فارقت الطفلة الرضيعة لين السواركة الحياة برداً، ولم تكمل الشهرين من حياتها، وقد أمضتهما من خيمة إلى أُخرى في منطقة مواصي خان يونس جنوبي القطاع، في مطلع كانون الثاني/يناير 2024؛ ففي إحدى الليالي الممطرة، اشتدت الرياح مقتلعة خيمة عائلة والدة الطفلة المصنوعة من النايلون والخشب، وغرق المكان بالمياه، فاحتضنت أم لين رضيعتها لتحميها من البرد، وسارت بها مسافة طويلة وهي تكافح لتحُول بين الرضيعة النائمة والمطر والبرد، إلى أن وصلت إلى خيمة لا تزال متماسكة، وبعد الاستئذان، دخلت مع رضيعتها.
تصوير محمد النعامي
وبعد ذلك أرادت مباشرة أن تبدل ملابس الطفلة، لكنها حينها لاحظت برودة جسدها وارتخاءه، فاكتشفت أنها فارقت الحياة، لتفجع بفقدان طفلتها الأولى بعد أن فقدت زوجها في مجزرة شمال القطاع، وروت بحرقة كيف أمضت تلك الليلة إلى جانب جثمانها حتى طلع الصباح ودُفنت.
كانت لين طفلة بين عشرات الأطفال الذين فتك النزوح وبرد الشتاء القارص بأجسادهم الصغيرة، والحر أيضاً سلب أرواح أطفال نازحين في الخيام غير الآدمية من عائلاتهم.
وبهذه المآسي، يستقبل قطاع غزة فصل الشتاء، وقد تضاعفت أعداد النازحين عما كان عليه الأمر خلال الشتاء الماضي، وزادت الأوضاع سوءاً بعد تدمير معظم مباني مدينة خان يونس، واستمرار العملية البرّية في رفح جنوبي القطاع، فضلاً عن الحملة الإسرائيلية في شمال غزة.
وقد زرنا تجمعات النازحين غرب مخيم النصيرات وقرية الزوايدة ومدينة دير البلح، حيث ينزح أكثر من مليون فلسطيني، ورصدنا أوضاع النازحين واستعداداتهم لاستقبال الشتاء، وأحوال خيامهم ومخيمات نزوحهم.
وتقيم الأغلبية العظمى منهم في خيام مصنوعة يدوياً من الأقمشة والأخشاب وأكياس النايلون، ولا تقي حراً أو برداً، ولا تمنع مياه الأمطار من التسرب، كما أن حرارة الصيف وأشعة الشمس الحارقة ساهمت في تمزيق النايلون وتلف القطع القماشية، وهو ما جعل هذه الخيام غير صالحة للإقامة الآدمية.
وحتى الخيام المخصصة الجاهزة التي قُدّمت ضمن المساعدات، أذابت الشمس المادة الشمعية التي تكسوها من الخارج، وهو ما جعلها عرضة للغرق أيضاً.
تصوير محمد النعامي
وخلال أيلول/سبتمبر الماضي، وصل إلى القطاع منخفَض جوي محدود بكميات قليلة من الأمطار، لكنه كان بمثابة تجسيد مصغر للكابوس الذي سيعيشه النازحون خلال الشتاء، إذ دمرت الرياح والأمطار آلاف الخيام، كلياً أو جزئياً، وعاشوا في كل مناطق القطاع ليلة صعبة مع هطول الأمطار وتسربها داخل الخيام، الأمر الذي أدى إلى غرق فراشهم وملابسهم، وفساد ما يملكون من مواد غذائية.
ومن العائلات التي هامت على وجهها في أثناء المنخفض كانت عائلة أم العبد السيد جاد، وهي سيدة فقدت زوجها منذ شهرين شهيداً برصاص زوارق الاحتلال الحربية، وذلك في أثناء محاولته اصطياد بعض الأسماك أمام مكان نزوحهم على شاطئ مخيم النصيرات وسط القطاع ليسد بها رمق أسرته، وواجهت هذه المحنة من دون معيلها، وبلا عون من أحد.
