استعمار فلسطين، وجغرافيا وتاريخ عشائر البدو في قضاء بيسان
نبذة مختصرة: 

تناقش هذه الدراسة مفهوم الاستعمار الاستيطاني وإشكاليته، وتسلّط الضوء على شريحة واحدة من سكان أصليين تعرّضوا للعنف الاستعماري في منطقتهم، وهم بدو قضاء بيسان في شمال شرق فلسطين، لما يختزنه هذا القضاء من أهمية جغرافية وتاريخية واستراتيجية. وستصف الدراسة طبيعة سكان أبرز العشائر البدوية، ودورهم السياسي خلال القرنَين 16 و19 في القضاء وفي الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومقاومتهم للاستعمار البريطاني والصهيوني في القرن التالي، وكيف تم طردهم وترحيلهم وتهجيرهم. وستبيّن الدراسة الأضرار والتغيرات السياسية والاقتصادية الهائلة التي تعرّض لها بدو قضاء بيسان، ومنها: اشتداد تدخّل الدول الإمبريالية وزيادة الحاجة إلى التفاوض معها، والتغييرات في نظام حيازة الأراضي، والاستعمار من طرف المسيحيين الأوروبيين مثل منظمة فرسان الهيكل، ثم من طرف بريطانيا والصهيونيين والاحتلال.

النص الكامل: 

I - مقدمة

بدأ أتباع الحركة الصهيونية ينتقلون من أوروبا إلى فلسطين ويستقرون فيها في أواخر القرن التاسع عشر، وفي سنة 1948، أعلنوا إقامة "دولة إسرائيل" بدعم من الدول الأوروبية، متجاهلين معارضة العرب المحليين. ومارس الصهيونيون التطهير العرقي المنظّم، إذ استهدفوا السكان العرب الأصليين (وهم الفلسطينيون)، وسيطروا على أراضٍ محددة في فلسطين. وبعد ذلك، استمروا هم ودولة إسرائيل في السطو وسرقة الأراضي من الفلسطينيين، وطردهم من وطنهم، والسيطرة على سائر الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم، عن طريق ممارسة الاحتلال العسكري عليهم وتقييد مواطنتهم وما إلى ذلك. ومن الممكن أن نرى هذا العنف من طرف الصهيونيين وإسرائيل تجاه الفلسطينيين كظاهرة من ظواهر الاستعمار الاستيطاني.

والاستعمار الاستيطاني هو أحد أنواع الاستعمار المبني على الغزو، والقتل، والإقصاء، وتفكيك السكان الأصليين من طرف المستوطنين. ويختلف الاستعمار الاستيطاني عن الاستعمار العادي الذي يهدف إلى السيطرة السياسية، والاستغلال الاقتصادي للسكان الأصليين، إذ يقوم الاستعمار الاستيطاني على منطق تفكيك مجتمع الشعب الأصلي، بحيث يمكّن المستوطنين من الوصول إلى أراضي السكان الأصليين وتملّكها.[1] ويركّز مفهوم الاستعمار الاستيطاني على كيف أن وجود شعب أصلي، ووجود عنف من طرف المستوطنين على هذا الشعب، يُعتبران جزءاً من بناء الدولة والمجتمع في الدول المستعمِرة حتى بعد استقلالها عن الدولة الإمبريالية التي جاء المستوطنون منها. وبين هذه الدول المستعمِرة: إسرائيل والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والبرازيل.

وأهمية مفهوم الاستعمار الاستيطاني وإطار البحث المبني عليه، هي أنها تتغلب على محدودية الدراسات بشأن المستعمرات الصهيونية في فلسطين، وتعمّم وتعطي نظرية لاستعمار فلسطين من طرف الصهيونيين وآخرين، وتقارنه بأمثلة استعمار أُخرى. لكن البعض ينتقد مفهوم الاستعمار الاستيطاني وإطار البحث المبني عليه، لميله إلى التركيز على موضوع مجتمع المستوطنين الذين يَنظر إليهم على أنهم فاعلون رئيسيون، بينما يَعتبر الشعب الأصلي أطرافاً هامشية، ويصوّرهم كأدوات سلبية.

ولهذا، سأحلل في هذه الدراسة، مشكلات الدراسات بشأن المستعمرات الصهيونية والاستعمار الاستيطاني. وفي مقابل هذه المشكلات، سأضع الفلسطينيين في قلب هذا البحث، وهم السكان الأصليون الذين تعرضوا للعنف الاستعماري في مكان ما بين الدول الإمبراطورية. وعبارة "مكان ما بين الدول الإمبراطورية" هي عبارة من باحث ياباني اسمه كوماغومي، متخصص بتاريخ تايوان. وأنا أستخدم هذا العبارة هنا، كعبارة تحمل معنى أن العرب الفلسطينيين تأثروا بالتغييرات والمشكلات التي واجهوها واضطروا إلى التعامل معها، عندما كانت الدولة العثمانية والقوات الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وغيرها) تتنافس وتتعايش لحماية مصالح بعضها البعض في الوقت نفسه. وبعد ذلك، صارت القوات الأوروبية تسعى للاستيلاء على أراضي الدولة العثمانية والسيطرة عليها مباشرة.

وستركز هذه الدراسة على ما مرّ به العرب تحت الاستعمار في قضاء بيسان الذي بدأ الصهيونيون باستعماره ما بين عشرينيات القرن الماضي وأربعينياته. وسأتناول كيف تعامل العرب مع هذا الاستعمار، بناء على معلومات مجمّعة من كتب تاريخ وجرائد ومراجع من الإنترنت ومحتوى سرد قصصي للاجئين من هذا القضاء. 

II - الخلفية

يشدد كتاب ليفين وشفير: Struggle and Survival in Palestine / Israel[2] على المنظور الجزئي، وهو السرد القصصي للفرد. فبحسب المحررَين ليفين وشفير، فإن هدف هذا الكتاب هو أن يُظهر أنه كان أمام الناس عدة اختيارات، وأنه كان لديهم الخيار لمستقبل أفضل، وبالتالي، يكون هناك طريقة لتحويل الصراع وحلّه بشكل مبتكر. علاوة على ذلك، يوضح المحرران أن غايتهما هي أن يساعدا الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين على معرفة وفهم السرد القصصي للطرف الآخر، بحيث يرفعان من مستوى التعاطف بين الطرفين.

وأنا أتفق مع كل من ليفين وشفير على أن منظور التميز الفردي ونطاق الخيارات هما أمران مهمان، ولا يمكن تجاهلهما. فهذا الكتاب يُقرّ باختلال العلاقات ما بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، وأن هذا الاختلال يؤدي إلى تركيز الفلسطينيين على فكرة ومفهوم "الوطن" في السرد القصصي الفلسطيني. غير أن المشكلة هي أن ليفين وشفير يضعان ويفسران هذا الاتجاه إلى السرد القصصي الفلسطيني في قالب النظرية العامة التي تَحُدّ سرد الأفراد القصصي الوطني، متغاضيَين بذلك عن التحليل المهم لتاريخ هذا الاختلال وبنائه، الأمر الذي يضع على كلا الطرفين مسؤولية عن الصراع. فالمحرران يعتقدان أن المشكلة تكمن في وضع الطرفين والأفراد في المستوى نفسه، ومعاملتهم كأطراف متساوٍ بعضها لبعض، غير أن شرحهما لماذا لا يهدف كتابهما إلى التغلب على هذه المشكلة يبقى غامضاً.

