موقع وثبة مارس الغزّية في التاريخ
نبذة مختصرة: 

تسلط هذه المقالة الضوء على "وثبة غزة" التي اندلعت في آذار / مارس 1955 ضد الإدارة المصرية جرّاء التقصير في الدفاع عن القطاع خلال العدوان الإسرائيلي في شباط/ فبراير من السنة نفسها، وذلك من خلال تتبّع الطروف التي تراكمت اقتصادياً وسياسياً وفي القطاع الطلابي، والتي أنتجت هذه الوثبة، وما تركته من تأثير لاحق في مجمل الوضع العربي.

النص الكامل: 

قفزت وثبة آذار / مارس 1955 الغزية بالوطن العربي إلى نهوض قومي امتد إلى نحو خمسة أعوام متصلة، ومع هذ، فإن هذه الوثبة، على أهميتها، أفلتت من المؤرخين. 

الأساس الاقتصادي الاجتماعي

غصَّ قطاع غزة، على ضيقه، وشحّ موارده الاقتصادية، بالبشر، بعد أن تدفق إليه ما يربو على 200,000 فلسطيني، من أراضٍ احتلتها إسرائيل في حرب 1948، حتى وصلت الكثافة السكانية في القطاع، إلى 920 نسمة، في الكيلومتر المربع الواحد. وفي إحصاء لسكان القطاع، جرى في سنة 1952، قفزت هذه الكثافة إلى نحو 1360 نسمة، ثلثهم من اللاجئين.[1]

لقد أُتبع القطاع، غداة حرب 1948، بالإدارة المصرية، واحتوى على بعض الصناعات الحِرفية، علاوة على المزارع المحدودة. وبلغ مجموع القوى العاملة نحو 360 نسمة، ثلثهم تقريباً في الصناعة الحِرفية.[2]

لذا، كان طبيعياً أن يُلحَق اقتصاد القطاع بالاقتصاد المصري الأكثر تقدماً، بينما تركَّز الجنود، والموظفون المصريون، فضلاً عن العاملين الأجانب في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، في مدن القطاع.

وأدى تدفق اللاجئين المعدمين إلى القطاع، إلى توسيع سوق اليد العاملة، والهبوط بأجورها، وفسح المجال لتطور رأسمالي، وإن بخطى جنائزية؛ إذ زادت مساحة الأرض المزروعة إلى نحو 50%، بين سنتَي 1948 و1949، وسنتَي 1959 و1960، منها 80% زُرعت بالري.[3] وتضاعفت أرض مزارع الموالح.[4]

ومنذ مطلع خمسينيات القرن العشرين، غدت تجارة القطاع الخارجية محصورة في تصدير الحمضيات، وأصبح مصدِّروها أنفسهم، هم المستوردين، الأمر الذي جعل كبار التجار يتحدرون من كبار الملّاك.[5]

وهنا، استجد تطور طبقي طفيف، إذ بقيت العلاقات رهن مجتمع زراعي، شبه بدوي، ومتخلِّف، كما أن البُنية الطبقية افتقرت إلى التجانس، والتمايز بين الطبقات. بينما غدا التعليم في هذا الوقت، طريقاً رئيسية للحراك الاجتماعي، فاتسع عدد الطلاب في مدارس القطاع وجامعات مصر باطراد،[6] وشرعت الهجرة إلى الخارج عامة، والخليج خاصة، تتسع بصورة متزايدة، بحثاً عن فرص عمل.

في حزيران / يونيو 1950، أصدرت "الأونروا" تقريراً[7] اتضح منه أن 20% فقط، من اللاجئين قادر على إعالة نفسه، و50% غير قادر على الإطلاق، و30% بحاجة جزئية إلى المعونة. كما توزّعت الطبقات والفئات الاجتماعية على النحو التالي: البرجوازية الزراعية، والصناعية، والتجارية، والبيروقراطية، والمالية، والمتوسطة، والصغيرة، فضلاً عن العمال، والفلاحين.

