أصبحت تستيقظ أكثر من مرة على صوت القذائف، وتتململ في فراشك بينما تسقط الصواريخ قريباً من مخيمك، ونسْف البيوت واضح جداً، فقد بتَّ تملك الخبرة الكافية لتحديد ماهية الصوت؛ إنه صوت حزام ناري من طائرة F-35، وذلك صوت طائرة مسيّرة "زنانة"، أمّا هذه الأصوات، فهي لنسف بيوت بمتفجرات يزرعها الجنود أسفل المنازل، أو عبر روبوت متحرك. بتَّ تعرف أنواع السلاح عبر الطلقات التي تخرج من فوهات البنادق؛ فهذا صوت كلاشنكوف يستخدمه رجال المقاومة، فتدعو لهم بالتوفيق والحماية وتسديد الرمي، أمّا ذاك، فهو صوت M16 أميركي الصنع، والذي يحمله جنود الاحتلال لأنه من نوع كتسار، وعندما تحضُر المروحية، فأنت كمواطن عادي تضع مجموعة سيناريوهات لوجودها في سمائك؛ فإمّا أن تكون قادمة لإنقاذ جرحى العدو، وإمّا هي عبارة عن زيارة قائد كبير، لكن على الرغم من ذلك، فإنك تستطيع تحديد السيناريو الأكثر دقة تبعاً لمكان تواجد الطائرة في الجهة الغربية وارتفاعها، وليس ذلك فقط، بل أيضاً بات المواطن العادي جداً يحدد نوع الطائرة المسيّرة (drone) وماهيتها وسبب تواجدها، فتسمعه يقول إنها من نوع سكاي لارك للتجسس ومتابعة تحركات بعض الشخصيات، أمّا هذه، فهي تزوفت أو هيرمز. تدهشك المعلومات التي بات يملكها الرجل والمرأة والطفل في قطاع غزة، إذ إن ذلك يعني شيئاً واحداً؛ بعد عام من القتل والإبادة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أصبحنا شعباً عسكرياً، نعرف معظم الأمور والخطط العسكرية، والأطفال الذي كان عليهم أن يذهبوا إلى المدارس لإتمام دراستهم أو مشاهدة التلفاز أو اللعب، صاروا أصلب عوداً وأكثر شراسة، لأنهم باتوا يمارسون مهنة الأنبياء في جمع الحطب ونقل المياه على الأكتاف أو حمل غالونات المياه، ويتعاركون في سبيل تحقيق أهدافهم بإنجاز انتصارات صغيرة، كشراء ربطة خبز في وقت قصير، أو قطع شجرة من أرض مهجورة وسحبها في الشارع ثم تقطيعها وتجهيزها لتكون أداة بديلة للغاز، الذي يُمنع إدخاله قطاع غزة منذ أكثر من عام، على الرغم من سرقته من بحرها، أو صعودهم على الأشجار لقطع حبة جوافة أو جميز أو تين، وهُم بذلك صاروا رجالاً قبل أوانهم، واشتد عودهم، وتحجرت أكفهم، وهذا ما غفل عنه الاحتلال، فقد ضج قلب الطفل بالحقد وجسده بالبطش والقوة، كالإسبرطي المقاتل الذي يتجهز للمعركة الكبرى، وسيأتي يوم لتحقيق الثأر لقتل العائلة.
الليلة الماضية، لم ننم لهول الأحداث في مخيم جباليا، فالشهداء يموتون في الشوارع بلا أي رحمة، ويقتلهم جندي يلعب بشاشة تشبه التابلت، فيقنص هذا الطفل عبر طائرة الكواد كابتر، ويغتال ذلك الرجل، ويتسلى بوضع الرصاصة في قلب فتاة تنتظر نهاية الحرب كي تتزوج من حبيبها الذي اختفت آثاره قبل عدة أشهر، ويقتل من دون أن يعرف بطفل متوحد متعلق بالأب الذي تم اغتياله. فماذا سيفعل ذلك الطفل حين لا يعود الأب؟ ولا يعرف هذا الجندي السادي بأحلام الطفل الذي خرج لأنه لا يجد في بيته الماء، وقرر في لحظة جنون أن يخرج كي يبحث عن قنينة فيها بعض الماء كي يروي عطش أخته الصغيرة. كيف لطائرة إلكترونية أن تقرأ ما يجول في قلب وعقل كل شهيد سقط لأنه يبحث عن حق أساسي في الحياة، وهو الأمن الغذائي، الحق الذي كفلته الشرائع السماوية والدولية جميعها.
