منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تاريخ بدء المواجهات على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، واشتداد العدوان الإسرائيلي بعد انطلاق جبهة المساندة لغزة، واجه لبنان محنة إقفال المدارس في مناطق الشريط، والتي طالت الأساتذة والتلامذة. وبعد نحو شهر من المواجهات، اتخذت وزارة التربية في لبنان قراراً بعدم التعطيل لإنجاز أكبر نسبة من الدروس، قبل أن تتدحرج الأوضاع الأمنية وتتفلت الأمور بفعل القصف الإسرائيلي المتمادي للقرى الحدودية، والتي طالت المدنيين، واستهدفت المدارس، وهو ما أدى إلى نزوح أكثر من 100,000 لبناني، بينهم نحو 11,000 تلميذ وطالب إلى مناطق آمنة خارج الشريط الحدودي، وخصوصاً إلى مدينتَي صور والنبطية وصولاً إلى صيدا وبيروت، واستقر بعضهم في مراكز إيواء أبرزها مدرستين ومؤسسة مهنية في صور.
في تلك المرحلة التي بقيت فيها الحرب محصورة في القرى المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة، والتي كانت تتوسع إلى مناطق أبعد في العمق اللبناني نتيجة الاستهدافات والاغتيالات بالطائرات الإسرائيلية، تركت وزارة التربية الخيار لمديري المدارس في المناطق القريبة أو المحاذية للحدود لتقدير الوضع من جهة الإقفال من عدمه، إذ تبيّن أن بعض هذه المدارس بقي مفتوحاً، وبعضها الآخر أُقفل لأيام قليلة بفعل التطورات الأمنية، وخصوصاً في بلدة الخيام، بينما استمر التدريس في مدارس حاصبيا ومحيطها، وأيضاً في القرى الخلفية الممتدة من صور وبنت جبيل وصولاً إلى مرجعيون.
التلامذة النازحون
أشارت بيانات وزارة التربية والمناطق التربوية إلى أن عدد التلامذة الذين نزحوا بعد شهر من المواجهات نتيجة الأوضاع الأمنية وإقفال مدارسهم بلغ نحو 2200 تلميذ، التحق أكثر من 700 منهم بمدارس بين صور وصيدا والنبطية، وآخرون انتقلوا إلى بيروت مع أهاليهم. وأكبر مدرسة أُقفلت كانت شبعا الابتدائية الرسمية التي يبلغ عدد تلامذتها 500 تلميذ، تليها مدرسة شهداء عيناتا الرسمية وفيها 341 تلميذاً، وعيتا الشعب المتوسطة وفيها 310 تلامذة، ثم مدرسة الناقورة الرسمية وفيها 167 تلميذاً، ومدرسة طير حرفا المتوسطة وفيها 164 تلميذاً. وبلغ العدد الفعلي للمؤسسات المقفلة 18 مدرسة وثانوية، قبل أن يبدأ بالارتفاع ويصل إلى 35 بين الخاص والعام.
والتحق عدد من أساتذة المدارس الحدودية المقفلة وتلامذتها بمدارس بديلة في منطقتَي صور والنبطية، ووضعت الوزارة خطة طوارئ بالاتفاق مع اليونيسف، ففتحت ما يسمى بمدارس طوارئ ممولة من الجهات المانحة، بلغ عددها 7 مدارس بين صور وصيدا والنبطية للاستيعاب والتعويض كجزء من خطة الاستجابة لاستمرارية الدراسة وعدم التعطيل تحسباً لتطورات ممكنة. وأُخذ بعين الاعتبار إمكان تعميم التعليم عن بُعد أو التعليم المدمج في مناطق معينة إذا توسعت دائرة المعارك في الجنوب، أمّا إذا اندلعت حرب كبرى، فلا يعود التعليم معها ممكناً، ولا خيارات ولا خطط طوارئ فاعلة إلاّ بعد انتهاء الحرب ومواجهة تداعياتها.
بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وأيلول/سبتمبر 2024
في المرحلة الممتدة من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى منتصف أيلول/سبتمبر 2024، بقيت التأثيرات في القطاع التعليمي في لبنان متركزة في مناطق الجنوب الحدودية وبعض القرى الخلفية شمال الليطاني، بينما لم تنعكس الأزمة مباشرة في الجامعات باعتبار أن مجمعاتها موجودة في المدن الكبرى، باستثناء فروع جغرافية قليلة في بعض القرى الجنوبية لعدد من مؤسسات التعليم العالي. وقد تمكنت وزارة التربية من إجراء الامتحانات الرسمية حتى في ظل جدار الصوت الذي كانت تخرقه الطائرات الإسرائيلية في سماء الجنوب. لكن ابتداءً من 25 أيلول/سبتمبر، تاريخ إعلان الحكومة الإسرائيلية بدء العمليات البرّية في الجنوب، واشتداد العدوان على مناطق الجنوب والبقاع وقصف الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي تزامنت مع انطلاق العام الدراسي، بدأت الأوضاع في القطاع التعليمي تتدهور مع موجات النزوح، بالإضافة إلى التدمير الممنهج لأحياء بكاملها، ولم تُستثن مجمعات مدرسية في مختلف المناطق.