سياسياً، كان في قطاع غزة فرع لـ "عصبة التحرر الوطني الفلسطينية" الماركسية، والذي تحوَّل إلى العمل السري، بمجرد وضع القطاع تحت الإدارة المصرية باسم "المناطق الخاضعة لرقابة القوات المصرية"، إلى أن تلقى الفرع في 10 / 8 / 1952، ضربة أمنية قاصمة شملت أعضاءه الأربعة والستين جميعاً. ومنذ أواسط أيلول / سبتمبر 1953، خلف الفرعَ "الحزبُ الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة"، وهذا الحزب كان قسم العصبة الذي بقي في الضفة الغربية، إلى أن توحّد مع الحلقات الماركسية في الضفة الشرقية للأردن؛ فنشأ "الحزب الشيوعي الأردني" (أيار / مايو 1951)، ثم جماعة "الإخوان المسلمين" التي ظل فرعها في القطاع يعمل بشكل علني، حتى أواخر تشرين الأول / أكتوبر 1954، حين اضطر إلى العمل بشكل سري بعد أن تقلَّص حجمه، وشرع ينسق مع "الحزب الشيوعي" منذ ذاك الوقت.

في مساء الخميس (25 / 2 / 1955) وزّع "الحزب الشيوعي" منشوراً سرياً دعا فيه جماهير القطاع إلى التظاهر بعد أسبوع، بعد صلاة الجمعة، في 5 / 3 / 1955، احتجاجاً على "مشروع سيناء" الذي هدف إلى طي القضية الفلسطينية، مرة وإلى الأبد. وبينما عمد "الإخوان" إلى نسف عبّارة لمستعمرة يهودية، قرب مدينة غزة، ردّ الإسرائيليون بعدوان مسلح على بير الصفا، في ضواحي مدينة غزة، في 28 شباط / فبراير 1955، موقِعين 39 شهيداً عدا الجرحى، الأمر الذي قصّر مدة التحرك الجماهيري في القطاع، محدثاً وثبة ثورية غير مسبوقة في قطاع غزة، تردَّدت أصداؤها في مصر، أولاً، قبل سائر أرجاء الوطن العربي. 

أحداث الوثبة

في 1 / 3 / 1955، توافد الطلبة إلى مدرسة فلسطين الثانوية في مدينة غزة، واجمين يملأهم الحزن والغضب؛ وحين قُرِع الجرس، اصطف الطلبة، كل في مكان فصله: تحية العَلَم، استرح، استعِد، إلى الصفوف معتدل مارش!

لم يتحرك أحد، فأطلقتُ هتافاً ضد التقاعس في الدفاع عن قطاع غزة، وجاء الرد هادراً من الأغلبية العظمى للطلبة، وتجمّعنا قرب باب المدرسة الخارجي، غير عابئين بكل ما ساقه بشير الريِّس، ناظر المدرسة، من أجل تخويفنا، ومحاولة احتواء غضب الطلبة. وفجأة، ظهر قرب الباب الصاغ (الرائد) أحمد إسماعيل، مدير التربية والتعليم، المعروف بغلظته وقسوته، لكنه هنا، كان يفتعل الرقة والوداعة، طالباً من الطلبة الغاضبين الاستماع إليه.

طوَّقه الطلبة، ورجمه محمد صيام (إخوان) بحجر، فانحنى إسماعيل والتقط الحجر بهدوء مفتعل، وعرضه أمامنا قائلاً:

- أحمد إسماعيل، بعد خدمة خمس سنين في التعليم، تُكافئوه بحجر؟ الله يسامحكم!

سحبنا إسماعيل إلى داخل باحة المدرسة، وطوّقناه بدائرة كبيرة، فشرع يحاول تهدئة الطلبة وامتصاص غضبهم قائلاً:

- بلّغوني من القاهرة، بأنهم هيبعتوا قوات كبيرة، لتعزيز الدفاع عن القطاع!

رددتُ عليه، من فوري:

- هما لحقوا يبلّغوك؟!

هنا امتدت يد وسحبتني من ياقة قميصي، لأكتشف أنه وكيل المدرسة، حلمي أبو رمضان، الذي قال لي:

- هو مفيش حد غيرك يرد؟! أحمد إسماعيل مغتاظ منك، وبينتظر فرصة حتى يفصلك من المدرسة!

رددتُ:

- لو كل واحد منا قال "خلي غيري يرد، محدّش هيرد!"

عدتُ إلى موقعي، بعد أن كان طالبان بعيدان عن السياسة تماماً، قد توليا الرد على إسماعيل، في كل ما كان يقوله، وهما يحيى مرتجى، وعبد الحي عبد الواحد.

