يمكن اعتبار العائلة الفلسطينية بمثابة الحضن الدافئ للأسير في ظل غياب شبه تام لنظام دعم يعمل على دعم الأسرى، أو حتى دعم العائلات ذاتها، وتُعتبر ظاهرة الأسرى من أكبر المعضلات التي تشغل المجتمع الفلسطيني،[1] ويأخذنا هذا الطرح مباشرة إلى سياق الهجمة الشرسة التي قام بها الاحتلال بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، من اعتقالات؛ سواء على صعيد كمية أو حجم الاعتقالات، أو على صعيد أسلوب الاعتقال، إذ عمقت هذه الهجمة الشرسة دور العائلة في رعاية الأسير بصورة مكثفة عما كانت عليه قبل تاريخ بدء الحرب.
ويعاني أهالي الأسرى جرّاء تجارب مؤلمة ممنهجة تمارسها بحقهم سلطات الاحتلال الصهيوني بهدف خنقهم وإثقال كاهلهم نفسياً ومادياً وجسدياً في حياتهم اليومية طوال فترة احتجاز أبنائهم في الأسر. والهدف من تجارب مؤلمة كهذه هو كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتدمير معنوياته، ومن أكثر الأساليب التي تمارَس ضد السجناء استفزازاً اعتقال أحد أفراد أسرهم، بما في ذلك الآباء والأمهات والزوجات أو حتى الأطفال.
وقد ارتفعت بطبيعة الحال وتيرة التضامن والتكاتف والدفاع عن عضو العائلة المعتقَل بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر. وللتوضيح، فقد كانت عائلة الأسير تتمكن من زيارة الأسير مرتين كل شهر، بعد مرور 3 أشهر على اعتقال الأسير، وتبلغ مدة كل زيارة 45 دقيقة.[2] هذا بالإضافة إلى وجود بعض أجهزة الهاتف داخل السجن، والتي تمكّن الأسرى من تهريبها بطرق متعددة، إلى جانب أن العائلات تقوم في كل زيارة بالذهاب إلى محكمة الأسير ومشاهدته، والحديث إليه إلى ما لا يقل عن 10 دقائق داخل قاعة المحكمة، وهذه الخطوات كانت تمنح عائلة الأسير والأسير نفسه نوعاً من الاطمئنان للطرفين، والأهم هنا أن عائلة الأسير المكونة من أفراد العائلة هي التي تقوم بالذهاب إلى قاعات المحكمة، وإلى الزيارات، وهي التي تعاني جرّاء ما يُعرف بـ "سياسة الرفض الأمني".
أمّا بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فقد اتخذ الاحتلال إجراءات صعبة ومعقدة في هذا السياق، إذ قام الاحتلال بإعلان حالة الطوارئ، وقد انعكست هذه الحالة في الأسرى بطبيعة الحال، فتم إلغاء زيارات السجون للعائلات، وأيضاً أصبحت العائلة لا تشاهد الأسير سوى دقيقة واحدة عبر الشاشة داخل قاعة المحكمة للأسير الموقوف فقط، وفي هذا السياق، تقول الأخصائية الاجتماعية، ووالدة الأسير أحمد صليبي، السيدة ريحانة مسيف: "الطريق إلى المحكمة متعب جداً من الخليل إلى رام الله، لكن ليس هناك خيار؛ يجب أن أذهب لرؤية أحمد، حتى ولو كان عن طريق الشاشة التي يمكننا خلالها مشاهدته دقيقة واحدة أحياناً. والمؤلم أننا نسمع ما يقول لكنه لا يسمعنا، لكن مشاهدة صورته عبر الفيديو تجعلني على الأقل أطمئن عليه في ظل عدم وجود زيارات أو هواتف."[3]
وفي السياق ذاته، تم إلغاء زيارة المحامين في بداية الحرب، والتي تقوم بها بعض المؤسسات الحكومية كنادي الأسير الفلسطيني، وغير الحكومية كمؤسسة الضمير وغيرها، بالإضافة إلى عدم وجود اتصالات من داخل السجون إلاّ في حالات قليلة جداً ونادرة. واعتمدت عائلة الأسير في الحصول على معلومات عن الأسير على اتجاهين: الأول عن طريق توصيل الرسائل عبر "إذاعة صوت الأسرى"؛ إذ يوجد لدى الأسرى بعض أجهزة الراديو، والتي تمكنوا من الاحتفاظ بها على الرغم من مصادرة إدارة السجون جميع مقتنيات الأسرى، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى حالة من الإشباع النفسي للعائلة،[4] لكن يكمن أحد عيوب هذا الاتجاه في أن الأسير لا يستطيع توجيه رسائل إلى عائلته، فهو يؤدي دور المستقبل فقط.
