الطوفان: أنفاق غزة وطريق الباطن
نبذة مختصرة: 

احتلت أنفاق غزة حيّزاً كبيراً عملانياً لدى الجيش الإسرائيلي الذي لم يحقق نتائج ذات أهمية في بحثه عنها خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، الأمر الذي خلخل الثقة بالمنظومة الاستعمارية المبنية على قوة العسكر. وقبل ذلك، اهتزت منظومة السجن الإسرائيلية بعد تمكّن 6 مناضلين من الهروب من سجن جلبوع الشديد التحصين، عبر نفق حفروه بأدوات بدائية. وتبحث هذه المقالة في النفق كمفهوم فلسفي، وآلية عملية.

النص الكامل: 

الطوفان هو سيل ذو قوة تكون غالباً مدمرة،

لكنها قد تكون أحياناً مطهرة... 

في فلسطين المحتلة، اندفق طوفان من غزة جارفاً معه منظومة طاغية مستبدة بجدرانها الحديدية ومصائدها الإلكترونية، متدفقاً من داخل قطعة أرض أسيرة محملاً بالعزيمة والإرادة والحرية.

في الطوفان، يتحول المحاصَر الأسير إلى سالك مُريد، يتدفق بأسراب من الضفادع والصقور واليرابيع البرية،[1] آخذاً كل ما في طريقه. وإذا ما رأيت اليربوع، ذلك الصغير من أهل الصحراء، يقتحم الأرض القاسية أو يختفي في الرمال الطرية، فهو ينقّب ويحفر ويشقّ طريقه بعزم وذكاء، ثم يعود إلى أرضه يغوص في أعماقها بدهاء، فيغدو الجُحْر متاهة لا يمكن لأحد أن يتبعها. ومهما يحاول الإنسان أن يستجلي أسرار هذا الجُحْر، فإنه يتعب ويجهد حتى يفقد القدرة على التمييز بين الجُحْر وأمثاله من الحُفر، فينسحب يائساً من البحث عن اليربوع الصغير. فإذا أراد اليربوع أن يكتم أسرار مسكنه، فإنه لا يُظهر التراب الذي يحفره ولا ينثره حول مدخل جُحْره، مخفياً مداخله تحت تراب مستوٍ يبدو كأنه جزء من الأرض نفسها. وهذه الحيلة التي يُطلَق عليها "الجاثياء"، تجعل تمييز مكان الجُحْر صعباً جداً.[2]

هذا هو المجاهد الفلسطيني في أرض غزة – حافر الأنفاق، لعلها تكون سبيلاً لعودته إلى أرضه ومقدساتها. أنفاق شرعت تتشعب وتنمو كالجذور في باطن الأرض، كي تحول دون اجتثاث أبنائها واقتلاعهم مهما يؤسَروا أو يُعذبوا أو يُقْتلوا. ففي سماء غزة، يحلق بغروره محتل فاسد غاشم عديم الرحمة، مدرّعاً نفسه، فارضاً سيادته الباطلة، يضرب الأرض والماء والهواء، قاضياً على جميع خلق الله بالإفناء والإهلاك، أكان ذلك بأجسادهم أم بأرواحهم، وزارعاً نفسه بين السحاب مترصداً لقصف عزيمتهم وإرادتهم وصبرهم. ومع أنه يبدو ظاهرياً أن الفلسطيني يعيش تحت مجهر الاحتلال ومنظومته التكنولوجية الأمنية، إلّا إن المقاوم يجد في أعماق الأرض الحرية في النفق والتخفي، والبصيرة في ظلام الباطن. فعلى الرغم من احتلال أرضه، فإن الفلسطيني استبطنها؛ فهو يحتمي ويختفي فيها، ويضعها في قلبه ويحتفظ بها، ذلك بأنه على عكس عدوه، يتخذ مأواه في تراب الموتى والشهداء لأنه لا يخشى الموت ولا الظلام.

هذا المقاوم هو العارف مثلما جاء عند بعض المتصوفة الذين قالوا: "العارف تضيء لهُ أنوار العلم فيبصر به عجائب الغيب."[3]

وعارفنا هذا خلوته نفقه، وهو في أيامه التي يمضيها في باطن الأرض... رياضةً وحركة، ذهاباً وإياباً، تترساً وهجوماً، خفيفاً ومُحمّلاً... منغمس في الهمّ العام، وملتحم برفقة العارفين... يحمل في قلبه الذكر، وعلى كتفه عدته وعتاده. وبهذا فاضت عجائب الغيب من قلبه فتجلت على يديه.

