منذ احتلال القدس عام 1967، نفذت إسرائيل سلسلة من السياسات والاستراتيجيات الهادفة إلى تغيير الواقع الديموغرافي للمدينة، وطرد سكانها الأصليين، واستبدالهم بالمستوطنين. هذه السياسات، التي تطورت وتنوعت على مر السنين، شملت كافة مناحي الحياة في القدس، حيث استهدفت الأرض والإنسان على حد سواء. لكن، بعيد السابع من أكتوبر، تجلّت هذه السياسات بشكل أوضح وأفصح، وتسارعت وتيرتها. في هذه الورقة، سنستعرض أبرز هذه السياسات، مع التركيز على التطورات الأخيرة التي شهدتها المدينة في أربعة سياقات هي: التوسع الاستيطاني، والسيطرة على التعليم، وفرض الضرائب والمخالفات، وسياسة الهدم، خلال الفترة من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى آب/ أغسطس 2024.
التوسّع الاستيطاني في القدس:
بعد السابع من أكتوبر صعّد الاحتلال الإسرائيلي من بناء المستوطنات في جميع أنحاء مدينة القدس المحتلة. وقد ذكر تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية، يوم 17 نيسان/ أبريل 2024، أن هناك تسارعاً للمخططات الاستيطانية في القدس بشكل كبير في الأشهر الماضية، حيث أنه وفي الوقت الذي أغلقت فيه المؤسسات الحكومية الإسرائيلية أو حدّت من عملها في أعقاب السابع من أكتوبر، واصلت سلطات التخطيط التقدم والدفع بهذه المخططات بسرعة غير مسبوقة. [Burke, 2024]
كما أشار تقرير، صدر في صحيفة "هآرتس"، إلى أن اللجنة المحلية في القدس، وبعد يومين من أحداث السابع من أكتوبر، صادقت على توسيع مستوطنة "كيدمات تصيون" المقامة على أراضي الفلسطينيين في حي رأس العامود، بحيث تشمل التوسعة بناء 384 وحدة استيطانية في مراحلها الأولى وعلى مساحة 79 دونماً، وقابلة للإضافة والتوسع لتصل إلى 1200 وحدة. [حسون، 2023]
بالإضافة إلى ذلك، فقد وافقت اللجنة اللوائية، في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023، على بناء حيّ استيطاني جديد على أراضي صور باهر، أُطلق عليه "القناة السفلى"، ويتم بناء 1792 وحدة استيطانية جديدة، وللمرة الأولى تعمل سلطة أراضي إسرائيل على تقديم هذا المخطط.
وفي جنوب المدينة، أضحى التواصل الجغرافي مع مدينة بيت لحم غير ممكن بسبب المشاريع الاستيطانية، حيث تعمل السلطات على توسعة مستوطنة هار حوما المقامة على أراضي جبل أبو غنيم، وبناء 540 وحدة جديدة. كما يتم بناء 1275 وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة جفعات همتوس على أراضي بلدة بيت صفافا. كما وافقت اللجنة، في 5 أيلول/ سبتمبر 2022، على بناء مستوطنة جديدة، "جفعات هـَـــشكيد (أي تلة اللوز)"، على أراضي بيت صفافا وشرفات على مساحة 37 دونماً، والتي تمت مصادرتها لهذا الغرض سنة 1995. وتضم المستوطنة التي تقرر إقامتها 695 وحدة سكنية. من الجدير ذكره أن هذه المستوطنة تُتاخم خط الهدنة لعام 1949 الذي يعبر الجزء المحتل من قرية بيت صفافا عام 1967.
