تمهيد
أدى العدوان المستمر والحصار المفروض على غزة إلى تداعيات خطرة على البنية التحتية، ما تسبب في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وفقدان الأمن الغذائي.[1] كما ساهم تدهور الأوضاع الاقتصادية في دفع عشرات الآلاف من الشباب إلى الهجرة بحثاً عن سبل عيش أفضل، ما عرّضهم لمخاطر رحلة اللجوء.[2] وبعد عدوان الاحتلال العسكري الغاشم على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، والذي وصفته محكمة العدل الدولية بأنه قد يصل إلى حد الإبادة الجماعية نظراً إلى وجود أدلة تشير إلى احتمال ارتكاب دولة الاحتلال لأعمال الإبادة،[3] اندفع العديد من العائلات الفلسطينية لمغادرة قطاع غزة إلى جمهورية مصر العربية، وذلك بسبب شدة العدوان الذي أدى إلى مسح مربعات سكنية كاملة، وشطب عائلات بأكملها من السجل المدني، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية، والمستشفيات، والمدارس، والجامعات، ودور العبادة، والمؤسسات العامة، بحيث لم يبقَ مكان آمن في القطاع. وكانت تلك الهجرة بحثاً عن الأمن والأمان في إطار الحق في الحياة وغريزة حب البقاء.
أصدر جيش الاحتلال أوامر عسكرية، عبر رسائل نصية ومناشير وإعلانات عبر فيسبوك، يطلب فيها التوجه من مناطق شمال غزة ومدينة غزة إلى جنوب الوادي، مدعياً أن هناك مناطق إنسانية آمنة، ولا سيما في منطقة مواصي خان يونس ورفح.[4] واستجابت كل من الأونروا والصليب الأحمر لأوامر جيش الاحتلال بإغلاق مقراتها في غزة وانتقلت إلى رفح، ما خلق حالة من الاضطراب والارتباك ودفع بمئات الآلاف إلى النزوح جنوباً، تلبية لأوامر الاحتلال العسكرية.[5]
تبحث الورقة في أسباب هجرة الغزّيين من قطاع غزة إلى جمهورية مصر العربية، والتحديات التي واجهوها عند الهجرة، وسبل معالجة هذه التحديات، وتقدم استنتاجات وتوصيات بخصوص هذه الظاهرة الجديدة.
تكدّس النازحين في رفح
إن القصف الشديد المصحوب بالتوغل البري، والفظائع المرتكبة بحق المواطنين، من الاعتقال، والتنكيل بالأسرى، والقتل بدم بارد، والتدمير الشامل، وقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، بالإضافة إلى تهديدات الجيش، كلها أمور دفعت بالمواطنين إلى النزوح إلى رفح، التي ادعى الاحتلال أنها منطقة إنسانية آمنة، وخصوصاً بعد تحذيرات جيش الاحتلال لسكان خان يونس والنازحين منها والطلب منهم مغادرتها إلى رفح، وذلك قبل تنفيذ الاجتياح الذي تم في خان يونس، والذي أدى إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى التدمير الواسع للمنازل والبنية التحتية والمستشفيات والمؤسسات.[6]
تكدّس نحو 1.3 مليون شخص في مساحة لا تتجاوز 25 كيلومتراً مربعاً في مدينة رفح التي تقع على الشريط الحدودي مع مصر، ما جعلها أكبر مخيم للنزوح في العالم. وتفاقمت معاناة المواطنين في ظل القيود المفروضة على إدخال المواد الغذائية، وأزمة المياه، ونقص الدواء والمستلزمات الطبية.
