روايات من الفروش: العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سهول نابلس الشرقية بين نكبة ونكسة
نبذة مختصرة: 

تسعى هذه الدراسة لتحليل التحولات في علاقات الفلسطينيين الاجتماعية والاقتصادية، وانعكاسها على شكل الحيز في السهول الشرقية لنابلس بين لحظتين تاريخيتين هما: نكبة 1948، ونكسة 1967، وذلك من خلال دراسة حالة خربة فروش - بيت دَجَن شرقي نابلس، والتي تحولت إلى قرية ناشئة بعد النكبة، استناداً إلى الروايات الشفوية لأهالي القرية. وتفحص الدراسة التحولات في العلاقات بين النخب والسلطة والفلاحين، وبين الفلاحين أنفسهم وحيزهم البيئي والاجتماعي، وديناميات التحول في هذه العلاقات ضمن حيز مستعمَر وتغلغل للعلاقات السوقية. كما تقدم الدراسة قراءة مختلفة للحظات تاريخية مفصلية في السردية الفلسطينية العامة، من خلال وضع التجارب المحسوسة للفئات المهمشة في قلب التحليل بهدف فهم السياق التاريخي لفقد الحيز وولادته الذي حدد ملامح المستقبل فيما بعد.

النص الكامل: 

I - المقدمة

تناقش هذه الورقة أهم التحولات في علاقات الفلسطينيين الاجتماعية والاقتصادية بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالحيز في المناطق السهلية الزراعية الواقعة شرقي مدينة نابلس في الضفة الغربية بين نكبة 1948 ونكسة 1967، وذلك استناداً إلى الروايات الشفوية للأهالي الذين عايشوا تلك الفترة الزمنية. وتُظهر الدراسة التباين في التشكيلات الريفية في الضفة الغربية بعد النكبة، إذ حظيت المناطق السهلية الزراعية بتجربة تاريخية مختلفة عن القرى الجبلية، نتجت من السياق الجيوسياسي والبيئي للسهول الزراعية. وتوثق هذه الدراسة العلاقة التاريخية بين القرى الجبلية الشرقية لنابلس وسهولها الممتدة حتى غور الأردن، والتي نشأت فيها أماكن إقامة موقتة للزراعة الموسمية عُرفت بـ "الخرب". وتتبنّى الدراسة منهج دراسة الحالة من خلال حالة خربة الفروش التابعة تاريخياً لقرية بيت دجن شرقي نابلس، والتي تحولت من خربة إلى قرية ناشئة بعد النكبة. وتُعتبر الفروش اليوم، وهي التسمية المحلية الدارجة على لسان أهاليها، قرية مستقلة إدارياً وتقع ضمن ما يسمى "منطقة العزل الشرقية" في الضفة الغربية التي تسيطر عليها إسرائيل بشكل كامل، وتسعى لتفريغها بشكل ممنهج من سكانها لتوسيع المستعمرات. وتنبع أهمية الدراسة، من قلة الأدبيات التي تناولت الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المناطق السهلية، وتحولات علاقة الفلسطينيين بالحيّز خلال الفترة الزمنية بين النكبة والنكسة، إذ ركزت أغلبية الأدبيات على السياق الاجتماعي والاقتصادي العام، وخصوصاً في مدن الضفة الغربية الرئيسية التي عانت التمييز لمصلحة الضفة الشرقية خلال تلك الحقبة.[1]

تسعى الدراسة للإجابة عن سؤال مركزي هو: ما هي ديناميات تشكل حيز قرية فروش - بيت دجن شرقي نابلس بعد النكبة، والتحول في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بتشكله؟ وتطرح الورقة مجادلة فحواها أن تشكُّل القرية كحيز اجتماعي كان نتاج تفاعل وتناقض تمّا من الأسفل إلى الأعلى والعكس، وشملا الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية والبيئية في حياة أهالي الريف المهمشين، والواقعين بين مطرقتَي الاستعمار الاستيطاني والرأسمالية. وهذه الدراسة تعيد النظر في قراءة اللحظات التاريخية الفاصلة في حياة الفلسطينيين، وذلك من خلال تحليل التجارب المحسوسة للفئات التي غاب صوتها عن الرواية الرسمية للأحداث. وقد شكلت المقابلات السردية أساس المادة التي اعتمدت عليها الدراسة، وذلك بهدف رسم خريطة التجارب المحلية للفئات الريفية المهمشة من خلال التاريخ الشفوي، ومن أجل فهم السياقات المتعددة التي حددت ملامح مستقبلهم فيما بعد. وتساعد مقاربة التاريخ الشفوي على فهم عدم تجانس المجتمع الفلسطيني في لحظات تاريخية معينة،[2] وذلك من خلال فحص العلاقات بين النخب والسلطة والفلاحين، وبين الفلاحين أنفسهم وحيزهم البيئي والاجتماعي، وديناميات التحول في هذه العلاقات. كما يساهم التاريخ الشفوي، بدمجه مع مقاربات دراسات الحيز، في تحليل "الأمثلة النافية"،[3] مثلما يسميها عبد الرحيم الشيخ، للمقولة العامة الخاصة بكل جغرافيا، وفي التعمّق في ديناميات فَقْد الحيز وولادته. وتطرح الدراسة قراءة مختلفة عن السائد لحدث النكبة باعتباره لحظة الفقد للكل الفلسطيني، فتعتبره لحظة ولادة لبعض المناطق الجغرافية المهمشة قبل النكبة، والتي شهدت تحسناً في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بعد النكبة. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا التحول تضمن إعادة إنتاج لأشكال جديدة من اللامساواة، ودمجاً للفئات التي كانت بعيدة عن قوى السوق في أنماط الإنتاج الرأسمالية. وفي هذا السياق، تروي هذه الورقة علاقة الفلسطينيين الملتبسة بحيزهم المستعمَر كرواية ممتدة عبر الزمان والمكان، والتي قد تتيح لنا فهماً أعمق للحاضر والمستقبل، الأمر الذي من شأنه، مثلما تشير رنا بركات، أن يساهم في إعادة "تخيل التاريخ الفلسطيني بوصفه جزءاً من مشروع أنطولوجي لتفكيك استعمارية المعرفة."[4] 

II - لمحة عن ريف الضفة الغربية بين النكبة والنكسة (1948 - 1967)

شكّل التحول في نظام ملكيات الأراضي نقلة مهمة في علاقة الفلاح الفلسطيني بالأرض، وفي العلاقة التاريخية بين الجبل والسهل ضمن الحيز القروي خلال فترة ما قبل نكبة 1948. فقد تبلورت أنماط الإقامة والإنتاج وأساليبه كنتاج تفاعل مع البيئة المحيطة والظروف الاجتماعية والاقتصادية وسياسات السلب الاستعمارية.[5] وتوضح سارة براون في دراستها عن جبل نابلس، أن التلال كأماكن سكنية كانت أقدم وأكثر استقراراً من السهول، إذ ظلت علاقة الفلاحين، ساكني التلال، مع السهول مرتبطة بمدى توفر الأمن لاستغلالها في الزراعة الموسمية أو الرعي حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومع بداية القرن العشرين، شرع الفلاحون ينزلون إلى السهول، وبدأت تتطور أشكال من الفروع للقرية الأم تسمى "الخربة". وظلت العلاقة بين القرية الأم والخربة مرتبطة بمدى القدرة على الوصول إليها وبدرجة الأمان، ومع الحرب العالمية الأولى هُجرت السهول والخرب مجدداً وعاد الأهالي إلى الاستقرار في القرى الأم.[6] وقد جرت خسارة كثير من الأراضي في السهول بسبب تراكم الديون للمقرضين، وهو ما جعل المالكين الجدد يقومون بعد سنة 1920 بزراعة الأرض متّبِعين نظام المزارعة، وفي العقد اللاحق ظهرت أشكال من الزراعة الرأسمالية في المنطقة، ومن استخدام العمالة الزراعية المأجورة.[7]

