حماس: جدل الاحتواء والمقاومة.. قراءة في زمن الإبادة
النص الكامل: 

طارق بقعوني. " 'حماس' صعود المقاومة الفلسطينية ومحاولات الاحتواء". ترجمة وائل زيدان. بيروت؛ رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024. 469 صفحة. 

صدر كتاب طارق بقعوني، بنسخته الإنجليزية، عن جامعة ستانفورد في سنة 2018، وصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية مترجماً إلى العربية في أيار / مايو 2024، أي بعد ما لا يقل عن سبعة أشهر على عملية "طوفان الأقصى" التي قادتها حركة "حماس" في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، والتي مثّلت في حجمها واستثنائيتها وما اتسمت به من مفاجأة كبيرة، قطيعة مع مسار طويل، مترافقة مع حرب إسرائيلية مدمرة وُصفت بأنها "حرب إبادة جماعية" على الفلسطينيين في قطاع غزة.

لقد أكدت حركة "حماس" بهذه العملية خطأ التوقعات كلها التي حكمت عليها بالاحتواء في ذلك الشريط الساحلي الضيق والمحاصر، والذي تديره مقيدة بحسبة شديدة الثقل والوطأة، كما أنها وضعت مكاسبها، وحكمها لغزة، وجميع ما يمكن أن يُعدّ أداة لاحتوائها، في مقابل تلك العملية التي حتى إن ظلت محل تساؤل عن حسابات الحركة ورهاناتها بشأنها، إلاّ إنها في نهاية الأمر بيّنت أن ثمة عوامل في هذه الحركة لا تجعلها وفية لمبادئها الأيديولوجية بشان نقاء الكفاح الفلسطيني فحسب، بل من الوارد أيضاً، أن تذهب إلى أبعد من ذلك، فيما يصفه مراقبون مشفقون، أو خصوم كارهون، انتحاراً سياسياً للحركة. وهذه العملية فرضت نفسها على الترجمة العربية لكتاب بقعوني.

صدر الكتاب في نسخته الإنجليزية، بعنوان:Hamas Contained: The Rise and Pacification of Palestinian Resistance، والذي يمكن ترجمته بـ: "احتواء حماس: صعود المقاومة الفلسطينية وإخضاعها"، إلاّ إن عملية 7 تشرين الأول / أكتوبر، حتّمت إعادة النظر في عنوان الكتاب الذي اشتغل عليه بقعوني منذ سنة 2014 حتى سنة 2017، ليصير: "حماس: صعود المقاومة الفلسطينية ومحاولات الاحتواء". فقد حسمت هذه العملية أسئلة بقعوني بشأن المدى الذي يمكن فيه احتواء "حماس": المدى من حيث قابلية الحركة للتسليم بمحدودية فاعليتها النضالية وضيق خياراتها الكفاحية والسياسية بسبب وطأة إدارة قطاع غزة في إطار انقسام مستحكم، وحصار مطبق، وإقليم عربي معادٍ، واحتلال ممعن في محاولة عزل الحركة وتهميشها وردعها، أو المدى الزمني الذي يمكن أن تظل فيه كذلك.

لم تنعكس عملية "طوفان الأقصى" على عنوان الكتاب فحسب، بل على مضمونه أيضاً، وذلك في المقدمة المحدثة التي كتبها بقعوني للطبعة العربية، والتي حاول فيها مناقشة فرضية انتحارية عملية "طوفان الأقصى" نظراً إلى الخيارات المتاحة، فالخضوع الدائم للسياسة الإسرائيلية، وفي ظرف كالذي كانت تمرّ به القضية الفلسطينية، هو الذي يمكن اعتباره انتحارياً، بينما أرادت الحركة بعمليتها تلك إرباك البُنية المهيمنة، وخصوصاً أنها كانت تتصرف على أساس استراتيجي، وبِوَعْي بطول أمد مهمتها.

لاحظ بقعوني أن الاحتلال سعى لفرض نمط من الاستقرار، من خلال الفصل بين سلطتين: الأولى خاضعة أيديولوجياً وعملياً في الضفة الغربية، هي السلطة الفلسطينية التي تقودها حركة "فتح"، والأُخرى متمسكة بأيديولوجيتها التحررية التي تستند إلى المقاومة، وتعمل على تحويل هياكل الإدارة في غزة إلى بُنى تحتية للمقاومة، لكنها في الوقت نفسه ذات قابلية للاستجابة العملية بفرض الهدوء والاستقرار، وذلك في إطار محدودية الخيارات إزاء الحصار والانقسام وما يلاحظه الغزّيون من ظروف متباينة بين مجالهم الجغرافي والسلطوي وبين الضفة الغربية، وهو ما يجعل السلطتين كلتيهما في نهاية الأمر خاضعتين للسيطرة الإسرائيلية، من دون أن ينفي ذلك احتمال أن يفضي توازن القوة بين "حماس" وإسرائيل إلى مواجهات دامية ومتكررة بين حين وآخر.