وقالت أم العبد السيد جاد إن عائلتها استيقظت فزعة مع تساقط الأمطار وتسربها داخل الخيمة، بعد أن كانت قد خلدت إلى النوم، وحاول الجميع في الظلام الحالك تحسُّس مقتنياتهم من فراش وملابس وطعام لإبعادها عن الثقوب لمنع غرقها، ثم تجمعوا في زاوية الخيمة الممزقة ينتظرون توقُّف الأمطار.
وأضافت: "في أثناء تجمعنا في زاوية الخيمة وبعضنا ملتصق ببعضنا الآخر، هبت الرياح ودمرت الخيمة فوقنا، وفي تلك اللحظة شعرنا برعب حقيقي، وابتعدنا عن الخيمة، وغرقت كل الأمتعة التي حاولنا حمايتها من الماء، ورأيت بناتي يعشن حالة من الفزع، وبدأن بالبكاء، ولا يوجد معنا رجل يتدبر أمورنا ويجد لنا مكاناً آخر، فبقينا تحت المطر إلى أن توقف، وظللنا مستيقظين ونحن مبتلين حتى الصباح، وكان البرد وقت الفجر قارصاً، وعجزنا حتى عن إشعال نار ندفئ بها أنفسنا."
تصوير محمد النعامي
ومن جانبها، قالت ابنة أم العبد، الفتاة دينا السيد جاد، إنها في لحظة انهيار الخيمة فوق عائلتها تذكرت اللحظات السيئة التي عاشتها عندما قصف الاحتلال منزلهم فوق رؤوسهم، وعلقوا تحت الأنقاض في مدينة غزة قبل النزوح إلى الجنوب، وكانت هذه الليلة تشبه كثيراً تلك الليلة.
وأضافت: "جميعنا فتيات، وبتنا في العراء، ويحيط بنا البرد والمطر والتشرد وشتى أنواع الخوف. كم افتقدت والدي في تلك اللحظات، ولم أكن لأشعر بهذا الخوف في وجوده، وكنت دائماً أعلم أنه لا يقبل أن نُضام، وأنه يجد حلاً لكل مشكلة. لكن الاحتلال قتله، وقتل معه أملنا في الحياة، وها نحن سنكمل الشتاء في خيمة متهالكة وبلا نقود، وفي مكان يصل إليه رصاص الاحتلال يومياً."
وعقب المنخفض، حذّر مكتب الإعلام الحكومي في غزة، في 14 أيلول/سبتمبر 2024، من كارثة إنسانية تواجه 2 مليون نازح فلسطيني في مناطق متعددة من القطاع مع حلول فصل الشتاء، وأطلق نداء استغاثة إنسانية عاجلة لإنقاذ واقع النازحين مع دخول فصل الشتاء، وكشف عن أن "74% من خيام النازحين أصبحت غير صالحة للاستخدام، وذلك وفقاً لفرق التقييم الميداني الحكومية".
وأفادت تلك الفرق، بحسب المكتب الحكومي، بـ "وجود 100 ألف خيمة من أصل 135 ألف خيمة بحاجة إلى تغيير واستبدال فوري عاجل نتيجة اهترائها".
وكشف المكتب عن منع الاحتلال دخول ربع مليون خيمة وكرفان القطاع قبيل هذا الشتاء، كإحدى معالم حرب الإبادة الجماعية.
وأمام هذه الخيام، يتجمع الأطفال ويقومون بمساعدة عائلاتهم فيما بات يُعرف الآن بـ "أعمال الخيمة"؛ من تنظيف وغسل للملابس، وجمع للأخشاب، وعلى الرغم من بدء درجات الحرارة بالانخفاض بصورة حادة، وحدوث منخفضات جوية، فإن معظم الأطفال لا يزالون بملابس صيفية، نظراً إلى عدم مَلْكِهِم ملابس أُخرى.
ومن الأطفال الذين باغتهم الشتاء، الأشقاء الأطفال محمد وليان ورهف الدريملي، وهم لا يملكون ملابس تقيهم البرد، ويقيمون بخيمة مليئة بالثقوب، وتتهاوى مع كل ريح قوية، ولا تتوفر لهم أغطية تحميهم من اشتداد البرد ليلاً ليتمكنوا من النوم بصورة طبيعية، وبدأت هذه الأوضاع تؤثر في صحتهم بصورة كبيرة.
