عكا.. نموذج من تاريخ بعث العمارة الفلسطينية - الساحلية في التاريخ الحديث
ملف خاص: 
النص الكامل: 

مدخل

تكاد تكون عكا المدينة العربية الوحيدة، ويافا معها إلى حد ما، اللتان حافظتا على الوجه المعماري للمدينة العربية الساحلية على المتوسط في فلسطين ما بعد النكبة التي دُمِّرت خلالها معظم مدن وقرى ساحل البلد، وقُضي على البشر والحجر معاً. ومع أن عكا لم تكن بمنجى من النكبة لناحية تهجير الصهيونيين لأغلبية سكانها العرب، إلّا إن العمارة فيها ظلت سالمة إلى حد كبير، وشاهدة بالتأكيد على الهوية الحضارية العربية للمدينة بإرثها العثماني – الإسلامي من جانب، وللأثر البحري في العمارة الفلسطينية – الساحلية من ناحية التكوين والتصميم وهواجس الأمن والهندسة الاجتماعية في المعمار، من جانب آخر.

ولم يقف تأثير البحر في العمارة عند حد التصميم والبناء، وإنما تسلل إلى المخيلة الاجتماعية العَكّية على شكل مآثر وحكايات وأمثال شعبية ومسميات ظلت تؤرخ بذاتها معنى وجوهر مدينة عكا التي تغفو على كتف البحر.

ففي واحد من أشهر الأقوال العامية المأثورة والمتداولة في فلسطين وبرّ الشام عامة، نسمع: " روح بلّط البحر"، أو "اللي مش عاجبو يبلّط البحر". وكثيراً ما يُقصد بهذا القول التعجيز، أو الدلالة على عدم الاكتراث أحياناً، إلّا إن حكايته تعود إلى مدينة عكا في ظل حكم الوالي أحمد باشا الجزار عليها خلال الفترة 1776 – 1804، وتتصل تحديداً بعمارة المدينة وشكلها الساحلي. فقد قام الجزار بـ "تبليط البحر" بعد ردمه جزءاً من الشاطىء الشمالي للمدينة بالتراب، ثم غَرَس كميات كبيرة من جذوع النخيل وأعواد القصب في التراب المردوم إلى أن تشابكت وكونت طبقة قوية عجزت الأمواج عن تفتيتها، وبعد ذلك رصف الجزء المردوم بالبلاط فقيل في حينه: "الجزار بلّط البحر"، وذهبت مَثَلاً إلى يومنا هذا.[1]

لقد تجرأ الجزار على البحر وبنى فيه، وفي ذلك ما يحيلنا إلى شكل علاقة أهل فلسطين ببحرهم على ساحل المتوسط، ليس على مستوى العمارة فقط، بل أيضاً في مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية كافة. فعلاقة الفلسطينيين بالبحر المتوسط ظلت علاقة يشوبها القلق على مدار التاريخ، وحتى في التاريخ الحديث في ظل التاريخ العثماني، مع استتباب الأمن في المناطق الساحلية وعودة سكان المنطقة إلى التوطن على حرف البحر في الساحل، وتحديداً المناطق الشاطئية منه.[2] وبالتالي، فإن إعادة إعمار مدينة عكا منذ مطلع القرن الثامن عشر، يُعتبر نموذجاً لشكل تطور علاقة فلسطين بساحلها عامة، وعلاقة العمارة الساحلية خاصة.

تجسد مدينة عكا بإرثها المعماري إلى اليوم، الوجه الحضاري للهوية العمرانية العربية – الفلسطينية. ويعود بعث هذا التشكيل العمراني في المدينة إلى مطلع القرن الثامن عشر، مع حكم أسرة "الزيادنة" وأميرها المشهور ظاهر العمر (ت 1775)، واتخاذه مدينة عكا مقراً مركزياً لإدارة شؤون حكمه في سنة 1746م، ثم فترة حكم أحمد باشا الجزار منذ سنة 1776، والذي في ظله شهدت مدينة عكا نهضة عمرانية من أبرزها بنائه جامع الأنوار (الجزار)، وغيره من المنشآت والمرافق المعمارية التي تُنسب إليه، مثل "حمّام الباشا" و"بستان الباشا" وسواهما.