لكن على الرغم من وجاهة هذه القراءة، حتى سنة 2017، فإن بقعوني ظل ملاحظاً لجملة من العناصر التي ميزت "حماس" من السلطة الفلسطينية، الأمر الذي جعله ممتنعاً من الجزم بحتمية احتواء دائم لها، إذ ظلت الحركة متمسكة بأيديولوجيا التحرر التي تمثل جوهر الوطنية الفلسطينية، ساعية لتعزيز بُنيتها العسكرية، ومحوّلة مجال سلطتها إلى بُنية تحتية لتطوير بقية فصائل المقاومة، مع قدرتها على ضبط حالة المواجهة والتصعيد بما يجعلها في نهاية الأمر محتكرة للمقاومة في قطاع غزة. وبحسب المقدّمة المحدثة لبقعوني، بدأت "حماس" تعطي مؤشرات إلى إمكان الخروج من هذه الحالة في معركة "سيف القدس" في سنة 2021، قبل أن تأتي القطيعة مع هذا المسار في عملية "طوفان الأقصى".

هذا الحذر، وعدم المجازفة في الاستنتاجات والأحكام، نجما عن الرصانة البحثية لبقعوني، التي تجردت، قدر طاقته، من الانطباعات والمواقف المسبقة، وانتهجت نمطاً بحثياً يسعى للتعرف إلى الحركة اعتماداً على جملة من المصادر المعبّرة عنها، من قبيل رصد اليوميات الفلسطينية بما تضمّنته من بيانات للحركة وتصريحات لقياداتها ومقالات في منشورات معبّرة عنها أو قريبة منها، واستناداً إلى غير ذلك من المصادر كي يرصد خطاب الحركة وسياساتها وتحولاتها في إطار الحالة النضالية الفلسطينية والظرف السياسي الأوسع، والذي بالضرورة من جملة عناصره الفريق الفلسطيني الآخر، والاحتلال الإسرائيلي، والفاعلون المؤثرون في القضية الفلسطينية، ولا سيما الولايات المتحدة وبعض قوى الإقليم العربي، والانعكاسات الإقليمية على القضية الفلسطينية كـ "الربيع العربي" وما تلاه من "ثورة مضادة"، وهو ما ساعده على تحليل خطاب الحركة في سياق سياسي حيوي، لا بافتراض دوغمائية أيديولوجية أو انتهازية سياسية تُنسب إليها.

انتهج بقعوني في توطئة وستة فصول وخاتمة، سرداً متسلسلاً للأحداث تميز بلغة رصينة ذات طابع موضوعي، وامتد من التأريخ للحركة وجذورها والسياقات المولدة لها والعناصر الدافعة نحوها، مروراً بالانتفاضة الثانية، ثم فوزها في الانتخابات التشريعية في سنة 2006، وبعد ذلك الانقسام الفلسطيني وما تبعه من محاولات للمصالحة، ومقاربات سياسية تقدّمت بها حركة "حماس" في سعي منها لكسر العزلة من حولها من دون أن تلقى استجابة من الاحتلال أو الولايات المتحدة ولا حتى من قيادة "فتح" أو السلطة. ولا ننسى التحولات التي عصفت بالإقليم العربي، ورهانات "حماس" في التعويل على "الربيع العربي"، وصولاً إلى مواجهة صدمة "الثورة المضادة" التي انعكست في إرادة تحطيم العوامل التي صعدت بالإسلاميين إلى الحكم في البلاد العربية واحتساب "حماس" عليهم، والأخطر تكوّن رؤية مشتركة جمعت عدداً من الدول العربية، وخصوصاً في الخليج و"إسرائيل"، لإعادة تشكيل المنطقة، وهو ما تجسّد فيما يُسمّى الاتفاقيات الأبراهيمية.

عرض بقعوني، في كتابه، مواجهات الحركة القتالية مع الاحتلال الإسرائيلي، ولا سيما معركة "العصف المأكول" ("الجرف الصامد" بالتسمية الإسرائيلية) في سنة 2014، والتي انطلق منها بقعوني في توطئته للدخول إلى أطروحة الكتاب، بحيث بدا في كثير من التفصيلات كأنه يتحدث عن حرب الإبادة الجماعية التي سمّاها الاحتلال الإسرائيلي "السيوف الحديدية"، للتطابق في نوع العدوان الإسرائيلي وخطاباته ودعايته، وكيفيات التعامل العربي والدولي، بما في ذلك الإعلام الغربي الذي كان يبتز المتحدثين بإدانة حركة "حماس" أولاً شرطاً للدخول في النقاش!

