تنقسم هذه الشهادة إلى 4 أجزاء: الأول مخاطبة افتراضية خلال استقبال الشهيد أنيس دولة للشهيد خضر عدنان؛ الثاني والثالث معلومات تتعلق بالشهيدين؛ الرابع عن شهداء المعتقلات والمقابر التي يُحتجزون فيها.
I
أنيس مستقبلِاً خضر
لا يهم يا ضيفي الشهيد أين جثتانا الآن، المهم أنها في الوطن. فمثلما قال رفيقنا عمر القاسم: "سأُقَبِّل أرض زنزانتي، لأنها جزء من وطني."
أنا هنا منذ 31 آب / أغسطس 1980، يوم ارتقيت شهيداً على أرضية "سجن عسقلان"، وأنت هنا منذ 2 أيار / مايو 2023، بعد ارتقائك في زنزانتك في معتقل "سجن الرملة". كلها بلدنا يا شيخ.
بارتقائك، ارتقى عددنا، شهداء الحركة الأسيرة، إلى 237 منذ سنة 1967؛ 13 منّا محتجزة جثامينهم.
لا فرق يا شيخ خضر بين ثلاجتك وترابي، أو اختفائي.. ففي النهاية يُشهد لنا بأننا لم نغادر في أي من الظروف التي عاشها الوطن، ولم نُسلّم ولا حتى بالكلام؛ ما فاوضنا ولا تراجعنا؛ سال عرقنا ودمنا وانسلت أعوام شبابنا، وقاتلنا.
أنا هنا منذ 43 عاماً، أُنبت تراباً وكرامة، وأنتظر مَن يجيئوا لنحمل معاً هذا الإرث الثوري؛ 43 عاماً وهذا القتال بالجسد العاري وحده؛ بالمعدة الخاوية؛ بالمبدأ!
إنك باستشهادك وانضمامك إلى قافلة شهداء أرضيات السجون، شققتَ التربة.. وها أنا الآن أتنفس لمجيئك؛ دخلتَ ومعك الهواء.
حين استشهدتُ أنا، كان عمرك عامَين فقط يا خضر، طفلاً يحبو في حارات عَرّابَة؛ ولدتُ قبلك بـ 34 عاماً؛ دخلتُ السجن في سنة 1968 وحُكمت بالمؤبد أربع مرات. وُلدت في مدينة قلقيلية في سنة 1944، وأخذتني الثورة فتى في السادسة عشرة من عمره، لأقاتل منذ سنة 1966، حتى تاريخ اليوم في سنة 2023، ولو بجسدي ميتاً.
خضتُ بهذا الجسد جميع إضرابات السجون، بدءاً بالإضرابَين المتلازمين في 18 / 2 / 1969: في سجن الرملة وهو الإضراب الذي استمر 11 يوماً، وفي معتقل كفار يونا الذي استمر 8 أيام، مروراً بإضراب سجن عسقلان بتاريخ 5 / 7 / 1970، والذي استمر سبعة أيام، وإضراب عسقلان الشهير في 5 / 7 / 1976، والذي استمر 45 يوماً، وإضراب عسقلان في 24 / 2 / 1977، والذي استمر 20 يوماً، وصولاً إلى إضراب سجن نفحة بتاريخ 14 / 7 / 1980، والذي استمر 33 يوماً، واستشهد خلاله علي الجعفري وراسم حلاوة، لألحقهما بعد عدة أيام، شهيداً على أرض وطني.
لا أدري أين أنا الآن.. قيل إنني مفقود، وقيل إنهم سرقوا أعضائي، وقيل إنني حي، وقيل شهيد، وقال الصليب الاحمر لعائلتي: "نحيطكم علماً أننا لم نجد في ملفاتنا رقم هوية أنيس، أو رقم سجنه الذي يمكّننا من المساعدة في البحث مع مصلحة السجون." وقالت المحكمة العليا الإسرائيلية في سنة 2011، إن ملفي أُغلق بحجة استنفاد جميع الوسائل لإيجاد الجثمان الذي أصبح من الجثامين التي لا تعترف إسرائيل بوجودها.