وقد استطاع مركز القدس توثيق 19 مشروعاً لمخططات استيطانية في القدس تمت الموافقة على 10 مخططات منها وإدراج التسعة الباقية للنقاش ضمن اللجان المختلفة، خلال الفترة بين 7 أكتوبر حتى صدور هذه الورقة. ووصل عدد الوحدات الاستيطانية الجديدة إلى 19,287، على مساحة 2607 دونمات، إذ يسعى الاحتلال لمحاصرة الأحياء الفلسطينية في القدس ومنع توسعها العمراني، وبالتالي زيادة أعداد المستوطنين في إطار الحرب الديموغرافية في المدينة، ذلك بأن عدد الوحدات الاستيطانية المخطط بناؤها مؤشر على إمكانية ارتفاع عدد المستوطنين خلال السنوات القادمة في القدس الشرقية إلى أكثر من 96 ألف[1] ليصل عددهم إلى 347 ألف مستوطن. كما أن هناك مؤشراً واضحاً إلى سعي سلطات الاحتلال لعزل الأحياء الفلسطينية عن عمقها الفلسطيني في الضفة الغربية، وبالتالي وأد أي فرصة لتكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية. كل ذلك يتم تحت أنظار العالم، على الرغم من أنه يعتبر انتهاكاً صارخاً لقرارات الشرعية الدولية، والتي تعتبر القدس مدينة فلسطينية محتلة.
السيطرة على الجهاز التعليمي في القدس:
وضعت سلطات الاحتلال الخطط المختلفة للسيطرة والهيمنة على الجهاز التعليمي الفلسطيني في مدينة القدس، والذي يدرس به 110 آلاف طالب وطالبة. ففي عام 2017 وضعت حكومة الاحتلال خطة شاملة للهيمنة الشاملة في القدس لمدة خمس سنوات، وضخّت ميزانية، بالإضافة إلى الموازنات الموجودة، بحدود 2,2 مليار شيكل تم تخصيص نحو 900 مليون شيكل منها للهيمنة على قطاع التعليم. [وثائق وزارة المعارف الإسرائيلية]
ويلمس المجتمع المقدسي اليوم نتائج هذه الخطة والموازنة، من خلال التوسع غير المسبوق لتعليم المنهاج الإسرائيلي "البجروت"، وكذلك تحريف المنهاج الفلسطيني، وطباعة نُسخ جديدة من هذه الكتب وفرض تدريسها في كل المدارس التابعة للبلدية، بالإضافة إلى المدارس الأهلية الخاصة التي تتقاضى مخصصات مالية جزئية من وزارة المعارف.
ومن عام 2017 ولغاية إعداد هذا التقرير، تم توظيف أكثر من 12 مفتشاً إضافياً من قبل وزارة المعارف للإشراف على التعليم الفلسطيني في القدس، وكانت من أهم نتائج توظيف المفتشين عمليات تفتيش على كتب المناهج والتهديد بوقف المخصصات للمدارس الأهلية، كما حصل مع مدارس الإيمان والإبراهيمية والمطران، وغيرها من المدارس الأهلية خلال العامين المنصرمين.
علاوة على ذلك، فقد رافق هذه السياسة إغلاق مكتب مديرية التربية والتعليم الفلسطيني في القدس، ومحاربة المدارس التابعة له مباشرة، ونجح الاحتلال في تقليص عدد الطلبة الذين يدرسون في مدارس الأوقاف التابعة للوزارة الفلسطينية في القدس من 18% عام 2015 إلى 10% عام 2022، وذلك حسب إحصائيات وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
واستناداً إلى ورقة حقائق أصدرها مركز القدس في آب/ أغسطس 2023 حول التعليم في القدس، فإن حوالي 110,293 طالباً (باستثناء رياض الأطفال) يدرسون في 249 مدرسة في القدس الشرقية.
إن الجانب الأكثر إثارة للقلق في موضوع المدارس في القدس الشرقية هو سعة الصفوف الدراسية، إذ إن معدل نموّ سكان القدس الشرقية هو 2.5% سنوياً، ما يتطلب إنشاء حوالي 80 فصلاً دراسياً جديداً كل عام، مع العلم أن المخصصات الحالية بالكاد تلبي نصف هذه الحاجة. [مركز القدس، 2023]
ويمكن للمدارس الخاضعة للسلطة الفلسطينية أن تستوعب حوالي 31,500 طالب، وتخدم أكثر من 45,500 طالب، ما يعني أن هناك حاجة ماسة إلى 560 صفاً دراسياً جديداً إضافياً، بالإضافة إلى 80 صفاً دراسياً بشكل سنوي لتلبية الحاجة على مدى السنوات الخمس المقبلة. [مركز القدس، 2023]
وبغض النظر عن جميع العوامل التي تمت إثارتها أعلاه، فقد أعلنت السلطات الإسرائيلية في عام 2019 عن نيتها إلغاء تصاريح مدارس الأونروا في القدس الشرقية. ومن المقرر أن يتم استبدال هذه المدارس التي تخدم حوالي 1800 طالب بمدارس تديرها بلدية الاحتلال، بدعم من وزارة المعارف الإسرائيلية.