لم يقتصر أثر النكبة على فلسطينيي 1948، بل امتد ذلك الأثر أيضاً ليغير شكل العلاقات الزراعية وأنماطها في مناطق خارجها كانت مهمشة في السابق، إذ شهد حيز الضفة الغربية تحولات ديموغرافية وسياسية جوهرية تمثلت بشكل أساسي في تدفق اللاجئين إلى المنطقة والخضوع للحكم الأردني حتى سنة 1967، فقد استقبلت الضفة الغربية بعد الحرب نحو 280,000 لاجىء.[8] وشهدت هذه الحقبة سوء الأحوال الاقتصادية في الضفة الغربية، وخصوصاً مع الانقطاع عن المناطق الساحلية ومراكز المدن بعد سنة 1948. وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض المناطق السهلية شهد تحولاً ملموساً كمناطق الأغوار التي استقبلت خلال هذه الفترة أعداداً كبيرة من اللاجئين كعمالة زراعية رخيصة، أو بنظام المزارعة في زراعة الحمضيات بشكل أساسي، وشهدت وجود خطط تطويرية للمنطقة لم تكتمل بسبب حرب 1967.[9] وعلى صعيد آخر، شهدت بداية الستينيات نمواً في مساحة الزراعة المروية وأنماطها، ولا سيما في منطقة الأغوار التي اعتمدت على مياه نهر الأردن من خلال استخدام المضخات وحفر الآبار الارتوازية التي كانت تمولها مؤسسات التمويل الرسمية، إذ بلغت مساحة الأراضي المروية في الضفة الغربية في سنة 1967، عشية الاحتلال الإسرائيلي، 100,000 دونم، علاوة على سهولة تصريف المنتوجات إلى الأسواق القريبة.[10] 

III - الجبل والسهل: تواصل وانقطاع

تستذكر الحاجة سجية ذكريات شبابها متمثلة في حركتها باستمرار بين الجبل والسهل قبل النكبة، إذ كانت تخرج بصحبة نساء أُخريات من القرية الأم بيت دجن شرقي نابلس مع أذان الفجر لتصل إلى خربة الفروش مع شروق الشمس. وكان الهدف من هذه الرحلة الوعرة التي تستغرق نحو ساعتين مشياً على الأقدام أو على الدواب، هو جمع الحطب الذي كانت النساء يجمعنه ويحملنه على ظهورهن ليعدن به إلى القرية من الطريق الوعرة ذاتها.[11] وهذه الرواية، وغيرها من الروايات التي يسردها أهالي الفروش، يفسحان لنا المجال كي نتأمل ونفهم علاقة الأهالي التاريخية بحيز القرية الأم الجبلي وسهلها. وهي روايات تحمل في طياتها فهم أصحابها وتجربتهم الخاصة في المسارات التي كان الفلاحون يختارونها لتأمين سبل عيشهم والتأقلم مع بيئتهم وأنماط إقامتهم.

أمّا أبو الصادق الذي يعتبره الأهالي ذاكرة بيت دجن والفروش، فكان عضواً سابقاً في مجلس بلدية نابلس. ويروي أبو الصادق، المولود في سنة 1937، ما كان يسمعه من جده عن تشكل الملكيات في القرية، والتي تعود إلى نهاية الحكم العثماني، عندما انتمت القرية الأم بيت دجن تاريخياً إلى مجموعة قرى "مشاريق البيتاوي" في قضاء نابلس. تقول الرواية المنقولة إن 30 عائلة من سكان القرية كانت قد انقرضت بسبب الأمراض وإرسال الرجال منهم إلى المشاركة في الحروب العثمانية خارج حدود فلسطين، فلم يبقَ في القرية سوى 47 رجلاً بالغاً، ولم يستطع هؤلاء زراعة أراضي الفروش، وبالتالي عدم دفع الخراج عنها إلى الحكم العثماني، فمنحها مأمور الجفتلك العثماني لأهالي بلدة بيتا، فاشتكى أهالي بيت دجن، وكان جد أبو الصادق أحدهم، للمتصرف العثماني، إلّا إنه رفض الاستجابة لشكواهم، فقام الأهالي بعدم السماح لأهل بيتا بالسيطرة على الأرض.[12] وكان المتعارف عليه حينها أن يوزع أهالي القرية الأرض لزراعتها بالتراضي، فقُسمت الأرض على العائلات إلى أربعة أقسام كالتالي: عائلتا شاهين وأبو جيش؛ عائلتا الشكعة وأبو ثابت؛ عائلة أبو حنيش؛ عائلة دار عبد الجليل. ويمكن أن نستشف من هذه الرواية طبيعة العلاقة مع الأرض والسلطة والسياق السياسي والاجتماعي آنذاك، ففي الوعي الجمعي لسكان بيت دجن فإن أراضي الفروش كانت تابعة للقرية الأم وذات أهمية زراعية، الأمر الذي دفعهم إلى الوقوف في وجه فصلها تاريخياً عن القرية، والوصول إلى آليات اجتماعية لتقسيم الأراضي للزراعة بالتراضي ضمن نطاق المجتمع بعيداً عن تدخّل السلطات.

 

المصدر: مصطفى مراد الدباغ، "بلادنا فلسطين، الجزء الثالث: الديار النابلسية (1)"، تقديم وليد الخالدي (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 2، 2016)، ج 3، ص 194.

 

ويضيف الأهالي أن مع خضوع فلسطين للاستعمار البريطاني، سجّل المندوب السامي البريطاني أراضي الفروش كجزء من أراضي الجفتلك، واعتبر أن مزارعي بيت دجن هم واضعو يد على الأرض وليسوا مالكين لها. وفي بداية العهد الأردني، طالب المزارعون الحكومة الأردنية بتفويض الأراضي بأسمائهم بعد قيامها بعمل تسوية لها، فقامت تلك الحكومة بتفويض الدونم الواحد من أراضي السقي بدينارين، والدونم الواحد من الأراضي البعلية بدينار واحد، ولمدة خمسة أعوام. دفع الأهالي المبالغ المطلوبة منهم فيما يتعلق بأراضي السقي، وسجّلوها بأسمائهم، واستلموا وثائق الملكية التي تثبت ملكيتهم لها، وتبلغ مساحتها 2000 دونم، أمّا الأراضي البعلية فلم يدفع الأهالي المبالغ المطلوبة، فجرى تسجيلها كأراضي خزينة دولة، وتبلغ مساحتها 10,500 دونم، وهي التي صادرتها إسرائيل في سنة 1972، وأقامت مستعمرة الحمرا على جزء منها.

في الثقافة الشعبية للقرية تنقسم أراضي فروش - بيت دجن المروية إلى قسمين هما: الفرش الشمالي والفرش الجنوبي. وكان الفرش الشمالي يشمل مواقع: ذرعان عواد؛ اليقلوم؛ الزقومة؛ أمّا الفرش الجنوبي فكان يشمل مواقع: العتماوية؛ أبو السدر؛ أبو الجديان؛ الطاحونة؛ بدرو؛ النقب الأصفر؛ المقبرة؛ وادي الديقة. وكانت الأراضي البعلية تشمل مواقع: بيادر الصفا؛ نجمة خلة الرواضين؛ أبو العرقد؛ أبو الحولزان؛ أم ريحية؛ خلة زامل؛ الغضانة؛ كتوف أم الزوب؛ أم بطمة؛ أم ظلان؛ مراح الوسيع. وهذه الأسماء الشعبية للأراضي ما زال أهالي الفروش يستخدمونها على الرغم من مصادرة إسرائيل لأجزاء كبيرة منها.

والفروش منطقة غورية توفرت فيها تاريخياً مياه جوفية وعيون ماء ووديان قريبة، فضلاً عن قربها من نهر الأردن ووادي الفارعة. وفي ظل الظروف البيئية القاسية، وخصوصاً الجفاف في المنطقة الجبلية لقرى شرقي نابلس، فإن الأهالي اعتمدوا تاريخياً على السهول التي كانت تتمتع بمناخ أشد حرارة، وبارتفاع أقل من سائر مناطق جبل نابلس، الأمر الذي أتاح للأهالي زراعة القمح والشعير اللذين كانا ينضجان مبكراً عند توافر الأمطار.[13] وقد اعتمد سكان القرية الأم بيت دجن على رعي الأغنام والزراعات البعلية كالقمح والشعير في الفروش، والتي شكلت مصدراً لتأمين الغذاء لهم ولعائلاتهم ولأغنامهم، من خلال التنقل الموسمي بين الجبل والسهل عبر طريق وعرة. والحياة بين الفروش والقرية الأم كانت متواصلة على مدار العام، لكنها أخذت زخماً أكبر في المواسم الزراعية. ومع ذلك، فإنه يبدو أن هناك مَن بنى بيوتاً للاستقرار في سهل الفروش قبل النكبة، إذ يشير أبو الصادق إلى أن بيته كان أول بيت أسمنتي يُبنى في الفروش، وكان ذلك في سنة 1919، أي أن عمر البيت الذي يسكن فيه حالياً يبلغ أكثر من 100 عام. ولاحقاً، بدأ بعض العائلات ببناء منازل له في المنطقة، إذ تبع بناءَ منزل أبو الصادق بناءُ عدد من العائلات منازل لها مثل عبد الجليل، والشكعة، والعبيسي، وعبد القادر عبد الجليل، وروحي شاهين، وأغلبية هذه العائلات كانت من كبار المالكين من المدن، والذين يملكون أراضي في الفروش.[14] وبالنسبة إلى معظم الأهالي من صغار الفلاحين، فإن نمط الحياة السائد كان أقرب إلى البداوة في التنقل و"التعزيب"، أي ما يُعرف في الثقافة الفلسطينية بأنه ممارسة التنقل مع المواشي والإقامة الموقتة قرب مصادر المياه والكلأ، وخصوصاً للبدو. فنظام حياة أهالي القرية الأم بيت دجن كان يجمع بين نمطَين اجتماعيين هما الحياة القروية والبداوة من حيث الإقامة، أي الإقامة في القرية الأم من جهة، والحركة المستمرة بين الجبل والسهل، أي "الفروش"، من أجل إنتاج الكفاف ورعي الأغنام من جهة أُخرى.