إن الحديث عن العمارة الساحلية – العَكّية، حديث يطول، ولا يمكن الإحاطة به في مقالة بحثية، ولا حتى في بحث موسع واحد. ولذا، سنكتفي في هذه المقالة بتناول دور البُعد الأمني – العسكري وأثره في بعث العمارة العَكّية، ضمن الإجابة عن سؤال فحواه: كيف أثّر الأمن الساحلي – البحري في العمارة العَكّية في التاريخ الحديث؟؟ 

القلق البحري

يقول المثل: "عكا لو خافت من هدير البحر ما حطت على شطوطها"، وهذا المثل ما زال إلى يومنا هذا جارياً على ألسنة العَكّيين وأهالي الجليل عامة، ففيه إحالة إلى صمود المدينة وتحديها لإرث الخوف الذي تشكَّل تاريخياً لدى أهالي الساحل من البحر. وبالتالي، فإن القلق والإرباك من البحر على ساحل المتوسط، كان سببهما أمرين: الأول، متصل بالبحر كمكون بيئي، والثاني، كون البحر منفذاً إلى البلد من جهتها الغربية. فجميع الحملات العسكرية – التاريخية، والغزو الاستعماري الحديث للبلد، جاءا عبره، ومن هنا قول الفلسطينيين المأثور: "ما بيجي من الغرب اللي يِسِرّ القلب".[3]

كانت عكا أول مدينة ساحلية في فلسطين جرى إعادة إعمارها في التاريخ العثماني، وتحديداً في مطلع القرن الثامن عشر في عهد ظاهر العمر، بعد قطيعة مع الساحل وانقطاع عنه داما أكثر من 500 عام. كما كانت آخر حصن عسكري صليبي دمره المسلمون على ساحل فلسطين، بعد تخليص المدينة في العصر المملوكي من الصليبيين وطردهم منها في أواخر القرن الثالث للميلاد في سنة 1291م.

لقد تحول ساحل فلسطين في ظل الحروب الصليبية، وعلى مدار أكثر من قرنين من الزمن، إلى شريط أمني بامتياز، ذلك بأنه بات ممراً لقوات جيوش الحملات. كما تحولت مدن سيف البحر الشاطئية التي احتلها الصليبيون إلى حصون عسكرية، الأمر الذي دفع فلسطينيي الساحل إلى الابتعاد عن الشريط الساحلي إلى جبال فلسطين الداخلية.

ولمّا جرى تخليص الساحل من قبضة الصليبيين، اقتضت الضرورات العسكرية – الأمنية تدمير كل مدينة ساحلية، بدءاً بمدينة عسقلان التي دمرها صلاح الدين بعد تحريرها، وذلك في صلح الرملة الشهير في سنة 588ه / 1192م، مروراً بأرسوف ويافا وحيفا في زمن السلاطين المماليك، ووصولاً إلى تحرير مدينة عكا على يد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون في سنة 1291م.[4]

وكان أول ما ارتكزت عليه هذه السياسة الحربية، هو العمارة والإرث العمراني على ساحل فلسطين، وتحديداً عكا التي تم تخريب وتدمير معظم بُنيتها المعمارية. فقد ظلت عكا مدمرة، حتى بعد انتهاء الحروب الصليبية، وذلك بسبب الفوضى التي ترتبت على مرحلة ما بعد الصليبيين في مناطق الساحل عامة، إذ تفشت ظاهرة القرصنة على ساحل فلسطين، وهو ما يفسر لنا سبب بقاء الساحل الفلسطيني مهجوراً من أهله على مدار ثلاثة قرون، من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر. وقد ذكر الرحالة الشهير "ابن بطوطة" مدينة عكا حين مر بها في رحلته، في النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد، على أنها خالية من أهلها، وأنها خراب.[5]

ولم تقتصر ظاهرة القرصنة على نشاط القراصنة وهجماتهم، بل تعدّى الأمر إلى اتخاذهم من بعض المواقع الفلسطينية - الساحلية على المتوسط معاقل لهم ونقاط ارتكاز ينطلقون منها إلى تنفيذ هجماتهم على السفن المارة في البحر، ومن هذه المواقع عكا وقيسارية بالدرجة الأولى.[6] ومن هنا، فإن أول ما سعى ظاهر العمر لتنفيذه في مطلع القرن الثامن عشر، عند إعادته إحياء عكا وإعمارها، هو التخلص من القراصنة وتهديدهم للمدينة خاصة، وساحل فلسطين عامة.[7]