أمّا الاتجاه الثاني، فيتم عن طريق الأسرى المفرَج عنهم، ويمكن في هذا الصدد القول إن هذا هو مصدر المعلومات الأهم بالنسبة إلى العائلة، وهو ما أسس حالة من التضامن والتعاضد الاجتماعي والنفسي بين عائلات الأسرى. وفي هذا السياق، يؤكد الباحث والأكاديمي وسام الرفيدي قائلاً: "الشعب الفلسطيني قادر على التكيف بحسب تجربته الطويلة في الصراع مع الاحتلال، وعند الحديث عن العائلة الفلسطينية، يمكن القول إن العائلة هي التي تتحمل العبء الأكبر في الاهتمام بالأسير، سواء داخل السجن، أو حتى بعد التحرر، إذ تقوم العائلة بمتابعة المحامي، وحاجات الأسير داخل السجن على صعيد الملابس وغيرها من الحاجات، كما أنها أيضاً تتابع حياة الأسير على كل المستويات بعد التحرر، وخصوصاً الاقتصادية."[5]
وفي المضمار نفسه، فقد أدت سياسة العقاب الجماعي بحق عائلات الأسرى من جانب الاحتلال إلى لجوء تلك العائلات إلى أنماط جديدة من التكيف والإسناد سواء بين تلك العائلات، أو على صعيد رعاية الأسير، وهذه الأنماط كانت في أغلب الأحيان مكلفة على الصعيد الاقتصادي في ظل غياب شبه تام للمؤسسات المختصة، وهو ما دفع بعض العائلات إلى التوجه إلى المؤسسات الحكومية وغير الحكومية من أجل البحث عن حل لهذه المشكلة، وخصوصاً أن العائلات تدرك الوضع الصعب داخل الحركة الأسيرة، والأهم ما يبثه الإعلام الإسرائيلي من مقاطع فيديو ذات مشاهد صعبة، وأيضاً مشاهدة صور الأسرى المحرَرين، وهذا ما جعل العائلات تعيش حالة من القلق والخوف على حياة الأسرى، وفي هذا السياق، تقول عائلة أسير لمصلحة هذه المادة: "نحتاج إلى رسالة، ولو صغيرة، لنطمئن على ابننا، وهو أيضاً يحتاج إلى الاطمئنان علينا. لقد ذهبنا إلى كثير من الأسرى الذين تحرروا لنأخذ ولو معلومة واحدة، وبعض هؤلاء الأسرى موجودون في مناطق بعيدة على الصعيد الجغرافي."[6]
وانطلاقاً مما سبق، نذهب إلى سياق الصلابة النفسية لعائلات الأسرى، ويُعتبر هذا من الموضوعات المهمة في سياق هذه المادة، إذ تتعرض العائلات لكمٍّ هائل من الضغوط النفسية، وخصوصاً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، وترافق هذه الضغوط حالة من القلق والتوتر الدائمة، أو ما يُعرف بدائرة الجحيم، وتحديداً في ظل أحداث ضاغطة، سواء أكانت هذه الأحداث اقتصادية، أم كانت اجتماعية، أم سياسية،[7] ناهيك بما تحدّثنا عنه سابقاً عن غياب حالة الاطمئنان على الأسير، وأيضاً ما يبثه الإعلام الإسرائيلي من مواد إعلامية من داخل الحركة الأسيرة، والذي يأتي في سياق الحرب النفسية على العائلات الفلسطينية كما أوضحت هيئة شؤون الأسرى والمحرَرين.[8] وفي هذا السياق، تقول عائلة الأسير معتصم بريغيث: "معتصم حاضر معنا دوماً، ولا يغيب عن الذهن، فنفكر فيه عند تناول الطعام، وعند النوم، وعند مشاهدة الأخبار، وخصوصاً عندما نشاهد فيديوهات عن السجن، فنشعر بالخوف على حياته، وأيضاً نعيش القلق والخوف في كل ثانية، فنحن لا نعرف ما وضعه الصحي والنفسي، ونحاول الاطمئنان عليه عن طريق الأسرى المحرَرين، ونقوم بتوجيه رسائل إليه عبر ’إذاعة صوت الأسرى‘ لنتمكن من دعمه نفسياً، وهناك مشاهد صعبة علينا، وخصوصاً مشاهد الأسرى الذين تحرروا، وهذا ما يجعل حياتنا لا تسير بصورة طبيعية، وقد أثر هذا في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية. إن الشيء الوحيد الذي يعزّينا أننا لسنا وحدنا في القلق والخوف، لكن الأصعب أن هذا القلق لا يتوقف أبداً طوال اليوم، ولم نعش هذا الزخم من القلق في تجارب الاعتقال السابقة لمعتصم، إذ تعرّض لأكثر من تجربة اعتقال، لكن في المرات السابقة، كان هناك إمكان للاطمئنان عليه، أمّا تجربة الحرب، فتختلف تماماً."[9]