بعدها، انطلقنا إلى الشارع في تظاهرة ضمت نحو 200 طالب. وبعد نحو نصف كيلو، عند التقاء شارع مدرستنا بشارع عمر المختار، في محلة الرمّال، ظهر معين بسيسو، أبرز شيوعيي القطاع، آنذاك، ومن فوق كتفَي أحد المتظاهرين، أخد يهتف ضد نظام عبد الناصر. وتجلى التحالف الشيوعي - الإخواني، هنا، وإن افترقا في الهتافات؛ كان هتاف الشيوعيين: "لا توطين ولا إسكان، يا عملاء الأمريكان"![8] أمّا "الإخوان"، فاعتمدوا الشعار الذي صكَّه الإخواني، الشيخ محمود مقداد: "لا منظار ولا منقار، تسقط حكومة الرقاصين!"[9]

ما إن عادت التظاهرة من حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، غاصّة بالآلاف، حتى طوَّقت سراي غزة، مقر جميع دوائر الإدارة المصرية، وأجهزتها، وسجونها، فخرج موظفو السراي، وبينهم البكباشي (المقدم) مصطفى حافظ، مدير الاستخبارات الحربية المصرية في قطاع غزة آنذاك، والذي التفت خلفه، ووجَّه كلامه إلى سعيد السقا، سكرتير الاستخبارات (فلسطيني)، وقال له:

- هما دوُل الشيوعيين إللي بيجوش 30 واحد يا سعيد؟!

هنا اندفع سيد أبو شرخ ، قائمقام غزة الإداري، نحو حافظ، وقال له:

- يا فندم، لو قتلت عشرة منهم، الباقي هيهرب زي الفيران!

رد حافظ، من فوره:

- مش يمكن إللي أقتلو هو إللي يحرر فلسطين؟!

استمرت التظاهرات ثلاثة أيام بلياليها، على الرغم من إعلان الحاكم الإداري العام لقطاع غزة آنذاك، اللواء عبد الله رفعت، منع التجول من الخامسة مساء حتى السادسة صباحاً!

حين مرّت التظاهرة أمام منزلنا في شارع عمر المختار، في الرمّال، امتدت يد والتقطتني، لأجد والدي وقد تمكّن مني، وأودعني المنزل، وأغلق الباب الخارجي للمنزل. غير أنني قفزت من فوق السور العالي المحيط بالمنزل، والذي لم أكن أستطيع القفز من فوقه قبل ذلك، وانطلقت مندفعاً إلى التظاهرة من جديد.

عمّت التظاهرات شوارع مدن وقرى ومخيمات القطاع كله، وأخذ الشهداء يتساقطون برصاص الجيش الذي لم يلعلع رصاصه في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتوالية على القطاع! حتى اقترب عدد شهداء الوثبة من عدد شهداء العدوان الإسرائيلي.

في ضحى اليوم الثالث من الوثبة (3 / 3)، أرسل حاكم غزة الإداري آنذاك، البكباشي (المقدم) سعد حمزة، إلى المتظاهرين، طالباً وفداً يمثلهم؛ فتشكّل الوفد من معين بسيسو (عن "الشيوعي")؛ فتحي البلعاوي (عن "الإخوان")؛ وجمال عمر الصوراني (عن "المستقلين"). ولم يكن صعباً التقدم إلى حمزة بمطالب موحّدة تضمَّنت: "إلغاء مشروع سيناء، وتحصين القطاع، وتسليحه، وتدريب أهله، فضلاً عن إشاعة الحريات الديمقراطية فيه."

عصر اليوم نفسه، وصل حمزة إلى مقر "نقابة معلمي الأونروا"،[10] المقابل لسراي الإدارة، حيث تعرّض لتحرشات من الحضور قبل أن يصل إلى الغرفة التي كان يقيم فيها كل من فتحي البلعاوي (رئيس النقابة)، ومعين بسيسو. وبلّغهما حمزة بأن الرئيس عبد الناصر وافق على مطالب المتظاهرين كافة.

توقفت الوثبة ، بعد ذلك ، وأصدر الحاكم الإداري العام لقطاع غزة، اللواء عبد الله رفعت، بياناً أكد فيه أنه لن يعتقل، أو يحاكم، إلّا كل مَن أتلف، أو أحرق، عن عمد. ومع ذلك، وبعد أسبوع واحد من بدء الوثبة (فجر يوم الاثنين الموافق فيه 8 / 3) انقضّ رجال الأمن على 68 فرداً، وساقوهم إلى "سجن مصر" في القاهرة،[11] علاوة على ثلاثة اعتُقلوا خطأ.[12]

بعد نحو أربعة أشهر، أُفرج عن أربعة معتقلين، بينهم معتقلان بطريق الخطأ، هما: الوحيدي، ولولو، فضلاً عن زهدي ساق الله (إخوان)، وكمال الطويل (نصير للشيوعي).