وَضْع مدينة عكا هذا، دفع ظاهر العمر في سنة 1750، عند مباشرته في تحصينها، إلى إعادة بناء سورها من واجهتها البحرية. وقد أقام السور على أنقاض السور المهدم الذي بناه الصليبيون من قبله وهدمه المسلمون في أثناء تحرير المدينة الأخير. ونُقشت على واجهة السور، بعدما تم إحياؤه وبناؤه في زمن ظاهر العمر، الأبيات التالية:

 

بأمر الله هذا السور قاما                    بعكا من فتى بالخير قاما 

أبي الفرسان ظاهرٍ المفدّى               أعزّ الله دولتـه دوامـا 

فباطنُ آيةُ الرحمـات فيـه                   وظاهرهُ العذاب لمَن تعامى

 

يبيّن هذا النقش لنا الدور التأسيسي لظاهر العمر في بعث تحصينات مدينة عكا وإعادة إحيائها كي تستعيد هذه المدينة دورها الريادي على ساحل المتوسط. كما يخبرنا النقش في أبيات أُخرى عن قيام السور الذي شُيّد على أنقاض السور الذي أقيم وهُدم في زمن الصليبيين.

وهذا الأمر يحيلنا إلى نقطتين تتعلقان بالهوية المعمارية لمدينة عكا: الأولى، البناء ليس فقط على أنقاض المعمار الصليبي في المدينة، بل اتباع للتقاليد المعمارية الصليبية أيضاً في أثناء إعادة إعمار مدينة عكا في ظل حكم ظاهر العمر، والجزار من بعده في التاريخ الحديث؛ الثانية، إعادة إعمار عكا وبعثها وفق التصميم المعماري الحربي – الثَّكَني، وهو ما يمكن لنا أن نطلقه على عكا في التاريخ الحديث، بصفتها مدينة ثَكَنية.

بصورة عامة، لم يعد لسور عكا ذلك الدور الوظيفي الذي أقيم من أجله منذ زمن سابق على نكبة 1948 بعقود طويلة، وذلك مع تطور النظام الحربي الحديث وأسلحته التي لم تعد عكا والمدن المسورة بمأمن منها، ليظل سور عكا معلماً حضارياً بدلالات رمزية واجتماعية متصلة بالبحر تحديداً. فممّا يُذكر عن العَكّيين في مدينتهم عكا قبل نكبتها، أن مهر العروس كان أن يقفز خاطبها العريس من أعلى سور عكا ويقذف بنفسه في البحر، فإن فعل حظي بها، وإن لم يفعل خاب حظه بها.[8] 

مدينة ثَـكَنية

تظل الأمثال والأقوال الشعبية، ومنها التصنيفات الاجتماعية التي تُعمَّم على فئة معينة من السكان أو تُلصق بأهالي قرية أو مدينة بعينها، تستبطن مفاتيح اجتماعية وثقافية، ذلك بأن القول المأثور، أو المثل الشعبي، لا ينبعان من فراغ، وإنما يتصلان في كثير من الأحيان بوقائع مادية من إرث المكان أو سكانه.

فعلى سبيل المثال، ثمة مَثَل عن أهالي عكا والشخصية العَكّية، لا يزال متداولاً على سبيل الاستظراف والتندر، إذ يقال إن العكّاوي "إذا طلع برّا السور بصير يحلف بغربته". وهذا المثل هو كل ما تبقّى من حكاية العمارة العَكّية مع سورها الذي يحيط بها، ومعنى هذا المثل أن الإنسان العَكّي أو (العَكّاوي)، ظل، حتى مطلع القرن العشرين، ولمجرد خروجه خارج السور، يشعر كما لو أنه اغترب عن مدينته.

هذا المجاز التندري متصل بالقرار التاريخي الذي فُرض على أهالي مدينة عكا بمنعهم من البناء خارج السور الذي يحيط بالمدينة طوال التاريخ العثماني، وتحديداً منذ أن اتخذها ظاهر العمر مقراً له في سنة 1746م. وظل هذا الإلزام القانوني في البناء داخل السور مفروضاً على أهالي المدينة حتى سنة 1909م، عندما سمحت الدولة العثمانية لأهالي عكا بفرمان رسمي، بالتعمير والبناء خارج سور المدينة.[9]

كانت عكا المدينة الوحيدة بين مدن فلسطين الساحلية والداخلية، التي مُنع أهلها من البناء خارج السور حتى وقت متأخر من التاريخ الحديث. ويعود ذلك، طبعاً، إلى دوافع أمنية بالدرجة الأولى، وذلك بحكم كون المدينة ظلت مقراً للولاة منذ مطلع القرن الثامن عشر حتى أواسط القرن التاسع عشر، علاوة على كونها مدينة ساحلية (ثغرية)، وعلى أنها كانت في الواجهة أمام الحملات العسكرية – الاستعمارية في التاريخ الحديث، وأشهرها حملة نابليون بونابرت على مصر ثم فلسطين، وحصاره الشهير لمدينة عكا في سنة 1799م.

