كان لغزة موقع المتن في السينما الفلسطينية: متى تهمّش؟
تأليف: 
سنة النشر: 
اللغة: 
عربي
إنكليزي
عدد الصفحات: 
10

في سنوات السينما الفلسطينية الأولى، التي عُرفت بسينما الثورة، كان لقطاع غزة حضورٌ استثنائي، باعتباره موقعاً فلسطينياً وموضوعاً جوهرياً لهذه السينما. هذا الحضور يعكس المكانة المهمة التي شغلها القطاع في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ احتلاله عام 1967 واندلاع الثورة الفلسطينية، التي رافقتها بدايات هذه السينما وتطوّرت معها على مدار السبعينيات. حافظ قطاع غزة على موقعه المركزي في المرحلة التالية، وبرز بشكل ملحوظ في سينما أوسلو خلال التسعينيات بعد مرحلة انتقالية في الثمانينيات. غير أن هذا الدور بدأ في الانحسار تدريجياً بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، ليتحول موضوع القطاع إلى الاقتتال والحصار. في هذه المقالة، أحاول تتبع رحلة قطاع غزة في السينما الفلسطينية، من مركزية حضوره إلى هامشيته، مستنداً إلى ما أراه أسباباً لكل منهما.

"مشاهد من الاحتلال في غزة"

باكراً، في الأعوام الأولى لسينما الثورة الفلسطينية، حضرت غزة، من دون غيرها، كونها موضوعاً وعنواناً لفيلم بعنوان "مشاهد من الاحتلال في غزة". وهو الإنتاج الوحيد لـ "جماعة السينما الفلسطينية - مركز الأبحاث الفلسطينية"، التي تأسست عام 1972 في إطار مركز الأبحاث، وضمت سينمائيين من التنظيمات الفلسطينية ومستقلين، والتي أنتجت فيلماً واحداً وتوقفت لأسباب تنظيمية.

أخرج الفيلم التسجيلي مصطفى أبو علي، ومدته 13 دقيقة، وهو من تصوير مطيع إبراهيم وعمر مختار، بالإضافة إلى مواد وثائقية، وتعليق رسمي أبو علي وعصام سخنيني. واعتمدت الجماعة في بعض المشاهد على صحافيين ومصورين أجانب دخلوا إلى القطاع للتصوير من هناك (نال الجائزة الذهبية للأفلام القصيرة في مهرجان أفلام وبرامج فلسطين، في بغداد عام 1973، وجائزة اتحاد الشبيبة العالمي في مهرجان لايبزغ في العام ذاته). ومن عنوان الفيلم نعرف أنه يصوّر مشاهد من حالة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته اليومية في القطاع، كما نعرف من طبيعته النضالية، أن الفيلم يصوّر مشاهد من بطولات الغزيين في المقاومة.

حضور الفيلم في بواكير العمل السينمائي الفلسطيني أظهر وعي السينمائيين آنذاك بموقع القطاع في المسيرة الكفاحية للشعب الفلسطيني، بخلاف حالة الوعي والموقع اليوم كما تبيِّن الإنتاجات السينمائية الفلسطينية، والحضور الغزّي فيها. ولأشكال التضحيات والبطولات الغزية حضور في أفلام أُخرى، من مرحلة سينما الثورة.

ويتميز الفيلم المذكور بثلاث نقاط أساسية: أولها أنه الفيلم الوحيد ضمن مجموعة توحيدية من عموم السينمائيين في الثورة الفلسطينية، وهي مجموعة تخطت الفصائلية. وثانيها أنه فيلم من أوائل الإنتاجات السينمائية للثورة، أي أنه تأسيسي لهوية هذه السينما. وثالثها أنه مبني على قطاع غزة ومحصور فيها، احتلالاً ومقاومة. وتشي هذه النقاط بالوعي الباكر للسينمائيين آنذاك، وبالموقع المتنيّ والتوحيدي للقطاع في سينما الثورة الفلسطينية. الحال النقيض لذلك اليوم هو ما يجعلها، آنذاك، مدعاة للانتباه، وهو ما يجعل الحديث عن كل من الوعي والموقع، يمتد حتى التسعينيات.