يبدأ العارف بأن يخرج من نفسه ويفارقها، "حتى يكون كالأرض يطؤها البِرّ والفاجر، وكالسحاب يُظلّ كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب."[4] وهذا العارف يعيش لغيره، فإذا اجتمعت فيه علوم الدنيا وعلوم التحقيق الأُخروي، اجتمعت لديه قوة العقل والحس والقلب، وفاضت من نفقه العجائب على العالم.

"إنه الإيمان بالمشروع، ثم الجدية والصدقية والمثابرة. فالمشروع هنا، هو مواجهة الاحتلال [....] لكن ما أمكن ذلك إلّا بخروج آلاف الأفراد من أنفسهم، ثم اجتماعهم مع غيرهم، ليكونوا كلهم لغيرهم. وهذه رتبة في اليقين، والله أعلم بقلوب العباد، فكم من خفي لا يعلمه إلّا الله ونفقه. فما الذي حمله على ذلك، في عالم مفتون، يرتد فيه الناس عن القيم العليا، وقيم الخدمة العامة، إلى حضيض الفردانية المحضة؟"[5]

في باطن الأرض وفي أنفاقها، يلتحم المجاهدون السالكون ليصبحوا كالمياه التي تتسرب في قنواتها كي تروي جميع الخلق. مقاومة تتغلغل في تراب الأرض لتلتحم مع أبنائها عبر الجدران والقضبان.

للأرض ذاكرة متعددة الطبقات والأزمان، والمقاوم يحتمي بأرض الله الواسعة والأزلية بين طبقات التاريخ وآثاره وركامه وشهدائه. ومثلهم، يدرك المقاوم في تراب الأرض الوضوح والتجلي في حقيقة الوجود والآخرة – فبين التحلل والتحجر يعيش هو بين الفناء والبقاء، ينظر في قَدَره وشهادته، حتى يعود إلى الله ويصير جزءاً من هذا التراب في ذاكرة الأرض والحقّ. فيخرج المقاوم عن نفسه ويلقي بها في الفناء، لترتقي المقاومة إلى الإيمان والإرادة والصدق والحق في سبيل تحرير الأرض والوجدان.

تندرج بصيرة النفق هذه إلى مفهوم أوسع يعود إلى الفكر المتصوف للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، وهو المعرفة،[6] ففي فكر ابن عربي تتجلى في القلب الصافي معرفة وحدانية الله والوجود، وهي تتميز بمعرفة الباطن، أي معرفة الذات الإلهية. وهذه المعرفة هي في الغيب المطلق، ولا يستطيع أن يدركها العارف إلّا من خلال تلازمها مع الظاهر.[7] ولذا، رأى ابن عربي في الكشف قيمة مركزية للمعرفة الصوفية، فالكشف، أي إزالة الغطاء أو الحجاب، هو تجلي المعرفة ليس بالبصر، بل بالبصيرة.[8] وترتبط "المعرفة الصوفية الذوقية بالهبة الإلهية والعطاء والمدد الإلهي، كما [ترتبط] بتجريد الذات من أنانيتها وشواغلها، ليخلو القلب من كل شيء إلّا الله، فلا يرى سواه تعالى، فرؤيته لا تكون إلّا بفنائك عنك."[9] 

الحرية والاستعباد

من باطن الأرض، كشفت لنا المقاومة الحجاب[10] عن حقيقة استعبادنا. فمن ظلام النفق انبثق إلينا نور البصيرة، وكي ندركه هو والحقائق التي قد تتجلى منه، فإنه يتعين علينا النزول إلى النفق نفسه.

لقد كُشف الحجاب عن استعبادنا عندما كنا نظن أننا نتمتع بقدر يُحسب من الحرية، فحريتنا لم تكن وهمية فحسب، بل كشفت لنا غزة وفلسطين أيضاً أننا نفتقر إلى القدرة على مقاومة استعبادنا، فنجلس متكتمين وعاجزين ومكبلين. فكيف لهذا الشعب الجبار الصامد تحت وطأة القمع والإذلال منذ أكثر من قرن، أن تظل الحرية تنبض في قلبه؟

إن فهم الحرية السائد في يومنا هذا هو الفهم الذي انطبع في أذهاننا واعتنقناه، قبل بضعة عقود تبدو اليوم في غابر الزمان، عندما شهدناه لدى تلك الشعوب المتحررة التي ساهمت في تعزيز مفهوم الحرية وتجسيد مبادئها. ولم ندرك حينها مدى استعبادنا الذي لم يكن ظاهراً بوضوح، لكنه استوطن باطننا. الحرية الليبرالية المبنية على إرادة الفرد، تخفي في طياتها نوعاً من الاستعباد الباطني، فبمحاولة الاستقلال عن كل شيء، يقع الفرد في فخ استعباد ذاته لرغباته وشهواته.