إن الحس الأمني – الثَّكَني الذي ميّز مدينة عكا في تصميمها ومعمارها بدءاً بسورها، جعلها مدينة تبدو أقرب إلى الحصن العسكري من المدينة العادية، وهذا في اعتقادنا هو الأمر الذي يميزها من أي مدينة فلسطينية أُخرى، أكانت ساحلية أم داخلية.

وإذا عدنا إلى سياسات البناء في العمارة العَكّية منذ بداية إعادة إعمارها في مطلع القرن الثامن عشر، فسنجد أن سور المدينة وقلعتها الشهيرة بُنيا بحجارة ضخمة من ذلك الذي يسمى "الحجر الناتىء"، والذي يسمى باللغة المعمارية الحديثة "حجر الطُّبزة"، وهو حجر صخري عريض وناتىء إلى الأمام في واجهته، واستخدامه في عكا يعود إلى مرحلة الصليبيين فيها. ولذا يُعتبر استخدامه في ظل حكم ظاهر العمر والجزار من بعده، تقليداً صليبياً في البناء، وهو تقليد معماري عسكري – أمني اعتمده الصليبيون في تحصين حصونهم العسكرية على الساحل. لأن الحجر الناتىء "الطُّبزة" ضخم وقوي ومصقول بطريقة تجعله يصمد في وجه قاذفات المنجنيق، ويقاوم الغزو العسكري.[10] كما تشير المصادر التاريخية التي تناولت عدة مراحل من حكم ولاة عكا، بدءاً بظاهر العمر، مروراً بالجزار، ووصولاً إلى مرحلة ولاية كل من سليمان باشا العادل وعبد الله باشا من بعده، أي حتى مرحلة الغزو المصري للمدينة في سنة 1831م، إلى أن هؤلاء الولاة جلبوا الحجارة من أنقاض المدن الساحلية – التاريخية المدمرة، وتحديداً من مدينتَي قيسارية وعتليت الساحليتين.[11]

وهذه الحجارة المركومة في مدن رومانية المنشأ على ساحل فلسطين، كانت أنقاضاً لحصون وأبراج ومنشآت بناها الصليبيون في ظل غزوهم وحكمهم للبلد، وقد استقدم ولاة عكا هذا الحجارة وبنوا منها معظم منشآتهم العمرانية في المدينة، أكان ذلك المساجد أم الخانات أم الحمامات على اختلافها، وكذلك الأسوار والأبراج البحرية.

وحتى اليوم، فإن مَن يسير من عند جامع الأنوار / الجزار يميناً ما بين عمارة السرايا وحمام الباشا – نسبة إلى أحمد باشا الجزار – سيلحظ أن حجارة المداميك السفلية للسرايا والحمام أكبر وأضخم من تلك المبنية في المداميك العلوية للمبنيَين ذاتهما. فالحجارة الضخمة في المداميك السفلية تعود إلى المرحلة الصليبية، بينما تصغر الحجارة شيئاً فشيئاً مع المداميك العلوية التي يعود بناؤها إلى الفترات العثمانية في التاريخ الحديث. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على المراحل التي مر بها استقرار المدينة على مدار تاريخها، إذ باتت في ظل التاريخ العثماني أكثر استقراراً ممّا كانت عليه قبل ذلك.

إن إحاطة المدينة بسور، ولا سيما من الناحية الغربية – البحرية، انعكست على التصميم المعماري للبيوت العَكّية منذ بنائها في التاريخ الحديث، ذلك بأن السور يقي البيوت الشاطئية من هجمات موج البحر أو ممّا قد يحمله البحر لها، وهو ما وفّر للبيوت مساحة أمان من البحر إلى حد صارت فيه واجهات البيوت في اتجاه البحر.

ويمكن ملاحظة ذلك في بيوت بعض الحارات مثل حارة الفاخورة التي تطل عتبات بيوتها وأبوابها ونوافذها على البحر، وهذا على خلاف مناطق ساحلية – شاطئية أُخرى، ولا سيما القرى الريفية الشاطئية مثل قرى الزيب شمالي مدينة عكا أو الطنطورة وقيسارية التي ظلت بيوتها الشاطئية تعطي البحر ظهرها، بينما واجهاتها وعتباتها إلى الشرق.

