ملاحظة محررة: الإبادة الجماعية تعيش في جسدي
التاريخ: 
22/10/2024
المؤلف: 
الصورة معدلة للشوكران السام، زهرة برية من فلسطين.

أحاول جاهدة أن أكون صامدة.

فأنا مثلكم، أبتلع الصدمة عبر شاشة هاتفي.

لكنني كصحافية ومحررة، أرغم نفسي على أن أكون أداة تنقل الحقائق، بعيداً عن تأثري الشخصي. فأنا هنا لأروي الحكايات، لا لأعيشها.

تتغلغل القصص في كياني، وتترك فيه أثراً عميقاً.

أقرأ كل شهادة أنشرها مراراً، وأتقمص كل قصة أحررها وأعيد تحريرها، وكأنني أبحث عن معنى جديد في كل مرة. وعندما أتفقد ملفاتي المزدحمة بالصور، أفتح كل مجموعة منها، واحدةً تلو الأُخرى، فأكبرها، وأقرّبها أكثر، باحثة عن الجغرافيا والأسماء. وكلما تصفحت مصدراً جديداً، أو فتحت رابطاً حديثاً، تراكمت الذكريات في رأسي، فأسافر عبر الزمن، فأعود إلى سنة 1982 لأرى الجثث ملقاة على الأرض، ثم إلى سنة 2024 لألمح الأطراف المبتورة بين الأنقاض. 

أقاوم، أقاوم. لكن الصدمة تظل حاضرة. 

المشهد الأول: في غرفة الكتابة، أقصد الأخبار 

أمّا عن علاقتي بالكتّاب الذين أعمل معهم، أعني "كتّابي"، فأنا أتعلم أسماء أمهاتهم وأجدادهم الذين استشهدوا حين أقرأ سطورهم، وأعرف شكل الطائرات المسيّرة التي كادت تقتل أبَ أحدهم، وأتوجع مع ألم إحداهن على أخيها الصغير الجائع الذي يفتقد شاورما أمه التي قُتلت، وأقرأ عن خصلات الشعر التي قُصت والرموش التي احترقت، وأتعرف إلى الطفل الذي يتمنى الموت خارج غزة بعد النزوح، وأحفظ الطرق التي تقود إلى منازلهم، وألاحظ الفارق بين لهجاتنا في رسائلهم الصوتية عبر "واتساب"، وأتعرف على تاريخ القرى التي هُجروا منها، وأحتفظ بالصور في ذاكرتي في كل مرة أكتب فيها تعليقاً على فقرة، وأرسم شجرة العائلة في ذاكرتي عندما أضيف رابطاً إخبارياً عن مجزرة، كما تسكنني الصرخات، وتزحف الأصوات عبر سماعاتي بينما أقتطع وأنتج المقاطع المصورة، وأسرّع اللقطات وأوقفها، باحثة عن معلومات جديدة لتحديث موجز الأخبار.

هذه الفتاة تشبه أختي، وصوت ذلك الرجل يشبه صوت والدي، طفولتهم هي طفولتي، والآن لم تعد تخص أياً منا. أكفكف دموعي بينما أجهز قياس المنشورات لتناسب منصة "إنستغرام"، فأضع اسم الكاتب إلى جانب شهادته التي شاركها معي، وأصحح الأخطاء المطبعية كي تصبح جاهزة للنشر.

ثم أواسيهم بأقصر الطرق، فأرسل إليهم رسالة نصية أو بريداً إلكترونياً، فيخرج صوتي بين كلماتي:

"الله يرحمه، أنا آسفة. شكراً إنه ساهمتو بالكتابة معنا. رجاءً! خبروني شلون ممكن ساعد؟ بدكم شريحة إلكترونية؟ شكراً على شهاداتكم." 

أنا صامدة، صامدة. لكنني أحتضر. 

أنشر البهجة في المحادثات، وخلال الاجتماعات، وعبر المكالمات الهاتفية. وحتى هذه اللحظة، لا أعرف كيف أشارك حزني وعزائي علناً، ولا أحتاج إلى ذلك، فأنا كأمي صامدة؛ فلا تتحدث أمي عن الحرب، لكن ذات مرة، عرفتُ بالصدفة بحادثة هبوط البساطير الإسرائيلية على سطح منزل عمتها في صيدا بينما كانت تمضي ليلتها عندهم، ولم يكن سهلاً عليهم ألاّ يصرخوا، وعلى مضض وبهلع، خيّم الصمت عليهم وكأنهم لم يكونوا هناك. ومع كل ذلك، دائماً ما تنهي أمي محادثاتنا بتذكيرها لنا بالصلاة، وتُتبعها برسالة "واتساب" تحتوي على أدعية لنتلوها، ودروس من القرآن لنقرأها، فإيمانها راسخ بما يكفي لتقول لنا في كل مرة نواجه فيها أزمة عائلية أو صحية:

"الله يجعلها أكبر المصايب"، في محاولة لتهدئة مخاوفنا. 