في هذا السياق، تشكلت علاقات مركبة من اللامساواة ذات أبعاد جيوسياسية، فالقرى كانت مناطق طرفية لمدن الضفة الغربية الرئيسية التي كانت بدورها تُعدّ مناطق طرفية للمراكز الرئيسية، ولا سيما يافا وحيفا. وفي المقابل، شكلت قدرة السكان على الحركة المستمرة ضمن حيز القرية نفسه عاملاً أساسياً في قدرة السكان على البقاء في ظل الاعتماد على زراعة الكفاف، والابتعاد عن قوى السوق. وفي هذا النظام من الحركة الذي يدمج بين الحياة الريفية والبدوية، تأقلمٌ مع البيئة، ومعرفة محلية عالية بتفصيلاتها وحسن إدارتها بما يحمي البيئة ويحقق حاجة السكان منها، وخصوصاً أن المنطقة جغرافياً تعاني الجفاف ونقص الأمطار، الأمر الذي يجعل الاعتماد على الزراعة والرعي معاً ضرورة لسدّ حاجات الأُسر الريفية في ظل توفر مساحات سهلية واسعة كامتداد للقرية، ووجود عيون ماء قريبة. وهذا الوضع جعل الحدود التي يتحرك ضمنها الأهالي حدوداً بيئية (ecological) وليست طبيعية (physical)، ومتغيرة أكثر من كونها ثابتة، وتضمن الاستخدام والحفاظ الأمثل على المراعي.[15] 

IV - النكبة تعيد تشكيل الحيز

تروي الحاجة رباح التي كانت بنت 9 أو 10 أعوام عندما وقعت النكبة، كيف بدأت آنذاك ترى أناساً غريبين عن المنطقة يسكنون فيها ويقيمون في خيام أو في بيوت من الصفيح (زينكو)، وكيف شرعوا يعملون في الزراعة لتعرف لاحقاً أن هؤلاء من اللاجئين.[16] وفي المجمل، لم ترد النكبة في روايات أهالي القرية كحدث مركزي ذي تأثير مباشر في حياتهم، مع أن نشأة الفروش كقرية ناشئة، وبداية الاستقرار النسبي فيها، وُلدا بشكل رئيسي مع قدوم اللاجئين إلى المنطقة عقب النكبة. وقد يكون أحد الأسباب عائداً إلى عدم وجود أثر سلبي مباشر في نمط حياتهم، فهو لم يترك أثراً كبيراً في ذاكرتهم، مثلما هي الحال مثلاً مع الأثر الذي تركته حرب حزيران / يونيو 1967 على القرية، وما تلاها من مصادرة إسرائيل لمساحات واسعة من أراضي القرية ومصادرها المائية. وهذا الأمر يحتم بالضرورة، مثلما يقول علاء العزة، "فهم السياق الذي تتم فيه عمليات تخليد هذه الأحداث، لأن السياق السياسي هو أساس فهم عمليات التذكر وأهمية حدث بعينه لذاكرة الجماعة."[17]

في المجمل، أدت التحولات الجيوسياسية التي فرضتها النكبة إلى تحولات جوهرية في حيز الضفة الغربية، ولا سيما في التركيبة الديموغرافية التي استقبلت أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين. وفي هذا السياق، شكل غور الأردن منطقة جذب للاجئين الفلسطينيين بخبراتهم الزراعية العالية في أنماط الزراعات النقدية (cash crops) مقارنة بأهل المنطقة الذين اعتمدوا على الزراعة البعلية الكفافية آنذاك، وكذلك وجود مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة التي تملكها النخب المدينية. وقد استقر اللاجئون في المنطقة، مثلما يقول الأهالي، على شكل تجمعات من العائلات ضمن عدة مواقع في الأغوار، ومنها: عين شبلي؛ خربة العتماوية؛ اليقلوم؛ خربة الضمايرة؛ خربة بعلات؛ خربة الشكعة؛ خربة بصلية؛ وادي الجوفة؛ خربة عبد القادر. وبذلك، يمكن استنتاج أن اللاجئين هم أول مَن استقر على مدار العام في الفروش والأغوار بصورة عامة، كما استقبلت المنطقة أعداداً كبيرة من البدو اللاجئين من أراضي 1948، وخصوصاً قبيلة الملالحة التي استقرت في المنطقة منذ النكبة حتى سنة 1967.

ساهم نظام ملكية الأراضي في المنطقة وأنماط الزراعة ذات الصلة، في استقطاب اللاجئين كعمالة زراعية تملك خبرة زراعية لا يملكها أهالي المنطقة، وساد نظام المزارعة في الأغوار بعد النكبة، بسبب وجود ملكيات كبيرة لأصحاب أراضٍ لا يسكنون المنطقة، في مقابل عمالة زراعية لا تملك الأرض من اللاجئين. وأدت المرونة في مختلف أنظمة عقود المزارعة، دوراً ملحوظاً في صمود القطاع الزراعي في فلسطين عامة، وفي منطقة الأغوار خاصة.[18] وتنوّع العمل الزراعي في الفروش بعد النكبة بين العمل الأُسري في الملكيات الزراعية الصغيرة، أو العمل المأجور في بيارات الحمضيات الكبيرة لكبار المالكين من المدن، إمّا من خلال استئجار الأرض في مقابل مبلغ مقطوع من المال، وإمّا اتّباعاً لنظام المحاصصة، وكان قد ساد نظامان لها (المحاصصة): الأول يقوم على مبدأ المناصفة، أي أن المزارع وصاحب الأرض يتقاسمان التكاليف والأرباح مناصفة، والثاني يرتكز على مبدأ أن يتحمل صاحب الأرض التكاليف كلها في مقابل أن يحصل المزارع على ثلث الأرباح بعد حسم التكاليف في مقابل زراعته للأرض. وفي هذا السياق، فإن ردة الفعل في الأغوار على التحولات العامة في فلسطين، شملت تكيفاً مع العلاقات والأساليب القديمة بدلاً من تبنّي علاقات جديدة، وهذا لا يعني بالضرورة اعتبار المناطق الريفية مجرد مناطق طرفية منعزلة وثابتة.[19] فقد ساهمت إعادة احياء نظام المزارعة والمحاصصة التقليدي بقوة في المنطقة بعد النكبة، في بداية الازدهار والاستقرار في الفروش مع قدوم اللاجئين إلى المنطقة، وبداية الاستثمار في الزراعات المروية، وخصوصاً زراعة الحمضيات.

على صعيد السكن، بنى السكان في الفروش منازل موقتة هي عبارة عن قوالب من الطين والتبن تشبه قوالب الطوب الأسمنتي المستخدم في البناء حالياً، وكان يتم بناؤها بمساعدة الأهالي. واعتمدت آلية البناء على استخدام "اللَّبِن" في بناء الجدران، ثم وضع ألواح الخشب على السقف مع تغطيته إمّا بعيدان القصب، وإمّا بقطع النايلون، وإمّا بألواح الصفيح (الزينكو)، وذلك بحسب إمكانات صاحب البيت المالية. أمّا حظائر المواشي فكانوا يثبتون عصيّ القصب في الأرض، ثم يلفّونها بالسدر و"الرُبّيط" وهي نوع من الأعشاب ذات السيقان الطويلة. ولم تكن تلك المساكن تشبه بيوتهم في القرية التي كانت تُبنى من الحجارة والطين، بينما كانت مواشيهم ودوابهم تنام في العراء، وذلك على عكس النظام الذي كان متّبعا في الريف حيث كان السكان يخصّصون أماكن لإيواء المواشي والدواب إمّا داخل منازلهم السكنية، وإمّا في فنائها، وإمّا ببناء سقائف من الطين في جوارها. كما أن المزارعين الذين كانوا يمتلكون المواشي كانوا يبنون حظائر لمواشيهم من النباتات والأعشاب ذات الطبيعة المتمددة.[20]