لا تقتصر قيمة أطروحة بقعوني على سرده الكاشف عن الكيفيات الإسرائيلية في محاولة احتواء الفلسطينيين، عبر التقسيم الوظيفي لسلطتين في كل من الضفة الغربية وغزة، بل إنه تمكّن أيضاً من ملاحظة حركة "حماس" بصفتها تعبيراً من تعبيرات الوطنية الفلسطينية التي أفضى إليها بالضرورة الفراغ الناجم عن تخلّي منظمة التحرير عن أيديولوجيتها. كما أن "المرجعية الإسلامية" للحركة، أو ارتباطها التاريخي بجماعة الإخوان المسلمين، لم يحولا دون قدرة الباحث على ملاحظة التداخل التاريخي بين الوطنية الفلسطينية وتعبيراتها الدينية، لا بالعودة إلى تجربة الشيخ عز الدين القسّام، أو المنصب الديني للحاج أمين الحسيني، أو البواكير القتالية والسياسية لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين فحسب، بل أيضاً بتلك العلاقة وذلك التداخل بين الوطنية الفلسطينية الممثلة في "فتح" وجماعة الإخوان المسلمين الفلسطينية والعربية.

كان في إمكان بقعوني، لتعزيز هذا المنطلق المهم في فهم الحركة، أن يستعين بأمثلة أُخرى غير علاقة الصداقة التي جمعت ياسر عرفات بالإخوان، كعلاقة العضوية والانتماء التي جمعت العديد من مؤسسي "فتح" بالإخوان، وأبرزهم خليل الوزير (أبو جهاد)، وعرضه على قيادة الإخوان في غزة مقترح تأسيس "فتح"، والمسار المتعرج صعوداً وهبوطاً واختلافاً بين الإخوان في أقاليمهم العربية في علاقتهم بـ "فتح" اقتراباً وابتعاداً، والتي كان من صورها انخراط جماعات منهم في إطار معسكرات "فتح" في الأردن فيما عُرف بـ "قواعد الشيوخ" من سنة 1968 حتى سنة 1970. كما لاحظ المؤلف السياقات الذاتية الأوسع لبلورة "حماس"، وما وقف خلف تأسيسها من تاريخ طويل ممتد وجغرافيا عريضة، وهي سياقات لم تكن منحصرة في تلك المجموعة مع الشيخ أحمد ياسين ورفاقه في كانون الأول/ ديسمبر 1987.

وكان في إمكان بقعوني، لتعزيز هذه القراءة الصحيحة، أن يستعيد دور الكتل الإسلامية في جامعات الضفة الغربية طوال ثمانينيات القرن الماضي، والجماعة الإسلامية في سجون الاحتلال الإسرائيلي في سبعينيات القرن الماضي، بيد أنه لم يقصد التأريخ الدقيق والشامل للحركة، وإن كان بعض المفاصل مهماً في التدليل على بعض ما أراد قوله من قبيل تعدد الوجوه والأفكار والتيارات في حركة مثل "حماس" توصف بأنها حركة أيديولوجية.

ثمة أسئلة مهمة لمحاولة فهم قدرة الحركة على الاحتفاظ بوحدتها على الرغم من ذلك التنوع الذي انعكس أحياناً في خلافات ظاهرة، وعلى الكيفية التي استطاعت بها الجمع بين هذا التنوع والاحتفاظ بمضمونها الأيديولوجي، وهذه أسئلة لم يتطرق إليها بقعوني، لكنه حاول، وهو يقارن "حماس" بمنظمة التحرير، أن يفهم كيف حمت الحركة نفسها من الانزلاق إلى مسار منظمة التحرير الذي تخلت فيه سلفاً عن أيديولوجيتها التحررية من دون مقابل مكافىء من الاحتلال، فأرجع ذلك إلى كون "حماس" صاغت مكونات الوطنية الفلسطينية في إطار إسلامي مشبعة ذلك بمنطق ديني، علاوة على الفشل الحتمي الذي آل إليه مسار منظمة التحرير السلمي، وانسحاب الاحتلال، بفضل المقاومة، من لبنان في سنة 2000، ومن غزة في سنة 2005.

