي لم تشفع لها قصتها المختارة بعناية من جانب مؤسسات الأَسرى ولا العاصفة الإلكترونية لتنال حريتها.

وتصاعدت حملات جهاز "الشاباك" الإسرائيلي في ملاحقة الفلسطينيين الذين يدونون خطاباً داعماً للمقاومة، ومارسوا تجاههم شتى أنواع الترهيب ضرباً واعتقالاً واحتجازاً على الحواجز بعد تفتيش هواتفهم والعثور على مشاهد تحمل رسالة دعم للمقاومة أو صورة ترمز للمقاومة. ولم تتوقف العنجهية عند هذا الحد، بل أيضاً تمادى ضباط "الشاباك" بالتعليق عند المدونين مهددين إياهم بالاعتقال.

ويرمي الاحتلال بسياسة الترهيب والاعتقال هذه إلى تفتيت سردية المقاومة كاستجابة لسياسات كَيِّ الوعي وبلورة وعي جديد قائم على الهزيمة، محيّداً نبرة التحدي عبر الاقتصار على بث مشاهد الدمار وتسخيف المقاومة وخطابها، ونزع الفاعلية لمقولة "المقاومة جدوى مستمرة". وتعمل السردية الجديدة التي صيغت إسرائيلياً على قضم صور الموت الفلسطيني وحصرها في الضحية، وتغفيل حضور الشهيد والاستشهادي.

 وعليه، فإنه عبر سياسة إلغاء الصوت الفلسطيني المقاوم على منصات التواصل، يجري تضخيم فعل التدوين وتحميله أكثر مما يتحمل باعتباره "عملاً نضالياً"، ويتم استدعاء حالات الاعتقال لإضفاء الشرعية على التدوين بكونه ميدان اشتباك، إلاّ إن حقيقة ما يحدث هو عزل المدون عن واقعه، وتغييبه عن المعركة الحقيقية الجارية على الأرض، وبالتالي عن ميادين الاشتباك الفعلية، وهو ما يفتح سؤال جدوى التدوين في عصر الإبادة الجذرية التي يعيشها الفلسطيني.

ختاماً، وَلّدَ الربيع العربي حالة انتشاء بفاعلية التدوين إلى أن جاءت الثورات المضادة، وفتحت سؤالاً بشأن جدوى التدوين على منصات التواصل الاجتماعي، ومدى تأثيرها في تغيير الواقع الذي تبسط الأنظمة القمعية سيطرتها عليه، موسعة الفجوة بين الاشتباك مع القضايا المركزية والشوارع والميادين العامة، الأمر الذي تسعى لتحقيقه أجهزة الدولة الاستعمارية في فلسطين عبر الضبط والملاحقة وتحديد أفق التدوين وسقفه، وهو ما انعكس في جغرافيا الاشتباك بتحوُّلها من الشوارع والميادين العامة إلى حوائط منصات التواصل، ولحق ذلك تغيُّر في أولويات الجماهير التي انحدر سقف مطالبها في إثر تلك التحولات.

 

[1] "برنامج قياس الرأي العام: اتجاهات الرأي العام العربي نحو الحرب الإسرائيلية على غزة"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

[2] منشور لرشاد عبد القادر، "فيسبوك"، 19/9/2024.

[3] "البنية الأخلاقية والقانونية لمجال عام عادل لشبكات التواصل الاجتماعي"، مركز الجزيرة للدراسات، 11/7/2023.

[4]‘This is not clashes’: The Palestinian is sick of western media”, YouTube, 30/5/2021.

[5] "سأروي لكم | فيلم ’الحقيبة‘: ’عشان الناس تعرف إنو إحنا قصص مش مجرد أرقام"، "يوتيوب"، 6/8/2021.

عن المؤلف: 

مؤيد طنينة: صحافي فلسطيني.