بعد النكبة، لم تكن النُّظُم الإدارية في إبّان العهد الأردني تضع قيوداً على البناء، وإنما كانت ظروف الحياة والفقر تحول دون إحداث تطور عمراني في المنطقة، علاوة على امتلاك الأهالي منازل دائمة لهم في القرية الأم بيت دجن، الأمر الذي يعني أن مركز حياتهم كان في القرية الأم، وأن ارتباطهم بمنطقة الفروش كان لأغراض العمل في الزراعة ورعي المواشي موسمياً. ويُقدّر الأهالي عدد مساكن الطين في فروش - بيت دجن بـ 200 بيت طين بُنيت بعد النكبة حتى سنة 1967. ومع التحول في الأنماط الزراعية عقب النكبة، جرى تحول رئيسي في نظام حركة أهالي القرية الأم السائد ما قبل النكبة. إذ مع بداية الخمسينيات بدأت حركة الأُسر الريفية بين القرية الأم والفروش تقلّ بالتدريج، وأصبحت الأُسر العاملة في الزراعة تنتقل بشكل كامل خلال معظم أيام العام، كي تعيش بجانب المزارع المروية، بحيث امتدت مواسم الإقامة في الفروش حتى عشرة أشهر سنوياً، مع التحول نحو الزراعة المروية وحاجتها إلى رعاية أطول. والمفارقة أنه على الرغم من بقاء السكان بعد النكبة في الفروش في معظم أيام العام، فإن بيوتهم "الدائمة" بقيت في القرية الأم التي يمكثون فيها نحو شهرين فقط سنوياً، في حين أن بيوتهم "الموقتة" التي تفتقر إلى الخدمات المعيشية الرئيسية آنذاك هي التي باتوا يمكثون فيها في أغلبية أيام العام! ولم يكن هذا الانتقال سهلاً، وخصوصاً مع عدم توفر الخدمات الأساسية في الفروش، ولا سيما الكهرباء، فضلاً عن البعد أكثر عن مركز مدينة نابلس الذي تتوفر فيه خدمات صحية وتجارية قريبة منهم. 

V - السلطة الجديدة والفلاحين

أصدرت السلطات الأردنية خلال حكمها للضفة الغربية قانونَين مهمين بشأن حقوق الأراضي والمياه، وهما قانون تسوية الأراضي والمياه لسنة 1952، وقانون مراقبة المياه لسنة 1953. وهذان القانونان فعلياً قانونان مرتبط أحدهما بالآخر بشكل وثيق، وخصوصاً فيما يتعلق بالأراضي الزراعية، إذ عمل الأول على تسجيل الأراضي وتثبيت حقوق الملكية وآثاره ما زالت حاضرة حتى يومنا هذا، بينما عمل الثاني على ربط حصص المياه بمساحة الأراضي المملوكة بدلاً من الأشخاص، وذلك وفقاً لنظام الساعة في المناطق التي تعتمد الزراعة المروية. فقد بدأت أعمال التسوية في المناطق الزراعية، ثم انتقلت إلى المدن، ولا سيما أن بعض المناطق الزراعية، مثل معظم أراضي الأغوار، جرى مسحه خلال فترة الانتداب البريطاني، الأمر الذي سرّع استكمال العملية من طرف السلطات الأردنية التي كانت بحلول سنة 1955 قد أنهت تسوية مساحات كبيرة من المنطقة.[21] ويمكن القول إن تسوية المياه في منطقة وادي الفارعة انطلقت فعلياً في سنة 1952، باستثناء قريتَي بيت دجن وطلوزة اللتين أُعلنت التسوية فيهما في سنة 1953، بينما أُعلنت التسوية في بعض مناطق بيت دجن في سنة 1966.[22] وفي عشية السيطرة الإسرائيلي على الضفة الغربية في حزيران / يونيو 1967، لم يكن سوى ثلث الأراضي مسجلاً وفق قانون "تسوية الأراضي والمياه".[23]

أثّرت عملية التسوية للأراضي في واقع الملكيات في الأراضي التابعة لبيت دجن مثلما هي الحال في منطقة الفروش، إذ تأخرت التسوية في مساحات كبيرة منها ولم تنتهِ قبل سنة 1967. ويشير الأهالي إلى أن أرض الحمرا التي أقيمت عليها لاحقاً مستعمرة الحمرا في مطلع السبعينيات، كانت قد مُسحت خلال فترة الاستعمار البريطاني، وهي من ضمن الأراضي التي تم تأخير مسحها خلال الحكم الأردني. يقول الحاج عبد الكريم: 

الحكومة الأردنية بدت تِمسح الأراضي، وأجا كْتاب من الحكومة الأردنية لمدير المساحة في بيت دَجَنْ بوجود أراضي اسمها الحمرا يجب مسحها [كأراضي] خزينة دولة. احتج اللي بِفهموا بهداك الوقت وحكولهم تنوصل للحمرا في المسح بِنْحِلْها. وضَلّت الورقة محطوطة في الدُّرِج بمكتب المساحة، [و]يوم أجو (أي الإسرائيليين) لقوها وأخدوها. الحمرا كنا نزرعها ونحرثها وضَلّينا على هالحال حتى عام 1967، وكُل واحد عارِف أرضُو. الفروش فيها طابو، لكن في أراضي ما فيها طابو، وللآن ما عارفين ياخدوا فيها طابو رغم إنو مدفوعات المصاري. اللي كان يطلع على الأردن ياخد وراقو.[24] 

وشملت الأراضي التي تأخر مسحها نحو 11,000 دونم من أراضي الفروش غير المروية، مع أن الأهالي مُنحوا حق التصرف في هذه الأراضي، إذ كان كل شخص يعرف حدود أرضه ورقم القطعة، غير أن عدم استكمال إجراءات التسوية المطلوبة حال دون تسجيلها رسمياً قبل سنة 1967، علاوة على مصادرة إسرائيل للوثائق ذات الصلة. وفي ظل تداخل القوانين الأردنية المتعلقة بالأراضي مع سابقاتها من القوانين العثمانية والبريطانية، فإن مهمة تسجيل الأراضي تعقدت على الرغم من اهتمام السلطات المتتابعة بمسح منطقة الأغوار وتسجيلها. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، ظهر التركيب الطبقي للملكيات كعنصر مهم في تحليل خريطة الملكيات في الفروش خلال العهد الأردني، إذ يروي كبار السن في القرية، أن أغلبية الملكيات في الفروش قبل سنة 1967 كانت في يد "الغرباء"، أي المالكين من خارج القرية. ويقول أبو محمد، وهو من اللاجئين القلائل الذين سكنوا الفروش للعمل الزراعي قبل سنة 1967 وبقوا في القرية حتى اليوم، إن المزارعين الذين يصفهم بـ "أصحاب الأرض الرسميين" كانوا قلائل بملكيات صغيرة تقل عن 10 دونمات كانوا يزرعونها على مدار العام بالبندورة والخيار أو الجزر، وخصوصاً في منطقة فروش البعل التي كانت تشهد نشاطاً وقت موسم الزراعة الشتوي، إذ كان جميع المزارعين ينشغلون بحراثة أراضيهم وزراعتها. وفي المقابل، امتلك "الغرباء" معظم أراضي القرية، بحيث تركزت الملكيات الكبيرة في يد أشخاص من خارج القرية، ولا سيما من العائلات النابلسية الكبيرة مثل: شاهين؛ الشكعة؛ المصري؛ عبد القادر؛ يليهم زهدي الرشيد، وجميل الحسين، واليازدي.[25]

وقد أدت الضرائب المفروضة على الأراضي الزراعية، والقوانين ذات الصلة، دوراً مهماً في قضية تسوية الأراضي، أبرزها قانون الضرائب الأردني لسنة 1955، والذي طُبق على الضفة الغربية والشرقية، وحُددت الضرائب وفقاً له بناء على مساحة الأرض بالدونمات، ونمط الزراعة أكان بعلياً أم مروياً، ونوع الأشجار المزروعة. وبدأ التطبيق الفعلي للقانون الجديد في سنة 1956، على 27 قرية فلسطينية جرى تخمين قيمتها، بينما ظل سائر القرى يعمل وفق القانون القديم إلى حين إتمام عمليات التخمين لأراضيها، والتي تمت بشكل كامل في سنة 1963. وبلغت نسبة الضرائب على الأراضي من الضفة 40% من مجموع الضرائب من الفئة ذاتها في الضفتين، ذلك بأن الضريبة الأعلى كانت على الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة، وخصوصاً أشجار الزيتون. وفي السنة نفسها (1963) أصدرت السلطات الأردنية قراراً بإعادة التخمين للأراضي لجمع معلومات أدقّ من أجل تحصيل الضرائب، وسنّت قانوناً جديداً يُعفي الأراضي البعلية من الضرائب بسبب تراكم الديون، وبسبب هذا القانون تراجعت نسبة العائدات من الضرائب على أراضي الضفة الغربية الزراعية. وأعفت السلطات الأردنية الفلاحين في بعض القرى أيضاً، من الضرائب في حالات الجفاف، مثلما جرى في سنة 1966، إذ أُعفيت القرى الواقعة في غور الفارعة، ومن ضمنها قرية بيت دجن، من مبلغ 238,455 ديناراً أردنياً بسبب الظروف المناخية التي أثّرت في المحاصيل.[26] 