وبعد السابع من أكتوبر 2023 وحتى نهاية نيسان/ أبريل 2024، قامت وزارة المعارف الإسرائيلية بإجراءات حاسمة ونهائية تجاه المدارس في مدينة القدس، وبشكل خاص المدارس المعترف بها لكن غير الرسمية (أي المدارس الأهلية والخاصة)، وتحديداً التي تحصل على تمويل جزئي من وزارة المعارف، فيما يخص استخدام المنهاج الفلسطيني. وقد شملت الإجراءات الاقتحام والتفتيش الفجائي الذي شمل جميع هذه المدارس وتحديداً من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 لغاية آذار/ مارس 2024؛ فقد قام المفتشون باقتحام الصفوف وتفتيش الحقائب المدرسية والاطلاع على الكتب التي يستخدمها المعلمون. وبعد اقتحام وتفتيش جزء من هذه المدارس واكتشاف كتب المنهاج الفلسطيني، تم أخذ مجموعة من الإجراءات منها: وقف موقت للتمويل الجزئي من المعارف، والتحقيق مع مدير المدرسة والمسؤولين الآخرين عن المدرسة، بالإضافة إلى توجيه كتب تهديد بسحب الترخيص الخاص للمدرسة، ما دفع بقية المدارس إلى سحب كتب المنهاج الفلسطيني من الطلبة والمعلمين واستبداله بالكتب المحرّفة المطبوعة من وزارة المعارف تفادياً لهذه الإجراءات التي تهدد عمل هذه المدارس باستمرار. ومن المدارس التي تعرضت لهذه الإجراءات: مدرسة الإيمان والمدرسة الإبراهيمية ومدرسة المطران. [مقابلات مع بعض من مدراء مدارس، 2024]
سياسة فرض الضرائب والمخالفات والإجراءات العقابية:
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس، عمدت سلطات الاحتلال ومن خلال أذرعها المختلفة، وخصوصاً ما يسمى ببلدية "أورشليم القدس"، بفرض ضرائب باهظة على السكان الفلسطينيين في مدينة القدس بشكل عام، وفي البلدة القديمة بشكل خاص. ومن بين هذه الضرائب تبرز ضريبة الأرنونا بالدرجة الأولى، وهي الأكثر انتشاراً وتأثيراً على المواطنين الفلسطينيين في مدينة القدس، والأرنونا هي ضريبة المسقوفات المفروضة حسب القانون على مستخدمي المباني والأراضي، وتُحدَّد قيمة هذه الضريبة بناء على نوع السكن ومساحته. كذلك يتم تحديد قيمة الأرنونا بناء على نوع الاستخدام؛ فإذا كان الاستخدام تجارياً تصبح قيمة الأرنونا أعلى من قيمتها في حال استخدام العقار كسكن.