وإلى جانب هذه الأزمة، برزت أزمات اجتماعية واقتصادية، كان أبرزها ارتفاع الأسعار نتيجة استغلال تجار الحروب، وازدياد الصراعات والتوترات العائلية والاجتماعية، وخصوصاً في ظل ضعف المبادرات المجتمعية والشعبية في البداية، لتنسيق وتوحيد جهود الإغاثة بين جميع الفعاليات بهدف تدعيم مقومات الصمود وتمتين وحدة النسيج الاجتماعي. علماً بأن هذه المبادرات تزايدت وتيرتها بالتدريج وتحسن أداؤها، وخصوصاً من قبل منظمات العمل الأهلي والمجتمع المدني.[7]
كما فرضت دولة الاحتلال قيوداً مشددة على إدخال المساعدات الغذائية والطبية، وبدلاً من الضغط الأميركي عليها تم اللجوء إلى استخدام أسلوب إسقاط المواد من الطائرات. وعلى الرغم من ذلك، فقد تم استهداف مواقع تجمع المواطنين، وارتكب جيش الاحتلال مجزرتين؛ واحدة في دوار النابلسي في شارع الرشيد على شاطئ البحر في حي الشيخ عجلين، وأُخرى في دوار المستشفى الكويتي في شارع صلاح الدين، وهي المنطقة التي تقع في المنتصف بين مدينة غزة والمنطقة الوسطى وعلى الخط الواصل بين حي الشجاعية ومستوطنة نتساريم التي تمت إعادة بنائها أثناء العدوان.
ومع انسداد أفق مفاوضات الهدنة وصفقة تبادل الأسرى بسبب التعنت الإسرائيلي، وغياب الضغط الأميركي، واستمرار تدمير مقومات الحياة، وتقليص وصول المساعدات الإنسانية، ازداد عدد العائلات التي تفكر في المغادرة إلى مصر، وهي البوابة الوحيدة التي تصل قطاع غزة بالعالم الخارجي، إذ تسيطر دولة الاحتلال على كل المعابر، وتفرض القيود المشددة على حركة البضائع والأفراد.
وسائل الخروج من القطاع
قبل بدء العدوان، كانت حركة "حماس" هي الجهة المشرفة على المعبر من الجانب الفلسطيني، والدولة المصرية من الجانب المصري، كما كانت تُرسل الأسماء إلى إسرائيل، بموجب اتفاق عام 2005، للموافقة عليها. ويُذكر أنه تم تجاوز وجود قوة من الاتحاد الأوروبي للإشراف، وفق اتفاق عام 2005، بعد تنفيذ إعادة انتشار جيش الاحتلال في القطاع، وبعد تطور الأحداث، وعدم إصرار دولة الاحتلال على التحكم بمعبر رفح. وكان ذلك يأتي قبل العدوان في سياق سياسة السلام الاقتصادي وتسهيل مستوى المعيشة، وربما لدفع المواطنين إلى مغادرة القطاع بصورة أقل تعقيداً، ولتخفيف التواجد الديموغرافي الكثيف في القطاع.
وتنوعت وسائل الخروج من غزة بعد السابع من أكتوبر، فمنها ما تم من خلال التواصل مع أوساط نافذة بالدولة المصرية سهلت للبعض الخروج، ولا سيما بعض الشخصيات الذين لديهم علاقة بالقوى السياسية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، وتربطهم علاقات ودية وشخصية مع بعض المستويات العليا في الدولة المصرية، وخصوصاً المشرفين على ملف المصالحة وملف الصراع مع دولة الاحتلال. ومنها ما تم عبر وزارة الخارجية المصرية، وذلك من خلال الجهات الرسمية في السلطة الفلسطينية في رام الله التي كانت تقوم بعملية التنسيق لبعض الأسماء. كما تم تفعيل شركة "هلا" للاستشارات والخدمات السياحية التي عملت على تسهيل خروج عدد كبير من العائلات؛[8] وشركة هلا هي شركة خاصة تم تأسيسها بالتعاون بين القطاع الخاص والدولة، وكانت تقدم خدمات VIP للراغبين في السفر من غزة إلى مصر وبالعكس، وبمبالغ مالية تصل بالمعدل إلى 750 دولاراً للفرد، بحسب ظروف العرض والطلب. وكان العديد من المواطنين الراغبين في السفر، وخصوصاً المقتدرين منهم يلجأون إلى الشركة بسبب الازدحام الشديد وطول مدة الانتظار، علماً بأنه كان هناك تنسيق يتم عبر التسجيل في وزارة الداخلية التابعة لحركة "حماس" في غزة، لكن هذا الأمر كان يأخذ وقتاً طويلاً حتى يتم اعتماد الاسم وإعلانه في الكشوفات.