VI - المياه عصب الحياة

يُعتبر الحوض الشرقي المصدر الرئيسي للمياه الجوفية في الضفة الغربية، والذي يشمل مجموعة ينابيع حوض نهر الأردن وينابيع حوض البحر الميت،[27] الأمر الذي شكّل عاملاً مهماً في التحول نحو الزراعات المروية في الفروش والاستقرار فيها، ولا سيما أن الفروش كانت غنية بالمياه الجوفية. وقد اعتمدت المنطقة على الطرق التقليدية مثل الدواليب والقنوات لإيصال المياه إلى الأراضي الزراعية من العيون والوديان القريبة، وخصوصاً وادي الفارعة وعين شبلي، إذ كان هناك قنوات ترابية فرعية لإيصال المياه إلى الأراضي الزراعية، وقنوات داخل الأراضي لري المزروعات. وشكلت حصة الفروش ربع المياه القادمة عبر القنوات من وادي الفارعة، والتي كانت مقسمة مناصفة بين الفرشَين الشمالي والجنوبي. ومع الخضوع للحكم الأردني، التزمت الفروش بتوزيع المياه على نظام الساعة بحسب القانون الأردني، وذلك وفقاً لجدولٍ للحقوق بشأن مساحة الأرض وطبيعة الزراعة أكانت مروية أم بعلية. ويشير الأهالي إلى أن السلطات الأردنية كانت تأخذ منهم مبالغ مالية بسيطة جداً، في مقابل توظيف "قنواتية"، أي موظفين موكلين بتوزيع مياه قنوات المياه، بحيث يقف الموظف لساعة أو ساعتين إلى أن ينتهي الفلاح من سقاية أرضه، وهذا الدور كان يصل إلى الفلاح غالباً كل 7 أيام. أمّا مياه الشرب، فكان الأهالي يعتمدون على جمع المياه من القناة في الليل قبل أن تدوسها الأقدام فتتلوث.

كانت فئة كبار مالكي الأراضي في نابلس أول مَن طلب دعماً حكومياً من السلطات الأردنية بعد الضم، وذلك من أجل تطوير مزارعها في منطقة غور الأردن، وخصوصاً غور الفارعة وغور الجفتلك. فقد طالبت هذه الفئة باستكمال مشروع الري الذي كان العمل بُدىء فيه قبل النكبة، وكان هدفه زيادة المناطق المروية والمزروعة في غور الأردن إلى 20,000 دونم.[28] ونجح القطاع الزراعي نسبياً في الحصول على اهتمام السلطات الأردنية في منطقة الأغوار وريف نابلس، إذ جرى دعمهم بالإرشاد الزراعي للتعامل مع انجراف التربة والآفات الزراعية وتوفير البذور والتكنولوجيا والمساعدة في التنقيب عن مصادر المياه وضخّها في القرى التي جفت الآبار فيها، فضلاً عن رصد مبلغ 100,000 دينار أردني كقرض طويل الأمد لمالكي الأراضي في الأغوار من أجل تطوير نظام الري وإنشاء البنك الزراعي الذي قدم قروضاً صغيرة للفلاحين.[29] وفي سنة 1963، تقدم كبار المالكين في الفروش بطلب إلى مجلس الإعمار الزراعي للحصول على قرض لعمل قناة أسمنتية (باطون)، غير أن المجلس طلب منهم تأليف جمعية تعاونية، فألّفوها وحصلوا على قرض قيمته 10,000 دينار أردني. وأشرفت سلطة المياه الأردنية على تنفيذ المشروع، وبَنَتْ قنوات بطول 4 كم للفرش الشمالي، ومثلها للفرش الجنوبي، وعملت فتحات جانبية في القناة لتوزيع المياه على الأراضي الزراعية المروية بواقع 8,75 دقيقة للدونم الواحد.[30]

ويبدو أن المياه القادمة من وادي الفارعة وعين شبلي، والتي يذكر الأهالي أنها كانت "تسحب الولد"، في كناية عن شدة تدفقها، بدأت تتراجع مع ازدياد الزراعة المروية في المنطقة. وفي هذا السياق، شهدت المنطقة تزايداً في حفر الآبار الارتوازية خلال فترة الحكم الأردني لتلبية حاجات النمط الزراعي الجديد، إذ بُني نحو 8 آبار لكبار المالكين في الفروش خلال الأعوام القليلة قبل سنة 1967،[31] وكان يتعين على صغار المزارعين شراء المياه منهم عند الحاجة. ولم تكن عملية حفر الآبار تتم بسهولة، وإنما كانت عملية شاقة تعتمد على التجربة والخطأ وعلى المعدات المتوفرة حينها، والتي تكللت بالنجاح لأول مرة في سنة 1964. ويروي أبو محمد عن معاناة بناء أول بئر في القرية: 

كُنْت أعمل مراقب على بيارات حمضيات لعائلة المصري والمياه قليلة وما بتكفي بسبب الجفاف. عْرِفنا عن واحد في رام الله من اللي بشتغلوا عالعود للمي، راحوا جابوه وحكالهم أُحفروا بير هان محل الحجر، بالفعل جابوا الحفارة وبلشوا يحفروا والشغل كان مش مزبوط في عَوَج كثير، بس ركّبنا خط على مسافة 333 متر، وكل فترة المواسير تفلت والعمدان تنكسر وأطلع على عمّان أجيب عدة. هذا في العام 1964، بعدها بسنة حاولنا نُحفر بير تاني وفِشْلَت المحاولات بعد شهر من تجربة الحفر والوصول إلى طبقة المي، بعدها جربنا حفر موقع تاني لمدة 25 يوم؛ في اليوم 26 وْصِلنا لطبقة المي، وأجتنا مي ممتازة جداً كان يصب عالقناة يعطي 150 كوب. في هاي الحالة صرنا في نَعْنَشِة. كمّلنا الأرض كلها زراعة، وآخر شجرة حمضيات زرعتها في شهر 11 / 1966، وبعدها أجت 1967 وصار اللي صار.[32] 

ما يرويه أبو محمد يؤكد أن حدث النكسة كان مفصلياً، فقد قطع مسيرة التطور التي بدأت في القرية منذ النكبة، وهي رحلة حملت في طياتها تراتبية طبقية وعلاقة متحولة مع الأرض والبيئة والسلطة الجديدة. فقد نما حيز القرية بعد النكبة بشكل مركزي بسبب وجود عناصر الأرض والمياه والعمالة الزراعية، وبعد لحظة السلب الاستعماري المركزية للأراضي والمصادر المائية الرئيسية في فلسطين 1948، باتت القرية حيزاً اجتماعياً في سياق استراتيجيات الفلسطينيين للبقاء فيما تبقّى من فلسطين، وهو سياق تقاطعت فيه تجارب الأهالي واللاجئين المحسوسة للنكبة في الحياة اليومية. 