ماذا يكون جوهر هذه الحرية وإرادتها؟

في جوهرها، تقوم الحرية الليبرالية على إرادة الفرد كأعلى مناقب الإنسانية، وتتميز بالعقلانية الأداتية (instrumental reason) والسيادة الأخلاقية (moral autonomy)[11] اللتين تمنحان الفرد حق تحقيق إرادته من دون تأثير أو تدخّل أو سيطرة خارجية – كحقّ طبيعي وأساس شامل للأخلاقية الليبرالية. ويُعرف هذا النوع من الحرية، وفقاً لإشعيا برلين،[12] باسم "الحرية السلبية" (negative liberty). وفُسِّر هذا النوع من الحرية على أنه حرية ذاتية تخلو من مفاهيم العدالة والأخلاق التي كانت في السابق مرتبطة بالمفاهيم الدينية التي سعت العلمانية للانفصال عنها. وفي أثناء محاولة الفرد تحقيق الاستقلال والتحرر من كل شيء خارجي، بما في ذلك العدالة والقيم والأخلاق وعلاقته مع الآخرين، فإنه يتعرض لنوع آخر من الاستعباد هو الاستعباد الباطني، والذي يُعدّ أكثر صعوبة وتعقيداً.[13]

لقد كسرت غزة توهمنا بالحرية وإدماننا على إطعام الشهوات والغرائز التي لا تعرف الشبع، وكشفت اكتئابنا في سجن الفردانية المحضة. ولم تكتفِ بذلك فحسب، بل كشفت أيضاً عن البؤس الذي نعيشه في زنزانات العزلة التي اخترناها بإرادتنا حارمين أنفسنا من أوطاننا وأهلنا وإرثنا، لننفي أنفسنا إلى عواصم الثراء حيث أصبحنا نفتقر إلى كل شيء. فمَن هم "أحرار العالم" الذين تخاطبهم المقاومة؟ هم الذين يفتقرون إلى كل شيء إلّا إلى عبودية الله.

تتشابك الحرية بعلاقة ثنائية مع كل من العبودية والاستبداد، وتبدو ملتبسة في ظل التباين بين الفكر الإسلامي التقليدي، والصوفي، والفكر الحداثي.[14] وإذا أردنا ان نفارق قليلاً المفهوم الليبرالي للحرية الذي كثيراً ما ظننا أننا أُغرِقْنا فيه، فإنه يمكننا أن نستشرف نقيضه المفترض: الفقر والعبودية كرُكنين أساسيين للحرية في الفكر الصوفي.

في فكر ابن عربي، يأخذ الفقر منحى وجودياً مطلقاً، يرتقي إلى آفاق روحانية عالية، ويتعدى كونه مجرد غياب للماديات، بل يصبح سلّماً يصعد به الإنسان نحو الإلهيات. هذا الفقر يعني تجريد القلب من غير الله، وتحوله إلى حوض للإيمان والتسليم الكامل. يتخذ الفقر معنى شاملاً للتوكل، بحيث يغدو الإنسان مستسلماً مستغنياً بذات الله، ومجسداً معنى الفناء في الله والبقاء بالحقّ، متحرراً من أغلال النفس ومتجرداً فقط ليعيش إرادة الله الكونية.[15] فالحرية، إذاً، هي تحرر الإنسان من قيود الأهواء الزائلة، والتوجه بكامل وجوده نحو الله، ليصير حراً من كل سلطان غير سلطان الخالق.

ويرتبط هذا التحرر الروحي برؤية عميقة إلى الوجود، "إذ ينظر إلى الآخرين على أساس أنهم تجليات للحق تعالى، فيكون تعامله معهم على أساس الإيثار والخدمة، لا على أساس التسلط أو الاستغلال."[16] وهكذا، تصبح مجاهدة النفس وفناؤها من سبل باقي السالكين الإخوة والأحباء، ذلك بأن إخلاصهم وإحسانهم لذويهم يضع في قلوبهم النزعة لتخليصهم من الظلم.[17]

وقد شغلت مجاهدة النفس حيزاً في الكتابات التي تركها لنا الشهيد المشتبك باسل الأعرج: 

من المستحيل أن تجد ثائراً صادقاً إن كان يخالط قلبه شيء من الأنانية. صفتان من المستحيل أن تجتمعا في نفس الحوض إلّا أن تغلب إحداهما على الأُخرى، هاتان الصفتان هما حب الذات وحب التضحية... فما الثورة إلّا تضحية، وما الثائر الأناني الذي يحب ذاته ولا يفكر بالآخرين إلّا شاب طائش ومتهور وثوريته غير صادقة [....] التخلص من الأنانية لا يعني كره الذات وعدم حبها. بالعكس تماماً؛ عندما تتخلص من الأنانية وتحب الآخرين ستكتشف حباً للذات من نوع آخر.