هل ترغب في معرفة ماذا حدث معي يومها؟
سأترك خالد زبدة يتحدث: "أنيس وقع على الأرض وارتطم رأسه بالإسمنت، حملتُه بسرعة وصرخت على السجّانين؛ كنّا جميعاً نصرخ بلا وعي؛ نقلناه إلى العيادة، وطلب مني الممرض وضعه على الكرسي، فأخبرته أن وضعه خطر، ويتطلب نقله إلى المستشفى؛ قال لي لا تتدخل، ثم وضع في فمه دواء غرغرة، لكنه بدلاً من أن يدخل في جوفه، صار يخرج بشكل معاكس ويطفو على وجهه، وعندما جاء ضابط المعتقل، أخبرته بما جرى، فقال لي نحن نتكفل به، اتركه وغادر، وعندما رفضت هددني: 'إن لم تغادر سأتهمك بقتله'."
معاذ الله يا شيخ خضر أن أكون يئستُ أو هُزمت؛ الثورة سِرّنا، نحن الذين لم يعد أحد يعرفنا. لقد فُقدنا منذ زمن طويل؛ كُنّا رجالاً خطرين، وكان استمرارنا في الحياة استمراراً للثورة. هل عرفتَ الآن لماذا يقتلون بعضنا؟ لتهتز الثورة، وليتوقف المسير؛ امشِ يا شيخ، امشِ، هذه الثورة لا ينفع فيها ركون، فالركون مذلة، ومعاذ الله يا شيخ أن نُذل، ونحن الذين نزلنا التراب بهامات مرفوعة.. نزلنا التراب وعلت أسماؤنا فوق سماء البلد.
لو أخرجوني غداً، بعد 43 عاماً، سأنفض جميع ما علق بي من تراب أرض النكبة في شوارع الضفة، نصراً من دون مفاوضات؛ فرحاً من دون طلقات؛ سأوزع ذرات التراب التي علقَتْ بأعضائي، والتي حصلتُ عليها بعرق جبيني ونظافة يدي وطهارة قلبي وإيماني بالثورة، من دون مِنّة أو فضل من أحد، ومن دون ضغوطات دولية ولا مؤازرة عربية؛ حتى الوقفات الفلسطينية المساندة مرت سريعاً، وخجولة، فأنا لم أطالب أحداً برفع صوري في تظاهرة، ولا أن يستمع إلى قصتي مارّ أجنبي يُعنى، مثلما يقال، بحقوق الانسان أو يبتغي الهدوء والسلام، ولا رحبتُ يوماً بوفد غادَرَ كما جاء.
في الحقيقة يا شيخ خضر، أنا لا يزعجني ما يسمونها "مقابر الأرقام"، فالمئات منّا، وربما الآلاف، يُحتجزون فيها، وبعضنا ضاعت جثته، وآخرون ربما بيعت أعضاؤهم. ولا يزعجني كيف دُفنّا في تلك المقابر؛ ما يزعجني هو أن لا أحد يزورني.. أشتهي تحسس خبطات أقدام الأمهات اللواتي يجلسن عند القبور، كما أشتهي سماعهن وهنّ يقرأن القرآن ويرفعن أكفّهن بالدعاء؛ أشتهي أصوات ضحكات الأطفال الذين يأتون إلى المقابر في العيد برائحة ملابسهم الجديدة، وصوت رجل يشد شقيقه للاستعجال، فشقيقتهم الوحيدة تنتظر قدومهم ومعايدتهم. إنها صلة الرحم يا شيخ، فهل لنا مَن يصل رحمنا ويزور قبورنا؟ هذا ليس سؤالاً يا شيخ، هذا واجب، واجب الثورة والثوار... أين الخلايا والطلقات؟ أين خرائط الهجمات والاجتماعات؟ أين ذهب الذين كانوا يقولون فيهم: "خرجوا في مهمة سرية"؟ لماذا لم يعودوا إلى الآن؟
وأصرخ تلك الصرخة التي رفعها معين بسيسو في الخمسينيات:
أين شعبي؟ لقد تذكّرت أنّي لي دين في عنقه لي مُرُّ
أين أنفاسه تحطّم قيدي، أين ثاراته أما لي ثأرُ؟
في سنة ولادتك يا شيخ، في سنة 1978، كان إبراهيم الراعي (مواليد قلقيلية 1960) يدخل السجون لأول مرة، وهو ابن 18 ربيعاً؛ أمضى خمسة أعوام من دون أن يعترف بأي تهمة وُجهت إليه. لقد قاد ملحمة في الصمت؛ عُذب بأصناف التعذيب وأقساها، وظل صامداً أشهراً طويلة وصلت إلى حدود 12 شهراً وهو يتنقل بين زنزانات سجون جنين ونابلس ورام الله وأقبية المسكوبية، من دون أن يعترف؛ ثم ارتقى في زنزانته في سجن أيالون في 11 نيسان / أبريل 1988.