وهناك بعض الأفراد والعائلات من حملة الجوازات الأجنبية والإقامات، والذين قامت سفارات بلادهم في مصر بتسهيل خروجهم، بالتنسيق مع الجهات المشرفة على المعبر.
كما لجأ البعض إلى وسائل التواصل الاجتماعي لجمع التبرعات عبر منصة "GoFundMe"، وغيرها من الوسائل التقنية المماثلة، والتي تتضمن دعوة المتبرعين إلى التبرع للشخص الذي يريد الخروج من غزة، والذي لجأ إلى هذه الوسيلة بهدف جمع الأموال والحصول على تبرع للخروج هو وأسرته من جحيم الحرب والعدوان. وكان هناك شروط فنية لذلك، أبرزها أن يكون لدى الشخص الذي يقوم بجمع التبرعات حساب في أحد البنوك الأميركية. وقد نجحت هذه الوسيلة مع العديد من الحالات إلى أن قامت دولة الاحتلال بالتنسيق مع الجهات الرسمية الأميركية بوضع قيود على البنوك، وعلى عملية التبرع، الأمر الذي قلّص من فرص نجاحها. وعليه فقد تعددت أشكال ووسائل الهجرة إلى أن تجاوز عدد المهجرين أكثر من مئة ألف مهاجر قسرياً.
أخيراً، ونتيجة ازدياد الحالات الراغبة في الخروج من غزة بسبب العدوان، أعلنت شركة هلا جاهزيتها لاستقبال الطلبات، وبمبلغ 5000 دولار للفرد الواحد،[9] فعمد العديد من العائلات إلى التسجيل من خلال أحد الأقارب الموجودين في مصر، وتم تنفيذ عملية الخروج عبر كشوفات كانت تُعلن ليلة السفر بعد إتمام عملية الدفع. وعليه فإن القسم الأكبر من المسافرين سافروا عن طريق آلية شركة هلا.
أوضاع الغزّيين بعد الهجرة الى مصر
شهدت الموجات الأولى من اللاجئين القادمين من غزة إلى مصر بسبب العدوان تبايناً ملحوظاً من حيث المستوى الاقتصادي والاجتماعي. فمعظم هؤلاء اللاجئين الأوائل كانوا من خلفيات اقتصادية متشابهة، حيث تركزوا في فئات رجال الأعمال، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، والعاملين في البنوك والقطاع المصرفي، بالإضافة إلى بعض المسؤولين من القوى السياسية. هذا التكوين يعكس حالة من النفوذ والقدرات المادية، بما في ذلك الإمكانيات الاقتصادية والمعنوية التي ترتبط بالعلاقات الإيجابية مع المستويات القيادية في الدولة المصرية.
لكن مع تصاعد حدة القصف وأعمال الإبادة الجماعية والتدمير، وزيادة عدوانية جيش الاحتلال، بدأ النزوح يشمل فئات أوسع من السكان، وخصوصاً من المخيمات الجنوبية في غزة، حيث تم قطع الطريق بين غزة وشمالها من جهة، وبين المناطق الوسطى والجنوبية من جهة أُخرى، بعد إعادة بناء مستوطنة نتساريم.