لقد استخدم الاحتلال هذه الضريبة كوسيلة مهمة لطرد المواطنين الفلسطينيين من القدس، إذ إن قيمة هذه الضريبة عالية جداً. فعلى سبيل المثال، يدفع المواطن سنوياً ما قيمته 60 شيكلاً عن كل متر مربع واحد للشقة السكنية التي لا تزيد مساحتها عن 118 متراً مربعاً، أمّا الشقق التي تزيد مساحتها على 118 متراً مربعاً فإن صاحب هذا العقار يدفع ما قيمته 90 شيكلاً سنوياً عن كل متر مربع واحد. وعلى الرغم من أن هذه الضريبة يدفعها اليهود في القدس، فإن التميز واضح بهذا الشأن، حيث تعامَل الأحياء اليهودية معاملة مختلفة من حيث تقديم الخدمات. [معطيات ضريبة الأرنونا على موقع البلدية]
كذلك جرى استخدام ضريبة الأرنونا كوسيلة وأداة مهمة من قبل الاحتلال لإثبات إقامة الفلسطيني في القدس، وأصبح الاحتلال في كل معاملاته، وخصوصاً معاملات وزارة الداخلية، يطالب الفلسطيني بإحضار قسائم الأرنونا لإثبات أنه موجود ومقيم بالقدس من أجل عدم سحب حق الإقامة منه. [ناصر الدين-طبجي، 2024]
إذاً، نكتشف في هذا السياق كيف استخدم الاحتلال الإسرائيلي الضرائب، وخصوصاً ضريبة الأرنونا، كوسيلة لطرد السكان الفلسطينيين من مدينة القدس.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى إعداد هذا التقرير، أخذت الضرائب والمخالفات منحى انتقامياً عقابياً، إذ جرى تسجيل مخالفات بحق العديد من المواطنين لأسباب تافهة لا تستحق المخالفات، كوجود أعقاب سجائر على الأبواب الخارجية للمنازل، أو حتى أوراق شجر عند مدخل المنزل. وكان هذا المنحى أكثر شدة مع الذين اتُهموا بعمليات مقاومة أو للنشطاء السياسيين في القدس. [القبضة الحديدية، 2023]
ومن الأمثلة على ذلك، ما حدث مع عائلة الشهيد خ. م. من حي بيت حنينا في القدس، والتي أصدرت سلطات الاحتلال أمراً بإغلاق منزل العائلة الكائن في عمارة فيها 9 شقق، وتم تنفيذ هذا الأمر في نيسان/ أبريل 2024. في المقابل، أصدرت بلدية الاحتلال مخالفة بناء لكل المبنى، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، مشيرة في إخطارات وُزّعت على السكّان إلى أن العمارة قد بُنيت في عام 1997 من دون الحصول على رخصة بناء، ما يعني أن هناك نيّة من بلدية الاحتلال إصدار أمر هدم لكل المبنى. بالإضافة إلى ذلك، عندما داهمت قوات الاحتلال، مصحوبة بمفتشين من البلدية، منزل الشهيد، عاين المفتشون وجود غسالة قديمة عند مدخل العمارة (وليس على الشارع الرئيسي أو الرصيف)، وأعقاب سجائر مع أوراق الأشجار في ساحة العمارة، ما حداهم إلى إصدار مخالفتين منفصلتين لوالد الشهيد.
كذلك الأمر، عندما داهمت قوات الاحتلال منزل عائلة الشهيد خ. ع. في حي الشياح في القدس، عمل مفتشو البلدية على إصدار مخالفات لسكان المبنى بسبب وجود روث الحمام على سطح المنزل.
وخلال كانون الأول/ ديسمبر 2023، اقتحمت سلطات الاحتلال وبلدية الاحتلال منزل الناشط ن. ه. من حي الصوانة في القدس، وتم تسطير مخالفة بحق مالك العمارة التي يستأجر منها ن. ه. منزله لأن أغصان شُجيرة الياسمين عند سور الحديقة متشعبة إلى الخارج، وأيضاً بسبب وجود سيارة قديمة مركونة في ساحة العمارة الداخلية بسبب عدم الترخيص، على الرغم من أنها لا تعمل ولا يتم استخدامها.
تُثبت هذه الممارسات (والعشرات غيرها) توجّه سلطات الاحتلال في مدينة القدس، إلى تنفيذ سياسة العقاب الجماعي على المجتمع الفلسطيني ككل (والمقدسي تحديداً)، كردة فعل على أحداث السابع من أكتوبر.
سياسة سحب الهويات وإلغاء المواطنة للمواطنين الفلسطينيين في القدس:
مع احتلال القدس الشرقية في عام 1967، سنّت إسرائيل سياسات قوانين جديدة، وفرضت سياسات مختلفة كان أبرز أهدافها تهويد وإضفاء الصبغة اليهودية على مدينة القدس، وتقويض الوجود الفلسطيني قدر الإمكان، ليشكّل المجتمع الفلسطيني أقلية بينما يشكّل الإسرائيليون الأغلبية في القدس.