كل مَن رأيتهم انقلبوا من ثوار إلى متخاذلين هم مَن أحبوا ذاتهم أكثر من مجتمعهم ورفاقهم وقضيتهم، وهذا المتخاذل الذي كان ثورياً وانقلب لم يتحول إلى جاسوس إلّا لأنه لم يجد الفرصة [....] إذا أردت أن تكون ثورياً صادقاً عليك أن تنبذ كل الأنانية من قلبك وهذا لا يتم عبر القول، بل عبر الفعل والسلوك، وهذا يحتاج إلى جهد ومشقة، كما مشقة حفر الخنادق، فهذا هو جهاد النفس الذي هو أصعب من جهاد العدو، لأن فيه مشقة وصعوبة وتعباً وإرهاقاً.[18] 

الحرية، إذاً، تتجسد في "الخروج أو الانعتاق من النفس"،[19] وبهذا، تصير تجربة مجاهدة النفس وتحريرها وسيلة تمكّن الفرد من إدراك ماهية الحرية ومدى ثقل الاستعباد، الأمر الذي يقوده إلى معرفة الظلم والاستبداد.[20]

إن توسع الحرية من كونها حالة باطنية في التصوف إلى فكرة وممارسة شعبية واسعة النطاق، يعود إلى العلاقة التاريخية بين التصوف والدولة في العالم العربي والإسلامي، والتي مر خلالها مفهوم الحرية بعدة مراحل وتشكيلات.

يشير عبد الله العروي إلى أن الحرية، بخلاف النموذج الليبرالي المرتبط بالدولة، وهي الحرية في التصوف، كانت دائما ممارسة تقع خارج الدولة، وحتى مناهضة لها.[21] ويعود الأمر، مثلما يبيّن العروي، إلى عدة عوامل، بينها ثقافة البداوة العربية التي عُرفت برفضها للخضوع للقوانين والأوامر السلطانية، وجسدت بعين الناس "الحياة الطلقة... السعة في العيش والفسحة في التصرف"؛[22] والعشيرة باعتبارها "تحتضن وتحمي الفرد من أذى الغير أياً كان"، ذلك بأن "الفرد في نطاق المجتمع العربي التقليدي يفضل الخضوع للعادة الموروثة على اتّباع الأمر السلطاني."[23] ومن هذا المنظور، تُعتبر الحرية مفهوماً يتأصل خارج القانون والدولة، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحاضنة الشعبية المؤيدة للمقاومة، الأمر الذي يعني أن المجاهدة والتحرر، أكانتا في الظاهر أم في الباطن، هما ممارسة جماعية لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن المجتمع. وعندما تتجرد الحرية والمجاهدة من حاضنتهما الشعبية، تتحولان إلى حرية ليبرالية انفرادية معتمدة في ممارستها على الدولة والمنظومة القانونية ، وهو ما يبرز تناقضيتها. 

نفق جلبوع

في باطن الأرض وفي أنفاقها يلتقي المجاهدون السالكون ليصبحوا كالمياه التي تتسرب في قنواتها، كي تروي الخلق كافة؛ فهذه مقاومة تتغلغل في تراب الأرض لتلتحم مع أبنائها عبر الجدران والقضبان.

على مسافة تقارب 150 كم من الطوفان المتدفق إلى الأقصى، ومن داخل جوف نفق في غزة، شقّ طريقه نفق شقيق سعى بدوره ليكون طريقاً مبتدؤها زنزانة في سجن "جلبوع"، أمّا منتهاها فلم يُحسم بعد، لكنها كانت طريقاً إلى الحرية تمر في باطن الوطن وخروجاً إليه. كان هذا النفق أشبه بجُحْر صغير ضيق، طوله بضعة أمتار فقط، لكنه يفتح إلى أرض شاسعة تمكّن حفّارو هذا النفق من التجوال بين سهولها وجبالها.