بدأ العديد من المواطنين الغزيين بالتفكير في بيع مقتنياتهم الشخصية، مثل مجوهرات الزوجة أو السيارة، لتأمين تكاليف السفر أو جمع التبرعات عبر منصات مثل "GoFundMe". وهذا يعكس وجود تباين اقتصادي واجتماعي بين الغزيين الذين لجأوا إلى مصر؛ فبينما لجأ بعض الفقراء إلى السفارة الفلسطينية في القاهرة وإلى الجمعيات الخيرية للحصول على المساعدات الأساسية كالمأكل، الملبس، والمأوى، أو طلب المساعدة لتأمين رسوم الجامعات لأبنائهم،[10] كان لدى المقتدرين من القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني دور مختلف؛ فقد حاول هؤلاء التأثير على الأوضاع السياسية والاقتصادية لتحريك الجمود فيما يتعلق بتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني في غزة، وكذلك للمحتاجين الذين لجأوا إلى مصر. كما عملوا على تنفيذ آليات لإيصال المساعدات إلى غزة. ومع ذلك، استفاد بعض رجال الأعمال مالياً من هذه الجهود، حيث لم تكن جميع أعمالهم خيرية أو تطوعية بحتة، بل بحث بعضهم عن فرص استثمارية، مثل مشروع "اللسان البحري"، الذي أثار جدلاً واسعاً بين الفلسطينيين حول أهدافه، وما إذا كان يهدف إلى تسهيل إيصال المساعدات أو إلى تهجير السكان.[11]
ويشار هنا إلى أن السفارة الفلسطينية عملت كحلقة وصل بين بعض المنظمات الخيرية، سواء العربية أو الأجنبية، والتي سعت لإيصال المعونة إلى المحتاجين من أبناء القطاع الموجودين في مصر عبر تنسيق العمل وتحضير الكشوفات.[12] وقد قدّرت السفارة الفلسطينية في القاهرة عدد الغزيين الذين هاجروا إلى مصر بـ120 ألف شخص.[13] علماً بأن معبر رفح تم إغلاقه في بداية أيار/ مايو من العام الجاري، وتحديداً في 7 أيار/ مايو، بعد سيطرة جيش الاحتلال على معبر كرم أبو سالم ومحور فيلادلفيا - صلاح الدين، ما دفع مصر إلى رفض فتح المعبر بسبب تهديد هذه السيطرة لاتفاقية عام 2005، وتأثيرها على الأمن القومي المصري.[14] وتشير بعض التقديرات الأُخرى إلى أن عدد اللاجئين وصل إلى أكثر من 150 ألف شخص، حيث غادر بعضهم مصر إلى دول أُخرى بعد حصولهم على إقامات أو جوازات سفر جديدة.
في جدل النزوح والتهجير
دار جدل واسع في الأوساط الفلسطينية حول مسألة النزوح والتهجير، حيث تباينت الآراء حول هذه القضية؛ هناك من رأى أن النزوح سلوك طبيعي، إذ يسعى الإنسان إلى حماية أمنه الشخصي باعتباره من ركائز الحياة الإنسانية الأساسية، ويعدّ حق الحياة أحد حقوق الإنسان المعترف بها دولياً. ففي ظل غياب مكان آمن في قطاع غزة واستمرار الإبادة الجماعية، إلى جانب إخفاق المجتمع الدولي في وقف هذه الانتهاكات، يصبح البحث عن الأمان تعبيراً عن غريزة البقاء الفطرية.[15] في المقابل، هناك من ربط النزوح بالبعد السياسي ومخاطر التهجير القسري، مستذكراً محاولات سابقة، مثل مشروع التوطين في خمسينيات القرن الماضي، ومشاريع دولة الاحتلال التي تسعى إلى تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء وتوسيع هذه المنطقة جغرافياً. كما تم استحضار مؤتمر المستوطنين الذي عقد في القدس بداية هذا العام، بحضور قادة اليمين الديني المتطرف، مثل سموتريتش وبن غفير، والذي دعا إلى تهجير الفلسطينيين من غزة وإعادة الاستيطان فيها.[16] في الوقت نفسه، رأى البعض أن النزوح كان استجابة لاحتياجات إنسانية قهرية وليس بهدف الاستقرار الدائم، مؤكدين أن هذه الظروف الاستثنائية فرضت الهجرة كحل موقت.[17]
أبرز التحديات
أبرز التحديات التي تواجه المهجّرين الغزيين بسبب عدوان أكتوبر 2023 تتمثل في عدم توفر الإقامة في مصر، إذ تشكل الإقامة شرطاً أساسياً لممارسة حياة طبيعية والاستجابة لمتطلباتها. فالتسجيل في المدارس، وفتح حسابات بنكية، والتقدم للحصول على تأشيرات، والسفر، وإقامة المشاريع التجارية أو الخيرية، جميعها تتطلب الإقامة القانونية.