وقد نزح أكثر من 1,400,000 لبناني خلال أسبوعين من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع إلى مناطق آمنة، وذلك جرّاء الحرب الإسرائيلية التدميرية التي طالت كل لبنان. وبين هؤلاء النازحين، هناك نحو 500,000 تلميذ وطالب من المدارس الرسمية والخاصة والجامعة اللبنانية باتوا خارج التعليم، ويضاف إليهم تلامذة من مدارس الأونروا للّاجئين الفلسطينيين، فضلاً عن آلاف النازحين السوريين. وقد تعطل التعليم في كل لبنان في ظل أجواء الحرب والعدوان الإسرائيلي الذي طالت استهدافاته أيضاً شمال لبنان والعاصمة بيروت. وبينما علّقت وزارة التربية في لبنان الدراسة لمدة أسبوعين، فقد عملت على وضع خطة استجابة طارئة لإعادة إلحاق التلامذة بالمدارس عبر التعليم عن بُعد، بعدما انتهت من جمع البيانات، وبدأت التسجيل إلكترونياً لتلامذة القطاع الرسمي بصورة خاصة، لكن بقيت المعوقات ماثلة أمام إعادة تسيير النظام التعليمي بالكامل، على الرغم من استئناف التعليم الخاص الدروس حضورياً على مسؤوليته وفق تعميم التربية وعن بُعد، إذ إن أكثر من 630 مدرسة رسمية في المناطق الآمنة تحولت إلى مراكز إيواء، وبالتالي، فقد باتت تحتاج وزارة التربية إلى إمكانات ودعم لتنفيذ خططها، وخصوصاً إذا طال أمد الحرب، وهو ما يؤدي إلى أزمات في مجتمعات النزوح.
ووفق وزارة التربية، فإن إن أكثر من 70% من المدارس الرسمية والمؤسسات التعليمية الأُخرى باتت غير قادرة على فتح أبوابها للتعليم في ظل الأوضاع الراهنة، الأمر الذي يعطل وصول الطلبة إلى التعلم على كل المستويات. وقد أدت هذه الأزمة إلى توقف العام الدراسي لأكثر من 41% من طلبة المدارس والمعاهد المهنية والتقنية، و57% من المعلمين، و40% من طلبة الجامعات، وهو ما يزيد من حدة الفقدان التعلمي، ويهدد رأس المال البشري في المستقبل.
بات اشتداد العدوان الإسرائيلي وقصف المدنيين يؤثر في قدرة النظام التعليمي اللبناني وإمكاناته على الصمود أو حتى الاستمرار، فالضغوط التي تعرض لها كبيرة، وخصوصاً أن ارتدادات الحرب على النظام التعليمي المدرسي والجامعي باتت تعصف بكل مكوناته. وترتبط طاقة وزارة التربية على التحمل بقدرة لبنان على مواجهة الأزمة الأخطر في تاريخه، إذ إن التكلفة كبيرة على كل القطاعات، لكن الأعباء على التربية سترتب نتائج كارثية في حال لم يُنظر إليها كقطاع له أولوية إلى جانب الغذاء والصحة والحماية. لذا، فقد طرح التربويون سؤالاً فحواه: إذا سقط العام الدراسي، هل سيكون من السهل تعويضه؟ فالتأثير سينسحب على الجميع، وليس فقط على النازحين.