بعد احتلال القدس، قامت الحكومة الإسرائيلية بجهود لمراقبة وتسجيل السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية،[2] وذلك بهدف مراقبة السكان والتحكم في الديموغرافيا في المنطقة. وفرضت على السكان مكانة قانونية هشة متمثلة في الحق في الإقامة، وهو وضع قانوني لا يرقى إلى المواطنة، ويضع حامله تحت تهديد تجريده من مكانته القانونية هذه في أي وقت، كما أنها حرمت كل مقدسي لم يتواجد وقت الإحصاء في مدينة القدس من حقه في المدينة، وكان ذلك جزءاً من استراتيجية إسرائيل لتعزيز السيادة والسيطرة في القدس الشرقية بعد الاحتلال، وكان لها تأثير كبير على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المدينة. [ناصر الدين-طبجي، المحامية فاطمة، مقابلة 2024]
لذلك، أعطت هذه القوانين وزير الداخلية صلاحيات واسعة لسحب الإقامات من المقدسيين لأسباب مختلفة، كحصول الشخص على إقامة أو جنسية دولة أُخرى، أو إقامته خارج حدود بلدية القدس لمدة 7 سنوات. وفي هذا السياق جرى اعتبار الشخص الذي يقيم في ضواحي القدس أو في منطقة محاذية لجدار الفصل أو أدرجتها خرائط البلدية خارج حدود بلدية القدس كمَن غادر البلاد، ولوزارة الداخلية صلاحية كاملة بسحب إقامته، ناهيك بالحالات التي تُسحب فيها الإقامات من الأشخاص لادعاءات خاصة بالولاء والأفعال المخلة بالأمن والنظام العام. [عبيدات، المحامي مالك، مقابلة 2024]
يضاف إلى ذلك أن السياسات التي تتبعها إسرائيل في مواضيع لم الشمل قد نصّت على منع لم شمل الفلسطيني بعائلته إذا كان زوجه/ها من الضفة الغربية أو قطاع غزة، وقد نُص صراحة بمتن القانون على أن الهدف من سن هذا القانون ما معناه ضمان التوفق الديموغرافي لليهود في البلاد، وعليه كانت هذه السياسات والإجراءات تمثل جزءاً من السياسة الإسرائيلية الشاملة في القدس الشرقية، وقد أثرت بشكل كبير على حياة الفلسطينيين في المدينة وعلى حقوقهم وحرياتهم. فقد اتبعت سلطات الاحتلال سياسة معقدة في موضوع لم الشمل، وبالتالي تسجيل الأولاد، إذ يحتاج لمّ الشمل وفي الوضع الطبيعي (أي قبل السابع من أكتوبر) إلى فترات طويلة قد تصل إلى أكثر من ثلاث سنوات، وتشوبه إجراءات معقدّة وإثبات الإقامة في القدس. بالتالي، فإن الوضع الحالي يشير إلى أن متابعة هذه القضايا سوف تحتاج إلى وقت أطول. [ناصر الدين – طبجي، 2024]
ولعل الكابوس الأكبر الذي يجثم على صدر المقدسيين هو السياسة والقوانين المتعلقة بإثبات مركز الحياة المتبعة في وزارة الداخلية، والتأمين الوطني، والتي مفادها أن المقدسي غائب إلى أن يثبت تواجده، وكي يثبت وجوده وثقل مركز حياته في القدس، فهو مطالب بإثبات ذلك بأدلة قاطعة بمختلف مجالات الحياة، سواء كان ذلك من خلال مكان مبيته وعائلته، واستهلاكه للمياه والكهرباء، ومكان عمله وعمل زوجته، ودراسته، وكذلك أفراد عائلته، ومكان تلقي الخدمات الصحية، والمعاملات المالية، وحتى العلاقات الإنسانية مع أفراد العائلة والعلاقة مع الأشخاص في الخارج كلها أمور يضطر المقدسي إلى كشفها وإثباتها أمام مؤسسات الدولة ليثبت مركز حياته، وبالتالي يتمكن من البقاء في القدس.