غير أن تفسير التماسك الأيديولوجي لحركة "حماس" بالصيغة الدينية لمكوناتها الوطنية، قد لا يبدو كافياً، فالتاريخ الإخواني للحركة جعل المنافسين لها كبعض قوى اليسار وحركة الجهاد الإسلامي، وحتى "فتح"، يصمونها بأنها حركة محافظة وأقل ثورية ممّا يجب، فضلاً عن أن استمراريتها القتالية ظلت محل تشكيك دائم من هؤلاء الذين حاولوا تعزيز نظريتهم تلك بالتاريخ الإخواني المتلكىء في الانخراط المباشر في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وبنزوع الحركة إلى الدخول في السلطة، وببعض المقاربات السياسية التي قدمتها وأوحت بأن لديها استعداداً للدخول في تسوية ما مع إسرائيل. غير أنه يمكن القول الآن، إن الرافعة الجهادية التي أدخلت الحركة إلى عمق الفاعلية الفلسطينية هي الرابطة التي يلتحم بها مختلف مكونات "حماس"، بما يجعل الأيديولوجيا الجهادية المعنى الضمني العميق لجمهور الحركة، كما أن الامتناع من الاعتراف بـ "إسرائيل" يشكل أحد مكونات هويتها الضرورية، وهو اعتبار، علاوة على اعتبارات أُخرى، منح كتائب القسّام القدرة على التعاظم وفرض خياراتها على الحركة. وعلى الرغم ممّا لاحظه الباحث من نزعة استقلالية للقسّام، ودور متنامٍ في صوغ خيارات الحركة، وهو أمر استفادت منه الحركة في رفع مكانتها وتجديد شعبيتها وشرعيتها والحفاظ على مكتسباتها، فإنه لم يتناول ذلك بالنظر الكافي والتحليل الموسع.

ولم يَفُت الباحث معالجة موقع "الإسلام السياسي" من الديمقراطية، وذلك من خلال تطرّقه إلى دخول الحركة في الانتخابات التشريعية للسلطة وما تبع ذلك من تشكيلها للحكومة، فقد لاحظ اختلاف الحركة عن "الأُمميات" الإسلامية، والسلفيات الجهادية، وكيف أن عملها انحصر في الإطار الوطني الفلسطيني، جاعلاً منها تعبيراً من تعبيرات الوطنية الفلسطينية، كما لاحظ التزامها قوانين السلطة في غزة، وهذه واحدة من تعبيرات "الإسلام السياسي" الذي قبل الدولة الحديثة إطاراً لعمله، الأمر الذي ينفي ما وُجّه إليها من اتهامات للسعي لتأسيس إمارة إسلامية في غزة. بيد أن تجربة "حماس" في غزة تجربة بالغة الخصوصية، لأنها جاءت في سياق نضالي، أي في سياق حماية الذات، والسعي لتعديل مسار النضال الفلسطيني وفق رؤية الحركة، لا في سياق طبيعي للحكم في دولة حديثة لا وجود لها أصلاً في فلسطين.

إن البحث في ديمقراطية "حماس" يؤدي إلى التساؤل عمّا إذا كان سعي الحركة لتغيير وظائف الهيكل السلطوي الذي فازت في انتخاباته التشريعية مسلكاً ديمقراطياً، لكنه سؤال يجيب عليه دافع الحركة النضالي إلى دخول السلطة، والطبيعة الاستبدادية والاحتكارية التي آلت إليها قيادة السلطة الفلسطينية، وكون المشروع برمّته (أي السلطة بصفتها نتيجة مسار التسوية واتفاق أوسلو) ليس وليد ديمقراطية فلسطينية، فضلاً عن أن ياسر عرفات نفسه، سعى لتحوير وظيفة السلطة كما في الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

علاوة على هذا العرض لسياسات الاحتلال في محاولات احتواء الفلسطينيين من خلال ملاحظة موقع "حماس" من ذلك، وعلى الرغم من بعض الملاحظات القليلة على بعض معلومات الكتاب غير المؤثرة في بُنيته، وإمكان مناقشة الباحث في بعض استنتاجاته، كتفسير الحسم العسكري الذي قامت به الحركة في صراعها مع "فتح"، فإن سرده بالغ الفائدة للتفكير في مسارات مشروع التسوية، وسياسات منظمة التحرير ثم السلطة، في تسهيل سياسات الاحتواء تلك، وعزل "حماس" وإقصائها، ونزع الشرعية السياسية والأخلاقية عن وجودها ونضالها، بما يتبعه بالضرورة نزعه عن الشعب الفلسطيني كله، كما يفيد في مراجعة استراتيجيا الحركة، أكان ذلك بفهمها لمقاومتها ورهاناتها عليها، أم بفحص صوابية دخولها إلى السلطة، أم بحسمها العسكري لصراعها مع "فتح".

السيرة الشخصية: 

ساري عرابي: كاتب وباحث فلسطيني، مختص بالدراسات الفلسطينية والفكر الإسلامي.