VII - الرحلة من زراعة الكفاف إلى المحاصيل النقدية (1950 - 1967)

يبدو أن أهالي القرية الأم بيت دجن، الذين كان أغلبيتهم من صغار الفلاحين، لم ينخرطوا في الأنماط الزراعية الجديدة منذ بدايتها، إذ استمر الأهالي يتّبعون نمط الزراعة البعلية، وخصوصاً الحبوب في مساحات واسعة من الفروش، والتي كانت الأُسر تعتمد عليها في غذائها على مدار العام. ومع دخول أنماط زراعية جديدة، وتحوّل في التركيبة السكانية بتوافد اللاجئين إلى المنطقة، بدأت أنماط الاستقرار في القرية تتغير بالتدريج. ويؤكد الحاج عبد الكريم ذلك قائلاً: 

أجو (حضروا) اللاجئين واستلموا الأرض وعندهم خبرة في الزراعة، صاروا يزرعوا البندورة والكوسا والباذنجان، [و]كنا قبل نزرع فقط بصل وذرة وقمح وشعير. كُل واحد مِنْهُم يِبني سَقايِف ويقعد وين في مي يشرب. اشتغلوا على نظام المزارعة مع أصحاب الأراضي مثل الشكعة كان عنده 7 / 8 مزارعين أو 10، شاهين عنده 4 / 5 مزارعين، عبد القادر / عبد الجليل 5 / 6 مزارعين. أهالي بيت دَجَن كانوا في البداية مش منتبهين، لما صاروا اللاجئين يزرعوا حكوا هاي شغلة مربحة، اللي إلو دونم نزل يزرعو أو يشتغل مزارعة. بعدها انتقلوا للحمضيات، أتوقع بعد 1955 صار في بيارات كبيرة. فترة الحكم الأردني كانت ممتازة وصاروا يبعتوا محصولهم لنابلس، نص بيت دَجَن كانت عايشة في الفروش هاي الفترة. المزارع الصغير اللي ما لقالو شغلة، واللي ما راح عالكويت وشاف الزراعة كيف كانت عالدواليب أو الأتلام هان طاح (نزل) يزرع.[33] 

يمكن اعتبار التحول في المحاصيل الزراعية عبر مختلف الفترات الزمنية، إحدى أهم الوسائل التي حاول الفلاح الفلسطيني من خلالها الحفاظ على استدامة الزراعة في وجه المعوقات المستمرة، والتأقلم مع بيئته وحيزه المتآكل بسبب الاستعمار الاستيطاني. وهنا، فإن دراسة المسألة الزراعية في فلسطين لا بد من أن تتجاوز نموذج السبب والنتيجة وما ينتج منهما من تحليل خطي، لكن يجب النظر في سلسلة من اللحظات التي يلتحم فيها الماضي مع الحاضر.[34] فمع أن الممارسات الزراعية تبدو كأفعال سياسية لا تخضع فقط للمنطق الاقتصادي والعقلاني للربح والخسارة، إلّا إنها ممارسات اجتماعية وبيئية تستمد جذورها من التاريخ في مواجهة محاولات الاقتلاع من الأرض. فزراعة الحمضيات وازدهارها في الأغوار ارتبطا بشكل وثيق باقتلاع الفلسطينيين من المناطق الساحلية التي كانت تشتهر بهذه الزراعات في سنة 1948، ذلك بأن اللاجئين جلبوا معهم أنواعاً جديدة من الخضروات والحمضيات، وخبرات لم يكن يعرفها سكان المنطقة مثل عملية تطعيم (تركيب / تقليم) الأشجار. وبذلك، نقل اللاجئون خبراتهم الزراعية ووطّنوها في المنطقة التي استقروا فيها حتى إعادة تهجيرهم في سنة 1967. ويشير الأهالي إلى أن اللاجئين ساهموا بشكل كبير في استحداث زراعة الحمضيات، والبندورة، والخيار، والفجل، والبقدونس، والفاصولياء، والكوسا، وغيرها من الأصناف في المنطقة، وفي النصف الثاني من القرن الماضي اشتُهرت الأغوار بحمضياتها ذات الجودة العالية.

بدأ الأهالي يتحولون بالتدريج نحو الزراعات المروية، إذ شرع صغار المالكين في القرية يغيّرون أنماط الزراعة بصورة متدرجة تماشياً مع الأنماط الجديدة التي أخذت تنتشر في المنطقة، وذلك عن طريق تجربتها على مساحاتهم الصغيرة. وبقي نمط إنتاج الأهالي في مرحلة من التمفصل مع الأنماط السابقة قبل الاندماج الكامل في العلاقات السوقية، كما بات العمل الزراعي المأجور لمصلحة كبار المالكين يشكل مصدر دخل إضافياً، إلى جانب المزرعة العائلية التي ظلت حتى ذلك الوقت تهدف أساساً إلى سدّ حاجات الأسرة. وفيما يتعلق بالأشتال والبذور، فإن الأهالي اعتمدوا على بذور بلدية كانت تتوفر في المدن وبعض الأصناف الجديدة التي كان يجلبها أفراد من الخارج، وخصوصاً بيروت. أمّا الحمضيات، فإن بعض المشاتل في الضفة الغربية اكتسب شهرة كمشتل قاسم عبد الهادي في جنين الذي كان يتقن تشتيل بعض الأصناف مثل "الكلمنتينا الفرنساوية" التي نجحت في الأغوار. وإلى جانب الحمضيات، بدأت محاولات زراعة أصناف جديدة، لكنها لم تكن قادرة على مقاومة الظروف البيئة كالصقيع مثلما حدث في محاولة زراعة 20 دونماً من بيارات عائلة المصري. وهذا يعني أن عملية التحول نحو المحاصيل النقدية كانت عملية متدرجة تخللتها محاولات متكررة لإنجاحها ومراكمة الخبرات وتقدير المخاطر. وعلى الرغم من ذلك، فإن المحاولات على نطاق أوسع جرت في الملكيات الكبيرة التي تحتمل المخاطرة وتمتلك رأس مال كافياً للتجربة، بينما ظلت محدودة في الأحواز الزراعية الصغيرة. وشهدت القرية أيضاً، دعماً من السلطات الأردنية في مجال التكنولوجيا الزراعية، والذي تركز هدفه على كبار المالكين، مثل عبد القادر عبد الجليل الذي حصل على قرض زراعي لشراء أول تراكتور في القرية من خلال مجلس الإعمار الزراعي الأردني، ليبدأ الأهالي بعدها يطلبون منه حراثة الأراضي في مقابل مبلغ مالي، ثم قام آخرون في القرية باستنساخ التجربة والفكرة. وكان التراكتور، باعتباره تكنولوجيا حديثة، يساعد المزارعين في زراعة الحبوب، وخصوصاً القمح والشعير وتحضير الأرض لزراعة الخضروات.[35]

شكّل الوصول إلى الأسواق عاملاً مركزياً في استدامة زراعة الحمضيات وازدهار الفروش خلال فترة الحكم الأردني، ولا سيما أن التصدير عبر الأردن كان متاحاً حتى فك الارتباط بين الضفتين الشرقية والغربية مع نهاية الثمانينيات. وتضمنت العلاقات السوقية الجديدة أشكالاً من اللامساواة والاستغلال لصغار الفلاحين، فقد سيطرت مجموعة من التجار المحتكرين في المدن آنذاك على تسويق منتوجات الضفة الغربية الزراعية، بينما لم يحظَ صغار الفلاحين إلّا بأقل من نصف السعر الذي تباع به المنتوجات في السوق.[36] وعلى مستوى الفروش، أجمع الأهالي على أن التجار كانوا نقطة الوصل بينهم وبين السوق، إذ كانت الشاحنات تأتي إلى القرية كي تحمل إنتاج القرية الزراعي، وخصوصاً الحمضيات، إلى سوق نابلس، وإلى الأردن. وعلى الرغم من هذا، فإن هذه الآلية كانت الأوفر والأسلم بالنسبة إلى المزارع الصغير ضمن علاقات القوة المسيطرة على المشهد، ولا سيما في ظل البعد عن المدينة وعدم القدرة على تحمّل تكاليف النقل.

باختصار، كان التحول نحو أنماط الزراعة النقدية ممارسة اجتماعية واقتصادية غيرت شكل الحيز بالتدريج، وأضفت على القرية هويتها كقرية زراعية، الأمر الذي عمّق من حدة التراتبيات الاجتماعية داخل القرية بحسب طبيعة الملكية والمكانة الاجتماعية. فالقرية لم تعد منعزلة عن مدينة نابلس، وإنما اندمج الفلاحون في العلاقات السوقية وشبكات التجار في المدينة، كما اندمجوا في علاقات استغلال جديدة في سعيهم لاستدامة سبل عيشهم. 

الأسرة عمود العمل الزراعي

ارتبطت الأسرة الزراعية في القرية بسبل عيشها الزراعية بصورة أساسية، ولذلك أثّرت التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة في حياة الأُسر والعمل الزراعي وتوزيعه داخل الأسرة. وأدى التحول نحو الارتباط أكثر بالسوق من خلال المحاصيل النقدية، إلى وجود أشكال جديدة من اللامساواة فرضتها المتغيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية والحاجة إلى التكيف معها. وفي هذا السياق، تتجلى الروابط بين العلاقات الجندرية والتحولات الرأسمالية في الاقتصاد الزراعي، ومدى تأصلها في نظام العمل العائلي غير المدفوع الأجر.[37] كما ساهم التوجه نحو الزراعات التصديرية، وانحسار زراعة الكفاف، إلى تراجع فرص النساء في الوصول إلى المصادر الاقتصادية، ولا سيما الأرض في مقابل زيادة الأعباء عليهن.[38] ومن جهة أُخرى، زادت مشاركة بعض الشباب من أفراد الأسرة الريفية في العمل الزراعي خارج المزارع العائلية الصغيرة لتأمين مصادر دخل إضافية، من خلال الأنظمة الزراعية التقليدية كالمزارعة في المزارع الكبيرة، أو العمل المأجور الذي تزايد في مناطق الأغوار بعد النكبة، والتي شملت أيضاً أشكالاً من اللامساواة الطبقية.