القطاع في سينما أوسلو

في وقت شهدت الصناعة السينمائية الفلسطينية انقطاعاً فتحوّلاً، في طبيعتها، نوعاً وموضوعات ومقاربة، خلال الثمانينيات، تبعاً لأفول الثورة أوائل العقد وتشتت منظمة التحرير الفلسطينية في عدة بلدان عربية، أفراداً وقيادات ومؤسسات، شهد عقد التسعينيات عودة متماهية مع اتفاقيات أوسلو التي كان لقطاع غزة فيها موقع متنيٌّ كذلك.

هنا، بدأ الفلسطينيون يدخلون تدريجياً عالم الصناعة السينمائية الروائية، بعد تجربة انتقالية متزامنة مع انتفاضة الحجارة، هي "عرس الجليلة" لميشيل خليفي عام 1987. ومع اتفاق أوسلو دخلت منظمة التحرير إلى الضفة والقطاع، إذ تحولت إلى سلطة بمهمات خدماتية وأمنية مفرغة من معناها الوطني والكفاحي، وهذا تماماً ما حضر في سينما هذه المرحلة، وفي الواجهة منها قطاع غزة.

من بين خمسة أفلام روائية فلسطينية في التسعينيات، 3 منها كانت بقصص تدور في قطاع غزة؛ فيلمان خرجا عن السياق الأوسلوي وخرجا بالتالي عن القطاع، هما "سجل اختفاء" لإيليا سليمان، عام 1996، وكان في مواقعه موزعاً بين مدن في الداخل الفلسطيني والضفة، أمّا غياب القطاع فكان لاقتران الفيلم بالسيرة الذاتية للمخرج، بدءاً من الناصرة. والآخر هو "درب التبانات" لعلي نصّار، عام 1997، وكان بحكاية بعيدة زماناً ومكاناً، فكان في فترة الحكم العسكري، في قرية جليلية.

خرج الفيلمان عن السياق الأوسلوي؛ الأول نسبياً والثاني تماماً، ما لم يستلزم موقعاً خاصاً للقطاع الذي حضر في 3 أفلام شكّلت سينما أوسلو، الأقرب إلى واقع الفلسطينيين آنذاك، مانحة القطاع موقع المتن الذي تمتع به في سينما الثورة. وتعود غزة إلى قلب العمل السينمائي الفلسطيني، كما كانته في المرحلة السابقة من هذه السينما.

الأفلام هي: "حكاية الجواهر الثلاث" لميشيل خليفي، عام 1995، وهو أنضجها. و"حتى إشعار آخر" عام 1994، و "حيفا" عام 1996، وكلاهما لرشيد مشهراوي. وفي ثلاثتها كان القطاع موقع القصة وشخصياتها، وفي ثلاثتها سمات تجعلها صالحة لتسميتها، تصنيفاً، بسينما أوسلو، لتماهي البؤس واليأس في يوميات شخصياتها وأحوالها مع حال الفلسطينيين في المكان الأوسلوي آنذاك، الضفة والقطاع.

بذلك تكون غزة مجدداً، موقعاً أولاً لراهن الفلسطينيين حيث تموقعت حركتهم الوطنية، ومشهداً لحال هذه الحركة وبؤسها في التسعينيات، قبل أن تُخرج انتفاضة الأقصى الفلسطينيين من ذلك البؤس، وتَدخل أفلام جديدة ("يد إلهية" لسليمان، "الجنة الآن" لهاني أبو أسعد، "ملح هذا البحر" لآن ماري جاسر) إلى سينماهم لتنتشلها من بؤس الشخصيات، في اتجاه أمل حملته الانتفاضة، قبل أن تنقلب الأحداث في اقتتال حركتَي "فتح" و"حماس"، وتعود غزة مجدداً بعد انقطاع، لتحتل موقعاً أقل هامشية في سينما الفلسطينيين.

في سينما الفلسطينيين ضمن القرن العشرين، ما قبل عام 2000، كان لقطاع غزة أولوية القصة والشخصيات، وشكّل السياقَ المتنيّ للسينما الفلسطينية قبل أن تتغير الأمور بدءاً من انتفاضة الأقصى وصولاً إلى طوفان الأقصى، لقرابة ربع قرن.