أشار محامو مركز القدس إلى أن تعامل وزارة الداخلية الإسرائيلية في القدس المحتلة قد ازداد سوءاً وتعقيداً بعد السابع من أكتوبر. فقد لاحظ المحامون تغييراً ملحوظاً في تعامل الوزارة مع المواطنين المقدسيين، وخصوصاً فيما يتعلق بإثبات "مركز الحياة" ولمّ شمل العائلات وتسجيل المواليد. ووفقاً لتجربة المحامين، يبدو أن النهج غير المعلن للوزارة يتجه نحو التشكيك في صحة المستندات المقدمة، بهدف سحب الهوية،[3] أو رفض طلبات لمّ الشمل وتسجيل المواليد، استناداً إلى أسباب بسيطة وغير جوهرية.[4]
وبالتالي فإن وتيرة سحب الإقامة والترحيل الناعم للفلسطينيين في تصاعد مستمر، إذ وصل عدد الذين تم سحب إقامتهم من مدينة القدس من عام 1967 ولغاية عام 2021 أكثر من 14,727 مقدسياً. إن هذه السياسة هي الأكثر عنصرية، وتسعى لاقتلاع السكان الأصليين وإحلال المستوطنين مكانهم، كما حصل في جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري "الأبرتهايد".
سياسة هدم المنازل وعدم إعطاء تراخيص بناء:
تشير المعطيات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن عمليات الهدم التي نُفذت خلال الربع الأول من عام 2024 قد وصلت إلى 96 منشأة في محافظة القدس، منها 44 منزلاً، كان يقطنها 151 شخصاً (منهم 59 طفلاً). وقد نال كل من حيّ العيساوية، وجبل المكبر النصيب الأكبر من الهدم (14 في العيساوية، و13 جبل المكبر).
نستنتج من هذه المعطيات أن الاحتلال وضع سياسة واضحة، وغير شرعية، دولياً وإنسانياً، تقضي بمنع البناء الفلسطيني داخل أسوار البلدة القديمة، كما حدّ البناء خارجها، ووضع تكلفة عالية جداً للحصول على رخص بناء، وقد سمح بالبناء الاستيطاني اليهودي بكل سهولة.
لذلك سعى العديد من المقدسيين إلى البناء، حتى لو لم يحصلوا على رخص، كدافع أساسي من أجل البقاء ومواءمة منازلهم مع الزيادة الطبيعية لعدد أفراد الأسر. وهنا وضعت حكومة الاحتلال وذراعها القمعي، بلدية القدس، مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى دفع المقدسيين إلى هدم منازلهم بيدهم، بالإضافة إلى عقوبات أُخرى، مثل دفع الغرامات المالية الباهظة، وأحياناً الاعتقال.
وتُظهر ورقة حقائق بعنوان "الهدم الذاتي في القدس: بين المطرقة والسندان"، والتي نشرها مركز القدس في أيلول/ سبتمبر 2022، تزايداً واضحاً في الهدم الذاتي للمنازل التي صدرت أوامر هدم بحقها. وأظهرت الإحصاءات أنه من أصل 98 منشأة هُدمت في الأشهر التسعة الأولى من عام 2022 هناك 41 عملية هدم تمّت ذاتياً. [مركز القدس، 2022]
الخلاصة:
تسعى سلطات الاحتلال في القدس إلى فرض سيطرة شاملة على المدينة من خلال سلسلة من الاستراتيجيات الممنهجة التي تهدف إلى تقويض وجود الفلسطينيين، وترسيخ واقع الاحتلال كأمر لا رجعة فيه.
سعت هذه الورقة إلى إظهار جانب من الاستراتيجيات المتّبعة، والتي تمثلت في التوسع الاستيطاني في الشطر الشرقي من المدينة لتغيير الطابع الديموغرافي في القدس، وقطع أوصال الأحياء الفلسطينية، ومنع التوسع فيها، والحد من إمكانيات البناء، ما يفرض على الفلسطينيين ظروف سكن صعبة ويضيّق عليهم الخناق. وتظهر هذه المسألة بشكل واضح في تشديد شروط البناء بشكل استثنائي على الفلسطينيين (في المقابل هناك تسهيلات كبيرة وموافقات على مشاريع للمستوطنين)، ما يدفعهم إلى العيش في ظروف مكتظة أو حتى البحث عن السكن خارج المدينة خلف جدار الفصل، مثل كفر عقب ومنطقة مخيم شعفاط، إذ أظهرت ورقة حقائق لمركز القدس أن ثُلث المجتمع المقدسي[5] يسكن في المناطق خلف الجدار على مساحة تقل عن 5% من مساحة القدس الشرقية.[6] بالإضافة إلى ذلك، تستهدف سلطات الاحتلال السيطرة على قطاع التعليم وتشكيل المناهج التعليمية بما يتماشى مع رؤيتها السياسية، إذ تمارس ضغوطاً على المدارس لاعتماد مناهج تحجب الرواية الفلسطينية، ما يهدد الهوية الثقافية للأجيال الجديدة.