في سنة 1987 حفر على جدران زنزانته في معتقل المسكوبية الكلمات التالية: "رفاقي، قد يشنقوني وهذا ممكن، وإن شنقوني فلن يميتوني، فسأبقى حياً أتحداهم ولن أموت، وتذكروني سأبقى حياً، وفي قلوبكم نبضات."
II
عن أنيس دولة
احتفظ حسن دولة، شقيق أنيس، عندما كان في بيروت في سنة 1982، برزمة رسائل كتبها الأخير في سجون الاحتلال. "آخر الرسائل تلك، وصلت لحسن دولة وزوجته نهاية العام 1979. كتب أنيس لهما: 'كل عام وأنتم بخير، أبدأ رسالتي بهذه الكلمات البسيطة المتواضعة التي جادت بها ذاكرتي في هذه الظروف الصعبة التي تمر بنا، يتوسطها هذا الطير الوديع الذي ينقل لكم ما يجول في صدري، من آيات الحب والأماني.. إلى اللقاء أعزائي.' وفي منتصف الورقة رسم أنيس طائراً ملوناً كتب تحته 'طير الوروار'، وأسفله على الجانب الأيسر كتب عنوان إقامته 'سجن عسقلان 25 / 10 / 1979'، بينما كتب الصليب الأحمر تعليماته أعلى الورقة: 'أخبار عائلية فقط، الرجاء الكتابة بخط واضح جداً'."[1]
وفي واحدة من قصص النضال التي يُفتخر بها، أنه "في 15 نيسان / أبريل 1974، قامت وحدة الشهيد كمال ناصر في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين باقتحام مستعمرة معالوت المقامة على أراضي بلدة ترشيحا الفلسطينية، واحتجزت مجموعة من المستوطنين داخل إحدى مدارسها. تقدم الفدائيون بطلب الإفراج عن 26 معتقلاً من سجون الاحتلال مقابل إطلاق سراح الرهائن، وكان من ضمن الأسماء اسم أنيس دولة وعمر القاسم. حاولت قوات الاحتلال ربح الوقت، وقامت بنقل الأسيرين أنيس وعمر بطائرة مروحية إلى مكان العملية، في محاولة لإجبارهما على التفاوض مع الفدائيين من أجل تسليم أنفسهم، لكنهما رفضا ذلك بشكل مطلق لإيمانهما بمشروعية مطالب الفدائيين، فانهال عليهما جنود الاحتلال بالضرب المبرح وتمت إعادتهما إلى السجن ومعاقبتهما بالزجّ بهما في زنازين انفرادية لمدة طويلة."[2]
III
وعن خضر عدنان
يُعتبر الشهيد خضر عدنان من أبرز الأسرى الذين واجهوا الاعتقال الإداري، عبر النضال بأمعائه الخاوية، إذ إنه نفّذ 8 إضرابات:[3]
أول إضراب خاضه الشهيد خضر عدنان كان في سنة 1998 عندما اعتُقل أول مرة، وأمضى في السجن 10 أيام مضرباً عن الطعام.
الثاني في سنة 2005 حين خاض مع مجموعة من المعتقلين من قطاع غزة إضراباً استمر 25 يوماً، وذلك احتجاجا على عزله انفرادياً.