في 23 تموز / يوليو 1956، قرر "مجلس قيادة الثورة" حل نفسه، والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين المصريين، بينما استُثني المعتقلون الفلسطينيون؛ وبعد أن كان قد أُفرج عن 41 معتقلاً فلسطينياً، قبل أن تنقضي سنة 1955، أعيد أحد هؤلاء إلى المعتقل، وهو محمد عيسى جابر، بعد أن اعترف عليه مرشح للحزب الشيوعي ضُبطت معه نشرة الحزب الداخلية. وظل الفلسطينيون الثمانية والعشرون معتقلين إلى ما بعد العدوان الثلاثي (29 / 10 / 1956)، وانسحاب دول العدوان من بورسعيد (23 / 12 / 1956)، ثم من غزة (7 / 3 / 1957)، ليبدأ بعد ذلك الإفراج عن أولئك المعتقلين، على أربعة أفواج في مطلع أشهر: حزيران / يونيو، وتموز / يوليو، وآب / أغسطس 1957، وذلك بالتساوي، بمعدل 7 معتقلين في مطلع كل شهر. وكان معظم المعتقلين أعضاء في "الشيوعي"، عدا فتحى البلعاوي (إخوان)، وعمر كحيل، ومنصور الحداد، ومسلم أبو رفيع، وأحمد المبيِّض، وهم ما بين عضو سابق، أو مجرد متعاطف مع "الشيوعي". 

تداعيات الوثبة

لم يلتزم عبد الناصر بالمطلبين الأول والثاني فحسب، بل زاد عليهما أيضاً، تشكيل الوحدات الفدائية التي حملت اسم "الكتيبة 141 فدائيون"، وتولى قيادتها البكباشي (المقدم) مصطفى حافظ الذي انطلق إلى السجون المصرية، مُخرِجاً منها كل مَن سبق أن دانته المحاكم العسكرية المصرية بتهمة "الدخول إلى الوطن المحتل!" فهذا المُدان هو الأدرى بمسالك الطرق هناك، وبالأساليب الأكثر فاعلية في مقاتلة الإسرائيليين، ذلك بأن مثله أقدر على فهم الإسرائيليين وأساليبهم، وكيفية التعامل معهم، فضلاً عن تمكّن ذاك المرشح للفداء من مسالك فلسطين المحتلة، بمداخلها ومخارجها. وقد تمكّن أفراد هذه الكتيبة من قتل نحو 1400 إسرائيلي، في بضعة أسابيع،[13] الأمر الذي هزّ الكيان الصهيوني الوليد، حتى تمنى ديفيد بن - غوريون لقطاع غزة بأن يبتلعه البحر!

في مطلع نيسان / أبريل من السنة نفسها (1955)، توجه عبد الناصر إلى باندونغ للمشاركة في المؤتمر الذي حمل اسمها، وهناك، التقى شو إن لاي، رئيس الحكومة الصينية ووزير خارجيتها، وطلب منه مدّ مصر بسلاح صيني، فاعتذر لاي بأن الصين لا تمتلك سلاحاً للتصدير، لكنه وعده بأن يبلّغ القيادة السوفياتية بطلب عبد الناصر هذا.[14]

حين عاد عبد الناصر إلى القاهرة، وجد في انتظاره دانيال سولود، السفير السوفياتي في القاهرة آنذاك، والذي طلب من عبد الناصر أن يعطيه قائمة بالأسلحة التي تحتاج إليها مصر، ثم أرسلها إلى القيادة السوفياتية التي سارعت إلى إرسال صفقة أسلحة لمصر. وقد نصح كيرميت روزفلت، مسؤول الاستخبارات المركزية في الشرق الأوسط، بتسميتها "صفقة الأسلحة التشيكية"، وذلك للتخفيف من وقع الصفقة على الإدارة الأميركية، وهكذا كان.