ومن جانبه، قال والد الأطفال شعيب الدرميلي، النازح في قرية الزوايدة، إن أطفاله يعيشون مأساة حقيقية في ظل النزوح، والحياة في خيمة قماشية لا تصلح لإقامة بشر بداخلها، فضلاً عن قدوم الشتاء، في الوقت الذي لا يملك فيه كل فرد من العائلة سوى ما يرتديه من ملابس فقط، ولا يملكون المال لشراء ما يستطيعون به تدفئة أنفسهم.
وأضاف: "أشاهد أطفالي يرتجفون في الليل، ولا أستطيع أن أحرك ساكناً، وحاولت أن أشعل النار خارج الخيمة وأدخلها إلى الداخل، لكن الدخان كاد يخنقنا. وصلت إلى درجة أمشي فيها في الطرقات وعيني تبحث عن قطعة ملابس بالية استغنى عنها أحدهم، أو قطعة قماش ملقية، فقط لأتمكن من تخفيف البرد الذي يقتحم أجساد أطفالي."
وأوضح الدريملي أن أطفاله أُصيبوا بأمراض جرّاء البرد وقلة الملابس وسوء التغذية والتلوث، ولا تتوفر مؤسسة طبية تتمكن من تشخيص حالتهم، فالمستشفيات باتت متخصصة بالشهداء والمصابين، والنقاط الطبية تخصَّص لمهام الإسعافات الأولية والتطعيمات فقط، ولا تستطيع الأسرة دفع نفقات الذهاب إلى طبيب خاص.
وتابع: "وصل الوضع الصحي لطفلي محمد إلى درجة يخرج فيها دم منه في أثناء قضاء الحاجة، مع حالات البرد، وبناتي وجوههن شاحبة ويعانين جرّاء أمراض جلدية، وحتى زوجتي تمر بوضع صحي صعب، ولا يمكننا أن نعرف نوع المرض، أو نحصل على علاج."
ولا تقتصر المعاناة على الأطفال، إذ طالت الأوضاع الصعبة كل الشرائح العمرية والجندرية، فحتى الشباب زادت معاناتهم الحياتية والشخصية، فضلاً عما يحملونه من مسؤوليات تجاه عائلاتهم.
وكان الشاب أحمد عمران (32 عاماً) واحداً من آلاف الشباب الذين يستقبلون الشتاء بلا مأوى آدمي، أو ملابس دافئة، أو مصدر دخل.
تصوير محمد النعامي
وقال أحمد عمران إنه نزح من منزله في حي الشجاعية من مدينة غزة، في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قبل عام، بملابسه نفسها التي يرتديها، ولم يكن يتوقع أن الحرب ستطول، لذلك لم يجلب معه ملابس شتوية، وأمضى الشتاء الماضي بملابسه الصيفية، وفوقها سترة أعطاه إياها أحد جيرانه.
وأضاف: "ملابسي التي أرتديها وصلت إلى مرحلة الاهتراء وتفكُك القماش، وكذلك أمشي منذ 4 أشهر حافي القدمين، وأتحرك في شوارع معسكر دير البلح بهذا الشكل، والجروح في قدمي خير دليل، وإذا ركزت على أقدام المارة، فستجد أني لست الوحيد الذي أمشي حافياً، بل أيضاً بات هذا الأمر شائعاً. أصلحت حذائي مرات عديدة إلى أن وصل إلى مرحلة لا يمكن فيها إصلاحه."
وأوضح عمران أن الاحتلال يحاول قتل النازحين الذين لم يقتلهم بالقصف بكل الوسائل الأُخرى، ومنها البرد، إذ يمنع دخول المساعدات التي تحتوي على ملابس، وكذلك يمنع البضائع أن تحتوي على ملابس، كما منع الخيام، وإذا وُجدت ملابس في السوق، فهي غالية جداً.
المصدر:
"غزة: الإعلام الحكومي يحذر من كارثة إنسانية حقيقية مع حلول الشتاء". "عرب 48". 14/09/2024.