وقد تصاعدت هذه الإجراءات بشكل ملحوظ بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث شهدت القدس زيادة في عمليات الاعتقال وهدم المنازل وفرض مزيد من القيود على التنقل عبر الحواجز. تضاف هذه التدابير إلى سياسات أُخرى، مثل سحب الهويات، ولَمّ الشمل، وتسجيل المواليد، والتي تُستخدم كأدوات لتقليص التعداد السكاني الفلسطيني في القدس، وإضعاف مكانة الفلسطينيين القانونية والاجتماعية في المدينة.
إن جميع هذه الممارسات تهدف إلى خلق واقع ديموغرافي وجغرافي جديد يضع العراقيل أمام الفلسطينيين فيما يتعلق بالمطالبة بحقوقهم في مدينة القدس وفي أن تكون عاصمة الدولة المستقبلية، كما تعكس تصميم الاحتلال على فرض سيادته بصورة شاملة، بغض النظر عن التبعات الحقوقية والإنسانية والسياسية لهذه الممارسات، والتي تعتبر خرقاً للقوانين والأعراف الدولية.
[1] باعتبار أن معدل عدد أفراد الأسرة 5 أشخاص، وأن هناك 19,287 وحدة استيطانية جديدة.
[2] عند احتلال الجزء الشرقي من القدس عام 1967، أجرت سلطات الاحتلال إحصاءً للسكان الفلسطينيين في المدينة ضمن الحدود التي رسمها الاحتلال للقدس، وتم منح السكان الفلسطينيين الذين يسكنون ضمن الحدود الهوية الزرقاء بصفة مقيم، وبالتالي حُرم آلاف الفلسطينيين الذين كانوا جزءاً من محافظة القدس حسب الحدود الرسمية من حق الإقامة في القدس، وسكان قرى شمال غرب القدس، مثل بدو بيت أكسا، والنبي صموئيل، وبيت حنينا البلد، وعناتا، وحزما.
[3] أي التشكيك في أن مركز حياة المواطن هو مدينة القدس.
[4] خلال الفترة الأخيرة، تعامل مركز القدس مع عشرات الحالات التي رفضت فيها وزارة الداخلية إثبات "مركز الحياة" (أي أن مكان السكن ليس في القدس) لأسباب غير منطقية. ونتيجة لذلك، يتعين على المواطن المقدسي مقدّم الطلب أن يثبت عكس "استنتاجات" وزارة الداخلية من خلال تقديم استئناف على قرار الوزارة. من الأمثلة الغريبة التي واجهها مركز القدس، رفض طلب لمّ شمل مواطن/ة فلسطيني/ة مع الزوج/ة بحجة أن فاتورة الكهرباء للشقة في أحد الأشهر كانت أقل من معدل الاستهلاك في السنوات السابقة، ما اضطر المواطن إلى تبرير هذا الأمر أمام وزارة الداخلية.
[5] تشير الإحصاءات المختلفة إلى أن التعداد السكاني الفلسطيني المقدسي (والذين يحملون بطاقات الهوية الإسرائيلية) يصل إلى 362,000 نسمة. في المقابل، هناك مؤشرات إلى أن عدد المقدسيين الذين يقطنون خلف الجدار 121,000 نسمة (59,400 نسمة في منطقة كفر عقب، و61,500 نسمة في منطقة مخيم شعفاط وراس حميس وراس شحادة).
[6] تُقدّر مساحة القدس الشرقية بـ 75 كيلومتراً مربعاً. في المقابل، تبلغ مساحة المناطق خلف الجدار 3.1 كم2 فقط أي 4.1% فقط.