وأنا في قرارة نفسي، أعرف أن هذا لن يهدئ من روعها علينا.

أحاول أن أصمد. 

المشهد الثاني: الإبادة الجماعية وحش يأكل نومي 

عندما بدأت الإبادة الجماعية — وهو وصف مخيف بأن يصبح للإبادة خط زمني يحدد وقت بدايتها ويخفي وقت نهايتها — باتت تراودني الكوابيس، لكن وصفها بالكوابيس ليس دقيقاً بالضبط. لقد كانت تنتقل روحي في أثناء نومي، فأراني في غزة، فتمزقني الأشباح من كل جهة، وتنتهكني من كل صوب، والعالم حولي أحمر. ولعدة ليالٍ في الأسبوع، كنت أستيقظ مذعورة، فأنهار باكية. 

في كل مرة يعجز عقلي عن إدراك أنني صحوت، يجتاحني الفزع.

صمودي يتداعى. 

المشهد الثالث: الإبادة الجماعية تسرق أحبّتي 

في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت قوات الاحتلال صديقتي الجديدة الفنانة الغزّية هبة زقوت، التي تعرفت إليها في الذكرى الـ 75 للنكبة، إذ ساعدتها في ترجمة رسالة فيديو شاركتها مع التجمع النسوي الفلسطيني. ثم تواصلنا لاحقاً وتقاطعت طرقاتنا؛ إذ كانت تسعى للوصول إلى جمهور يتحدث الإنكليزية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة أعمالها الفنية، وأنا أملك وسيلة لذلك؛ لغتي الإنكليزية. وبعد مرور أكثر من عام، وتحديداً في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أرسلتْ إلّي هبة صوراً لاثنين من أطفالها وهما جالسَين على الشرفة، أحدهما ينظر في اتجاه الكاميرا بعينين متسعتين من الرعب، ووراءهما سحابة دخان تتصاعد في إثر غارة جوية قريبة، وأرفقت رسالتها الأخيرة بها:

"مش عارفة أنام من الخوف! إدعيلنا."

فدعوت لهم من قلبي، لكن دعائي لم يكن كافياً. 

تدهور نومي، وامتنعت من مغادرة المنزل لأسابيع، فقد عمّت الفوضى العالم الخارجي حولي، وكانت ترعبني فكرة رؤية الناس وهم يمضون في حياتهم وكأن إبادة لا تحدث على مرأى منهم، ويثير اشمئزازي أولئك الذين يرتدون أزياء الهالوين، ويخيفني المتطرفون الذين يطلقون النار بعشوائية على شباب يرتدون الكوفيات، ويقتلني مجرد التفكير في أن مسناً — في هيئة جارٍ صديق وثقة — يطعن طفلاً فلسطينياً في بيته. وعندما خرجت أخيراً، كان ذلك إلى غرفة الطوارئ، مرة، ثم مرتين، ثم ثلاثاً.

"الله يجعلها أكبر المصايب "، طمأنتني أمي. 

لم أستطع التنفس، وجسدي كان يؤلمني، وقلبي يتوق للانعتاق من الألم.

صمودي يتداعى.

المشهد الرابع: الإبادة الجماعية تسرق أحبّتي، للمرة الثانية

في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قتل الاحتلال محمد حمو.

وقد كان محمد كاتباً شاباً من الذين أُرشدهم ضمن مشروع "نحن لسنا أرقاماً". وقد استطعت أن أتواصل معه كلما أتيحت له فرصة الوصول إلى شبكة الإنترنت خلال الإبادة الجماعية في غزة. ولتمضية الوقت، تحدثت إليه عن كثير من التفاصيل: عن حديقة جده، وجامعته المُدمَّرة، وشاركني عادته في الرسم واللعب مع ابن عمه الطفل، يامن. كما أرسل إليّ صوراً من المنشورات التي تُسقط شؤماً من السماء، وأخبرني عن تلك الغارة الجوية الغادرة في الحي، والتي فقد في إثرها 16 فرداً من عائلته.