وعن يوميات النساء في تلك الحقبة الممتدة حتى سنة 1967، وما تعكسه من تحولات في علاقة الأُسر الريفية مع الحيز، تسرد النساء المسنّات في القرية أنهن كنّ يمكثن في بيت دجن شهرَي الصيف بعد انتهاء موسم الحصاد، ليعدن بعدها إلى الفروش من أجل تجهيز الأرض للزراعة. وقد تكون لحظات الولادة في الخلاء أكثر ما تستحضره ذاكرة النساء بوضوح عند سؤالهن عن تلك الفترة لما تركته هذه التجربة في نفوسهن من أثر. فالحاجة رباح تروي أنها ولدت أبناءها السبعة في بيتها في فروش - بيت دجن من دون حضور قابلة (داية)، وأنها كانت تقطع بيديها الحبل السري الرابط بين مولودها وبينها. وتشير إلى أن الداية كانت موجودة في القرية، وهي التي كانت تقوم بعمليات توليد النساء، إلّا إنها لم تطلب مساعدتها في أي من حالات ولادتها. كما أن النساء كنّ يأخذن الرضّع معهن إلى المزارع على الرغم من التوتر والخوف اللذين كانا يتملكانهن من هذا الأمر. وتكمل الحاجة رباح قائلة: 

كُنت آخذ ولادي معي عالأرض، وأتركهم تحت شجرة وأشتغل في الزراعة. كان قلبي دايماً يرجف خوف تقرصهم إحدى العقارب أو الحيات، لكن كان الله يستر. ما كان عِنّا لا كهرباء، ولا شبكة مي (مياه) ولا طرق. كنا نوقد قناديل الكاز في العتمة، ونطبخ على النار.[39] 

مع الارتباط أكثر في العمل الزراعي في الفروش، فإن فترة إقامة الأُسر على مدار العام طالت، وبات على النساء التكيف مع الواقع الجديد مع الاحتفاظ بأدوارهن الاجتماعية السابقة. فالتحول نحو نمط زراعي مرتبط بالسوق أدى إلى زيادة مساهمة النساء في العمل الزراعي ضمن المزارع العائلية التي بقيت العمالة الأُسرية أهم مقوماتها. وضمنياً، ظلت رعاية الأطفال والمهمات المنزلية المرتبطة بالأدوار الإنجابية للمرأة على عاتقها، مع الاهتمام بالثروة الحيوانية ورعايتها وما يرتبط بذلك من مهمات مثل حلب الأغنام أو الأبقار وتحضير منتوجات الألبان. وفضلاً عن الاهتمام بمونة المنزل وتخزينها بسبب غياب الكهرباء، والتي اعتمدت فيها النساء على الخبرات المتوارثة في حفظ الطعام، فإن المسنّات أشَرْن خلال المقابلات إلى أنهن كنّ مسؤولات عن تخزين المونة وحفظها من خلال عدة طرق، ولا سيما أن بعض الخضروات لم يكن متوفراً كاليوم على امتداد السنة. فعلى سبيل المثال كانت النساء يقطعن حبات البندورة ويقومون برشّها بالملح ثم يجففنها لاستخدامها في فصل الشتاء، أمّا البامياء فكنّ يجففنها عن طريق عملها كقلائد. ويمكن القول إنه حتى سنة 1967، لم تستغنِ الأُسر الزراعية عن الزراعة البعلية كلياً لتأمين حاجات الأسرة الغذائية، وإنما دمجتها مع الزراعة المروية الموجهة إلى السوق من أجل زيادة الدخل. علاوة على ذلك، وبصورة عامة، توفرت للرجال فرص للعمل بنظام المزارعة أو العمل المأجور في بيارات الحمضيات في الفروش والأغوار، والتي تعود إلى كبار المالكين، وهو ما جعل النساء في الأسرة يحملن على عاتقهن أكثر، مهمات الاهتمام بالزراعة البعلية للاستهلاك المنزلي. وفي هذا السياق، يمكن القول إن التقسيم الجندري للعمل الزراعي كان يتسم بالمرونة عبر مختلف الفترات التاريخية ولم يكن جامداً، وارتبط بنمط الإنتاج والقيمة المادية لعمل المرأة في الزراعة، وخصوصاً في الاقتصاد المنزلي.[40] وبصورة عامة، فإن التحول في نمط الإنتاج نحو الزراعة المروية والعمل المأجور أدى إلى تحولات مركزية في نمط الإقامة في القرية ليأخذ شكلاً أكثر استقراراً على مدار العام، الأمر الذي انعكس على توزيع أدوار العمل الزراعي داخل الأسرة، وزيادة الأعباء الواقعة على عاتق النساء، فضلاً عن أدوارهن الإنجابية. 

الخاتمة

تطور حيز الفروش ضمن جملة من التناقضات بين آليات السيطرة الاستعمارية من جهة، وآليات البقاء من جهة أُخرى، فقد تطورت ممارسات البقاء التي مارسها السكان وقراراتهم المتعلقة بنمط السكن والإنتاج كتفاعل لفهمهم للتحولات والمحددات التي فرضتها ممارسات السلب الاستعماري. وضمن هذه الجدلية، يمكن فهم كيف شكّل حدث قاسٍ ودراماتيكي مثل نكبة 1948 أساسَ تطور حيز مهمش في ريف الضفة الغربية، مثلما حدث مع المناطق السهلية في الأغوار خلال فترة الحكم الأردني للضفة الغربية. وشكلت هشاشة المركز في لحظة تاريخية معينة، والتي تمثلت في ضرب جميع المدن المركزية في أراضي 1948 ووقوعها تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة وتدفق اللاجئين إلى الضفة الغربية ونقل خبراتهم الزراعية إليها، عاملاً حاسماً في بقاء أهالي الأغوار المهمشة قبل النكبة عامة، وقرية فروش - بيت دجن خاصة. وبالنسبة إلى اللاجئين، فإن قدرتهم على بيع الشيء الوحيد الذي يملكونه وهو قوة عملهم وخبرتهم الزراعية المتطورة، شكلت العامل الأهم في قدرتهم على البقاء في ظل وجود ملكيات كبيرة للنخب المدينية في منطقة الأغوار. وفي المقابل، شكّل قرار التحول نحو الزراعات النقدية المرتبطة بالسوق، والتخلي المتدرج عن زراعة الكفاف بهدف الخروج من أزمة الفقر، بداية انخراط الفلاحين في ريف الضفة الغربية في علاقات قوة جديدة تقوّض قدرتهم على الاكتفاء الذاتي، وتُخضعهم لأشكال أُخرى من الاستغلال واللامساواة، لكنها تمنحهم تحسناً ظاهرياً في المستوى الاجتماعي والاقتصادي. كما أدى القانون المتعلق بملكيات الأراضي، دوراً بارزاً في إعادة تشكيل الحيز القروي والعلاقة مع الأرض.

كانت الفترة بين نكبة 1948 ونكسة 1967 فترة ازدهار القرية وتطورها وانتعاش الزراعة في المنطقة، كما كانت أكثر فترة شهدت فيها القرية كثافة سكانية، سواء من اللاجئين، أو العمال الزراعيين من خارج القرية، أو أهالي القرية الأم بيت دجن الذين استقروا في القرية آنذاك. فقد تطور حيز القرية الاجتماعي خلال هذه الحقبة، وتطورت ضمنياً علاقات قوة مغايرة بين السكان واللاجئين وكبار المالكين وضمن الأسرة الزراعية نفسها. وفي المقابل، كان هذا التطور كفيلاً بأن ينقل بالتدريج الأُسر الزراعية من نمط الكفاف إلى نمط الاستهلاك، وإلى مزيد من التورط في الديون لسدّ تكاليف الزراعة المروية في ظل المنافسة مع كبار المالكين. أمّا على صعيد الأرض، فقد ساهم تسجيل الأراضي في العهد الأردني بتثبيت ملكيات واسعة، ولا سيما من فئة الأحواز الصغيرة، الأمر الذي حماها من المصادرة الإسرائيلية لاحقاً بعد سنة 1967، والتي شكلت لحظة الخسارة الحقيقية لأهالي المنطقة بفقدان مساحات واسعة من الأراضي والمصادر المائية لمصلحة المستعمرات الإسرائيلية.