وكيف لشخص مثلي أن يعرف النوم بينما الانفجارات المتلاحقة تقض مضجعي نتيجة قصف البيوت المستمر بلا توقف حتى السابعة صباحاً، كأن الاحتلال يريد بذلك إعدام كل مظاهر الحياة في شمال قطاع غزة، ثم يتوغل أكثر عند المستشفى الإندونيسي أو مستشفى كمال عدوان، وينتهك كل الحقوق التي أقرتها الشرعية الدولية، فلا يحافظ على بنود اتفاقية جينيف الرابعة أو الثالث، ولم يسمع بقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان، أو العهود الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، أو حتى الاتفاقيات الأُخرى، ولا يهتم ذلك الجندي بما يقوله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، ولا يشاهد الأخبار، إنما هو منشغل بقتل الأبرياء، لأن ساديته تماهت مع مخطط الاحتلال في إبادة شعب يتوق للحرية.
ولأن الفلسطيني لحم ودم، فهو يحلم كل يوم بأمل مشرق، ويغيب اليوم ليأتي آخر غارق في العتمة، لأن التيه يحاصر الرجال والنساء القابضين على جمر اللحظة، وكأن الناس سكارى، وقد وقع عذاب الله في هذه الأرض التي خُلقت للسلام وما رأت يوماً سلاماً. فتجدهم يحضرون إلى حيث أراد الاحتلال، بعد تعذيب في الرحيل والنزوح، حيث خرج الآلاف من الرجال والنساء إلى شمال غزة، وليس كما يريد الاحتلال إلى الجنوب؛ خرجوا من مخيم جباليا المحاصر والمدمر إلى مشروع بيت لاهيا، ومن هناك إلى بيت لاهيا المدينة، ويمكن أن ينزحوا في اتجاه بيت حانون المحاذي للحدود مع مستوطنات الاحتلال فوق أراضينا وقرانا في الشمال.
وبعضهم بات يسلّم نفسه لشدة الجوع وانعدام المياه، فيسيرون في طريق رسمه الجندي المدجج بكل أنواع السلاح، ويقفون في طوابير الذل، ويصنفهم جندي لا يزال مراهقاً، ببزته العسكرية الأكبر من عمره؛ هذا هنا، وذلك في الحفرة التي حفرتها آلاتهم الحاقدة، وعندما ينتهون من ذلك التصنيف، يأمرونهم بخلع ملابسهم من دون احترام لأعمارهم التي ربما تتجاوز الثمانين، ويتركونهم في العراء، ويعصبون عيونهم، ويضربون الأطفال والشبان، بينما يشربون الماء أمام الأسرى كنوع من التعذيب النفسي، لأن الناس عطشى للماء والحرية.
ولا تنتهي حفلة الشواء تلك هنا، بل أيضاً يأخذون البعض ويقتلونهم أمام أعين زوجاتهم وأطفالهم، والشواهد كثيرة، كما جرى مع ابنة خالي هبة عاشور الغول (سالم ديب)، التي قُتل زوجها وطفلتها أمام عيونها، حين قاموا بتعذيبهم بأعقاب البنادق، وقد أطلق الجنود يومها الرصاص على العائلة كلها. ولأن هبة تخاف على ابنتها الصغيرة، بكت وقالت للجندي: "حرام عليكم، لسه صغيرة." فضحك الجندي بِغِلٍّ وقال بعربية مكسرة: "راخ أريخك منها" (أي سأريحك منها)، ثم أطلق النار على رأس الطفلة التي لم تبلغ من عمرها خمس سنوات بعد.