حاولت السفارة الفلسطينية معالجة هذا الموضوع، وخصوصاً بعد تزايد مطالب النازحين، من خلال التواصل مع الجهات الرسمية المصرية. وقد زار وفد من وزارة الدكتور محمد مصطفى الجديدة مصر وعقد لقاءات مع النازحين، حيث كانت الإقامة على رأس مطالبهم وتواصلوا مع الجهات الرسمية المصرية بهذا الخصوص أيضاً.[18] وعلى الرغم من أن الجانب المصري رحّب بوجود الفلسطينيين القادمين من غزة بسبب العدوان، وأبدى استعداده لتسهيل بعض جوانب حياتهم، فإن مسألة الإقامة تواجه صعوبات كبيرة بسبب أبعادها السياسية وارتباطها بالحفاظ على القضية الفلسطينية.[19]
طالب الجانب الفلسطيني، سواء من الوزارة أو السفارة، بإقامة إنسانية موقتة لمدة ستة أشهر أو عام، قابلة للتجديد عند الحاجة. وأكد معظم النازحين استعدادهم للعودة فور وقف إطلاق النار، بل أبدى البعض استعداداً للعودة إلى منازلهم المدمرة والإقامة في خيام.[20]
وعلى الرغم من الجهود المبذولة، فإن قضية الإقامة لا تزال عالقة، على الرغم من بعض التسهيلات المقدمة، مثل تسجيل الطلاب في مدارس الأزهر وفتح حسابات بنكية. والجهود مستمرة للحصول على إقامة إنسانية موقتة، مع العلم أن قبل العدوان، كان حوالي 2000 شخص يعودون يومياً إلى غزة، ما يعكس رغبة الغزّيين في العودة، باستثناء بعض الشباب الذين يفكرون في الهجرة لأسباب اقتصادية.
استقبلت مصر مئات الجرحى وعالجتهم في مستشفياتها، لكن بعضهم ما زال بحاجة إلى دعم إضافي مثل الإمدادات الغذائية والمأوى والرعاية الطبية المستدامة، ما يستدعي تدخل الجهات الرسمية الفلسطينية، التي واجهت بعض الانتقادات من أهالي الجرحى.[21] أمّا فيما يتعلق بالعلاج الصحي، فإن عدم توفر الإقامة يدفع الغزّيين إلى العلاج على نفقتهم الخاصة، وهذا أمر مكلف مادياً، وبحاجة إلى معالجة أيضاً.
وفيما يخص العمل، يواجه الغزّيون صعوبات بسبب عدم توفر الإقامة، ما يجبرهم على العمل بشكل غير رسمي وبأجور منخفضة. كما أن الإقامة القانونية ضرورية لبدء أي نشاط تجاري، ما يدفع البعض إلى التعاون مع شركاء مصريين، وهو أمر غالباً ما يكون مكلفاً ومعقداً. وحتى تسجيل الجمعيات أو منظمات المجتمع المدني يتطلب موارد مالية وجهوداً قانونية كبيرة.
في مجال التعليم، تم ربط الطلاب الجامعيين بجامعات الضفة الغربية عبر منصة إلكترونية دشنتها وزارة التعليم العالي، لكن التحدي الأكبر يواجه طلاب المدارس، الذين لا يمكنهم التسجيل في المدارس المصرية بدون الإقامة، فمدارس الأزهر لا تستوعب الأعداد الكبيرة من الطلاب،[22] ما دفع إلى اقتراح إنشاء مدرسة فلسطينية بمنهاج فلسطيني في القاهرة. إلاّ إن هذا المشروع ما زال في طور النقاش، ويحتاج إلى موافقة من الجهات الرسمية الفلسطينية والمصرية، بالإضافة إلى تأمين التمويل اللازم.[23]
الغزّيون المهجّرون إلى مصر: بين آثار الصدمة وملامح التكيّف
في البداية، سادت حالة من الصدمة بين الجميع. ومع ذلك، بدأ بعض رجال الأعمال ونشطاء منظمات المجتمع المدني بعقد لقاءات تعكس رغبتهم في تقديم الدعم لغزة التي تنزف تحت العدوان. استضافت السفارة الفلسطينية في مصر هذه اللقاءات التي ضمت تمثيلاً لشرائح اجتماعية متنوعة. ومع مرور الوقت، تراجع التركيز على الشأن العام ليحل محله الاهتمام بالمصير الشخصي.