الثالث في سنة 2010، وكان في أحد سجون السلطة الفلسطينية حيث أمضى 12 يوماً في السجن أضرب خلالها عن الطعام.
الرابع بدأ في نهاية سنة 2011 حتى بداية سنة 2012، واستمر 65 يوماً، وذلك احتجاجاً على اعتقاله إدارياً، وتمكّن من انتزاع قرار بالإفراج عنه.
الخامس في سنة 2015، حين خاض إضراباً عن الطعام ضد اعتقاله الإداري استمر 58 يوماً.
السادس في سنة 2018 التي خاض فيها إضراباً جديداً مدته 54 يوماً.
السابع في سنة 2021، واستمر 25 يوماً.
الثامن والأخير في سنة 2023، حين خاض إضراباً منذ اعتقاله في 5 شباط / فبراير حتى استشهاده في سجون الاحتلال في 2 أيار / مايو.
إن مجموع اعتقالات الشهيد خضر عدنان كان 12 اعتقالاً أمضى خلالها في سجون الاحتلال نحو 8 أعوام كان معظمها رهن الاعتقال الإداري.
IV
شهداء ومقابر
يبلغ عدد الأسرى الشهداء المحتجزة جثامينهم 13 أسيراً شهيداً هم: أنيس دولة استشهد في سجن عسقلان في سنة 1980؛ عزيز عويسات استشهد في سنة 2018؛ فارس بارود، ونصار طقاطقة، وبسام السايح، وقد استشهد ثلاثتهم في سنة 2019؛ سعدي الغرابلي، وكمال أبو وعر، واستشهدا في سنة 2020؛ سامي العمور استشهد في سنة 2021؛ داود الزبيدي استشهد في سنة 2022؛ محمد ماهر تركمان استشهد في سنة 2022 في مستشفيات الاحتلال؛ ناصر أبو حميد استشهد في سنة 2022؛ وديع أبو رموز استشهد في إحدى مستشفيات الاحتلال في سنة 2023؛ خضر عدنان استشهد في سنة 2023.
أنشأ الاحتلال عدة مقابر سِرّية عقب نكبة 1948، بعضها مغلق باعتبارها مناطق عسكرية؛ والمعروف من هذه المقابر: مقبرة "جسر بنات يعقوب" التي تقع على الحدود الفلسطينية - اللبنانية، وتضم العدد الأكبر من الشهداء الفلسطينيين والعرب، وخصوصاً أولئك الذين استشهدوا خلال هزيمة حزيران / يونيو 1967؛ مقبرة "وادي الحمام" شمالي مدينة طبرية؛ مقبرتان في غور الأردن، الأولى تسمى "جسر آدم" وهي الآن منطقة عسكرية مغلقة، والثانية تقع داخل معسكر لجيش الاحتلال؛ مقبرة "رفيديم" وهي مسيّجة بسياج حديدي، وتضم رفات عدد من الشهداء، وهي مثل سائر تلك المقابر يتم التعرف على الشهداء فيها من خلال أرقام مكتوبة على لوحة معدنية، وموضوعة كشاهد على القبور. ويُستدل على المقبرة من خلال لافتة مكتوب عليها بحسب تسمية الاحتلال "مقبرة قتلى العدو".
ووفقاً لمؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الانسان، فإن عدد السجون الاسرائيلية هو 19 سجناً، وعدد مراكز التحقيق 4، وهناك 3 مراكز توقيف، ومحكمتان عسكريتان.
المصادر:
[1] رشا حرز الله، "أين أنيس دولة"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية ("وفا")، 3 / 1 / 2018، في الرابط الإلكتروني.
[2] محسن القيشاوي، "أنيس دولة.. جريمة حرب إسرائيلية"، موقع "ألترا فلسطين"، 12 شباط / فبراير 2021، في الرابط الإلكتروني.
[3] "خضر عدنان الأسير الفلسطيني شهيد معركة الأمعاء الخاوية"، موقع "الجزيرة"، 2 / 5 / 2023، في الرابط الإلكتروني.