ظل الاقتتال الثقيل على القطاع

نقلت الانتفاضة الثانية ثقل السينما الفلسطينية، من حيث القصص، إلى الضفة الغربية، ما يجعل مدن الضفة ومخيماتها مواقع أولى للشخصيات، فلا نجد فيلماً روائياً طويلاً واحداً على طول العقد الأول من الألفية، تتمركز قصته في القطاع، وذلك قبل أن يقتتل الفصيلان، "فتح" و"حماس"، في القطاع الذي ستسيطر حركة المقاومة الإسلامية عليه. تعود، مع العقد الثاني، غزة إلى السينما من باب الاقتتال/الانقسام، لكن من بعد فيلم خارج عن السياق الراهن للقطاع، هو "حبيبي راسك خربان" لسوزان يوسف، عام 2011، وهو اجتماعي تماماً، كأن القطاع فيه منقطع عمّا حوله ومنغمس في مسألة اجتماعية، أو حب مستحيل بين شاب وفتاة في القطاع. فيلم آخر أخرجه موضوعه من السياق الراهن، هو "يا طير الطاير" لهاني أبو أسعد، عام 2015، وهو عن رحلة شاب للغناء، من غزة إلى القاهرة إلى النجومية. الفيلمان بسيطان وخفيفان، وقد غاب راهن غزة فيهما، فغاب ثقل الواقع الاقتتالي للقطاع عنهما.

الصورة الأبرز للقطاع، والذي استحضره اقتتال الفصيلين، أي استعادة القطاع للزخم السياسي، واستعادته موقعه السينمائي في انعكاس لواقعه، وإن في إحدى أقسى صور هذا الواقع فلسطينياً، كانت، الصورة، أولاً بفيلم "ديجراديه" للأخوين طرزان وعرب ناصر، عام 2015. وثانياً في فيلم "كتابة على الثلج" لرشيد مشهراوي، عام 2016. وتكمن ميزة الفيلمين في تماهيهما مع واقع الغزيين السياسي أساساً، تماماً كما كانت أفلام سينما أوسلو قبلها بعشرين عاماً. والمحور الرئيسي في كليهما هو الاقتتال، وإن أتى بشكل ترفيهي في الأول، وتسطيحي في الثاني.

وتموقع الموقع المتنيّ للقطاع في السياسة الفلسطينية، منحصراً هنا، في هذه المرحلة من السينما الفلسطينية، من خلال الفيلمين: الأول، "ديجراديه" الذي تناول قصة نساء في صالون تجميل منقطع عما خارجه حيث تدور معارك واشتباكات، إذ يظهر الراهن الفلسطيني من خلال أحاديث النساء، وكانت كل منهن تمثل تياراً في المجتمع، ومن خلال ما نسمعه ونراه خفيةً من خارج الصالون وفي محيطه. في الثاني، "كتابة على الثلج"، كان كذلك انقطاع للشخصيات عن الخارج، فبعد اندلاع معركة بين الفصيلين، احتمت الشخصيات في البيت، وكانت كذلك تمثل التيارات السياسية، إسلامي وفتحاوي جبهاوية.

بمعزل عن جودة أي من الأفلام المذكورة، فإن السيرة الفيلمية للسينما الفلسطينية منذ عام 2000، همّشت القطاع لأسباب متفاوتة، أبرزها سطوة حضور الضفة الغربية والقدس في هذه السينما ما بعد الانتفاضة الثانية، بالإضافة إلى تركيز المخرجين والمخرجات من الداخل الفلسطيني على قصص تدور في مدنهم، الناصرة وحيفا تحديداً، وربطها بمواقع في الضفة، وأيضاً لسطوة الحدث السياسي. وكان حضور القطاع عشوائياً في فيلمين خارج السياق السياسي، ثم قصدياً في فيلمين من صلب السياق السياسي، لكن بخيباته وهزائمه، كأن للقطاع حصّة البؤس من هذه السينما، بدءاً بسينما أوسلو في التسعينيات، بسذاجة الشخصيات وخيبات أملها، حتى الفيلمين اللذين يتناولان الاقتتال الفصائلي كخلفية سياسية للقصة والشخصيات، في العقد الثاني من الألفية. وفي الحالتين كان للحضور الغزي في السينما سبب سياسي شديد الوطأة، كالاتفاقيات ثم الاقتتال، وكان الحضور، لذلك، من خلال شخصيات بائسة، وتائهة، وهائمة على وجوهها وهو حال أفلام التسعينيات، ما لم تكن محاصَرة في مكان مغلق، وهو الحال في الفيلمين الأخيرين، في الصالون أو في البيت.