مرحلة جديدة
مع بداية الحرب البرّية واشتداد القصف التدميري، عُلّق التدريس في المدارس الرسمية والخاصة والجامعات حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر، ودعا وزير التربية خلال اجتماع لجنة الطوارئ التربوية إلى ضرورة جمع البيانات المتعلقة بالمتعلمين والمعلمين والمؤسسات التربوية، والتعرف عن كثب على واقع النزوح من أجل وضع الخطط المناسبة للتلامذة لضمان استمرار انخراطهم في العملية التعليمية. وقد التزمت المؤسسات التعليمية الخاصة تعليق الدروس، باستثناء خروق لبعضها، وقررت التعليم عن بعد. وبدا في الوقائع أن قسماً كبيراً من تلامذة لبنان في القطاع الخاص والرسمي تشردوا، بينما الباقون الذين يعيشون في مناطق آمنة لم يتمكنوا من الذهاب إلى مدارسهم بفعل تحوّلها إلى مراكز إيواء. وتوضح الخريطة المدرسية اليوم إغلاق المدارس والثانويات والمعاهد والمدارس المهنية الرسمية والخاصة، والجامعات في محافظات الجنوب، والنبطية، والبقاع، وبعلبك الهرمل وصولاً إلى الضاحية الجنوبية وبيروت، بينما باتت المناطق الآمنة محصورة في الجزء الشرقي من بيروت ومناطق كسروان وجبيل في جبل لبنان والشمال وعكار، عِلماً بأن مئات المدارس في المناظق الآمنة تحولت إلى مراكز إيواء، وبينها كلّيات في الجامعة اللبنانية، وبعض الجامعات الخاصة في بيروت والمناطق.
وللتأثير في النظام التعليمي في لبنان تداعيات غير مباشرة أيضاً؛ إذ إن استئناف عدد من المدارس الخاصة والجامعات التدريس عن بُعد أو حضورياً لم يكتمل بسبب أجواء الحرب، وبسبب سفر عدد كبير من التلامذة والطلبة مع أهاليهم، حتى إن كثيرين منهم لم يسددوا أقساطهم، وهو ما ظهر بوضوح في الجامعات الكبرى، إذ تشير اللوائح الخاصة إلى أن أكثر من ألف طالب في الجامعة الأميركية لم يسددوا أقساطهم بسبب الأزمة، وفي الجامعة اليسوعية تجاوز العدد 3000 طالب، بينما تجهد المدارس الخاصة إلى استيفاء أقساطها بصعوبة، وخصوصاً بعد تعميم وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي بضرورة خفض قيمة الأقساط والأخذ بعين الاعتبار الوضع الحربي الراهن الذي يؤثر في الجميع معيشياً واجتماعياً.
خسائر مباشرة وغير مباشرة
تُعتبر خسائر القطاع التعليمي اللبناني جرّاء الحرب الإسرائيلية فادحة وكارثية، وبينما لم تقدَم إحصاءات دقيقة بشأن أضرار المباني المدرسية في المناطق الحدودية، فإن المعطيات تشير إلى تدمير العديد من المدارس ضمن موجة القصف العشوائي العنيف التي تطال المؤسسات والمدنيين، بينما استشهد العشرات من الطلبة والتلامذة والأساتذة جرّاء القصف الإسرائيلي، وقد نعت الجامعة اللبنانية، التي قررت التعليم عن بُعد بدءاً من 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، عدداً من خريجيها، بينهم المهندسة المعمارية رولا دقدوقي، والصيدلي موسى سموري، ومحمد عباس (طالب دكتوراه في قسم الجغرافيا)، ورشا أحمد غريب (سنة رابعة طب أسنان)، والمهندسة المعمارية مايا أحمد غريب (خريجة كلية الفنون) وعائلتهما، بينما نعت مجموعات طالبية على وسائل التواصل الاجتماعي العديد من الطلبة والتلامذة وأكاديميين استشهدوا نتيجة الحرب.
وتتمثل إحدى أزمات النظام التعليمي في لبنان نتيجة الحرب أيضاً بالانقسام في مقاربة العام الدراسي، إذ تدعو بعض الأصوات التي تمثل تيارات سياسية معينة إلى تأجيل العام الدراسي، والانتظار حتى انتهاء الحرب، ولو استمرت لعام كامل، وفي المقابل، تتمسك تيارات أُخرى باستئناف التعليم في المناطق الآمنة، عِلماً بأن بعض المدارس، ومنها الكاثوليكية، بدأت التعليم عن بُعد قبل أن تضع وزارة التربية خطتها لمواجهة الأزمة، لكنها عملت على استيعاب الوضع، وهو في الأساس وضع متأزم ربما تؤدي تطوراته إلى الإطاحة بالعام الدراسي كله.