كما حدّثني عن أمّه، معلمة اللغة العربية، التي لم تتوانَ قط عن الذهاب مبكراً إلى المدرسة في اليوم الأول من الإبادة الجماعية من أجل بروفات التدريب المسرحي مع طالباتها، وعندما بدأت الغارات الجوية الإسرائيلية تتصاعد، لم تردّ على هاتفها، فمضى وأبوه مرعوبَين ليبحثا عنها، ولما وصلا إلى المدرسة، وجداها في مكتب المدير تنتظر مع إحدى الطالبات وصول أحد أفراد عائلتها، فقد كانت ترفض المغادرة قبل أن يصطحب كل والد طفله. وخلال عملي مع محمد، شعر بحماسة كبيرة ليشاركني مسودة قصته الأولى التي يروي فيها تجربته خلال حرب غزة سنة 2014، لكن الاحتلال قتله قبل ساعات قليلة فقط من بدء الهدنة الموقتة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، خلال الحرب التي لا تنتهي. 

بكيت بحرقة وقتها، وما زلت أبكي.

أحاول أن أستعيد صمودي. 

المشهد الخامس: جسدي في حالة حرب، يحاول أن يقتلني 

في آخر المطاف، يبدو أنني بدأت السيطرة على نوبات الهلع.

قرأت عن امرأتين شابتين من غزة — إحداهما اسمها سمر، وكانت تقطن في القاهرة، والأُخرى اسمها شذى، وكانت تعيش في إسطنبول — توفيتا في إثر نوبات قلبية بعد انقطاع الاتصال بعائلاتهما. أنا في حاجة إلى رؤية ما يفعله الإسرائيليون بشعبي، إلاّ إنني بلا قصد توقفت عن رفع صوت المقاطع التي تصل إليّ عبر شاشتي. ولم يجلب الاستماع إلى تلك الانفجارات وذلك الصراخ سوى الحزن وحمله إلى نومي. وعلى الرغم من ذلك الامتناع، فقد تفاقمت آلامي الجسدية، فبعد عدة أشهر من المداومة على كتابة أخبار الإبادة الجماعية، وتنسيق الحوارات والشهادات والترجمات وتحديث الأخبار وتحرير المسودات، انهار جسدي. 

تعرضت لانفجار كيس مبيضَي هذا الصيف، وكاد يؤدي هذا إلى مصيبة لو لم تكن العناية الطبية متوفرة لي. وقالت لي الطبيبة: "يمكن للتوتر أن يسبب كل ذلك!"

وعلى مضض، أشعر بكم أنني محظوظة لأنني أحظى بهذه العناية الكاملة؛ كان لدي أطباء يعاينونني، ومستشفى تتوفر فيه جميع متطلبات الرعاية الصحية التي أحتاج إليها، والأمان في تلقّي العلاج، والخصوصية، والأدوية، والماء.

يا إلهي! كم من النساء لديهن ذلك في غزة؟

"الله يجعلها أكبر المصايب"، تطمئنني أمي بتنهيدتها، وهي تدعّم لي الوسائد على أريكة غرفة المعيشة في رحلتي للتعافي بعد العملية. 

وتسأل عني إحدى كاتباتي في غزة لتطمئنّ علي. إنها قلقة بشأني، هل تصدقون ذلك؟

تقول لي: "إحنا لما نكتب، بيكون قصدنا نسمِّع الناس يلي مش شايفتنا أصلاً، مش نوجع الناس يلي أصلاً موجوعين. عاد هو شكله بيصير العكس، هدول ما بيسمعوا، ويلي بيسمع بيحس لأنه أصلاً حاسس بالذنب."

شعرت وكأن حياتي أصبحت طابوراً من الخسائر، وكأن العالم كله توقف على كتفَي. 

شاهدت صديقي، وهو صحافي في غزة، يبكي على الهواء عندما تلقّى نبأ الغارة التي قتلت والدته وأخته الكبرى، فبعثت إليه بتعازيَّ، مدركة كم هو هائل هذا الحزن، وقد كنا قبل أيام فقط تشاركنا أنا وهو فقرة إخبارية موجزة على الشاشة، هو يتحدث من غزة، وأنا أتحدث من واشنطن.

وكنت أسمع صوت الطائرات الزنانة حين أتلقى الرسائل التي تصل إليّ من شمال غزة. 

أدت حالتي الصحية الضعيفة إلى تراكم الطلبات والشهادات في بريدي الإلكتروني؛ إذ لم أقوَ على أداء عملي أبداً، وهو ما أسفر عن غياب أصوات مهمة أرادت أن يسمعها العالم فقط. وكنت أيضاً مستاءة من شعري؛ تلك الخصلات التي كانت مجعدة سابقاً أصبحت مفرودة من جهة، وملتوية من الجهة الأُخرى، ومهما أفعل، لم تعد تجعيدته كما كانت. وفي صباح أحد الأيام، وأنا جالسة على كرسي، سقط أحد أسناني، فحدقت به، وبدأت أبكي.