وعلى هذا المنوال نفسه، تركز أغلبية أبحاث الباحثين اليهود الإسرائيليين، والتي تُعنى بدراسة الاستعمار الصهيوني في فلسطين، على الأحداث الفردية والأفراد من المنظور الجزئي ومن منظور معتاد للمستعمِر، لكنها تفتقر إلى اهتمام وتحليل لعلاقات القوة غير المتكافئة ما بين المستعمِرين والسكان الأصليين. والمثال النموذجي لذلك هو كتاب كاتسThe Religious Kibbutz Movement in the Land of Israel 1930-1948،[3] لأنه يركز على دافع المستوطنين اليهود، وعلى تنوعهم الثقافي والاقتصادي والسياسي والتفاعلات فيما بينهم، بينما يندر ذكر السكان الأصليين، وهم الفلسطينيون. وحين يُذكر الفلسطينيون في هذا الكتاب، يتم إظهارهم كأناس يواجههم اليهود مصادفة خلال قيامهم بالاستعمار، أو كأحد العناصر الخارجية التي تعوق الاستعمار.

وهكذا فإن هجرة الصهيونيين واستعمارهم لفلسطين والصراع بينهم وبين العرب المحليين هي مسألة هيمنة وإخضاع بين المستعمِر والمستعمَر، ومسألة تمييز ومقاومة بينهما. غير أن الدراسات السابقة عن الاستعمار تُبنى، في معظمها، على افتراض السيطرة على الأغلبية الأصلية واستغلالها من طرف الأقلية الخارجية الدخيلة، وتميل إلى استبعاد أشكال أُخرى من الاستعمار عن مفهوم الاستعمار وتعريفه. مثال لذلك هو تعريف الاستعمار في كتاب أوستاهاميل على أنه "علاقة سيطرة وهيمنة بين أغلبية أصلية (أو مستوردة قسراً) وأقلية غزاة دخيلة، وأن القرارات الأساسية التي تؤثر في حياة الشعب المستعمَر من طرف الحكام المستعمِرين، يتم اتخاذها وتنفيذها سعياً وراء مصالح دولة هؤلاء المستعمِرين البعيدة. ويرفض المستعمِر الاندماج الثقافي مع المستعمَر لأنه يعتقد أنه أحسن من المستعمَر، ولديه الحق في السيطرة."[4] ويجادل أوستاهاميل في أن الاستعمار بطريقة الهجرة إلى بلد أجنبي، وخصوصاً نوع الاستيطان الذي يُطلق عليه اسم "إنجلترا الجديدة" (“New England” type of settlement) الذي يُعرف بـ "الاستيطان من دون استعمار"،[5] يستغل السكان الأصليين، ويختلف عن "الاستعمار الاستيطاني" الذي يعمل على طرد السكان الأصليين، مثلما فعلت إسرائيل التي طردت السكان الفلسطينيين الأصليين و"طهّرت عرقياً" أرض فلسطين، ودفعت الفلسطينيين إلى الهجرة (الشتات) من وطنهم، الأمر الذي جعل المستعمِر أغلبيةً جرّاء هذا التطهير، إذ تتصرف إسرائيل باستقلال عن مصالح السكان الأصليين.

لكن حتى لو بات الشعب الأصلي أقلية في بلده، فإن الدولة لا تزال دولة استعمارية، لأنه حتى لو كان التهجير حدث لمرة واحدة فقط، فإن شتاتهم ما زال مستمراً بعد التهجير، وفَرْض هذه الحالة عليهم هو كالاستعباد. وفي الواقع، فإنه حتى في دولة استعمار من نوع "إنجلترا الجديدة" حيث تستمر سرقة ونهب أراضي السكان الأصليين، يظل هناك جزء من الشعب الأصلي لم تتم إزالته، ولهذا تعمل أجهزة الدولة المستعمِرة على محاولة طردهم واعتقالهم، أو دمجهم قسراً وإنكار وجودهم وحقوقهم الاجتماعية.[6]

إن الواقع الحالي في الضفة الغربية وقطاع غزة ومجتمع فلسطينيي الداخل (فلسطينيو 48) ما بعد اتفاق أوسلو في سنة 1993، هو استمرار للاستعمار المذكور أعلاه. ولذلك، في الدراسات الفلسطينية الأخيرة، نلاحظ عودة إلى الاهتمام بالمنظور الذي يعرّف ويصنّف العلاقة بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين على أنها علاقة استعمارية: الفلسطينيون كمستعمَرين واليهود الإسرائيليون كمستعمِرين، وفيه يهتم الباحثون بمفهوم الاستعمار الاستيطاني وبالإطار البحثي التابع له.[7] لكن باحثين آخرين، مثل بهندر وزيادة وبركات، ينتقدون مفهوم الاستعمار الاستيطاني والإطار البحثي التابع له، ويمكن تلخيص انتقادهم على النحو التالي: [8]

1) إن الأبحاث عن الاستعمار الاستيطاني أصبحت مجالاً مقروءاً وجديداً للدراسة في الغرب، وهي لا تشير إلى الأبحاث التي كتبها الشعب الأصلي، مثل الفلسطينيين، عن الاستعمار والاحتلال لأراضيهم، بل تهمّش أبحاثهم جرّاء سياسة إنتاج المعرفة التي تعزز الامتياز الجنساني والعرقي.

2) تميل أغلبية الأبحاث عن الاستعمار الاستيطاني إلى التفريق زمنياً بين كندا وأستراليا والولايات المتحدة من جانب، وإسرائيل من جانب آخر، وتتعامل مع هذه الأخيرة على أنها مشروع استثنائي وحيد وغير مكتمل للاستعمار الاستيطاني في العالم. ويؤدي هذا الاتجاه إلى تجاهل استمرار الاستعمار الاستيطاني في كل من كندا وأستراليا والولايات المتحدة، ولذلك، من الضروري أن يجري تحليل واقع الاستعمار الاستيطاني في هذه الدول الثلاث المذكورة، اعتماداً على الأبحاث التي كتبها الباحثون الناشطون الأصليون، وأن يتم إجراء بحث مقارِن يتعامل مع، ويحلل، التشكيلات السياسية والاقتصادية والقانونية بين تلك الدول الثلاث وإسرائيل، والتي تتضمن استعمار الأراضي.

3) إن الأبحاث عن الاستعمار الاستيطاني ربما تؤدي إلى ظهور اختلافات وتقسيمات غير ضرورية بين الدراسات الاستعمارية والدراسات الاستعمارية الاستيطانية. فقد جرى نقل الأساليب والبُنى التحتية بين مقر الإمبراطورية البريطانية، وهو المملكة المتحدة، ومستعمراتها، وبين جميع أرجاء مستعمرات هذه الإمبراطورية، وهي شبه القارة الهندية وأستراليا وكندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة والمستعمرات الكاريبية والقارة الأفريقية وفلسطين، من أجل مراقبة السكان الأصليين وتجريمهم، ولتجريدهم من أراضيهم، والسيطرة على حركتهم ومشاركتهم السياسية، وغير ذلك. لهذا، من الضروري بحث كيف جرى انتقال هذه الأساليب والبُنى التحتية الهادفة إلى طرد وتجريد السكان الأصليين، بين مستعمرات الإمبراطورية البريطانية.

4) هناك مخاطرة في أن أبحاث الاستعمار الاستيطاني تركز من جديد على منظور المستعمِر وذاتيته. فكلما زاد هذا الاتجاه البحثي، ازداد معه التهميش والاستخفاف بالمستعمَر، مثلما هي الحال تجاه الفلسطينيين، إذ جعلهم كأنهم عنصر غير فاعل وغير رئيسي في عملية التأريخ التي يكون فيها المستعمِر العنصر الرئيسي في المعادلة. لذلك، يتعين على الباحثين أن يكونوا على وعي بشكل واضح بشأن المعارضة الثنائية - السكان الأصليون في مقابل المستعمِرين – وهي من تركيب الاستعمار الاستيطاني، وبشأن موقفهم الشخصي من هذه المعارضة. كما يتوجب على الباحثين أن يتعاملوا مع الاستعمار الاستيطاني كجزء من الأبحاث التي تركز على الشعوب الأصلية، علاوة على تسليط الضوء على خبرات الشعوب الأصلية وقصصهم ومقاومتهم للاستعمار الاستيطاني.

