المدرسة من الداخل: سوسيولوجيا مدرسة مقهورة
مشهور البطران
رام الله: الرعاة للدراسات والنشر، 2023. 281 صفحة.
كان الأستاذ المقدسي خليل السكاكيني (1878 – 1953)، مؤسس المدرسة الدستورية الوطنية في القدس في سنة 1909، وأحد أهم روّاد حركة التربية والتعليم في فلسطين والعالم العربي، ينادي بانعتاق التلاميذ روحاً وقلباً وجسداً، وكان يعتبر هذا الانعتاق أهم الغايات التي يجب أن يَسعى لها النظام التعليمي والقائمون عليه، وإن كان ذلك على حساب ما سمّاه آنذاك "هيبة المدرسة". وورد كثير عن قصص نجاحه مع طلبته في تعليمهم، لا اللغة العربية فحسب، بل الحرية والقِيَم والأخلاق والسلوك أيضاً، مثلما جاء، مثلاً، في مذكرات الموسيقي والمؤرخ المقدسي واصف جوهرية، عن انسجام الأستاذ خليل السكاكيني في العملية التعليمية باعتباره مربٍّ وحاملاً للمُثُل والمبادىء، وناقلاً لها إلى عقول طلبته.
ومثلما أسس الأستاذ السكاكيني لحالة وعي تربوية لدى المعلمين والطلبة على حدّ سواء، ومثلما جاء تنظيره وتجربته كأحد أعمدة الوعي العربي القومي والفلسطيني آنذاك، نجد أن ما آلت إليه مقولات السكاكيني وأفعاله في النظام التعليمي الفلسطيني الراهن، محض تاريخ لا محل له من الواقع الآن.
وفي هذا السياق يبرز مشهور البطران معلماً يكتب عن واقع المدرسة الفلسطينية بنظرة مستفيضة في التفصيلات، كونه يعرفها من الداخل مثلما يرد في عنوان كتابه "المدرسة من الداخل: سوسيولوجيا مدرسة مقهورة". ومع أن العنوان يوحي بنظرة علم - اجتماعية إلى ما يدور داخل حرم المدرسة، إلّا إن البطران يتخطاه إلى ما حول هذه المدرسة من بيئة محيطة، وتفاعلها وانفعالها وأثرها وتأثيرها في المدرسة.
بصورة عامة، فإن علم الاجتماع التربوي يُعنى بنقل القيم الاجتماعية والإنسانية والثقافية إلى الطلبة، من خلال تنشئتهم وتنمية شعورهم بالثقة والانتماء والحقّ والواجب والمواطنة، عن طريق جماعات الأقران وبناء العلاقات بين أفرادها، ومن خلال إعدادهم للدراسات العليا، فسُوق العمل، ثم بناء المجتمع ككل، باعتبار أن التربية هي عملية تنشئة اجتماعية ترمي إلى تطبيع الأفراد بثقافة مجتمعهم، وطبعهم بخصائصه اللغوية والثقافية والسلوكية.
وهنا، يدرس كتاب مشهور البطران المحددات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تؤثّر في النظام التعليمي المدرسي في سياق شديد الخصوصية هو السياق الفلسطيني ما بعد أوسلو. ومن خلال فصوله الخمسة، يتحدث البطران بالتفصيل عن الأنماط التنظيمية والبنيوية التي تشكّل المدرسة الفلسطينية، وعن الأنساق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية السائدة الظاهرة والمضمرة التي تؤثّر في بنيتها ونظامها ووظائفيتها، وأدائها لغاياتها المفترضة، كما يبحث في واقعية هذه الطروحات ضمن السياق المدرسي الفلسطيني، أي علاقات أجزاء البناء المجتمعي وبُناه التحتية والفوقية بهذه المدرسة، وما يتعلق بها من ظواهر تواكب التغيرات وتعمّق الجذور، وخصوصاً في المرحلة التاريخية الراهنة وما تحمله من نقلات حضارية متسارعة ومتعاقبة.
ويأتي هذا الكتاب في وقت يجد المجتمع الفلسطيني نفسه أمام استحقاق ضروري لإدراك إشكالياته وأسبابها، وترميم ما تهالك من البنية الاجتماعية الفلسطينية، وخصوصاً أن هذا الاستحقاق هو في خضم مرحلة هي الأشد صعوبة وخطورة على فلسطين والفلسطينيين، إذ تختلف فيها أبجديات المواجهة، فالوعي بالوعي والفكرة بالفكرة والنظام بالنظام، عطفاً على عبارة لقسطنطين زريق تحدث عنها الدكتور ماهر الشريف في كتابه "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908 - 1948)"، إذ قال إن انتصار القوات الصهيونية على الجيوش العربية، لم يكن مردّه "تفوّق قوم على قوم"، وإنما "تميز نظام على نظام". ويمكن لهذه العبارة أن تكون خطوتنا الأولى في عملية إعادة التفكير فيما يتوجب علينا فعله إزاء جميع التفصيلات، وأهمها أركان عملية التنشئة الاجتماعية ومكوناتها في المجتمع الفلسطيني، وقد سلّط البطران الضوء على جلّها.
يتحدث مشهور البطران في كتابه عن المدرسة بصفتها مرآة للمجتمع تتجسد في داخلها منظومته القيمية وسطوة تياره العام، وهو ما يورد إلى الأذهان نظرية "إعادة الإنتاج" التي تحدث عنها بيير بورديو وجان - كلود باسرون في بحثهما "إعادة الإنتاج في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم"، والتي خَلُصت إلى أن النظام التعليمي يعيد بناء العلاقات الإنتاجية القائمة على تعزيز السيطرة الاقتصادية للطبقات السائدة. ومع أن بورديو وباسرون درسا الحالة الفرنسية تحديداً، إلّا إن كتاب "المدرسة من الداخل: سوسيولوجيا مدرسة مقهورة" استطاع أن يجعلها متّكأً لدراسة الحالة الفلسطينية، الأمر الذي يشير إلى أن علاقة منظومات السيطرة المباشرة وغير المباشرة بمحتوى النظام التعليمي ووظائفيتة ربما تكون واحدة أو على الأقل متشابهة باختلاف الأزمان والأمكنة؛ وهذا مؤشر خطر إلى تقادم المنظومة التعليمية الفلسطينية، والأهم من ذلك، هو مؤشر إلى أن هيمنة منظومات السيطرة على نظام التعليم لم يختلف شكلها ولا فحواها بين الستينيات وسنة 2023.
تحدث مشهور البطران عن اقتحام منظومات السيطرة الاجتماعية وتيارات الإسلام السياسي للحياة المدرسية في المجتمع الفلسطيني إلى الحد الذي وصل إلى التدخل في شكل المنهاج الذي يدرّس للطلبة، وهو الأمر الذي يسلّط الضوء على إشكاليتين هما: أولاً، أن المدرسة خاضعة لسطوة المجتمع وما تعارف عليه من قيم وما يتبنّاه من ثقافة حتى إن كانت هذه الثقافة نتاج مشكّلات انكفائية غير أصيلة في المجتمع الفلسطينية ودخيلة على ثقافته الأصلانية؛ ثانياً، أن مَن يتحكم في هذه المناهج يعطي هذه التيارات أحياناً تفوقاً أخلاقياً يزيد في رصيدها في التأثير الاجتماعي، ويوفّر لها ذريعة لتأليب المجتمع على المدرسة باعتبارها حيّزاً تفاعلياً له خصوصيته ودوره المهم في إعداد جيل تُوافق إدراكاته ومعارفه الحركة الاجتماعية المعاصرة، وهذا ربما ما لم يذكره الكتاب.
غير أن السؤال هنا، هو: لماذا آلت المدرسة الفلسطينية إلى هذه الهاوية على الرغم من وجود إرث تربوي يحثّ على التعليم التحرري باعتباره أداة من أدوات التحرر الوطني، مثلما رأينا في سِيَر واصف جوهرية وخليل السكاكيني؟
يعطينا مشهور البطران في سياق كتابه أجوبة عن بعض أسباب هذا التهاوي في المنظومة التعليمية، وبين أهم ما تحدث عنه نظام البانوبتيكون (المراقبة الشمولية)، وتحديداً ثنائيات المراقبة والمعاقبة، والتقييم والتقويم وغيرها من نظم القولبة الهادفة إلى إخضاع الطلبة أفراداً وجماعة للمنظومة إلى حدّ تربية رقابتهم الذاتية وإخراجهم أفراداً خانعين من تلقاء ذاتهم.
وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى ما ورد في الكتاب عن تجويع المعلم وتسفيه التعليم، وما يحدث حالياً في السياق الفلسطيني من إضراب المعلمين والنزاع القائم بينهم وبين الاتحاد الذي يفترض أن يدافع عنهم، وبين وزارتهم من جهة أُخرى. فإذا كان المعلم يرفض تجويعه ونكران حقّه، ويرفض الخنوع للسلطة التي تهيمن على معيشته، فإنه يمارس على طلبته السلطة نفسها بالسطوة ذاتها، إلى الحد الذي يصل إلى الاستخدام المفرط للقوة والتعنيف الجسدي والمعنوي واللفظي للطلبة. ومثلما أن المعلم يخضع لرقابة النظام، ويُخضع طلبته لرقابته، فإنه أيضاً خاضع لرقابة منظومات السيطرة الاجتماعية، ولا سيما بعض المحافظين وبعض تيارات الإسلام السياسي. وتحت مظلة الرقابة والرقابة الذاتية يتجلى لبّ الإشكال الذي يواجه النظام التعليمي الفلسطيني، والذي تعاني جرّاءه المدرسة الفلسطينية بحيث تصبح فعلاً، مدرسة مقهورة.