لقد تأخر علم الإدارة الأميركية بهذه الصفقة، حتى أيلول / سبتمبر 1955، فطلبت من عبد الناصر إلغاءها، لكنه رفض، وأتبعها بصفقة أُخرى، فتراجعت الإدارة الأميركية إلى تكتيك الاحتواء، وعرضت على عبد الناصر تمويلها "السد العالي"، ونَسَج على منوالها كل من بريطانيا و"البنك الدولي". غير أن عبد الناصر استغل التراجع الأميركي هنا، وهجم بدوره، معلناً الاعتراف بالصين الشعبية (16 / 5 / 1956). وكان هذا أمراً مؤثّماً بالنسبة إلى الإدارة الأميركية آنذاك، وهو ما جعل جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأميركية، آنذاك، يحتجّ لدى عبد الناصر، ويطالبه بالتراجع عن الاعتراف (22 / 5)، كما أن واشنطن سحبت عرضها بتمويل بناء "السد العالي"، وتبعتها كل من لندن، و"البنك الدولي". وجاء رد عبد الناصر سريعاً، بتأميم قناة السويس (26 / 7 / 1956)؛ كي يموِّل بدخلها بناء السد إياه.

وبينما نجحت خطة إسرائيلية في اغتيال مصطفى حافظ،[15] توقفت الأعمال الفدائية للكتيبة 141، وخصوصاً أن عبد الناصر أراد التفرغ لمهمة تأميم القناة وتداعياته.

من المعروف أن الغرب الإمبريالي تحرك سريعاً في وجه خطوة عبد الناصر تلك، حتى إن الدول الغربية استحدثت "هيئة المنتفعين بقناة السويس"، وتصاعدت الأحداث، وصولاً إلى "العدوان الثلاثي" (29 تشرين الأول / أكتوبر 1956)[16] على مصر، واحتلال القوات الإسرائيلية لقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء كلها. وعلى الرغم من الضربة العسكرية الشرسة التي تلقتها القوات المصرية، فإن هذا العدوان أخفق في تحقيق أي من أهدافه السياسية، وفي مقدمها إسقاط نظام عبد الناصر، بل الذي حدث أن وزارتَي أنتوني إيدن البريطانية، وجي مو ليه الفرنسية، هما اللتان سقطتا، الأمر الذي حفّز الرئيس الأميركي أيزنهاور على إصدار المشروع الذي حمل اسمه (5 / 1 / 1957)، كي "يملأ الفراغ الذي نشأ في الشرق الأوسط" جرّاء خروج النفوذَين البريطاني والفرنسي منه، وهو ما جعل إيدن يتهم أيزنهاور، لاحقاً، بأن هذا الأخير ورّطه ليستفيد أيزنهاور من هذه الورطة، لكن الوقت كان قد فات.

تُوِّج عبد الناصر زعيماً للعرب من دون منازع، وتوالت تعبيرات النهوض العربي: فمن تحقيق أول وحدة عربية، بقيام "الجمهورية العربية المتحدة" بين سورية ومصر (22 / 2 / 1958)، إلى اندلاع ثورة وطنية في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم (14 / 7 / 1958)، على أكتاف جبهة وطنية ضمَّت الأحزاب الوطنية، والقومية، واليسارية في العراق (الوطني الديمقراطي؛ الاستقلال؛ البعث؛ الشيوعي).

تسرَّع عبد الناصر في دعوة قاسم إلى ضرورة التحاق العراق بـ "الجمهورية العربية المتحدة"، في وحدة اندماجية فورية، غير أن قاسم ردّ بأن الأمر يتطلب عدم تكرار الأخطاء التي وقعت في سورية، وأن يبدأ الأمر باتحاد كونفدرالي تتم خلاله معالجة أوجه الاختلاف بين "المتحدة" والعراق، قبل التوصل إلى تلك الوحدة الاندماجية. وأيد كل من "الشيوعي"، و"الوطني الديمقراطي"، وبعض "الاستقلال" طرح قاسم، بينما اصطف "البعث"، و"القوميون العرب"، ونسبة كبيرة من "الاستقلال"، مع دعوة عبد الناصر، لإحراج قاسم و"الشيوعي"، بدليل أنه بعد أن استعان "البعث" بواشنطن، وهو ما مكّن من إسقاط نظام عبد الكريم قاسم (8 / 2 / 1963)، لم يُسارع "البعث" إلى الوحدة الاندماجية مع "المتحدة"، بل ناصبها العداء، وحتى حين وصل "البعث" في سورية إلى السلطة، لم يُعِد الوحدة، وإنما عمد إلى تكريس الانفصال. والأنكى أن عبد السلام عارف (الناصري القحّ)، حين تمكّن من إسقاط "البعث" من حكم العراق، بعد نحو تسعة أشهر من حكم "البعث"، لم يُقدِم على تحقيق هذه الوحدة! بل إن عبد الناصر نفسه لم يعد متحمساً لصيغة الوحدة الاندماجية، وغدا مع الصيغة الكونفدرالية،[17] على غرار الدعوة السابقة لـ "الشيوعي"!