وعلى الرغم من أن التغطية الإعلامية شبه معدومة في شمال غزة، وخصوصاً بعد فقدان الاتصال بجميع الأهل والأصدقاء جرّاء تعطيل قوات الاحتلال الهواتف الأرضية والمحمولة والإنترنت، فإن المحاصر في مخيم الشاطئ بات يسمع كل يوم بقصص الإعدام الميدانية التي تتم على قدم وساق، وذلك عن طريق الأسرى المحرَرين، إذ يصبّون جام غضبهم على الشبان، بل أيضاً يضعون زوجات الشهداء وأطفالهم في حفر كبيرة، ثم يردمونها بالرمل، ويدفنونهم أحياء، وترصدهم عين الكاميرا والطائرات في الأعلى، والله شاهد على ما يفعلون.
ليلة البارحة، هاتفتني صديقتي التي نفدت بجلدها من القصف، وقد غمرتها السعادة، إذ أعادوا إليها ابنها، وهو الآن نازح في مخيم الشاطئ، فهتفت لشدة الفرح: "إنه بخير"، ذلك لأن معظم الذين يخرجون من مخالب الحواجز الأمنية والطائرات بين الجنود، يمكن أن تتسلى بهم طائرات الكواد كابتر بالقتل أو الجرح، وهؤلاء النازحون الناجون من بطش الاحتلال لا يذهبون إلى الجنوب كما خطط الإسرائيليون، إنما إلى مدينة غزة نفسها لإفشال خطة الجنرالات، التي ما زال جيش الاحتلال يسعى لتحقيقها، ثم الشروع ببناء المستوطنات في قطاع غزة كما عرضته تلك الخطة، ثم نقْل سكان غزة النازحين في جنوب القطاع إلى شبه جزيرة سيناء، ثم التفرغ للضفة الغربية من أجل نقل السكان إلى الأردن بحسب ما تشير دراسات كثيرة.
وأخبرني ابن صديقتي أنهم عصبوا عينيه، وتناوبوا عليه بالضرب على الرغم من حداثة سنه، وطبع أحدهم عليه عقب سيجارته، ثم فجأة، وجد الجنود غنيمة كبيرة؛ إذ وجدوا شاباً يافعاً يحب الحياة، لكنه يحب فلسطين أكثر، فتركوا الجميع وانهالوا عليه بالضرب بينما يرتعد النساء والعجائز من الخوف، فالقتل بالمجان، والصمت أرخص، والأمة غارقة في سباتها، ولا تعلم أن الجندي المدجج بترسانة أميركية يسعى لتحقيق حلمه الكبيرة بإنشاء إسرائيل العظمى من النيل إلى الفرات.
لقد جمعوا الناس زمراً، وحشروهم في ممرات ضيقة، وطلبوا منهم ترك متاعهم وطعامهم، ثم أخرجوهم إلى شارع صلاح الدين، ومن هناك إلى غزة، ولم يخرج أحد إلى جنوب القطاع عبر حاجز نيتساريم، إنما هرب الناس خلال ذلك الشارع إلى حي الشجاعية والتفاح والزيتون والرمال والنصر وحي الشيح رضوان، وقرروا الصمود أكثر في مدينة غزة التي تتبع الآن لشمال غزة بحسب تقسيم الاحتلال الجديد، فالموت مجاني في الجهتين، عدا أن الجنوب خيام وبرد وانعدام للخصوصية. لقد عادوا إلى الشمال من الشمال، كي تستمر حلقة الصمود المغمسة بالخوف والجوع والعطش حتى إيقاف هذه الإبادة، على الرغم مما يعانون جرّاءه من صدمة واضطراب من المجازر المروعة.
ولا يزال القتل بحق الأبرياء مستمراً حتى لحظة الكتابة.