وتولي هذه الدراسة الانتقادَين الأول والرابع من الانتقادات المذكورة أعلاه، اهتماماً خاصاً، ولهذا فإنها ستركز على السكان العرب الذين كانوا يعيشون في قضاء بيسان، ويترحّلون ويرجعون موسمياً بهدف رعي المواشي والزراعة معاً، وكانوا يُسمّون "البدو"، كما ستبحث هذه الدراسة في خبراتهم وتجاربهم تحت الاستعمار ومقاومتهم له.

هناك 3 أسباب لاختياري قضاء بيسان والعرب البدو الذين كانوا يعيشون هناك: السبب الأول هو أني أنتقد المنظور النموذجي للدراسات عن المستعمرات الإسرائيلية، والتي ترى نتيجة حرب حزيران / يونيو 1967 كأنها نقطة تحوّل تاريخية أساسية وكاملة. ومن وجهة نظري هذه، فإن بحثاً في استعمار قضاء بيسان من طرف الصهيونيين قبل سنة 1967، هو شيء مهم لتفسير كيف استعمر اليهود الإسرائيليون الضفة الغربية منذ سنة 1967.[9] والسبب الثاني هو أن قضاء بيسان كان يؤدي دوراً مهماً كنقطة تقاطع ما بين فلسطين وسورية ومصر والضفة الشرقية لنهر الأردن، إذ كان يشكل صلة وصل بين هذه المناطق عبر التاريخ. ولذلك، غالباً ما حدث تدخّل من الإمبراطوريات أثّر في هذا القضاء، وقد تمّت عملية الهجرة إليه من أوروبا واستعماره منذ القرن التاسع عشر، بينما كانت الحركة القومية العربية ناشطة جداً حينها. أمّا السبب الثالث فهو أن الدراسات عن الحركة الوطنية الفلسطينية تركزت على أفراد من نخبة المدن، وتعاملت معهم على أنهم فاعلون رئيسيون وحيدون في هذه الحركة، كما أن الدراسات عن المستعمرات الصهيونية تدوّن التاريخ الذي يركّز على الصهيونيين منذ القرن العشرين، وتتعامل معهم على أنهم يؤدون دوراً فاعلاً ورئيسياً في هذا التاريخ.[10]

كانت نسبة كبيرة من سكان قضاء بيسان هي من البدو، وكان عددهم يتراوح ما بين 6000 و7000 شخص من أصل 15,920 مسلماً في هذا القضاء في سنة 1945، وقد اعتُبروا فاعلين رئيسيين في سياسة هذا القضاء لمدة طويلة. لكن، نادراً ما تتم مناقشة ووصف كيف تمت عملية تفاوض البدو وتعاملهم مع الإمبراطوريات والمستوطنين، وكيف تم تقبّلهم لهذه القوى أو معارضتها، وكيف حافظوا على قوتهم، أو كيف فقدوها عبر التاريخ. ولذلك، سيساعد البحث في هذا القضاء في التحري وتعميق الأسئلة بشأن كيف مرّ شعب فلسطين بالاستعمار، وكيف تعامل معه المستوطنون في مكان ما بين الدول الإمبراطورية. 

III - الإمبرياليات والاستعمار والمقاومة في قضاء بيسان 

1) التاريخ الجغرافي لقضاء بيسان

يقع قضاء بيسان في جنوب شرق فلسطين، وكثيراً ما اعتُبر جزءاً من الأغوار. فعلى سبيل المثال، وصف الجغرافي العربي أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، والذي توفي في سنة 1166م، مدينة بيسان بأنها مدينة الأغوار الواقعة بين الشام وفلسطين.

تاريخياً، هناك علاقات عشائرية واقتصادية وسياسية متينة بين كل من قضاء بيسان، ومناطق أُخرى في فلسطين، والضفة الشرقية لنهر الأردن، وسورية، لكن عندما وقع قضاء بيسان تحت حكم إسرائيل في سنة 1948، انقطعت العلاقات بين قضاء بيسان والمناطق المجاورة له. وحالياً، يُعدّ معبر الملك حسين [جسر الكرامة وفق تعريف السلطة الفلسطينية] على نهر الأردن، وهو معبر الحدود بين الأردن وإسرائيل، نقطة التواصل الوحيدة بين قضاء بيسان والضفة الشرقية لنهر الأردن. وسابقاً لذلك، كان هناك جسران (الملك حسين والمجامع)، و7 مخاضات (القطف؛ الشيخ قاسم؛ أم الصيصان؛ أم توتا؛ رقبة الجمال؛ عبرة؛ الطريخيم)، وقد استخدمها الناس كمعبر لحركة المواصلات والنقل حتى سنة 1948. كما كان بين سنتَي 1915 و1948، قطار الحجاز الذي يسير في خط فرعي بين حيفا ودرعا عابراً من قضاء بيسان، إذ كان هذا الخط الفرعي يبدأ من ميناء عكا متجهاً إلى الشرق، بعد العبور من ميناء حيفا، ثم يعبر قضاء بيسان من غربيّه إلى شرقيّه، متجهاً فيما بعد شمالاً عند غربي مدينة بيسان. وبعد ذلك، كان هذا الخط الفرعي يتجه شرقاً بعد العبور من قرية سمخ جنوبي بحيرة طبرية، ثم يسير إلى درعا على طول نهر اليرموك حيث كان هذا الخط الفرعي يتصل بالخط الرئيسي لقطار الحجاز، والذي كان يصل بين إستانبول والمدينة المنورة عن طريق دمشق.[11] وكان قضاء بيسان نقطة طريق أيضاً في شبكة الطرق التي كانت تبدأ من دمشق وتعبر من منطقة حوران التي تمتد من جنوب سورية إلى شرق الأردن، وهي منطقة رئيسية منتجة للحبوب، وتتجه بعد ذلك إلى مصر عن طريق نابلس والقدس وغزة، وهي مدن رئيسية في فلسطين. ومن خلال حركة المواصلات والنقل والتجارة في شبكة الطرق هذه، أُقيمَت علاقات متعددة بين قضاء بيسان ومناطق أُخرى في بلاد الشام، بما في ذلك مناطق داخل فلسطين، حتى إن هذه العلاقات امتدت إلى مصر أيضاً. وأحد الأمثلة التي وصفت حال قضاء بيسان حينها، هو وصف يوهان لودفيك بيركهارت، وهو سائح ومستشرق سويسري كتب عن زيارته لمدينة بيسان، قائلاً إنه كان هناك خان كبير على ضفة الجدول الشمالية، تستريح فيه القوافل التي كانت تسلك الطريق من القدس إلى دمشق.[12] كما أن خليل طوطح قدّم "بيسان" في كتابه "جغرافية فلسطين" الذي نُشر في سنة 1923، على أنها مدينة واقعة على طريق سلطاني قديم، وهو الطريق الذي يصل فلسطين بدمشق وحوران ومصر.[13]

يقع قضاء بيسان في وادٍ ذي أراضٍ خصبة، وفيه كثير من المياه، وكانت درجة الحرارة فيه عالية نسبياً، تتراوح بين 21 و22 (في المتوسط سنوياً) بين سنتَي 1934 و1944. وكان قضاء بيسان معروفاً كمنطقة منتجة للنبيذ لفترة طويلة من الزمن، وكمنطقة منتجة للتمر والموز والتين والحمضيات والخضروات والقمح والشعير والبقوليات وغير ذلك، كما أنه كان مشهوراً بتربية الماشية مثل الغنم والماعز والخيل. وكانت مصادر المياه في قضاء بيسان تأتي من 3 أنهر هي: نهر الأردن، ونهر اليرموك، ونهر جالود، ومن عيون في واديين هما: وادي البيرة ووادي عشة.[14] غير أن كثرة المياه في الأراضي المنخفضة جعلت الأراضي تصبح مستنقعات في موسم الأمطار، الأمر الذي أدى إلى صعوبة في الانتقال، وأثّر في صحة السكان بشكل سلبي بسبب انتشار الملاريا. فعلى سبيل المثال، كتب طوطح أن درجة الحرارة العالية وكثرة المستنقعات أثّرتا في صحة السكان بشكل سلبي، وكان من الضروري إزالة تلك المستنقعات وإبادة بعوضة الملاريا.[15] 