ويعاني عدد من أفراد عائلات الأسرى جرّاء مداهمة جيش الاحتلال لمنازلهم في أي وقت بلا أي اعتبار أو مراعاة لخصوصية المنازل؛ إذ يدخلون منازلهم بوحشية وهمجية، ويدمرون كل الأثاث والأملاك. وبالإضافة إلى ذلك، فقد فرض الاحتلال إجراءات غير إنسانية، وخصوصاً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ إذ ارتفعت وتيرة الاعتداء الجسدي والنفسي، سواء على أفراد العائلة، أو حتى على الأسير ذاته، وفي سياق متصل، فإن أكثر الأشخاص حزناً لفقد الابن المسجون الأمهات، ثم الزوجة، وأخيراً الأطفال.[10]
تاريخياً، تقوم العائلة الفلسطينية بتقديم الدعم الاجتماعي إلى الأسير بعد التحرر، عبر إعادة دمج الأسير داخل المجتمع بعد الإفراج، وخصوصاً بعد التجربة القاسية، والصدمة الشديدة التي تعرّض لها؛ نفسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وأيضاً بعد الانفصال الطويل عن المجتمع والعائلة والأحبة. هذا بالإضافة إلى رعاية عائلة الأسير إذا كان متزوجاً، فيقوم بهذا الدعم العائلة الممتدة أو النواتية،[11] إذ تؤدي العائلة الفلسطينية دوراً مفصلياً في إعادة تكيف الأسير مع المجتمع بعد تجربة الاعتقال، وفي السياق نفسه، تصبح حياة العائلة هي الأُخرى بمثابة سجن،[12] فغياب أحد أفراد الأسرة يجعل العائلة تعيش رهن تجربة هذا الفرد، وخصوصاً على الصعيد النفسي والاجتماعي. وبعد بدء الحرب، أصبحت حياة عائلات الأسرى تتمحور حول كيفية الاطمئنان على ابنها الأسير، وأيضاً كيفية إخراجه من السجن، حتى إن بعض العائلات لجأ إلى دفع ما يقارب 10,000 دولار إلى المحامي المختص من أجل الإفراج عن أسيرها.
وإذا جاز لي في نهاية هذه المادة، فسأتحدث عن تجربة أشقائي، وتجربتي الشخصية، واهتمام عائلتي، في أثناء تواجدنا في السجن، وحتى بعد التحرر، بإيجاز:
"قبل استشهاد شقيقي الصغير تامر بعامين، تعرّض للاعتقال، وأمضى 4 أشهر في سجن عوفر، فكانت والدتي، وأيضاً والدي، يقومان بمتابعة زيارات السجون والمحكمة، بالإضافة إلى الاهتمام بعمله الخاص كنجار وهو داخل السجن، والأهم أن العائلة هي التي كانت تقوم بتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، سواء في أثناء الاعتقال، أو حتى بعد الإفراج عن شقيقي تامر. وبعد ما يقارب العامين، وخصوصاً سنة 2009، تعرض لإصابة في الرأس، ومكث في غيبوبة مستمرة لمدة 7 أشهر و8 أيام ليستشهد بعدها، ولم تمرّ 40 يوماً حتى جاء الاحتلال وقام باعتقالي أنا وشقيقي الأكبر محمد، وتم تحويلنا إلى مراكز التحقيق، ثم إلى السجن، وقد مكثت عاماً ونصف العام، وشقيقي محمد 10 أشهر. وكانت والدتي وشقيقتي تقومان بزيارتنا نحن الاثنين في عدة سجون، وتعرّض والدي للرفض الأمني، وأيضاً تحملت العائلة العبء الأكبر في توفير جميع المستلزمات ونحن داخل السجن، بالإضافة إلى متابعة جلسات المحاكم، وفي الخارج، قامت العائلة ببناء منزل لشقيقي الأكبر، ثم توفير مصاريف الزواج، وكانت هذه الرعاية تتم في أوضاع نفسية واقتصادية صعبة جداً. لكن الأهم أنه بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، عادت إلى الواجهة حالة القلق والتوتر والخوف من أن يُعاد اعتقال أحد أفراد الأسرة، وهذا جعلني ألمس أن التجارب الماضية للاعتقال لا يمكن نسيانها، وخصوصاً أمام المشهد الوحشي لعمليات الاعتقال، وأيضاً أن الأسير بعد أن يتعرض لتجربة قاسية كهذه، يخرج إلى مجتمع يعاني جرّاء التجربة نفسها. وهذه الدائرة تحتاج أولاً إلى تعزيز صمود العائلات، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي إلى العائلة بصورة خاصة، فإذا كانت العائلة قوية، فستتمكن من انتشال الأسير، وإعادته إلى الحياة الاجتماعية من جديد."