هكذا، تقوَّض النهوض العربي الذي تأسس على أكتاف تحالف شيوعي – قومي، وانقضى عصر النهوض، ليبدأ عصر الهزائم، و"النكسات". ولهذا مقالة أُخرى.

 

المصادر:

[1] غازي الصوراني، "قطاع غزة 1948 – 1993"، في "كرّاسات أسرى الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال"، الكرّاس رقم 10 (غزة: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: الدائرة الثقافية المركزية – غزة، د. ت.)، ص 18 - 19؛ حسين أبو النمل، "قطاع غزة 1948 – 1967: تطورات اقتصادية وسياسية وعسكرية" (بيروت، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، 1979)، ص 13، 34 - 39، 299 - 301؛ إبراهيم أبو كامش، "التركيب الطبقي في الضفة والقطاع 1948 – 1967" (القدس، مركز الزهراء للدراسات والأبحاث، 1991)، ص 45 - 46.

[2] James Baster, “Economic Problems in Gaza Strip”, The Middle East Journal, vol. 9, no. 3 (Summer 1955), pp. 323-327, http://www.jstor.org/stable/4322725

[3] محمد علي خلوصي، "التنمية الاقتصادية في قطاع غزة 1948 – 1966" (القاهرة: نشر خاص، 1967)، ص 77.

[4] زراعة رأسمالية، بما تحتاج إليه من ماكينات وأيدٍ عاملة، فضلاً عن قابليتها للتصدير.

[5] أبو كامش، مصدر سبق ذكره، ص 45 - 46.

[6] خلوصي، مصدر سبق ذكره، ص 22 - 23.

[7] المصدر نفسه.

[8] كانت حكومة القاهرة وقَّعت مع الأونروا اتفاقاً، في حزيران / يونيو 1953، قضى بتوطين اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في مصر وقطاع غزة، في منطقة تقع إلى الشمال الغربي من شبه جزيرة سيناء، وعُرف الاتفاق باسم "مشروع سيناء". وقد وعى الشيوعيون بأن الاعتداءات الإسرائيلية المتوالية، قُصد بها إجبار اللاجئين في قطاع غزة على القبول بهذا المشروع، حفاظاً على أرواحهم.

[9] المقصود بالمنظار صلاح سالم بنظّارته القاتمة، بينما قُصد عبد الناصر بالمنقار. وكان سالم رقص شبه عارٍ، في جنوب السودان، ونشرت صوره الصحف المصرية آنذاك.

[10] هي النقابة الوحيدة التي أفلتت من الحظر الذي فرضته الإدارة المصرية على تشكيل النقابات. وجاء تشكيلها في صيف سنة 1954، حين كانت حكومة تموز / يوليو والإخوان سمناً على عسل! وفي 14 / 3 / 1955، أصدر الحاكم الإداري العام للقطاع قراره بحل هذه النقابة.

راجع: "الوقائع الفلسطينية" (غزة)، العدد 45، 15 / 3 / 1955، ص1157. وقد أمدّني بهذه الوثيقة مشكوراً، الصديق العزيز مازن سيسالم.

[11] كان 21 منهم أعضاء في "الشيوعي"، هم: معين بسيسو؛ سمير البرقوني؛ محمود نصر؛ نايف تايه؛ عبد الرحمن عوض الله النوري؛ محمد زاهر؛ محمد عيسى جابر؛ عمر عوض الله؛ حسين ضاهر؛ محمد سرور؛ محمود صالحة؛ أحمد خليل الحاج؛ خليل صالحة؛ حسن أبو شعبان؛ عبد الله عوض الله النوري؛ عبد الله زقوت؛ محمد أبو زريبة؛ حسن أبو عاصي؛ محمد زكي آل رضوان؛ سعد بسيسو؛ أسامة بسيسو؛ إضافة إلى أربعة أعضاء سابقين في "الشيوعي" هم: سعاد حنا صايغ؛ عمر كحيل؛ أحمد المبيّض؛ منصور الحداد. وعلى حوافي الحزب كان هناك كل من: جبرا وغازي ترزي؛ ياسين قُفّة؛ كمال الطويل؛ مُسلًم أبو رفيع؛ أحمد أبو رمضان. أمّا "الإخوان"، فتمثَّلوا في ستة هم: فتحي البلعاوي؛ محمد يوسف النجار؛ زهدي ساق الله؛ أسعد الصفطاوي؛ سلمان أبو كرش؛ الشيخ محمود مقداد.