2) طبيعة السكان في قضاء بيسان

في سنة 1945، كان قضاء بيسان يتكون من 30 قرية تابعة للفلسطينيين، و600 خيمة صغيرة تابعة لهم أيضاً، وكان مركز هذا القضاء مدينة بيسان، كما كان في القضاء 22 مستعمرة تابعة للصهيونيين. وكان عدد السكان في قضاء بيسان في سنة 1945 هو 23,920 شخصاً، بينهم 14,920 مسلماً (67,4%)، و7000 يهودي (29,6%) بمَن فيهم الصهيونيون، و250 مسيحياً (10,5%)، تم تسجيلهم بحسب دينهم. وكان من ضمن هؤلاء المسيحيين مستوطنون أوروبيون جاؤوا منذ القرن التاسع عشر، والبقية منهم كانت أحفاد السكان المسيحيين الذين عاشوا في هذا القضاء قبل ذلك القرن. وكان عدد السكان في مدينة بيسان 5180 شخصاً، بينهم 4730 مسلماً، و230 مسيحياً، و20 يهودياً، وقد جرى تسجيلهم بحسب الدين، ومنهم كاهن اللاهوت الفلسطيني نعيم عتيق الذي وُلد في مدينة بيسان.[16]

وفي هذه القرى والخيم، عاش الفلاحون والبدو الفلسطينيون المسلمون على الزراعة أو خليط من الزراعة وتربية الماشية، وكان لهم علاقات متنوعة أبرزها العلاقات التجارية مع العرب الفلسطينيين المسيحيين واليهود. وبالنسبة إلى تربية الماشية، فإن جزءاً من البدو الفلسطينيين كان يتنقل موسمياً كي يرعى الماشية بين المناطق الجبلية حول جنين في الصيف، وحول حوض نهر الأردن أو قضاء بيسان في الشتاء. ويبدو أنه كان هناك عدد لا يستهان به من العرب الذين تخلّوا عن الحياة البدوية، واتخذوا من المدن والقرى مستقراً لهم بسبب تغيّر طبيعة الحياة.

كان البدو في قضاء بيسان يتألفون بشكل رئيسي من 3 عشائر هي: عرب الصقر، وعرب الغزاوية، وعرب البشاتوة. وكان عدد أفراد هذه العشائر الثلاثة يتراوح ما بين 6000 و7000 شخص، وكانت أكبرها عشيرة عرب الصقر التي سكنت في جنوبي قضاء بيسان. فمن 600 خيمة واقعة في هذا القضاء، كانت 400 خيمة تابعة لعرب الصقر وعرب الغزاوية، و200 خيمة تابعة لعرب البشاتوة. وهؤلاء البدو هم من نسل العشائر التي انتقلت من نجد والحجاز وقضاء حوران وجنوب فلسطين، وقد استمر أفراد هذه العشائر في مشاركة قصص عن أصول عشائرهم ومن أين أتت، لكن لم يكن هناك اختلاف ثقافي كبير بينها. وكان شائعاً وقوع صراعات بين العشائر بشأن الأراضي ومصادر المياه، ومع ذلك كان هناك احترام للحدود بين أراضي أفراد العشيرة ذاتها، وقد منعت صلة القرابة وقوع أي صراعات ضمن العشيرة نفسها. وكان لهذه العشائر علاقة بمدينة بيسان من خلال شراء سلع أساسية يومية وسلع فاخرة أيضاً، بل إن بعض شيوخ العشائر سكن في مدينة بيسان.[17] وهذه العشائر هي:

أ) عشيرة الصقر وتسمى الصقور أو عرب الصقر أيضاً، وقد سكن معظمهم في المنطقة الجنوبية في قضاء بيسان في سنة 1945. وكانت أراضي هذه العشيرة تقع بين نهر الأردن شرقاً، وقرية طوباس غرباً، ووادي شوباش جنوباً، وأراضي عشيرة الغزاوي شمالاً، وكانت قراهم في سنة 1945 كبيرة، وهي: الحمراء (770 نسمة)؛ الصفا (650 نسمة)؛ الساخنة (530 نسمة)؛ أم عجرة (260 نسمة).[18] ويعود أصل عشيرة الصقر إلى بني مفرج، وهو فرع لبني لام من نجد. وكان مقرّ بني مفرج يقع على جبل نابلس في شرق شمال فلسطين، وكانوا يسيطرون على مساحة واسعة من بلاد الشام، ويدافعون عن الطريق المؤدي إلى الحج منذ القرن الحادي عشر. وفي بداية القرن السابع عشر، وقع صراع بين كل من عشيرة الصقر بقيادة عمر بن جبل الصقري وعشيرة السردي بقيادة رشيد السردي ضمن بني مفرج، وجرّاء ذلك تشعّب بنو مفرج إلى هاتين العشيرتين. وبعد هذا التشعّب، نُسِي اسم بني مفرج بالتدريج، واتُّبع اسم الصقر والسردي فقط.[19]

ب) عشيرة الغزاوي التي تسمى الغزاوية أو عرب الغزاوية أيضاً، وقد أقاموا في أربعينيات القرن العشرين بين مدينة بيسان ونهر الأردن وعلى ضفتَي نهر جالود. وكانت من قراهم الرئيسية: عرب البواطي ومسيل الجزل. وهناك بعض النظريات المتنوعة بشأن أصل عشيرة الغزاوي، وإحدى هذه النظريات هي أنهم يتحدرون من عشائر انتقلت من غزة في جنوب فلسطين إلى اليمن، وبعد ذلك، من اليمن إلى حوران حيث استقروا، وكان ذلك في عهد سليم الأول الذي هو تاسع سلاطين آل عُثمان (الذي حكم من سنة 1512 إلى سنة 1520). ووفقاً لنظرية أُخرى، يرجع أصل عشيرة الغزاوي إلى عرب التياها في منطقة النقب في جنوب فلسطين، والذين انتقلوا إلى قضاء بيسان وغور الأربعين في الضفة الشرقية لنهر الأردن عبر منطقة صخرة في قضاء عجلون في شمال الأردن.[20]

ج) عشيرة البشاتي التي تسمى البشاتوة أو عرب البشاتوة، وكانت أراضيهم تقع بين جسر المجامع على نهر الأردن ومنطقة الغوارنة في جنوبي قضاء بيسان، والتي سكن فيها عرب البواطي الذين هم فرع من عشيرة الغزاوي. وكانت أراضيهم محاطة بقرية جسر المجامع، وقرية سيرين، وقرية وادي البيرة، وقرية كوكب الهواء، ونهر الأردن. ومن القرى الرئيسية لعشيرة البشاتوة: عرب السويمات، وعرب حوافظة العمري، وعرب البقال. وكان عدد أفراد عشيرة البشاتوة هو 950 في سنة 1922، وأصبح 1123 في سنة 1931، ثم أصبح 1560 في سنة 1945.[21] 

3) سيطرة البدو في قضاء بيسان

بات البدو في القرن السادس عشر، على أبعد تقدير، فاعلاً سياسياً رئيسياً في قضاء بيسان، وسأشرح في هذا القسم كيف حدث ذلك، وكيف أدوا دوراً رئيسياً في السيطرة على قضاء بيسان.