ظل الحصار الثقيل على القطاع

السينما الفلسطينية في عمومها انعكاس لواقع الشعب الفلسطيني، باختلاف مجتمعاته، لكن لقطاع غزة حالة تأثُّر أكثر من غيره وأوضح، في هذه السينما، لسبب أول هو موقعه المتقدم في كل تغيير سياسي في التاريخ المعاصر للحركة الوطنية الفلسطينية، منذ الثورة إلى اليوم، ولسبب ثانٍ هو موقعه المتراجع في الإنتاج السينمائي الفلسطيني؛ تقدُّم القطاع هناك وتراجعه هنا إذن، جعلا منه مثالاً بيّناً أكثر من غيره، في انعكاس الواقع الفلسطيني على شاشاته الكبرى، فهو يحضر قليلاً، وإن حضر يكون تمثيلياً للواقع. وهذا ما رأيناه في سينما أوسلو، وقبله في الفيلم النضالي، كما رأيناه لاحقاً في حضور الاقتتال ثم، من بعده، نراه في حضور الحصار.

عاد الأخوان ناصر بفيلمهما الثاني، "غزة مونامور" عام 2020، في قصة حب لكهلَين، مرفقاً بمشاهد عشوائية تشي بحالة الحصار الخارجي من طرف الاحتلال، والاجتماعي الداخلي من طرف حكومة حركة "حماس". كأن القطاع هنا فعلاً سجن كبير، إن حاول الحبيبان التحرك ابتعاداً، قليلاً، ضمنه، في قارب، حذّرهما صوت جندي بضرورة العودة، كما يلخّص هذا المشهد الأخير حالة حصار برية وبحرية تخيّم على بؤس القطاع وشخصياته.

فيلم آخر شهدته الأعوام الأخيرة، وكان لحالة الحصار الغزية موقع مركزي فيه، هو "أسبوع غزّاوي" لباسل خليل، عام 2022، وفيه تعلق إسرائيلية وصديقها الأجنبي، في القطاع، ويمضيان الفيلم كله في محاولة الخروج منه خفيةً، ذلك بالتزامن مع تفشي ما يشبه فيروس كورونا في العالم، وبقاء القطاع، كونه محاصراً، البقعة الآمنة الوحيدة في المنطقة.

فالحصار نفسي في الفيلم الأول ومادي في الثاني؛ الأول حساس نسبياً تجاه شخصياته، والثاني بليد تماماً تجاهها، وكلاهما حاول استخراج كوميديا من واقع الحصار الغزي. في الأول، وكان مواصلة لفيلم "ديجراديه" في ذلك، كان أقرب إلى سخرية معظمها افتعالي، من واقع الفلسطينيين في القطاع، وسيطرة العقلية الفصائلية في الأول والحكم الحمساوي. أّما الثاني، "أسبوع غزّاوي"، فكان مسيئاً سياسياً وسيئاً فنياً، وكانت الكوميديا فيه أقرب إلى التهريج على حساب واقع الحصار الغزّي.

وبين ما يزيد على 50 فيلماً روائياً طويلاً فلسطينياً، هذه فقط التي اتخذت من القطاع متناً للقصة، فعود غزة في أفلام ما قبل عام 2000، تلاه أفول متدرّج في أفلام ما بعد العام. وقد رسم مسار هذا الأفول الاقتتال، ومن بعده الحصار، فيما بقي القطاع مادة حية وحيوية للوثائقيات التي قاربت القطاع ومآسيه أكثر مما فعلت الروائيات.