ويحتاج التعليم والجامعات في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية إلى الدعم والاحتضان، وبصورة أساسية من الجهات المانحة والدول التي تقدم المساعدات في الأزمات، والتمويل. ويتبين أن قطاع التربية يحتاج في الأزمة الحالية إلى نحو 25 مليون دولار ليتمكن من توفير التعليم في ظل الحرب والنزوح، وفق ما تشير إليه تقارير إحصائية صادرة عن وزارة التربية، إلاّ إنه لم تتأمن أي مبالغ له، ضمن بيانات الحاجات الرسمية، بينما تأمنت للقطاعات الأُخرى أكثر من 450 مليون دولار كمساعدات دولية وعربية منذ أن توسع العدوان الإسرائيلي، وذلك على الرغم من مناشدة وزارة التربية إلى المساعدة خلال لقاء موسع مع ممثلي الجهات المانحة ضمن جهود مواجهة تداعيات الحرب. لكن منظمة اليونيسف أوضحت في بيان لها، استجابةً للأزمة المتصاعدة في لبنان، أن صندوق "التعليم لا ينتظر" وشركاءه الاستراتيجيين أعلنوا تمويلاً إضافياً بقيمة 1,5 مليون دولار أميركي لدعم شمولية وصول الفتيات والفتيان المتضررين من النزاع إلى التعليم الجيد. وسيتم تولّي توفير توسيع تكلفة منحة الاستجابة الطارئة الأولى لقطاع التعليم في لبنان، ضمن محفظة استثمار صندوق "التعليم لا ينتظر"، البالغة 25,8 مليون دولار أميركي، إلى 1,2 مليون طفل في لبنان.
إعادة هيكلة التعليم
تحاول وزارة التربية هيكلة التعليم ضمن الأوضاع الراهنة في مراكز الإيواء وخارجها انطلاقاً من مبدأ إبقاء التدريس حاضراً ولو بالحد الأدنى، لكن المشكلة تبقى في تنظيم المراكز باعتبارها موقتة، وحماية التلامذة في ظل مخاوف من التسرب، إذ لا يمكن التسليم بأن تصبح المباني المدرسية مراكز دائمة للإيواء، وخصوصاً أن أغلبية النازحين هم من طائفة واحدة، وهو ما يفاقم الوضع ويزيد من الأعباء، بل أيضاً يمكن أن يؤدي إلى كارثة محدقة لا يمكن لقطاع التربية تحمّلها، كما لا طاقة للبلد كله على استيعابها، وهذا يستدعي مقاربة مختلفة للخروج من الأزمة. وإذا بدأ تعليم الأولاد في مراكز الإيواء المكتظة بالنازحين، وبينهم في الرسمي والخاص، في ظل الواقع المأساوي الذي يعيشونه، فستحدث فوضى عارمة ما لم تنظَم هذه الأعداد التي بدأت تتحول إلى مجتمعات قائمة بذاتها. أمّا المشكلة الكبرى التي تواجه التربية في مباشرة التدريس عن بُعد لتلامذة الرسمي والخاص النازحين، فهي كيفية إعادة توزيعهم وترتيب العملية التعليمية مع المعلمين النازحين أيضاً، حتى لو تمكنت الوزارة من جمع البيانات وتحديد أماكن وجود التلامذة، إلى كيفية توزيع أجهزة التابلت أو التعليم عن طريق الهاتف الذكي. وستأخذ المسألة وقتاً طويلاً قبل أن تنتظم العملية، فيكون الخاص الذي فتح أبوابه في المناطق الآمنة أو المدارس التي قررت التعليم عن بُعد لاستيفاء الأقساط قد قطعا شوطاً متقدماً في إنجاز المنهاج، وسيحتاج تلامذة القطاع الرسمي النازحون وغير النازحين المشغولة مدارسهم، وأيضاً قسم من الخاص، إلى وقت إضافي للّحاق والتعويض، ويمكن أن يكون صعباً، وربما مستحيلاً، الوصول إلى إحداث نوع من التوازن في التحصيل العلمي.
في كل الحالات، يرتب العدوان الإسرائيلي على لبنان نتائج كارثية على التعليم ستظهر أكثر في المستقبل. أمّا اليوم، فتبدو الأمور معقدة إلى أبعد حد بعدما ارتدّت تداعيات الانقسام اللبناني السياسي والطائفي على القطاع التربوي. فتنظيم أوضاع النازحين في زمن الحرب وإشراف مؤسسات الدولة على متابعة شؤونهم هو المدخل لانتظام عملية التعليم، من دون أن يعني ذلك تجاوز الأزمات، إنما التكيف معها بالحد الأدنى منعاً للفوضى، ولحماية جيل تتقاذفه رياح الحرب الهمجية الإسرائيلية. وعليه، يبقى استمرار التعليم جزءاً من المواجهة لتدارُك تداعيات الحرب الكارثية على البلاد، وبالتالي يصب في عملية الإنقاذ.
مصادر:
-
"النشرة الأسبوعية حول الاستجابة لحالة الطوارئ التربوية". موقع وزارة التربية والتعليم العالي. 14/10/2024.
-
بيانات وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي.
-
صحيفة "النهار".