وبدأ أصحاب المشاريع الناجحة سابقاً في غزة بالبحث عن تأسيس مشاريع جديدة في مصر بعد أن تعرضت مشاريعهم في غزة للتدمير. وجاء هذا التوجه نتيجة اقتناعهم بأن الحرب ستستمر لفترة طويلة، وأن إعادة إعمار غزة ستستغرق وقتاً طويلاً وفقاً لتقارير دولية متعددة، ما دفعهم إلى التأقلم مع الظروف الجديدة لتلبية احتياجاتهم الاقتصادية والمعيشية.[24]
وبالفعل، تم افتتاح عدة مشاريع في القاهرة، وعلى الرغم من أن حجمها وإمكاناتها لم تصل إلى ما كانت عليه في غزة، فإن افتتاحها يعكس الرغبة والإرادة في التكيف مع الواقع الجديد. فعلى سبيل المثال، قام الأطباء بالتنسيق مع زملائهم في العيادات والمستشفيات المصرية بهدف العمل، الذي يتطلب شريكاً مصرياً مثل باقي الأعمال التجارية والخدماتية. كذلك بدأ المعلمون بالتفكير في فتح مراكز تعليمية، والتي لا تحتاج إلى ترخيص من وزارة التربية والتعليم لكنها تتطلب شريكاً مصرياً. كما عقد معلمو الجامعات والمدارس لقاءات مع السفارة الفلسطينية للبحث في سبل تسجيل الطلاب في المدارس، وهو أمر معقد بسبب عدم توفر الإقامة. كذلك، تم البحث في إنشاء روابط إلكترونية مع جامعات ومدارس الضفة الغربية، بالإضافة إلى مقترح إنشاء مدرسة فلسطينية بمنهاج فلسطيني في القاهرة. وقد نجحت السفارة جزئياً في تسجيل بعض الطلاب في مدارس ومعاهد الأزهر، وتأمين مساعدات مالية لحوالي 13 ألف طالب جامعي يعانون من أوضاع مالية صعبة، وذلك من خلال بعض الجمعيات الخيرية.[25]
وعلى صعيد الأعمال التجارية، يسعى رجال الأعمال الفلسطينيون للتنسيق مع الشركات المصرية الرسمية والخاصة لإدخال المواد الغذائية والإنسانية إلى غزة، بالإضافة إلى تنفيذ بعض مشاريع المقاولات. ويحاول بعض المقاولين الغزيين توسيع خياراتهم عبر الحصول على عقود مقاولات في الضفة الغربية بعد تراجع الفرص في غزة.
أمّا نشطاء العمل الأهلي، فمعظمهم يعمل من مصر عبر التواصل مع زملائهم المتبقين في غزة ومحاولة إيجاد فرص جديدة لمؤسساتهم في مصر، حيث يسهل الاتصال مع الشركاء والمانحين بفضل توفر الكهرباء والإنترنت. وقد استطاع البعض منهم التشبيك مع المؤسسات الفلسطينية المسجلة في مصر تاريخياً، مثل الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية والاتحاد العام للعمال الفلسطينيين، التي تعد جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية، إلى جانب التنسيق مع السفارة الفلسطينية في القاهرة.
ومع ذلك، يواجه التنسيق مع الشركات والجمعيات المصرية تحديات، ذلك بأن التعاون المؤسسي يتطلب التسجيل في وزارة التضامن الاجتماعي بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية، ووزارات الاقتصاد بالنسبة إلى الشركات، ويستلزم هذا الحصول على الإقامة التي لا تتوفر بسهولة. أمّا من يرغب في تسجيل شركات ربحية، فيمكنه ذلك عبر وزارة الاقتصاد، ما يتيح له الحصول على سجل تجاري والإقامة، لكن هذا يتطلب موارد مالية كبيرة وإجراءات طويلة للمصادقة عليها.
من المهم الإشارة إلى أن هناك شريحة كبيرة من الغزّيين الذين هاجروا إلى مصر يعانون من ظروف صعبة، حيث يبحث البعض عن فرص عمل، حتى بأجور بسيطة جداً، بينما يلجأ البعض الآخر إلى طلب المساعدات من الجمعيات الخيرية والسفارة الفلسطينية التي تمكنت من تأمين مساكن موقتة للبعض بدعم مالي من رجال الأعمال العرب.