[1] بسمة دراغمة، "الآثار الاجتماعية والنفسية لتجربة الاعتقال على أُسر الأسيرات الفلسطينيات المحررات في محافظات شمال الضفة الغربية" رسالة ماجستير غير منشورة، قسم الدراسات العليا، (فلسطين: جامعة النجاح الوطنية، 2017).
[2] "عائلات الأسرى والمعتقلين وزيارات السجون"، مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، تشرين الثاني/نوفمبر 2014.
[3] ريحانه، مسيف، والدة الأسير أحمد سمير صليبي (25 عاماً) من بلدة بيت أمر. تم اعتقاله في 13/3/2024 من داخل المنزل، ويقبع في سجن عوفر. حالة الأسير "موقوف".
[4]Ghassan Harb, “The use of the families of Palestinian prisoners in Israeli jails to the Local Prisoners' Voice Radio and the gratifications they attain”, Journal of Alaqsa University-Series of Human Sciences, vol. 25, no2 (2021).
[5] وسام الرفيدي، "العائلة الفلسطينية - نقد النمذجة المنهجية"، "الحوار المتمدن"، العدد رقم 4744، 10/3/2015.
[6] شهادة عائلة أسير من مدينة نابلس من مخيم بلاطة بشأن تجربتها مع الاعتقال، وواقع السجون بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وخصوصية العائلة وحريتها. وبحسب طلبها، فإننا لم نذكر اسمها. وتم اعتقال الأسير في 1/6/2024 من المنزل. حالة الأسير "موقوف".
[7] حسن حسن، "الصلابة النفسية وعلاقتها بالتكيف الاجتماعي لدى أهالي الأسرى المحكومين مؤبداً في سجون الاحتلال الإسرائيلي"، "مجلة جامعة الاستقلال للأبحاث"، المجلد 7، العدد 1 (تموز/يوليو 2022).
[8] "في إطار سياسة الانتقام الجماعية الممنهجة: إدارة سجون الاحتلال نفّذت اقتحامات واسعة لأقسام الأسرى ونكلت بهم في يوم السابع من أكتوبر"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 20/10/2024.
[9] شهادة عائلة الأسير معتصم بريغيث من بيت أمر، شمالي مدينة الخليل، بشأن تجربتها مع الاعتقال، وواقع السجون بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. تم اعتقال معتصم في 18/7/2023 من مكان عمله في مدينة القدس. حالة الأسير "اعتقال إداري"، وهو أسير تعرض لتجارب اعتقال سابقة.
[10]Bassam Banat, “Traumatic experiences among mothers of Palestinian prisoners”, International Humanities Studies, vol. 2, no. 1 (January 2015).
[11] مجدي المالكي، وياسر شلبي، وحسن لدادوة، "المجتمع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، سوسيولوجيا التكيف المقاوم خلال انتفاضة الأقصى"، (مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2004).
[12] Rita Giacaman, Penny Johnson, “‘Our Life is Prison’: The Triple Captivity of Wives and Mothers of Palestinian Political Prisoners”, Journal of Middle East Women s Studies, vol. 9, Issue 3 (Fall 2013).