وحفارو هذا النفق كانوا كحيوان النيص الذي كان أخبرنا عنه الشهيد باسل الأعرج.[24] وهذا الحيوان صغير، يتميز بدرعه الشوكي، ويتكور إلى كرة حين يتعرض للخطر ليحمي نفسه من قنص الصياد. النيص في فلسطين، يحب أن يتنزه بين ما تبقّى من الأشجار والبيارات، باحثاً عن الصبار والتين والخروب، متمتعاً برائحة التراب. وعلى الرغم من أن الاندثار والتلوث والصيد في المنطقة تتهدد وجود النيص الذي فقد بيئته الطبيعية، فإنه لا يزال موجوداً بكثرة فيها. ومع أنه حيوان وديع، إلّا إنه أحياناً يسبب أضراراً وخسائر في بعض المحاصيل الزراعية.

ستة أسرى خرجوا من نفق جلبوع في صباح 6 أيلول / سبتمبر 2021. وكان أربعة منهم محكومين بالسجن المؤبد، أمّا خامسهم فكان له بضعة أشهر كي يُفرج عنه، لكنه بعد أن أمضى مع رفاق دربه أشهراً من الجهد والحفر، بدا نور الحرية الذي تجلى له من ذلك النفق في فجر ذلك اليوم أكثر حقيقة ومجاهدةً وصدقاً من أن يخضع للسجان الذي قد يطلق سراحه ويسلب إرادته وإيمانه في آنٍ واحد؛ فربما كان مدركاً أنه لا يمكنه الوصول إلى مثل هذه الحرية من باب القانون.

يصف لنا الأسير المحرر أمير مخول بصيرة خروج الأسرى الستة من النفق في فجر ذلك اليوم: 

استعادت الناس معنى البيئة الحاضنة وكيف يتسع [الأسير] نحو كل فلسطين وفي كل مكان، وكيف بات أبناء يعبد وجنين وعرّابتها أبناء للناصرة والبلدات المجاورة، دون خط أخضر يفصل الفلسطيني عن الفلسطيني كما الجدار والحاجز والشارع الالتفافي وكما القانون المستعمر. ارتاحت الأنفس ولامست المعنويات معنى معانقة السماء سعياً وراء إرادة أصحاب النفق، تلك السماء التي ليس مثل النفق الأرضي سبيلاً لها.

تراودني فضولية الخيال كيف أمضوا يومهم قبل الخروج، وكيف أضاء عمقُ الأرض لهم الطريق، وتشغلني المشاعر، كيف شعر كل واحد منهم، وهو يشق طريقه نحو الأرض، كيف شعر بعدها، وأية مشاعر حين أعادوه إلى القبو والحرية تملأ روحه؟[25] 

يسلط عبد الله البياري الضوء على إطار مفاهيمي بالغ الأهمية، تُدلي به لنا معمارية السجن الاستعمارية القائمة على ثنائيات حداثية تُستخدم كأدوات لتعريف الجسد الفلسطيني وتنكيره في الوقت ذاته: تكنولوجيات الضبط والمراقبة، والتقسيم إلى "داخل - خارج".[26] فهذه الآليات تقوم بضبط وتطويع الجسد الفلسطيني الذي يقع خارج السيادة القانونية لمنظومة الدولة الاستعمارية كجسد غير موجود، عبر "مساحة الحضور والغياب... [والتي] هي ثنائية ضبطية تنتج تعادلاً صفرياً يجعل الواقعين تحت سلطتها أصفاراً منضبطة، أي لا فاعلية لهم في العلاقة مع أي شكل آخر من الوجود / التداول، أو حتى التفاوض، فالنظام يقبل تداولهم باعتبارهم أصفاراً لا حقوق / وجود / خطاب لهم."[27] الزنزانة كذلك هي آلية تكنولوجية إضافية تخدم هذه الثنائية بثلاث وظائف رئيسية، بحسب فوكو: "الحبس والحرمان من الضوء والإخفاء – ولا يُحتفظ إلّا بالوظيفة الأولى وتُلغى الوظيفتان الأُخريان. فالضوء القوي ونظرة المراقب تأسر أكثر ممّا يأسر الظل الذي يحمي في النهاية. إن الرؤية هي شرك."[28]