وفي مطلع القرن العشرين حين صارت العلاقة مع البحر أكثر وداً واستقراراً، تشجّع السكان على البناء في تلك القرى المذكورة على حرف البحر، إلّا إن الثقة به ظلت مرتبكة، فأغلبية بيوت قرية الطنطورة مثلاً، كانت عتباتها موجهة نحو الناحية القبلية (الجنوبية)، وقليلاً ما بُنيت عتبة بيت منها في اتجاه البحر.[12] كما كانت نوافذ بيوت المدن والقرى الساحلية – الشاطئية في فلسطين، وخصوصاً تلك المفتوحة على البحر، صغيرة في فتحتها لأسباب متصلة بالعلاقة مع البحر وأثره المناخي والبيئي، فضلاً عن أن المعمار الساحلي – الشاطئي في عكا وغيرها من المدن والقرى الشاطئية، كان معماراً متلاصق البناء، وهذا تقليد معماري ساحلي – تاريخي، متأثر بقضية الأمن البحري. 

كسر النمط المعماري

"لو لم تكن مئذنة جامع الجزار الشامخة لِتذكِّرنا بإسلام المدينة وهويتها، لكان خُيّل إلينا أننا ندخل حصناً قوياً لا يزال في أيدي ملوك الصليبيين وفرسان القديس حنا – ولا يزال هنا في عكا مكان يحمل اسمهم."[13] هذا ما قالته الرحالة الإنجليزية ماري إليزا روجرز حين زارت مدينة عكا في أثناء رحلتها على ساحل الشام، بدءاً بساحل مدينة طرابلس في شمال لبنان، مروراً بساحله الجنوبي، ووصولاً إلى غزة على الساحل الفلسطيني، ثم سيناء في ستينيات القرن التاسع عشر.

إن ملاحظة روجرز، تدعم ما قلناه في هذه الورقة بشأن "ثَكَنية العمارة العَكّية" في التاريخ الحديث، إذ لولا مئذنة جامع الأنوار / الجزار، لظن القادم إلى المدينة أنها حصن عسكري أو ثكنة جند، نظراً إلى تصميم معمارها ذي الطابع الحربي – الأمني فعلاً، والذي كسر هذا الجامع نمط عمارته.

في سنة 1781م، بنى الجزار جامع الأنوار وليس الجزار، مثلما صار اسمه بعد موت بانيه الوالي أحمد باشا الجزار، ففي باحة الجامع مزولة – ساعة شمسية تقليدية – منقوش على واجهتها ما يؤكد أن الجامع عند بنائه كان اسمه جامع الأنوار وليس الجزار، وذلك لأنوار مئذنته التي كانت تظل مشعّة منه كما لو أنها منارة يهتدي بها القادم إلى المدينة من برّها، ومن بحرها في الليل تحديداً.[14]

وتعمّد الجزار إدخال نظام الـ "مئذنة القلمية" بارتفاعها الشاهق، كي يستدل القادم إلى المدينة بها، ويعرف أن عكا مدينة لمقر إدارة وحكم، لا مجرد حصن عسكري أو ثكنة حرس وجند. وهذا النظام في التصميم المعماري لجامع الأنوار / الجزار اعتُبر تجديداً في ذلك الوقت، فقد بنى الجزار جامعه وفق النظام المعماري التركي – الإستانبولي، وتحديداً على طريقة الجامع الأزرق نفسه في إستانبول.

واعتُبر جامع الأنوار / الجزار آنذاك، انقلاباً على نظام بناء الجوامع في مدن فلسطين الرئيسية التي صُممت وبُنيت الجوامع فيها وفق التقليد المملوكي، وهو يُعرف في مدن فلسطين إلى الآن بالـ "جامع الكبير". وكان يوجد في كل مدينة تقريباً جامع كبير مكوّن من طبقة واحدة بمئذنة تربيعية، بينما نظام جامع الأنوار / الجزار مكون من طبقة سفلية مُعدّة كمخزن أو صهريج للمياه، ثم طبقة علوية فيها المسجد لإقامة الصلاة، فضلاً عن مئذنته القلمية الشاهقة الارتفاع. 