خضعت فلسطين لسيطرة المسلمين، بعد سيطرة اليونانيين والإمبراطورية الرومانية، ثم احتل الصليبيون فلسطين، وكانوا يتألفون من فرسان الهيكل وفرسان الإسبتارية. بعد ذلك، قام المسلمون بقيادة صلاح الدين بطرد الصليبيين من فلسطين في سنة 1187، فخضعت فلسطين لسيطرة المسلمين مرة أُخرى، ثم سيطر الأيوبيون والمماليك على فلسطين. وفي سنة 1517، بدأت الدولة العثمانية تسيطر على فلسطين وتجعلها جزءاً من دولتها. لكن عندما ضعف النظام الإقطاعي الذي كان يلبّي الحاجات العسكرية والمالية للحكومة المركزية في فلسطين وأماكن أُخرى في الدولة العثمانية، استولى الحكام المحليون على السلطة بقوة عشائرهم.[22] كذلك، أقامت عشيرة الصقر مشيخة في قضاء بيسان في القرن السابع عشر كان مقرّها في الجليل، وكانت هذه المشيخة تسيطر على مرج ابن عامر الذي يمتد من الشرق إلى الغرب، وتحدّه من الجنوب جبال نابلس، كما كانت تسيطر على قضاء بيسان. وباتت عشيرة الصقر تفرض الأتاوات على العشائر في جبل نابلس. وفي أوائل القرن الثامن عشر، دخلت عشيرة الصقر في صراع مع عائلة الزيادنة التي هي عائلة بدوية كانت تتعاون مع والي صيدا محمد باشا، ونتيجة ذلك، هُزمت عشيرة الصقر، وسلّمت عائلة الزيادنة السلطة على جبل نابلس. لكن حين أصبحت عائلة الزيادنة خائفة من غدر العثمانيين، وأضحت بحاجة إلى فرسان الصقر أيضاً، جعلت عشيرة الصقر حليفة لها.[23] وفي أواخر القرن الثامن عشر، جمّعت أسرة الزيادنة بالتعاون مع عشيرة الصقر ثروة عبر إنتاج القطن الذي زادت حاجة أوروبا إليه، وبهذه الطريقة، اتسعت سلطة أسرة الزيادنة وباتت تُعتبر تهديداً لسيطرة العثمانيين في شمال فلسطين، بما في ذلك قضاء بيسان.[24]

أمّا عشيرة الغزاوي، فاتخذت من جبل عجلون مقراً لها بعد انتقالها إلى لواء عجلون في منتصف القرن السادس عشر، مؤدية بذلك دوراً في مساعدة الإمبراطورية العثمانية في السيطرة على المدن والقرى في المناطق الشمالية في الضفة الشرقية لنهر الأردن. وفي سنة 1517، تمرد الشيخ محمد سعيد الغزاوي الذي كان زعيم منطقة لواء عجلون، على الحكومة المركزية العثمانية، لكنها هزمته، ومع ذلك، سمحت الحكومة المركزية لعشيرة الغزاوي بالاستمرار في السيطرة على لواء عجلون، لأن الاهتمام الرئيسي للحكومة المركزية كان حماية قوافل حجاجها، ذلك بأن سيطرة الحكومة على الضفة الشرقية لنهر الأردن كانت رمزية فقط. بعد ذلك، استمرت عشيرة الغزاوي في الإقامة في قضاء بيسان وغور الأربعين الذي يقع شرقي نهر الأردن، كما أقامت في لواء عجلون الذي كان مركز عشيرتها، لكنها دخلت عدة مرات في صراع مع حكام السناجق الذين عيّنتهم الحكومة العثمانية، ومع الدروز الذين كان مقرهم في الجبال اللبنانية، فضلاً عن صراع داخل العشيرة ذاتها.[25]

بعد أن احتلت مصر فلسطين من سنة 1831 إلى سنة 1840، لم يكن هناك شيوخ بارزون وأقوياء، وإنما كان هناك شغور في السلطة في منطقتَي الجليل وقضاء بيسان. فاستغل عقيل آغا الحاسي، شيخ آل الهنادي المتحالف مع عشيرة بني صخر، وهي عشيرة بدوية كبيرة في الضفة الشرقية لنهر الأردن، هذا الشغور في السلطة، وسيطر على مساحة واسعة في كل من المناطق الساحلية، مثل حيفا، وعكا، والجليل، ومرج ابن عامر، وقضاء بيسان، ودامت سيطرته حتى سنة 1864. وكانت الحكومة العثمانية عيّنت الحاسي الذي ولد في مصر، قائداً للميليشيات في شمال فلسطين، لكنه انضم إلى تحالف عشائر بني صخر في الضفة الشرقية لنهر الأردن في سنة 1845، إذ كان هدفه إقامة دولة توحّد العشائر البدوية، والاستقلال عن العثمانيين بمساعدة فرنسا.[26] وفي الوقت ذاته، كانت الدول الأوروبية مثل فرنسا معنية بحماية المسيحيين واليهود في شمال فلسطين، ولذلك حاول الحاسي أن يحصل على دعم من الدول الأوروبية من خلال توفير الحماية للمسيحيين ولليهود، الأمر الذي وضع العثمانيين في مواجهة مرحلة بروز الحاسي، ودفعهم إلى العمل على إبعاده وإضعافه. وقاوم آل الهنادي وعشيرة بني صخر هذه المحاولات العثمانية مع الفلاحين والعشائر البدوية الأُخرى الذين كانوا معادين للعثمانيين، لكنهم لم ينجحوا في الحصول على الدعم الذي كانوا يتوقعون الحصول عليه من الدول الأوروبية، إذ طلبت كل من فرنسا وإنجلترا من الحكومة العثمانية أن تعيّن الحاسي قائداً للميليشيات، لكنهما لم يعطياه الدعم الحقيقي فعلاً.[27] وخلال الفترة 1863 – 1864، أرسل كابولي باشا وخورشيد باشا، متصرّفا لواء عكا، قوات كردية وبنّائين للحصون نجحوا في إبعاد الحاسي الذي فشل هو وأصحابه في إقامة دولة.

مثلما رأينا، كانت العشائر البدوية فاعلاً رئيسياً في شمال فلسطين من القرن السادس عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر. غير أن لعبة القوة بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية تحكمت في العشائر البدوية التي استغلت لعبة القوة هذه من أجل تحقيق مصالحها، وقامت بمبادرات سياسية في الوقت نفسه. إلًا إن الدول الأوروبية عززت من تدخّلها في الدولة العثمانية منذ ذلك الحين، إذ شرع فرسان الهيكل الألمانيون والبريطانيون والصهيونيون في استعمار فلسطين في هذه المرحلة. وفي ضوء هذا، عارضت العشائر البدوية الاستعمار القائم في وطنهم، وناضلت وقاومت الصهيونيين والبريطانيين الذين دعموا الصهيونيين في استعمار أراضي فلسطين. 

4) استعمار قضاء بيسان

بعد طرد الحاسي، وُضع قضاء بيسان تحت سلطة الدولة العثمانية. وفي عهد عبد الحميد الثاني الذي كان السلطان الرابع والثلاثين (1876 - 1909)، كان نوري بك الذي عيّنته الحكومة المركزية والياً، يسيطر على قضاء بيسان فساهم في تطويره، مثلاً من خلال بناء السوق في مدينة بيسان وما إلى ذلك. ومن ناحية أُخرى، أقرّت الحكومة العثمانية قوانين تسمح بالملكية الخاصة للأراضي منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، وذلك جرّاء ضغوط الدول الأوروبية، وبهدف زيادة الإيرادات الضريبية للحكومة بعد حرب القرم. وبسبب هذه الإصلاحات في موضوع نظام الأراضي، تمت المتاجرة والتسويق بالقرى، وأخذ الرأسماليون يتشاركون ويتقاسمون الزراعة والمحاصيل، وشرعت الحكومة العثمانية تبيع الأراضي المهجورة، كما بدأ المزارعون العاجزون عن تسديد الدين يبيعون أراضيهم.