بيّنت هذه الدراسة كيف أدى الاستعمار الاستيطاني والمنظومة الرأسمالية دوراً جوهرياً ومتناقضاً في ولادة حيز المناطق السهلية الزراعية الواقعة في شرقي نابلس بين لحظتَي فَقْد هما: النكبة والنكسة، وهما لحظتان تاريخيتان تمثلان في الرواية الرسمية امتداد السلب الاستعماري للحيز الفلسطيني، لكنهما بالنسبة إلى أهالي الفروش شكّلتا قطعاً مع ما قبلهما. ففي رواية المهمشين، كانت الأولى لحظة التمدد والازدهار، بينما كانت الثانية لحظة الفقد والانكماش. وهي رواية ترسم ديناميات المجتمع الفلسطيني في لحظاته الحاسمة بعيداً عن التأريخ النخبوي لفلسطين والفلسطينيين.

 

* هذه الورقة جزء من أطروحة دكتوراه في العلوم الاجتماعية بعنوان: "صناعة وممارسة الهشاشة / الجَلَد في المناطق (ج) في الضفة الغربية: قرية فروش - بيت دجن نموذجاً"، وتم إنجاز العمل الميداني الخاص بالورقة من خلال منحة من لجنة البحث العلمي في جامعة بيرزيت.

 

المصادر: 

[1] انظر: مجدي المالكي وحسن لدادوة، "تحولات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1948: جدلية الفقدان وتحديات البقاء" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018)؛ جميل هلال، "الضفة الغربية: التركيب الاجتماعي والاقتصادي (1948 - 1974)"، (بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، 1974)؛ إبراهيم أبو كامش، "التركيب الطبقي في الضفة والقطاع، 1948 - 1967" (القدس: مركز الزهراء للدراسات والأبحاث، 1991).

[2] ساري حنفي، "حيفا ولاجئوها: ما يُتذكر وما يُنسى وما يُتكتم عليه"، في: مجموعة مؤلفين، "التاريخ الشفوي المجلد الثالث: مقاربات في الحقل السياسي العربي" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 402.

[3] عبد الرحيم الشيخ، "مورفولوجيا فم الذئب: لغة وليد دقة (1961 - 2021)"، "مجلة عمران"، العدد 39، المجلد 10 (شتاء 2022)، ص 204.

[4] رنا بركات، "كيف نقرأ المجزرة في فلسطين؟ التاريخ الأصلاني بوصفه منهجية للتحرير"، "مجلة عمران"، العدد 39، المجلد 10 (شتاء 2022)، ص 151.

[5] شكلت قوانين الأراضي العثمانية (الطابو) نقطة تحوّل مهمة في علاقة السكان بالأرض والبيئة، والتي بموجبها تم تسجيل وتسليع الأراضي بشكل رسمي، وقد تبع ذلك سياسات الاستعمار البريطاني التي ساهمت في تسهيل انتقال الأراضي إلى المهاجرين اليهود، وتوفير الدعم اللازم لزراعة متطورة على هذه الأراضي، فضلاً عن الضرائب التي أثقلت كاهل الفلاحين وجعلتهم فريسة للمرابين بحيث خسروا أراضيهم.

[6] Sarah Graham-Brown, “The Political Economy of the Jabal Nablus 1920-48”, in: Studies in the Economic and Social History of Palestine in the Nineteenth and Twentieth Centuries, edited by Roger Owen (London: The Macmillan Press LTD, 1982), p. 108.

[7] Abner Cohen, Arab Border-Villages in Israel: A Study of Continuity and Change in Social Organization (Manchester: Manchester University Press, 1965), p. 10.

[8] هلال، مصدر سبق ذكره، ص 81.

[9] Sarah Graham-Brown, “Agriculture and Labor Transformation in Palestine”, in: The Rural Middle East: Peasant lives and Modes of Production, edited by Kathy & Pendeli Glavanis (London: Zed books ltd., 1990), p. 56.

[10] هشام عورتاني وشاكر جودة، "الزراعة المروية في المناطق الفلسطينية المحتلة" (نابلس: جامعة النجاح الوطنية، مركز الدراسات الريفية، 1991)، ص 5.

[11] مقابلة مع سجية أبو جيش (82 عاماً) بتاريخ 13 / 10 / 2022.

[12] مقابلة مع محمد يوسف - صادق شاهين (89 عاماً) بتاريخ 1 / 7 / 2022. والرواية عن الفروش في العهد العثماني وردت أيضاً على لسان رباح أبو جيش (86 عاماً) في مقابلة معها بتاريخ 6 / 12 / 2022.

[13] بشارة دوماني، "إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس 1700 - 1900" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002)، ص 42.

[14] مقابلة مع محمد يوسف - صادق شاهين، مصدر سبق ذكره.

[15] محمود ممداني، "المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة"، ترجمة صلاح أبو نار (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2018)، ص 336 - 337.

[16] مقابلة مع رباح أبو جيش، مصدر سبق ذكره.

[17] علاء العزة، "الذاكرة بوصفها خطاباً ورؤية مستقبلية: ممارسات تخليد انتفاضة عام 1987"، مجلة "إضافات"، العددان 43 - 44 (صيف - خريف 2018)، ص 63 - 64.

[18] Salim Tamari, “From the Fruits of their Labour: the Persistence of Sharetenancy in the Palestinian Agrarian Economy,” in The Rural Middle East: Peasant lives and Modes of Production, edited by Kathy & Pandeli Glavanis (London: Zed books ltd., 1990), p. 92.

[19] Ghraham Brown, Agriculture and Labour Transformation…, op. cit., p. 54.

[20] مقابلة مع رباح أبو جيش، مصدر سبق ذكره.

[21] Michael R. Fischbach, “The Implications of Jordanian Land Policy for the West Bank”, Middle East Journal, vol. 48, no. 3 (Summer 1994), p. 497.

[22]Ibid., p. 499.

[23] رجا شحادة، "قانون المحتل: إسرائيل والضفة الغربية"، ترجمة محمود زايد (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1991)، ص 34.

[24] مقابلة مع عبد الكريم أبو ثابت (77 عاماً) بتاريخ 2 / 11 / 2022.

[25] مقابلة مع إبراهيم سرور (83 عاماً) بتاريخ 6 / 8 / 2022.

[26] op. cit., pp. 502-503. Fischbach,

[27] نادية أبو زاهر، "الصمود لآخر رشفة: مستقبل الاحتياجات المائية للفلسطينيين والمستوطنين في الضفة الغربية" (إسطنبول: مركز رؤية للتنمية السياسية، 2017)، ص 60 - 61.

[28] Gad Gilbar, “The Economy of Nablus and the Hashemites: The Early Years, 1949-56”, Middle Eastern Studies, vol. 25, no.1 (January 1989), p. 51.

[29] Ibid., pp. 53-54.

[30] مقابلة مع محمد يوسف - صادق شاهين، مصدر سبق ذكره.

[31] استولت إسرائيل على معظم الآبار في الفروش بعد سنة 1967 لمصلحة مستعمرة الحمرا التي أقيمت في مطلع السبعينيات على أراضي القرية المصادرة، وكذلك المستعمرات القريبة. كما منعت إسرائيل بناء آبار جديدة، ولم يبقَ حتى اليوم سوى ثلاثة آبار فقط تعمل بظروف صعبة، إذ يُمنع حتى ترميم هذه الآبار من دون الحصول على ترخيص من الإدارة المدنية الإسرائيلية، والذي يقابل بالرفض في معظم الأحوال.

[32] مقابلة مع إبراهيم سرور، مصدر سبق ذكره.

[33] مقابلة مع عبد الكريم أبو ثابت، مصدر سبق ذكره.

[34] Omar Tesdell, Shadow Spaces: Territory, Sovereignty, and the Question of Palestinian Cultivation, PhD Dissertation (Minneapolis: University of Minnesota, 2013), p. 6.

[35] مقابلة مع إبراهيم سرور، مصدر سبق ذكره.

[36] هلال، مصدر سبق ذكره، ص 136.

[37] Mary Neth, “Gender and the Family Labor System: Defining Work in the Rural Midwest”, Journal of Social History, vol. 27, no. 3 (Spring 1994), p. 564.

[38] Islah Jad, “Re-Reading the Mandate”, in: Review of Women’s Studies, edited by Jamil Hilal & Penny Johnson (Birzeit: The Institute of Women’s Studies/Birzeit University, 2003), vol. 3, p. 13.

[39] مقابلة مع رباح أبو جيش، مصدر سبق ذكره.

[40] لينا ميعاري، "أدوار النساء الفلسطينيات الريفيات ببُعدَيها الاقتصادي والثقافي بين الأعوام 1930 - 1960: قرية البروة نموذجاً"، رسالة ماجستير (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2005)، ص 89.

السيرة الشخصية: 

فيروز سالم: مرشحة دكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت، ومحاضِرة غير متفرغة.