[12] الأول، هو سعدي لولي، الطالب الشيوعي في جامعة القاهرة، شارك في الوثبة، ثم سافر إلى القاهرة قبل حملة الاعتقالات، لكن المباحث العامة لم ترد أن تعود خائبة بفشلها في اعتقاله، فاعتقلت بدلاً منه ناظر مدرسة يحمل اسماً قريباً منه، هو: سعد لولو، وهو إنسان بعيد كل البعد عن السياسة؛ الثاني، هو فواز الوحيدي، البعيد عن السياسة، أيضاً، وتم اعتقاله بدلاً من الشيخ فايز الوحيدي، عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي؛ الثالث، هو عوني بسيسو الذي أرسله كبير العائلة إلى معين، كي يصلوا إلى تسوية مع الإدارة المصرية، وشاهد رجال الأمن عوني وهو يُسرّ بكلام إلى معين، فاعتقدوا أنه يوصل إليه تعليمات القيادة.

[13] للمزيد بشأن هذه الكتيبة وأدائها، يمكن العودة إلى: يونس الكَتري، "حلقة مفقودة من كفاح الشعب الفلسطيني: الكتيبة (141) فدائيون" (القاهرة، دار المستقبل العربي، 1987)؛ محمد كُريِّم، "مصطفى حافظ: مؤسس العمل الفدائي الفلسطيني" (القاهرة: مركز يافا للدراسات والأبحاث، 1998).

[14] للاطلاع على نص الرسالة، يمكن العودة إلى: محمد السيد سليم، "الاتحاد السوفياتي والقضية الفلسطينية"، "السياسة الدولية" (القاهرة)، العدد 17 (تموز / يوليو 1969)، ص 39 - 45.

[15] تمكّن الأمن الإسرائيلي من أسر محمد الطلالقة وهو فدائي من "الكتيبة 141"، وعرض عليه التعامل، فوافق، لكنه بلّغ قائده مصطفى حافظ بالأمر، فطلب منه الاستمرار في ذلك. وذات مرة أخبر الأمن الإسرائيلي هذا الفدائي بأن الأمن سيُسمِّم خزان مياه في غزة، وفي اليوم المحدد، تضاعفت الحراسة على الخزان إياه. وتكرر الأمر، فتأكد الأمن الإسرائيلي من أن محمد الطلالقة بلّغ حافظ بالأمر، وهو المطلوب الأول! وهنا، سلمه الأمن الإسرائيلي مظروفاً كبيراً مغلقاً، فذهب الطلالقة به إلى حافظ الذي ما إن قرأ الاسم المرسل إليه، وهو مفتش المباحث العامة، لطفي العكاوي، حتى استهجن وأراد أن يفتح المظروف، لكن الطلالقة تمنى عليه بألّا يفعل، لكن حافظ حاول فتح المظروف من طرفه، غير أنه انفجر بيده، بينما فقد الطلالقة عينيه.

[16] كان هذا العدوان رباعياً بمشاركة قوات أميركية في اليومين الأولين، ذلك بأن أنتوني إيدن رئيس الحكومة البريطانية آنذاك، وعد نظيره الأميركي دوايت أيزنهاور، بأن عدوانهم هذا لن يستغرق أكثر من يومين، توهماً منه بأن الشعب المصري سيعمد إلى إسقاط عبد الناصر، خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من العدوان، الأمر الذي لم يحدث، فانسحبت القوات الأميركية من هذا العدوان، اعتراضاً على طول أمد العدوان.

للمزيد انظر: مجلة "المصور" (القاهرة)، الأعداد 12 و19 و26 (أيار / مايو 1996).

[17] للمزيد من التفصيلات، يمكن الرجوع إلى: "محاضر مباحثات الوحدة الثلاثية"، "الأهرام"، 1963.

السيرة الشخصية: 

عبدالقادر ياسين: كاتب ومؤرخ فلسطيني.