وبذلك تركّزت ملكية الأراضي في يد 3 مجموعات: أولاً، الأفنديون النخبة وهم الواجهة من المحليين في المدن والقرى؛ ثانياً، رجال الأعمال والتجار والماليون الأوروبيون ورجال الأعمال والتجار والماليون المسيحيون واليهود الذين وفرت الدول الأوروبية حماية لهم؛ ثالثاً، فرسان الهيكل والصهيونيون الذين جاؤوا من خارج الدولة العثمانية. وأحد الأمثلة لهذه المجموعات هو آل سرسق، وهي عائلة مسيحية أرثوذكسية يونانية كان مقرها في بيروت، وقد اشترت من الحكومة العثمانية أراضي في قضاء الناصرة ومرج ابن عامر حيث امتلكت وأدارت مزارع ضخمة هناك. وشهد عبد الحميد الثاني هذا النجاح لآل سرسق، فأقرّ خصخصة ملكية الأراضي في شرقي مرج ابن عامر وشمالي قضاء بيسان، وبذلك، مُرّرت ملكية جزء من هذه الأراضي المخصخصة إلى الصهيونيين الذين استخدموها في بناء مستعمرات لهم في ثلاثينيات القرن العشرين.

وفي ظل هذه الظروف، قام المستوطنون المسيحيون والصهيونيون اليهود الذين جاؤوا من أوروبا، والذين لم يهتموا بالسكان الأصليين، باستعمار قضاء بيسان. ومنذ سنة 1868، انتقل فرسان الهيكل من منطقة شوابيا في ألمانيا إلى فلسطين حيث أنشأوا 4 مستوطنات حتى سنة 1873، و3 مستوطنات من سنة 1902 حتى سنة 1907، مؤمنين بأن لهم الحق في امتلاك الأراضي المقدسة، ولذلك قاموا باستعمارها بهدف تحقيق هذا المعتقد. وكجزء من مشروع الاستعمار هذا، اشترى فرسان الهيكل الأراضي واستوطنوها في قضاء بيسان أيضاً.

وهكذا بدأ فرسان الهيكل يستوطنون في فلسطين، بناء على نهج أنهم "الصليبيون السلميون"، وبعد ستينيات القرن التاسع عشر، توسّع هذا النهج والتفكير بين المسيحيين الأوروبيين، ومن ضمنهم مسيحيو إنجلترا وفرنسا وألمانيا. وكان المقصود من تفكير "الصليبيين السلميين" أن يغزو المسيحيون الأوروبيون الأراضي المقدسة ويتملكوها، مثلما فعل الصليبيون في السابق، من خلال "طريقة سلمية" ومن دون استخدام القوى العسكرية. ومنذ ذلك الوقت، شرع كثيرون من المسيحيين في أوروبا يتناقشون بشأن استعمار فلسطين، إذ كانوا يعتقدون أن هناك حاجة إلى الاستعمار من طرف الأوروبيين من أجل "تحسين الأراضي المقدسة".[28]

وبعد فترة من الزمن، باع فرسان الهيكل هذه الأراضي إلى المنظمة الصهيونية التي وزعت هذه الأراضي نفسها على مجموعات من اليهود الصهيونيين القادمين من ألمانيا. وكان هؤلاء اليهود هم الأفراد الذين أُطلق عليهم اسم التقليديين أو المتدينين داخل الحركة الصهيونية، وهم الذين استعمروا الضفة الغربية بعد حرب 1967، عبر استخدام هذه المستعمرات في قضاء بيسان كمقرّ لهم.[29] وهكذا، نستطيع أن نرى جذور الاستعمار الاستيطاني في فكر الاستعمار الصليبي ومعتقداته. وبذلك، أنشأ اليهود الحركة الصهيونية على أساس الاستعمار الصليبي هذا، واشتركوا في مشروع استعمار فلسطين.

ولم تعتبر الحكومة الألمانية الدور السياسي لعمليات استعمار فرسان الهيكل في الدول العثمانية مهماً، ونتيجة ذلك، لم يتجاوز عدد مستعمري فرسان الهيكل 2200 شخص، ولم يؤثر استعمارهم كثيراً في منطقة فلسطين والمسألة الشرقية. غير أن استعمار فرسان الهيكل هذا، قدم نموذجاً استعمارياً للاستعمار الصهيوني الذي جاء بعده، والأمر الأكثر أهمية هو أن الأوروبيين من أمثال فرسان الهيكل، ركّزوا على استعمار فلسطين من دون أن يكترثوا بالعرب الفلسطينيين، أو يشغلوا تفكيرهم بهم. ولهذا، اعتبر الأوروبيون أن العرب المحليين كانوا سعيدين ببيع الأراضي، بل إن بعضهم اقترح أن يجعل من عرب فلسطين البدو والمزارعين، عاملين لديهم بأجر في المستوطنات الأوروبية، على أن يطردوهم من أراضيهم فيما بعد. وعلى هذا النهج، اعتبر هؤلاء الأوروبيون أن عرب فلسطين هم من الجماعات التي يتعين على الأوروبيين طردها من أراضي أجدادها، لمصلحة المستوطنين المهاجرين من أوروبا، وتجميعها في مناطق محصورة ومحددة مثلما فعل المستوطنون الأوروبيون عندما حصروا السكان الأصليين في مناطق نائية في أميركا الشمالية. وقام المستوطنون الصهيونيون بفعل الشيء نفسه، وهو عدم الاكتراث بالسكان الأصليين، وخصوصاً عندما بدأوا ينظمون أنفسهم في أوروبا على شكل مجموعات بهدف التوجه إلى استعمار فلسطين.[30]

ومنذ عشرينيات القرن الماضي، اشترت المنظمة الاستعمارية للحركة الصهيونية الأراضي في بعض المناطق الواقعة بين مدينة حيفا على الساحل وصولاً إلى نهر الأردن، كما أرسلت اليهود إلى هناك لاستعمار هذه الأراضي ومنع عرب فلسطين من الاستمرار في الزراعة ورعي الماشية. وكان هدف الصهيونيين هو امتلاك والسيطرة على المناطق بشكل مترابط ومن دون انقطاع، إذ ظنوا أن القوى الأوروبية ستناقش موضوع تقسيم فلسطين قريباً، ولذلك، كان هدفهم من شراء الأراضي واستعمارها توجيه القوى الأوروبية إلى إعطائهم أوسع قدر ممكن من المناطق والأراضي حين يتم إجراء عملية تقسيم فلسطين. وكجزء من خطتهم الاستعمارية هذه، اشترت المنظمة الاستعمارية للحركة الصهيونية أراضي قرية زرعة في جنوبي قضاء بيسان، وجعلت الصهيونيين المتدينين يستوطنون هذه الأراضي. وكانت هذه الأراضي ضمن الأراضي التي قام السلطان عبد الحميد الثاني بخصخصتها وتملّكها في سنة 1882، لكن بعد ثورة تركيا الفتاة، صادرت حكومة الاتحاد والترقي هذه الأراضي وتملكتها، وبعد حين، صادرتها الحكومة البريطانية بعد احتلالها لفلسطين، ثم باعتها للمزارعين العرب في سنة 1921. وبعد ذلك، قامت نخب العرب الفلسطينية كعائلتَي علامة وكنعان بشراء جزء من هذه الأراضي معاً، حيث فتحوا مزرعة تجريبية لزراعتها بشكل مكثف، لكنهم لم ينجحوا اقتصادياً واضطروا إلى تركها. وحينها اشترى الصهيونيون هذه الأراضي كي يستعمرها اليهود الألمان.[31]