جسدي في حالة حرب، يحاول أن يقتلني.

وصمودي لم يعد مجدياً. 

"الله يجعلها أكبر المصايب." قالتها أمي وهي تنظر إليّ بإشفاق، بينما كان أحد زملائها في عيادة الأسنان يعالجني. 

ماما! ما المصيبة الأكبر من هذه الإبادة الجماعية؟ 

المشهد السادس: الإبادة الجماعية نسخة واحدة 

في أميركا، يطاردني شبح الرغبة الملحة في تقييد هويتي ضمن مجتمع واحد فقط، وأن أستسلم لفكرة إنكار الماضي لمجرد أنني نجوت منه. ولا يعرف الكثيرون أنني قضيت سنواتي الأولى في مخيم للاّجئين في سورية، أو أنني حفظت النشيد الوطني اللبناني قبل الفلسطيني عندما التحقت بمدرسة لبنانية من مرحلة رياض الأطفال والمدرسة الثانوية حتى الجامعة. وربما لا يعرف الكثيرون أيضاً أن جدي الراحل حارب الصهيونيين إلى جانب الجيش المصري، وعمي الأكبر أُعدم بتهمة مقاومة الاحتلال الصهيوني، أو أن والدي عالج الجرحى في مستشفى ميداني في لبنان خلال اجتياح 2006، وأن جدتي كانت عضواً في الاتحاد النسائي. لذا، فأنا لا أستطيع أن أخضع لقواعد أميركا، وأذوّب نفسي فيها متنكرة لأصولي.

ولأنني فلسطينية، فأنا أيضاً لبنانية، وسورية، ومصرية، وجميعها هوياتي التي لا أقبل تجزئتها أو المساومة عليها. 

ستبقى آثار أجدادي مطبوعة على تربة هذه الأمم منذ تهجيرنا، وفي لجوئنا، وفي عودتنا. امتزجت لهجاتنا، واستعرنا كلماتنا وإيقاعاتها من كل مخيم وحيّ سكنّاه. حزننا واحد ومتشابه، واستعمارهم واحد ومتشابه كذلك، وكارثتنا واحدة ومتشابهة هي الأُخرى. ها أنا أشاهد لقطات الغارات الجوية على لبنان، وأغرق في دوامة من الحزن، فأرسل رسائل نصية إلى الجميع، ويتوسع طابور الخسائر في حياتي، ويسرق معه مزيداً من الأصدقاء، والأقارب، والزملاء. 

عندما ضرب الاحتلال منطقة القماطية في لبنان، فوراً أرسلت رسالة إلى أمي التي بدأت تتصل بأبناء عمومتها: "لقد تفرقوا، ولم يبقَ سوى واحد منهم فقط في بيته." وعندما أرى صور قبور مدمرة بفعل الغارات في مقبرة الباشورة في بيروت، أشعر بالقلق؛ فجدتي الكبرى، مطيعة، مدفونة في جنوب لبنان، وكانت قد أصبحت لاجئة سنة 1948، وافترقت عن زوجها في حيفا وابنها — جدي — الذي كان في ذلك الوقت طالباً في الـ 14 من عمره في بورسعيد. فعاش جدي يتيماً، وبقيت أذناه ملتصقتين بالراديو على أمل أن يعرف خبراً عن عائلته، قبل أن يجد أمه بعد عقد ونصف العقد من الغياب.

أتساءل:

"هل سيدمرون قبرها؟"

"هل نحن الشعب الوحيد على وجه الأرض الذي يموت مرتين، في الحياة وفي الموت؟"

نهاية المشاهد

أعيد ترتيب هيئتي، وأسرّح شعري، وأتناول أدويتي،
وأفتح بريدي الإلكتروني، وأباشر العمل.
أصوات الشهادات والطلبات تشق طريقها نحو رسائلي،
فأتذكر أنني لم أكن يوماً سوى كأمي؛ صامدة.

 

* ترجمة: د. زينب القيسي، باحثة في الشعر الفلسطيني الأمريكي ودراسات المقاومة والذاكرة والفضاء الثالث، مترجمة ومحررة أدبية.
عن المؤلف: 

لورا البسط: صحافية فلسطينية ومترجمة ومحررة محتوى رقمي. تعمل في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في واشنطن.