هذه الرؤية تسبب اختراقاً كبيراً لمنظومة أمن الاحتلال في كلَي النفقين، وتفكيكاً عميقاً للمعرفية الاستعمارية التي كانت تسيطر على الواقع الفلسطيني المكاني والزماني بشكل مطلق وغير قابل للتغيير. الاختراق العنيف لهذه المنظومة وخاصة في 7 تشرين الأول / أكتوبر كان لحظة غير مسبوقة، إذ منح الإنسان الفلسطيني القدرة على إعادة إنتاج معايير جديدة لما هو جائز، ممكن، أو مستحيل، وهي معايير خلقت له الإمكان لإحداث أثر لفعله، وحررته من عقود من الجمود والعجز، ومنحته الشعور بالإرادة والقدرة والعزم في سبيل صنع تاريخه. على هذا النحو، انبعثت العجائب من أنفاق الأسرى والمجاهدين إلى سائر المستعبدين على سطح الأرض، خالقة بذلك بصيرة (perception) ومعرفية (epistemology) جديدة للمستقبل، ومحبطة القبضة والسلطة الزمانية والمكانية الاستعمارية على التاريخ الفلسطيني المحتل في منحاه ووتيرته.

وجّه كلا النفقين أيضاً ضربة موجعة إلى آليات الضبط والمراقبة، طامسَين بذلك المنظومة الاستعمارية عبر تكتيكات الحجب والإخفاء التي أعاقت رؤية المنظومة وقدرتها على توليد المعرفة الاستخباراتية والعسكرية والإعلامية بشأن الجسد الفلسطيني، الأمر الذي يشير إلى مدى أهمية الحجب والإخفاء كمنهجية معرفية مبتكرة، ناشئة من تجربة الذوق الباطني التي تمكّن الخروج عن السلطة المعرفية الحداثية للدولة الاستعمارية.[29]

علاوة على ذلك، يمثل الخرق أيضاً تقويضاً لثنائية "الداخل-الخارج" – زمانياً ومكانياً، وذلك بالتنقل بين عوالم الباطن والظاهر، وبتجاوز حدود الاحتلال، وبالخرق والخروج عن القانون. ويفصّل لنا الأعرج أن الفعل المقاوم هو بمثابة خروج عن قانون النظام الاستعماري التعسفي الغاصب: "مبتدأ كل ثورة هو الخروج عن وعلى المنظومة الاجتماعية التي رسختها السلطة باسم القانون والاستقرار"[30] تحت مبدأ "العقد الاجتماعي" الليبرالي.

الخروج عن القانون هو جانب ضروري وحاسم لأي حركة ثورية عندما يكون القانون أداة محتكرة بيد السلطة التي كثيراً ما كانت تُستخدم لتفسير وتطبيق القانون من أجل تشويه الحركات الثورية وتجريمها. ولذا، كانت الحركات الثورية دائماً مرتبطة تاريخياً ومعتمدة على العالم السري "السفلي" الخارج عن القانون حيث تتاح لها الموارد والمعرفة الضرورية لمقاومة القهر والاستعمار،[31] والذي يصبح حيزاً للمقاومة تصاغ فيه تعريفات الحقّ والعدالة بمنأى عن أحكام السلطة وتفسيراتها. 

الاختفاء

أسئلة كثيرة تندرج من مَثَل النفق في سياق المقاومة والأسر، إذ يتعرض الوجود الفلسطيني الخارج عن القانون إلى سلسلة من الأحوال المتداخلة والمترددة بين الظاهر والباطن: من قيد الأسر إلى زوايا المطاردة، وشُقة الاختفاء، وأوقات العزلة، ومرارة الحرمان، وعمق التبتل، وصولاً إلى الشهادة والبقاء الأبدي. لذا، ربما نفق ثالث يكون ذلك المأوى السري الذي يدخل إليه المقاوم المشتبك للاختباء، ليصير بدوره إمّا سجنه الأبدي، وإمّا مثواه الأخير. وقد خلّف لنا الشهيد باسل الأعرج بعضاً من الكلمات والخواطر التي كتبها في أثناء الاختفاء في مخبئه السري في بلدة البيرة قبيل استشهاده. وعبر السطور التي يسردها، يتردد التألم والعناء في التخفي، إذ يُنفى المقاوم إلى العزلة والوحدة والانسلاخ عن حاضنته الشعبية التي يستمد منها قوته وعزمه، لتتحول إلى أداة مراقبة يبتزها المحتل ليصطاد فريسته. يقول الأعرج: 

العداء نحو المحيط [هو] سمتي الآن، لربما هي آلية الدفاع عن النفس التي يستخدمها المقهورون. شتائمي تتوجه بشكل عمودي أكثر من اتجاهها الأفقي، إذا غفر ربي تطاولي فلن يغفر لي غبائي. التزامي الأخلاقي نحو الأقل حظاً بدأ يتلاشى، مصير الغابات المَطَرية لم يعد يؤرقني، الشركات الأمريكية التي تغزو أفريقيا لهم دينهم ولي ديني.