وعلى الرغم من التأقلم الجزئي، فإن الكوابيس والصدمات ما زالت تطارد العديد من الغزّيين الذين تضرروا بدرجات متفاوتة. فالبعض فقد أسرته أو منزله أو مصدر رزقه، بينما يحاول آخرون التكيف مع الظروف الجديدة،[26] ويمكن ملاحظة هذا التكيف من خلال انتشار الغزّيين في أحياء مصرية مختلفة تتناسب مع مستوياتهم المعيشية، حيث يسكن البعض في أحياء شعبية، والبعض الآخر في أحياء متوسطة، بينما يقيم البعض في أحياء راقية.
استنتاجات وتوصيات
يمكن القول إن وجود أكثر من مئة ألف مهجّر قسري من غزة إلى مصر يمثل ظاهرة جديدة تتطلب اهتماماً كبيراً. فعدد الفلسطينيين في مصر كان محدوداً للغاية قبل عدوان الاحتلال في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولكن هذا العدد ازداد بشكل كبير نتيجة العدوان حتى تجاوز المئة ألف شخص. وعلى الرغم من أن المجتمع الغزّي لم يُظهر رغبة في الهجرة بشكل عام، باستثناء فئة الشباب لأسباب اقتصادية، فإن الأغلبية العظمى من الذين نزحوا فعلوا ذلك تحت ظروف قسرية، وليس اختياراً طوعياً. والسبب الرئيسي لهذا النزوح الجماعي هو البحث عن الأمان وحماية الحياة في ظل الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة، حيث تم تدمير أحياء سكنية بأكملها، ومحو عائلات من السجلات المدنية، وتدمير البنية التحتية بما في ذلك المستشفيات، والمدارس، والجامعات، ودور العبادة. كما فاقم الحصار الإسرائيلي والسيطرة على المعابر الوضع، ما أدى إلى نقص حاد في الغذاء والمساعدات الإنسانية، وتفشي الأمراض والجوع، الأمر الذي زاد من رغبة السكان في الهجرة.
لقد أثار هذا النزوح جدلاً بين الفلسطينيين، إذ رأى البعض أن الهجرة كانت حاجة إنسانية قهرية، بينما ربطها آخرون بالمخاطر السياسية المتمثلة في التهجير والتوطين. ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن الغزّيين المهجّرين يختلفون من حيث المستويات الاقتصادية والاجتماعية؛ فبعضهم ميسور مادياً ومعنوياً، بينما يعاني آخرون من الفقر والحرمان، حيث اضطروا إلى بيع مقتنياتهم، مثل ذهب الزوجة لتأمين خروجهم، وهم الآن يعتمدون على المساعدات الخيرية.
حاولت السفارة الفلسطينية في القاهرة تعزيز دورها من خلال لقاء ممثلين عن مختلف الشرائح الاجتماعية، وطرحت مسألة الإقامة باعتبارها أساسية لتسهيل متطلبات الحياة اليومية. وعلى الرغم من مساعيها بالتعاون مع وزارة د. محمد مصطفى، فإن هذا الموضوع لا يزال معلقاً. كما قدمت السفارة بعض التسهيلات والمساعدات للمحتاجين بالتعاون مع الجمعيات الخيرية.
وعلى الرغم من الصدمة الأولية، فقد استطاع بعض الغزّيين التكيف مع الأوضاع الجديدة من خلال فتح مشاريع تجارية في مصر، مستندين إلى نجاحاتهم السابقة في غزة. كما حاول القطاع الخاص تنفيذ بعض الأعمال في غزة، واستمر نشطاء المجتمع المدني في التواصل مع زملائهم داخل القطاع لفتح فرص جديدة لمؤسساتهم في الخارج. كذلك، وجد الأطباء والمعلمون مجالات عمل في مصر.