خاتمة

يطول الحديث عن معمار مدينة عكا وبنائها على مدار أكثر من ثلاثة قرون حتى عام النكبة، ولا سيما أن العمارة العَكّية لا تزال صامدة تحمل توقيعاً عربياً – إسلامياً في مدينة غدت محتلة، وتتعرض مع سكانها الذين بقوا فيها بعد النكبة لسياسات إحلال وتشويه ممنهجة تنفذها بلدية الاحتلال في المدينة بإسناد حكومي.

والجانب المتعلق بقضية الأمن الساحلي – البحري وتأثيره في العمارة العَكّية في تاريخها القديم والحديث، لا ينفي إطلاقاً تنوع نُظم التصميم العمراني في المدينة. فإذا نظرنا إلى الزوايا والتكايا الدينية – الصوفية المعروفة في المدينة، فسنجد أن لها خصائص معمارية متصلة بدورها الديني والاجتماعي، مثل الزاوية الشاذلية – اليشرطية التي تحمل من الذوق المعماري في بنائها وتصميمها ما يحيل الرائي إلى أثر التصوف الديني في هذا الذوق. وهذا الأمر ينطبق على المقامات وعلى جميع أشكال المعابد الدينية كالكنائس والجوامع التي فيها ما يميز جامعاً من آخر في حجمه وتصميه المعماري.

إن الجانب الثَّكني للعمارة العَكّية الذي تناولناه في هذه المقالة كان الغرض منه إظهار أثر البحر في معمار المدينة وتأثيره فيه. فالبحر بطبيعته البيئية، وبصفته منفذاً لحملات الغزاة على البلد، هو المحور الذي كان وظل يحكم نظام العمارة في مدينة عكا بعد إعادة إحيائها في التاريخ الحديث.

 

* نُشرت هذه المادة بالتنسيق مع المتحف الفلسطيني.

 

المصادر:

[1] نبيل خالد الآغا، "مدائن فلسطين: دراسات ومشاهدات" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993)، ص 220.

[2] عن ذلك، راجع: علي حبيب الله، "فلسطين محفوفة ببحرها: ملامح من تاريخ التوتر مع البحر"، موقع "رمان"، 2 / 12 / 2020، في الرابط الإلكتروني.

[3] راجع: سليم تماري، "الجبل ضد البحر: دراسات في إشكاليات الحداثة الفلسطينية" (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2005)، ص 17.

[4] المقريزي تقي الدين أبو العباس، "السلوك لمعرفة دول الملوك"، تحقيق عبد الله أنيس الطباع (القاهرة: دار النشر للجامعيين، 1957)، ص 192.

[5] ابن بطوطة، محمد بن عبد الله، "رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" (المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، 2017)، ج 1، ص 44.

[6] عن نشاط القراصنة على ساحل فلسطين، راجع: دانيال الراهب، "وصف الأراضي المقدسة في فلسطين"، ترجمة سعيد البيشاوي (عمّان: دار الشروق، 2003)، ص 77؛ إمام الشافعي محمد وأشرف صالح محمد، "اللصوص والقراصنة في الحروب الصليبية: زيارة إلى تاريخ السلب والنهب" (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2019)، ص 70.

[7] ميخائيل نقولا الصباغ، "تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني"، تحقيق أحمد حسن جودة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2019)، ص 40.

[8] صدقي إدريس، "الطيبة بنت كنعان: عرب البصة، الجغرافية التاريخية للمثل الشعبي الطيباوي" (الطيبة: بلدية الطيبة، 2017)، ج 5، ص 10.

[9] زهير وعبد اللطيف غنايم، "لواء عكا في عهد التنظيمات العثمانية، 1281 – 1337ه / 1846 – 1918" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1999)، ص 221.

[10] مقابلة ميدانية مع النحّات سليم عامر أجراها معه المؤلف في 1 / 4 / 2022.

[11] انظر مثلاً: الصباغ، مصدر سبق ذكره.

[12] راجع: علي حبيب الله، "الطنطورة والبحر.. الداء والدواء والزفزف والزلف" (2 / 3)، "عرب 48"، 23 / 2 / 2022، في الرابط الإلكتروني.

[13] سير شارلز ويلسون، تحرير وإعداد، "لوحات من القرن التاسع عشر: لبنان، فلسطين وسيناء"، ترجمة محمد شيا (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1990)، ص 79.

[14] علي حبيب الله، "عكا... عن مدينة محفوفة بنقوشها"، "عرب 48"، 18 / 4 / 2022، في الرابط الإلكتروني.

 

السيرة الشخصية: 

علي حبيب الله: كاتب فلسطيني.