ونظمت منظمة استعمارية وعُمّالية اسمها "حركة العامل الشرقي" ("هبوعيل هامزراحي") هؤلاء المستوطنين الصهيونيين المتدينين الذين استوطنوا قضاء بيسان، وبعد الانتقال من أوروبا والوصول إلى فلسطين، أنشأوا مستعمراتهم بالقرب من مستعمرة كبيرة اسمها "بيتح تكفا"،[32] لكنهم لم يتمكنوا من إيجاد أو امتلاك أي أراضٍ هناك، ولم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم، وهي توسيع مستعمراتهم واستقبال مستوطنين جدد فيها. وفي ظل هذه الظروف، تفاوضت "حركة العامل الشرقي" مع المنظمة الاستعمارية التابعة للحركة الصهيونية، واتفقت معها على أن الجهتين ستبعثان اليهود التابعين لـ "حركة العامل الشرقي" إلى قضاء بيسان، شرط أن توفر المنظمة الصهيونية الحماية لهم من أنشطة العرب المحليين العدائية. وهكذا، أنشأت مجموعة الصهيونيين المتدينين الذين كان معظمهم من ألمانيا، مستعمرة اسمها "طيرة تسفي" في سنة 1937، شرط ضمان الحماية لهم من طرف شرطة الانتداب البريطاني والميليشيات الصهيونية. وقد هاجم السكان العرب في قضاء بيسان هذه المستعمرة عدة مرات، غير أنهم فشلوا في اجتياحها وإخضاعها بسبب الحماية التي وُضعت عليها. وبعد ذلك، أنشأت "حركة العامل الشرقي" والمنظمة الاستعمارية التابعة للحركة الصهيونية والمستوطنين الصهيونيين الألمان مستعمرتَين أُخريين هما "سدي إلياهو" (1939) و"عين هنتسيف" (1946). وتم بناء مستعمرة "سدي إلياهو" على أراضٍ من قريتَي العريضة وعرب الصفا، وأراضٍ تابعة للسكان البدو في خيمة عرب الخنيزير التي اشترتها المنظمة الصهيونية، وأراضٍ في قرية أم عجرة، والتي اشتراها الصندوق القومي اليهودي.[33]

وزعم المستوطنون الصهيونيون أنهم كانوا يريدون "التعايش السلمي" مع العرب في قضاء بيسان، لكنهم، في الحقيقة، اعتبروا العرب معتدين ومتسللين على الأراضي. ورعى المستوطنون المواشي في الأراضي التي كان البدو يزرعونها، الأمر الذي أدى إلى نشوب الصراع بينهم وبين العرب البدو. كما اشتبك المستوطنون الصهيونيون عدة مرات مع منظمات المقاومة المحلية التي اشترك العرب البدو والفلاحون فيها، إذ قامت هذه المنظمات بالنضال المسلح ضد الاستعمار الجاري لفلسطين من طرف بريطانيا والصهيونيين. وفي ظل هذه الظروف، في كانون الأول / ديسمبر 1947، ومباشرة بعد إصدار قرار تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، اقترح يوسف فايتس مدير إدارة الأراضي والتحريج في الصندوق القومي اليهودي، تهجير (transfer) السكان العرب البدو إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن، زاعماً أن البدو كانوا يريدون أن يسكنوا مع عشائرهم القائمة في الضفة الشرقية من نهر الأردن، ولذلك، يمكن تشجيعهم على الانتقال إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن بطريقة طوعية.[34] ويمكن اعتبار هذا الاقتراح جزءاً من خطة التطهير العرقي التي قام بها الصهيونيون في فلسطين كافة.

في 12 أيار / مايو 1948، هجم الجيش الصهيوني على مدينة بيسان واحتلها، وفي الوقت نفسه، عبر الجيش العراقي نهر الأردن وهزم الجيش الصهيوني الذي كان يحاصر قرية كوكب الهواء بعد المعركة، وحرّر هذه القرية في ١٥ أيار / مايو من تلك السنة. إلّا إن الجيش العراقي انسحب من هذه القرية بعد ذلك بطريقة مفاجئة، فاحتلها الجيش الصهيوني مجدداً ودمّرها، كما دمّر في الفترة ذاتها، القرى في قضاء بيسان ما عدا قريتَي الطيبة وكفر مصر، وطرد الفلاحين والبدو العرب من قراهم وخيمهم. وبعد فترة قصيرة من الزمن، عقب احتلال مدينة بيسان، سمح الجيش الصهيوني لسكان هذه المدينة بالبقاء فيها في مقابل تسليم أسلحتهم، لكنه بعد وقت قصير، أمرهم بأن يغادروها، كما طرد السكان المسيحيين إلى مدينة الناصرة، وهجّر السكان المسلمين إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن وسورية، ثم دمّر مدينة بيسان كلها تقريباً، وبنى على أنقاضها مستعمرة جديدة سمّاها "بيت شان".[35]

وأنشأ الصهيونيون المتدينون الذين استعمروا قضاء بيسان أول مستعمرة اسمها "ميحولا" في الضفة الغربية المحتلة بعد حرب 1967 بمساعدة الحكومة الإسرائيلية والمنظمة الصهيونية، وأصبحت هذه المستعمرة قاعدة مستعمرات الصهيونيين المتدينين التي أُنشئت بعد ذلك في أرجاء الضفة الغربية كلها، مترافقة مع إنكار الحقيقة التاريخية وفحواها أن البدو والعرب الآخرين سكنوا في قضاء بيسان لمئات السنين، بل اعتُبروا متسللين على الأراضي، وبالتالي، سُلبوا وحُرموا من أحقيتهم في الأراضي، وطُردوا منها وشُتّتوا وأصبحوا لاجئين في أنحاء العالم كافة. وهنا يبرز السؤال التالي: كيف تعامل السكان العرب البدو في قضاء بيسان مع الاستعمارَين البريطاني والصهيوني قبل تهجيرهم، وخصوصاً في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى التي تنافست في أثنائها الإمبراطوريات، وسنة 1948؟ 

IV - مقاومة العرب البدو في قضاء بيسان

اشتركت العشائر البدوية في قضاء بيسان في الثورة العربية‎ الكبرى التي قادها الشريف حسين بن علي خلال الحرب العالمية الأولى، وبدأت تشارك في النضال العسكري ضد بريطانيا والصهيونيين. وكجزء من هذا النضال، هجمت هذه العشائر على مراكز شرطة الانتداب البريطاني والمستعمرات الصهيونية، ودمّرت السكة الحديدية وخطوط أنابيب النفط هناك.

وشاركت عشيرة الصقر، وهي إحدى أكبر العشائر البدوية في قضاء بيسان، في الثورة العربية‎ الكبرى تحت قيادة أحد شيوخها، الشيخ خلف الكلبي، وبالتالي، بدأ نضالهم ضد حكومة الانتداب البريطاني والصهيونيين في عشرينيات القرن الماضي. وكان الحدث الأكثر شهرة في نضالهم هو التظاهرة التي جرت في سنة 1922، والتي تم تنظيمها عندما زار المندوب السامي البريطاني في فلسطين، هيربرت صموئيل، مدينة بيسان، واشترك فيها نحو 500 فارس من البدو اعتُقل بعضهم جرّاء ذلك، كما شارك مئات من فرسان عشيرة الصقر في هذه التظاهرة أيضاً ورموا الرماح على صموئيل.[36]