من المناسب التفكير في إنشاء جمعية لتمثيل الغزّيين المهجرين، بحيث تعكس احتياجاتهم وتنسق جهودهم مع السفارة الفلسطينية والجهات الرسمية المصرية والفلسطينية. هذه الجمعية يمكن أن تساهم في تلبية الاحتياجات الأساسية في مجالات التعليم، والصحة، والسكن، والعمل، والاستثمار. وستساعد الجمعية في توحيد الجهود بشكل منهجي ومنظم، مما يحقق التقدم المطلوب بشكل تدريجي ومستدام.
[1] "الحرب على غزة: عندما يستخدم الوصول إلى المياه والطاقة والغذاء سلاحاً"، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، 2023.
[2] أشرف الهور، "الهجرة غير الشرعية تخطف شبان غزة للقارة الأوروبية وتخوفات من مخطط إسرائيلي"، "القدس العربي"، 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
[3] "قرار محكمة العدل. كيف تفاعلت معه دول العالم؟"، "الحرة"، نسخة محفوظة، 3.
[4] "ʾلا تعودواʿ.. نص المنشور الذي ألقته إسرائيل على سكان غزة"، "سكاي نيوز عربية"، 13/10/2023.
[5] تغريد السعايدة، "النزوح إلى المجهول رحلة الغزيين في البحث عن الأمان المفقود"، "الغد"، 18/5/2024.
[6] "يلاحقهم القصف.. تكدس النازحين في رفح وسط غياب مقومات الحياة"، "العربي الجديد"، 31/1/2024.
[7] "بمواجهة الجوع والبرد.. مبادرات فردية في رفح لمساعدة النازحين"، "العربي الجديد"، 26/1/2024.
[8] تامر هنداوي، "شركة هلا تحصد حوالي 185 مليون دولار من عبور 37 ألف فلسطيني عبر معبر رفح منذ بدء العدوان"، "القدس العربي"، 12/4/2024.
[10] مروة جمال، "حرب غزة تفاقم معاناة الطلبة الفلسطينيين في مصر"، "بي بي سي"، 24/12/2023.
[11] سفارة دولة فلسطين لدى الجمهورية التركية.
[12] دولة فلسطين، وزارة الخارجية والمغتربين.
[13] آيات الحبال، "نازحون إلى مصر عالقون في غزة"، "خط 30"، 16/7/2024.
[14] إبراهيم الخازن، "مصدر مصري: القاهرة ترفض تشغيل معبر رفح بوجود إسرائيلي"، "الأناضول"، 24/6/2024.
[15] "حرب غزة: كيف يواجه سكان القطاع مخاطر النزوح من الشمال إلى الجنوب؟"، بي بي سي"، 9/11/2023.
[16] محسن صالح، "مشروع تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء: لماذا وما مصيره"، "عربي 21".
[17] "تهجير الفلسطينيين إلي سيناء مخطط الاحتلال الذي يعود لعقود مضت"، "تي أر تي عربي"، 19/10/2023.
[18] "السفارة الفلسطينية تسعى لتصاريح إقامة مؤقتة لسكان غزة الذين دخلوا مصر خلال الحرب"، "الحرة"، 2/5/2024.
[19] "السفارة الفلسطينية تسعى لتصاريح إقامة مؤقتة لسكان غزة الذين دخلوا مصر خلال الحرب" "الحرة"، 2/5/2024.
[20] أحمد عرفة، "نصب الخيام أمام المنازل المهدومة.. إعلامية فلسطينية تروى معاناة نازحى غزة"، "اليوم السابع"، 23/7/2024.
[21] أطباء بلا حدود، "التقرير الدولي عن أنشطة منظمة أطباء بلا حدود لعام 2018".
[22] "إعلان بشأن طلبة المدارس الفلسطينيين الدارسين بفلسطين والعالقين في مصر"، "نبض"، 22/3/2024.
[23] "ʾالتعليم العاليʿ تباشر بتنفيذ خطتها لاستئناف طلبة غزة مسيرتهم التعليمية في جامعات الضفة الغربية"، وزارة التربية والتعليم العالي، دولة فلسطين، 13/3/2024.
[24] أحمد سعيد حسانين، "كيف يعيش النازحون من حرب غزة في مصر؟"، "إندبندنت عربية"، 19/5/2024.
[25] المصدر نفسه.
[26] المصدر نفسه.