القطاع موضوعاً وثائقياً

الموقع الطبيعي لقطاع غزة سينمائياً، انعكاساً لموقعها المتنيّ سياسياً، سيكون للضرورة متقدماً، هو حالها ما قبل عام 2000. أمّا ما بعده، فحضرت أسباب أبعدت القطاع على مدار ربع قرن، اليوم، عن متنيّة هذه السينما، أولها الزخم النضالي والسياسي الذي استحضرته انتفاضة الأقصى إلى الضفة، وثانيها اقتتال الفصيلين في القطاع، ما تسبب بهجران سينمائي، أولاً، وبحصرية الاقتتال كموضوع، ثانياً، وثالث الأسباب هو الحصار الإسرائيلي خارجياً، واستفراد "حماس" بالحكم داخلياً. وكان للاقتتال والحصار دافع في تصوير قصص القطاع السينمائية وإنتاجها من خارجه، فلا عمل سينمائياً فيه، وهذا كله منح أفضلية للسينما الوثائقية، ليكون القطاع متناً فيها، حاضراً دائماً، بل أولاً بوصفه منطقة فلسطينية، في السينما الوثائقية، لكنها، وهذا ما يلفت، بإخراج أجانب قدموا إلى القطاع لتصويره.

الوقت الذي ضاقت فيه صناعة الفيلم الروائي الفلسطيني في القطاع وعنه، توسع فيه إنتاج الفيلم الوثائقي خلال الحصار، للسبب ذاته الذي أتى بذلك الضيق، الحصار ومعه الحروب، أي الظرف الإنساني الحرج الذي يعيشه الغزيون. ما يعني أن القطاع بحالته المتنيّة في الفيلم الوثائقي، تعزَّز في العقدين الأخيرين، بل أكثر في العقد الأخير. ومن هذه الأفلام، "طريق السموني" عام 2018، و"غزة" و"قفزة أُخرى" عام 2019، و"يلا غزة" عام 2023.

وقد شهد القطاع غيرها من الأفلام، وبفترات زمانية مختلفة، لكن السنوات الأخيرة أظهرت حضوراً لافتاً له في وثائقيات لمخرجين غربيين استطاعوا دخول القطاع والتصوير لنقل المعاناة الإنسانية بالدرجة الأولى، والأمل بحياة كريمة يمكن لأحلام فردية فيها أن تتحقق. ولسنا هنا أمام وثائقيات تروي تاريخاً جمعياً أو تحقق أو تستقصي في حدث مأسوي، بل تروي حياة يومية لأفراد عاشوا مأساة أو يسعون لتجنب مأساة. ونقلت هذه الوثائقيات شخصياتها من خلال همومها وآمالها، بصفتها أفراداً لا تُنقل المأساة الجمعية، بالشكل التفصيلي والشخصي، إلّا من خلالهم.

قابلَ الغيابَ الغزي في السينما الروائية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، حضور في الوثائقية، وهو حضور تضامني، لا يخرج من حقيقة أن القطاع موضوع إخباري وتقريري، سياسي وإنساني، أنه موقع حروب إسرائيلية بين عام وآخر، وحصار على طول الأعوام مستتبعاً تجربة الحرب الأهلية التي عاشها الفلسطينيون عام 2007.

ماذا عن الإبادة الجماعية؟

لا شكّ في أن القطاع سيكون موضوع وثائقيات فلسطينية، لفلسطينيين أو لمتضامنين أجانب، ما بعد حرب الإبادة البادئة عام 2023 والمستمرة إلى ما بعد نشر هذه المقالة، وذلك لتطرّف الظرف الإنساني ومأسويته. فلا سؤال يُطرح هنا، في المجال الوثائقي المنجذب أصلاً إلى حالات كهذه. لكن السؤال حاضر وبشدة في الروائيات التي يخرجها فلسطينيون، فالقطاع الذي كان دائماً متناً في الحياة السياسية الفلسطينية، سيكون مع حرب الإبادة ومن بعدها، أشد إلحاحاً في ضرورة متنيّته، ضمن السياسة الفلسطينية، وبالصلب منها الحركة الوطنية الفلسطينية. السؤال هو عن موقع القطاع في السينما الروائية الفلسطينية، لا الوثائقية التي ستجد في الأرض والمجتمع المنكوبين عنواناً وثائقياً عالياً، قيمةً وموضوعاً.