انتهكت عقلي، واغتصبت شعوري، استباحت ذاتي، مبررة ذلك بأنها حاولت ولم تستطع إلى حبي سبيلاً، أرادت كتفاً للبكاء عليه واعتذرت مني فوليتُ هارباً منها....

لا حب للمقهورين... لا زوجات... ولا أطفال... لا حضن للبكاء... لا وقت للابتسام، لماذا لا حب لنا؟...[32] 

يحتّم الاختفاء الوحدة على المجاهد، وفي الوقت ذاته، يدعوه إلى التبتل – "الانقطاع إلى الله بالكلية"[33] – وهو التجرد والانفصال عن العواطف التي قد تشكل حجاباً، والسعي للفناء في العشق الإلهي.[34] كما تظهر الكتابة لدى الأعرج كوسيلة مراقبة ومعاينة لنفسه ولقلبه، بحيث ترتسم نصوصه بصفاء في إخلاصه وصدقه وإيمانه بالحق. ومع ذلك، هل للتبتل، بالنسبة إلى المقاوم المطارَد، أن يُطفىء ظمأ الحرمان من الحب والاحتضان؟

من هذا المنظور، يمكن اعتبار ما وصفه باسل بـ "الخروج عن القانون" والدخول إلى الثورة،[35] بمثابة دخول في التصوف أيضاً، من خلال مجاهدة النفس ومعرفة الحرية المطلقة التي تحملها هذه التجربة. وكانت هذه المبادىء الصوفية وأُخرى غيرها قد حيكت بعمق في نسيج مقاومة الاستعمار منذ عقود القرن التاسع عشر المبكرة في عهد الأمير عبد القادر الجزائري،[36] وتوجد وتتجسد أينما توجد مقاومة، وخصوصاً في الفضاءات المكانية والروحية التي تقع خارج نطاق الدولة وسلطتها. فإنه في هذه الرقاع البعيدة عن مرمى الدولة والقانون، يمكن للفرد إدراك وتجسيد الحرية التي تقلب المعارضة الثنائية بين الباطن والظاهر وتتخطاها. 

خلاصة

في أنفاق غزة، تصنع المقاومة المستحيل وتكشف عجائب الغيب. فقد تمكنت من خلخلة أسس الإبستمولوجيا الاستعمارية التي استحال تفكيكها لعقود، مُعيدة تعريف الحق والممكن. وربما تكون تلك الحالة من العرفان واليقين بالحق والعدل لدى المقاومة الفلسطينية التي يفشل الاحتلال في أن يفهمها، والتي تدفعه مرة تلو الأُخرى إلى القتل والبطش والوحشية، هي محاولته كسر هذا العرفان للمقاومة وحاضنته المعنوية والشعبية، لكن دون جدوى، لأنها تبقى محتمية بحاضنتها، وتستمر في إعادة تشكيل نفسها من جديد. فبعد القضاء على كل جيل مقاوم، ينهض جيل آخر وراءه، يعدو في طريق الحرية، الأمر الذي يزيد في أهمية معرفة المقاومة وتجربتها ونهج حياتها، للمعرفة الفلسطينية التراكمية.

المقاومة والأسر والاختفاء جميعها أنواع معرفة تعتمد في جوهرها على مفاهيم ورياضات صوفية، لأنها تستلزم من الإنسان أن يقاوم الظلم من خلال مجاهدة النفس في الجوع والفقر والزهد والتضحية والفناء، وفي مكافحة المحتل والسجان بما يحاولان إيقاعه من إذلال ورعب وتعذيب وقسوة في قلب المقاوم.

هذه العبارات بشأن مفاهيم مثل المقاومة، والتحرر، والاستعباد، والفقر، والإرادة، والصدق، والمعرفة، وعلاقة الفرد بحاضنته الاجتماعية، تكاد تزول؛ لكن، في زمن كُشف فيه المحجوب، وفي ضوء انهيار المنظومة الليبرالية الأخلاقية التي تقضي على حياة الشعوب وتدنس كرامتهم وتستبيح أجسادهم وأرواحهم وموتهم، فإن استمرارية المقاومة تستلزم اللجوء الي أساليب الخروج عن القانون و"العصيان المعرفي". 

تحية العروبة والوطن والتحرير، أمّا بعد..

إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مُتّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلب سليم مقبل غير مدبر، بإخلاص بلا ذرة رياء. لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها. لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة.

وأنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة إلّا إن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم؟ فلتبحثوا أنتم، أمّا نحن أهل القبور فلا نبحث إلّا عن رحمة الله.[37]

 

المصادر:

[1] وحدات الضفادع البشرية، والصقور الجوية، والكومندوس، لكتائب الشهيد عز الدين القسّام.

[2] ابن منظور، "لسان العرب"، مادة "حفر".

[3] الإمام القشيري، "الرسالة القشيرية"، تحقيق أنس محمد عدنان الشرفاوي (بيروت: دار المنهاج، 2017)، ص 645.

[4] المصدر نفسه، ص 643.

[5] ساري عرابي، "على هامش الحرب.. النفق مصدراً للمعرفة"، "عربي 21"، 25 أيار / مايو 2021، في الرابط الإلكتروني.

[6] محيي الدين ابن عربي، "الإنسان الكامل"، تحقيق محمود الغراب (د. م.: مكتبة الكتاب العربي، 1990).

[7] آمال محمد عامر، "نظرية المعرفة عند ابن عربي"، "مجلة كلية الآداب" (ليبيا)"، العدد 1 (أيلول / سبتمبر 2014)، ص 287.

[8] المصدر نفسه، ص 288.

[9] المصدر نفسه، 295.

[10] جاء الكشف أيضاً في: علي بن عثمان الهجويري، "كشف المحجوب"، تحقيق إسعاد قنديل (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة التعريف بالإسلام، 2004).

[11] يُلحظ هنا كيف أن "السيادة" تأخذ معنى autonomy، وتمتد أيضاً إلى sovereignty على نطاق الدولة.

[12]Isaiah Berlin, "Two Concepts of Liberty", in: Isaiah Berlin, Liberty, edited by Henry Hardy (Oxford : Oxford University Press, 2002).

[13] عبد الله العروي، "مفهوم الحرية" (بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 5، 1993).

[14] عبد الرزاق التورابي، "الحرية الكبرى في التخلق بعمل التزكية والتحقق بكمال العبودية: بقدر ما تزرعون من العبودية تحصدون من الحرية"، "قوت القلوب"، العدد 7 / 8 (2017)، ص 31 - 55.

[15] محمد الهاطي، "التصوف وفقه التحرر من حرية الإرادة إلى إرادة التحرر"، "قوت القلوب"، العدد 5/6 (31 كانون الأول/ديسمبر 2015)، ص 326 - 331؛ التورابي، مصدر سبق ذكره.

[16] التورابي، مصدر سبق ذكره، ص 50.

[17] المصدر نفسه.

[18] باسل الأعرج، "وجدت أجوبتي: هكذا تكلم الشهيد باسل الأعرج" (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 2018)، ص 324 - 325.

[19] التورابي، مصدر سبق ذكره، ص 50.

[20] العروي، مصدر سبق ذكره.

[21] المصدر نفسه.

[22] المصدر نفسه، ص 19.

[23] المصدر نفسه.

[24] الأعرج، مصدر سبق ذكره.

[25] أمير مخول، "شروق النفق والسباق مع الشمس"، صحيفة "الاتحاد"، 8 / 9 / 2023، في الرابط الإلكتروني.

[26] عبد الله البياري، "غطرسة النقطة صفر: فلسطين نموذج للتحرر والعصيان المعرفي"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 130 (ربيع 2022)، ص 63 – 72.

[27] المصدر نفسه، ص 65.

[28] انظر الاقتباس عن ميشيل فوكو، في: المصدر نفسه.

[29] المصدر نفسه، ص 64.

[30] الأعرج، مصدر سبق ذكره، ص 143.

[31] المصدر نفسه.

[32] المصدر نفسه، ص 171.

[33] ابن قيّم الجوزية، "مدارج السالكين بين منازل (إياك نعبد وإياك نستعين)"، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط7، 2003)، ج 2، ص 31.

[34] المصدر نفسه، ج 2، ص 31 - 32.

[35] الأعرج، مصدر سبق ذكره، ص 137 – 139.

[36]Fait Muedini, "Sufism and Anti-Colonial Violent Resistance Movements: The Qadiriyya and Sanussi Orders in Algeria and Libya", Open Theology, vol. 1, no. 1 (2015), pp. 134-145.

[37] وصية الشهيد باسل الأعرج، في: الأعرج، مصدر سبق ذكره، ص 345.

السيرة الشخصية: 

لمى سليمان: طالبة دكتوراه في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا.