كتّانة - نزّال، ريما. "خالد في حياتي" (بالعربية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

ريما كتّانة - نزّال

خالد في حياتي

رام الله ـ دار طباق للنشر والتوزيع، 2023. 225 صفحة.

 

تتوقف الكاتبة ريما كتّانة - نزّال في سيرتها الذاتية المتداخلة مع سيرة زوجها الشهيد خالد نزّال عند متغيرات سياسية واجتماعية ممتدة بين منعطفَي النكسة واتفاق أوسلو المفتوحة إفرازاته على المجهول.

وتحدد إطار كتابتها لقصة الإبعاد عن الوطن والعودة إليه برفض الرواية السلبية للعائدين المنقلبين على الثورة، وإعادة تشكيل الصورة المتآكلة للمناضل، الأمر الذي دفعها إلى الإضاءة "على جوانب من التاريخ المشرف للمناضلين النبلاء الذين بذلوا أقصى ما يمكن من العطاء، وضحّوا بأغلى ما يملكون" (ص21) ، مع إبداء قدر من الحنين إلى الماضي فرضه بؤس الواقع في كثير من الأحيان، ليتماهى العام مع الخاص في العديد من أجزاء الكتاب، مثلما هي حال سِيَر الذين يعيشون في عوالم متحولة، فيمرون بمنعطفات، وينخرطون في عمليات التغيير.

ويظهر ذلك واضحاً في حرص الكاتبة على نفض الغبار عن قرب عن أناس عرفتهم من ثورتَي الشعب الفلسطيني المعاصرتين، سواء شاركوا فيهما، أو كانوا شهوداً عليهما، أو تأثرت أنماط حياتهم بهما، واللتين ألقت هزيمتَيهما بظلال ثقيلة على نظرتهم إلى المستقبل. فقد نشأ خالد نزّال وكبر على الاستماع إلى أحاديث والده عن وقائع إضراب سنة 1936، وقراءة التاريخ من خلال أخيه محمود العضو في حركة القوميين العرب، ليتسلل إلى الأردن مع بلوغه العشرين من العمر، وينضم إلى قواعد الفدائيين، ناقلاً للسلاح، ومقاتلاً في دورية، ثم قائداً وموجّهاً لمجموعات فدائية.

تختصر الكاتبة "الانقلاب الأبيض في منظمة التحرير الفلسطينية لأصحاب المشروع الذي أحدث التغيير لمصلحة البنادق والكفاح المسلح واستقلال التنظيمات الفلسطينية عن الأحزاب العربية" (ص 58) بالقميص الكاكي الذي كان يرتديه نزّال يوم التقته أول مرة في مقهى "الدبلومات" في عمّان. كما تعود إلى مصطلحات اليسار التي "بدأت تدخل النقاشات في كل مكان" (ص 119) كي تعبّر عن المثقف والسياسي والأُممي بعد انتشار أدبياتها في المكتبات وعلى أرصفة الشوارع.

وتستعيد الكاتبة لبنان من خلال قلقها على زوجها القائد العسكري الذي اقتضت مهماته أن يكون موجوداً في غابة البنادق الفلسطينية التي تتعانق وتشتبك ما شاء لها الوضع اللبناني ذلك، وتتناول التدخلات السورية، مع إشارة إلى انقسام البلد على إيقاع المصالح والحسابات الدولية والإقليمية المعقدة، والاعتداءات الإسرائيلية.

وتظهر في سياق السرد رغبة مضمرة في محاكمة الوعي في عدة مراحل، الأمر الذي يتجلى بوضوح في تفسير النساء الريفيات لهزيمة 1967؛ ففي وصفها لتعليقاتهن خلال رحلة من نابلس إلى طولكرم غداة النكبة تقول الكاتبة: "بدأت النسوة في مضايقتنا وانتقاد ملابسنا، أسمعننا كلاماً قاسياً، وكأنهن كن يبحثن عن شماعة لتعليق هزيمة الأمة العربية عليها، فلم يجدن سوى التنانير التي نلبسها" (ص 78). وتتوقف في مقطع آخر لتشير إلى أنها ستسمع مثل هذه المعزوفة كثيراً بعد ذلك لتفسير أي نكبة سياسية أو جائحة طبيعية، ففي حوارها مع حماتها التي ترى في إنجاب الذكور تعزيزاً لمكانتها لدى الزوج، تظهر المناخات التي تحدد أفق فلاحات ذلك الزمن، فنرى آليات رسم الأفق تأخذ منحى مغايراً من حيث الشكل في المدينة، لكنه لا يبتعد كثيراً عن الحال في الريف من حيث الجوهر، فهي تتحدث عن إمبراطورية عائلية تسكن بيتاً من طبقتَين في نابلس، يتزاوج فيه أبناء وبنات الأعمام بعضهم من بعض.

ثمة اختلافات حدثت نتيجة الشتات والأفكار التقدمية التي بثّتها فصائل يسارية اتسع حضورها في المجتمع الفلسطيني بعد النكسة، وبعض مظاهر هذه الاختلافات تحرير مشاعر الشباب والصبايا الذين حملوا قناعات اليسار، واتّبعوا طرقاً مغايرة في اختيار الشريك.

وهنا تشير الكاتبة إلى كسر الثورة لأنماط ومسلكيات، فثمة زيجات هزت البُنى الطبقية والعائلية لكنها لم تفككها، بل "استطاعت تلك الزيجات أن تجمع بين عالمين مختلفين، في الغالب بين عالم بنات المدن وبين شباب من الريف" (ص 105). وتُرجع الكاتبة استمرار هذه الزيجات إلى مدى إيمان الأزواج والزوجات بمبادىء الثورة والتغيير.

وتكاد هوامش الموت تستحوذ على النص في السيرة المتداخلة لريما وخالد نزّال، فالموت يأخذ شكل المراوحة في اللاوعي. تقول الكاتبة: "دون أن أدرك، قضيت كل عمري معه وأنا أودعه، شعور خفي بقي يرافقني ويوحي لي بأن الحياة معه ستكون قصيرة" (ص 132). وعلى الرغم من هذا الحضور للموت، فإنه لم يفقد وقع المفاجأة، وهو ما دفع الكاتبة إلى استخدام مصطلح مثل "الخبر الصاعق" لعنونة الفصل المتعلق بتبليغها بالاغتيال، فنراها تدخل في حالة التصديق وعدم التصديق بعد خروج الرفاق الذين بلّغوها خبر الاغتيال، وتتعمد متابعة الإذاعات علّها تحصل على نفي، لكن ظنها يخيب، وتظل تطلق خيالها لمفاجأة عودة زوجها وحبيبها. تجد الكاتبة في الوجع قدرة على الوصل، فتتحين الكتابة بعد عودتها إلى الوطن، غير أنها تستعصي عليها مع مواصلة المحتل لأعمال القتل.

تُسقط ريما كتّانة - نزّال تجربتها مع الموت على اتفاق أوسلو الذي تعرّفه بالاتفاق المتدرج الذي يطبَّق على مراحل بحيث "يتم اكتشاف عوراته تدريجياً على مراحل، ستكلح ألوانه قبل اكتشاف مدى بشاعته وعنصريته، لكنه اتفاق لا يموت، مصنوع ليقاوم الموت علناً، سيبقى في غرف الإنعاش يتنفس بالخراطيم والتمديدات المصطنعة، سيشبع موتاً دون أن يجرؤ أحد على تشييعه" (ص 189). وتخاطب زوجها الشهيد قائلة: "الوطن الذي فقدت حياتك على عتباته مقطّع الأوصال، الوطن الجديد المرسوم في أوسلو كوصفة أمريكية لإبراء جراح الفقراء والمنكوبين قد ضاعف من المرض وفاقم الآلام والجراح" (ص 197)، لتكتمل بذلك المآلات التي انتهت إليها مرحلة من مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر.

إن صورة الموت الجسدي والسياسي في ذهن الكاتبة لها جذور ظهرت واضحة في عودتها إلى قصص هزائم سابقة للإخفاقات السياسية وأنصاف التحولات الاجتماعية التي انتهت إليها نضالات الخارج الفلسطيني وثورته المجهضة. ففي سعيها لاستعادة زمن النكسة استمعت إلى شهادة عمها المتطوع للدفاع عن نابلس، بشأن صدمة المئات من زملائه عند رؤيتهم جنود وسيارات الاحتلال الإسرائيلي في المدينة.

يتخذ كتاب السيرة المتداخلة لريما وخالد نزّال ثلاثة مسارات تتمثل في استعادة الزوج الشهيد، والاشتباك مع مفاهيم ولّدتها الهزائم المتلاحقة، ونقد الواقع السياسي، إلّا إن الأمر لا يخلو من محاولة للتخفف من الذاكرة، من دون التخلي عن القناعة بالمسار الذي اتخذته حياة الكاتبة على الرغم من الهزائم السياسية.

السيرة الشخصية: 

جهاد الرنتيسي: كاتب وروائي من الأردن.