السينما الروائية الفلسطينية تعتمد أساساً على إنتاجات غربيّة، يمكن بضبابية القول إنها إنتاجات مشترَكة، لكن في واقع هذه السينما، لا أفلام من دون تأثير غربي، من التمويل إلى المهرجان فالتوزيع، ما بعد عام 2000 تحديداً. والمؤسسات الغربية، والأوروبية تحديداً، كونها جهة التمويل الأولى لهذه الأفلام، أي العصب المركزي للسينما الفلسطينية، مالت ولا تزال تميل أكثر نحو التشدد في المسألة الفلسطينية برفض مشاريع أفلام وقبول أُخرى، ما بعد "طوفان الأقصى"، والأمثلة في هذه المؤسسات التي تتخطى السينما في مجالاتها، لا تنتهي، وضحاياها خلال العام الأول من الإبادة، أجانب بقدر ما هم عرب وفلسطينيون، في أوروبا كما في أميركا الشمالية.

سؤال ضروري هنا، يطرحه أحدنا حول موقع القطاع في السينما الروائية المزامنة للإبادة المستمرة أو اللاحقة لها: فالقطاع التي تغيّب، أو غُيّب عن الإنتاج السينمائي الفلسطيني منذ عام 2000، أساساً لسببين متتابعين هما الاقتتال والحصار، وهما سببان فلسطينيان، هل سيغيب كذلك، أو يواصل غيابه، وأفوله وهامشيته، ما بعد الإبادة لكن لأسباب غربيّة هذه المرة؟ فالتطرف الغربي في المقاربة الصهيونية، الموالية لسردية المستعمِر، أو المتحفظة على سردية المستعمَر، هل سيقابَل بمهادنة طيّعة من قبل صنّاع الأفلام الفلسطينيين، لضمان تمويل إنتاجيّ أولاً، فبرمجة مهرجاناتيّة ثانياً، فتوزيع صالاتيّ ثالثاً، أم أن السينما الفلسطينية ما بعد الإبادة، ستنطلق من مأساة شعبها وتفرض سرديته على طاولة إلى طرفها الآخر يتربّع رأي مخالف أو نقيض أو عدواني؟

كي لا نختم المقالة بسؤال إجابته معقّدة ومتشائمة، أقول في السينما الروائية القصيرة على الأقل، حضرت الإجابة عملياً، بفيلم "ما بعد" لمها حاج (نال الجائزة الأولى، الفهد الذهبي، في مسابقة الأفلام القصيرة للمؤلف في مهرجان لوكارنو السينمائي عام 2024) كأول فيلم روائي فلسطيني قصير زامن الإبادة وأخلص لأهلها في غزة، فكان لا القطاع فحسب، بل في حالته الملامسة برهافة حالة المأساة الاستثنائية التي عاشها ويعيشها إلى اليوم، كان متناً في فيلم استعاد القطاع سينمائياً، بامتياز فني وسردي، بالتوازي مع المكانة التاريخية والسياسية التي كانت للقطاع، دائماً، في التاريخ المعاصر للفلسطينيين وحركتهم الوطنية.

صعدت غزة في السينما الفلسطينية ثم أفُلت، ثم، بادرة قصيرة كانت هذا العام يمكن التقاطها للحديث عن صعود مأمول للقطاع. لا يحتاج صنّاع الأفلام سوى إلى التماهي مع الفلسطينيين في القطاع، وكذلك الضفة، في بطولاتهم وتضحياتهم، أو، بكلمة واحدة، في متنيّتهم على طول مسيرة الفلسطينيين الوطنية.

 

المراجع:

  • Hennebelle, Guy and Khemaïs Khayati. La Palestine et le Ciné Paris: Edition du Centenaire, 1977.

  • Khalidi, Rashid. Palestinian Identity. New York: Columbia University Press, 1997.

  • Khelifi, George. Nurith, Palestinian Cinema: Landscape, Trauma and Memory. Indiana University Press, 2008.

  • Yaqub, Nadia (Editor). Gaza on Screen. London: Duke University Press, 2023.

1
عن المؤلف: 

سليم البيك: روائي وناقد سينمائي فلسطيني.