واشتركت عشيرة عرب الصقر أيضاً في الثورة العربية في فلسطين (وهي الثورة الكبرى) التي بدأت في سنة 1936، كجزء من النضال ضد الاستعمار والصهيونية. وخلال هذه الثورة، انتقل الشيخ محمد حنفي القسّامي إلى مدينة بيسان حيث أنشأ منظمة عسكرية، وكان أحد تابعي الشيخ عز الدين القسّام، وقائد المقاومة العسكرية الإسلامية. واشترك شيخ عشيرة عرب الصقر، حسين علي ذياب الزبيدي، في هذه المنظمة العسكرية بسبب صداقته الشخصية مع الشيخ محمد حنفي القسّامي. وفي سنة 1936، شارك الزبيدي وعشيرته في المعركة ضد الجيش البريطاني في وادي الملح، كما شارك في الهجوم على كل من: مركز شرطة بيسان بهدف إطلاق سراح الأسرى في أيار / مايو؛ أفراد الشرطة البريطانية في قرية الساخنة؛ قوات الحدود البريطانية والجيش في موقع تل الشوك في حزيران / يونيو؛ دورية بريطانية على طريق بيسان – مستعمرة "بيت هعرفاه" الصهيونية؛ مركز شرطة المستعمرة الصهيونية "طيرة تسفي" في تموز/يوليو؛ وشارك في معركة قرية دنّة والمعركة مع قوات الحدود البريطانية في آب / أغسطس من السنة ذاتها.[37] بعد ذلك، وحتى سنة 1938 على الأقل، استمر فصيل القسّامي وعشيرة عرب الصقر في التعاون فيما بينهما، وواصلا شنّ الهجمات من مقرّهما في قرية كوكب الهواء التي كانت تُعدّ أكبر قرية في قضاء بيسان، على الجيش وقوات الحدود ومراكز الشرطة والمكاتب الحكومية التابعة جميعها للانتداب البريطاني، علاوة على الهجمات التي شنّاها على محطات القطار والسكة الحديدية والجسور وخطوط أنابيب النفط وخطوط الهاتف. وشارك الشيخ نمر العرسان في النضال العسكري ضد البريطانيين والصهيونيين أيضاً، كما اشترك في الدفاع عن مدينة بيسان ونواحيها، لكنه طُرد من فلسطين في سنة 1948، فانتقل إلى دمشق حيث توفي في سنة 1962. ومواجهةً لهذا النضال من طرف عرب فلسطين، حشدت حكومة الانتداب البريطاني جيشاً للانتقام من عرب فلسطين، من خلال إجراء حملة من الاعتقالات، والتعذيب، وتدمير البيوت، وحرق القرى والخيم. وأرسل الجيش البريطاني أيضاً طائرات مقاتلة عمدت إلى حرق الخيم التابعة لعشيرة عرب الصقر، عبر صبّ الوقود عليها من الجو. واستشهد 32 من أفراد عشيرة عرب الصقر خلال المعارك مع الجيش البريطاني وقوات الحدود، ومن ضمن هؤلاء الشهداء حسين علي ذياب الزبيدي الذي كان قائد فصيلة المقاومة العسكرية، وعبد العزيز درويش الذي استلم القيادة بعد استشهاد الزبيدي.[38]

وعلى غرار عشيرة عرب الصقر، شاركت عشيرة عرب الغزاوية في الثورة العربية‎ الكبرى، إذ أرسلت 900 من فرسانها إلى جيش فيصل بن الحسين، شكلوا رافداً مهماً للجيش الفيصلي الشمالي. وكان هناك حدث مهم شارك فيه عرب الغزاوية، وهو مؤتمر "قُم" ناقشوا فيه عملية هجوم على البريطانيين والصهيونيين. وفي 5 نيسان / أبريل 1920، حضر أمير عرب الغزاوية، الأمير بشير الغزاوي (1855 - 1945)، المؤتمرَ الوطني لأهالي لواء عجلون، والذي عُقد في قرية "قُم" قرب مدينة إربد في شرق الأردن، استجابة لدعوة الشيخ ناجي باشا العزام، وذلك في إثر عدم التزام بريطانيا بوعودها بأن تمنع هجرة اليهود إلى فلسطين وبيع الأراضي لهم فيها. ومن نتائج هذا المؤتمر تشكيل قوات شعبية من عشائر الشمال الأردني، والقرار بأن هذه القوات ستستمر في الدفاع عن فلسطين كي توقف توسّع الحركة الصهيونية فيها. وتحديداً، قرروا الهجوم على معسكرات الجيش البريطاني والمستعمرات الصهيونية في قرية سمخ وتل الثعالب وقضاء بيسان ونواحي طبرية. وغضبت حكومة الانتداب البريطانية والصهيونيون من عقد هذا المؤتمر، واعتقلت عدداً من شيوخ الأغوار في مقدمهم الشيخ محمد الزناتي، ونقلتهم إلى سجن بيسان. ورداً على ذلك، شنّ رجال عرب الغزاوية والعشائر الأُخرى هجوماً على السجن حرروا فيه شيوخهم، كما بدأ مشاركو مؤتمر "قُم" وعشائرهم بالهجوم على الجيش البريطاني والمستوطنين الصهيونيين في تل الثعالب في 20 نيسان / أبريل، واشتبكوا معهم. ويبدو أن مؤتمر "قم" والعمليات العسكرية بعده، أصبحا جزءاً من الذاكرة الجماعية لعشيرة عرب الغزاوية، أو بالأحرى جزءاً مهماً من ذاكرتهم عن دورهم ومساهمتهم في الدفاع عن فلسطين.[39]

واستمر الأمير بشير الغزاوي في دعم النضال ضد بريطانيا والصهيونية في فلسطين، وأرسل فرسان عشيرته إلى القدس ليساعدوا العرب في مقاومتهم خلال الاشتباكات التي جرت بعد ثورة البراق في آب / أغسطس 1929. وقاوم الغزاوي أيضاً محاولات بريطانيا ضمّ غور الأربعين في الضفة الشرقية من نهر الأردن إلى الانتداب في فلسطين، بهدف إعطاء الصهيونيين هذا الغور، كما ساهم في الدفاع عنه من الاستعمار على يد الحركة الصهيونية. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1929، أخبر الغزاوي قادة الثورة عن إرادته القومية للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني ضد بريطانيا، وشارك في نيسان / أبريل 1930، في اجتماع مع الملك عبد الله الأول، وطلب منه التوسط لدى بريطانيا من أجل إنقاذ المجاهدين من حكم الإعدام.[40]

وُلد بشير الغزاوي في قرية المشارع التي تقع في الجزء الشمالي من الضفة الشرقية من نهر الأردن، وانتقل إلى مدينة بيسان في عشرينيات القرن الماضي، وقدّم شهادته أمام لجنة التحقيق الدولية في سنة 1929، والتي كشفت (الشهادة) أن عشيرة عرب الغزاوية شاركت في النضال ضد بريطانيا والصهيونيين، ليس بسبب مشاعرهم القومية فحسب، بل أيضاً بسبب الصعوبات الاقتصادية جرّاء استعمار البريطانيين والصهيونيين لفلسطين. وقد تضمنت شهادته التالي: 

عشيرتي (عشيرة عرب الغزاوية) الشخصية تتألف من ست مئة بيت شعر وعدد أنفسها حوالي الخمسة والستة آلاف نسمة، وهناك عشائر أُخرى تحت إمرتي في فلسطين وشرق الأردن يزيد عددها عن مئة ألف نسمة. وفي أثناء الحرب، وبناء على مخابرة بيني وبين الأمير فيصل، أرسلتُ له 100 فارس إلى معسكره، ثم جاء الإنجليز بعكس ما نتمنى وجرّدونا من أسلحتنا، وأقفلوا البنك الزراعي الذي كنا نستلف منه نقوداً عند الحاجة، وأحضروا لنا اليهود، ولا نقدر أن نعيش معهم لكثرة الدعاوى الزورية التي يقيمونها على مَن لا يبيعهم الأراضي من المجاورين.[41] 

مثلما رأينا أعلاه، فإن عشيرتَي عرب الصقر وعرب الغزاوية اللتين كانتا عشيرتين بدويتين رئيسيتين في قضاء بيسان، شاركتا خلال الحرب العالمية الأولى في الأنشطة السياسية والعمليات العسكرية التي قادها الشريف حسين بن علي بهدف إقامة دولة عربية مستقلة في بلاد الشام. وبعد الحرب العالمية الأولى، شاركت هاتان العشيرتان بشكل استباقي في النضال الذي قام به العرب في ضفتَي نهر الأردن ضد بريطانيا والصهيونية، وشملت دوافعهما خليطاً من: الصداقة بين القادة؛ العصبية داخل العشيرة نفسها أو بين العشائر؛ التضامن الإسلامي؛ الهوية القومية؛ الصراع على الأراضي ومصادر المياه؛ الصعوبات الاقتصادية نتيجة الاستعمار والرأسمالية. وأدت هذه الدوافع، فضلاً عن قدرات الشيوخ وشهرتهم، دوراً مهماً في تحديد سلوكيات العشائر البدوية وإجراءاتها. 

V - الخاتمة

دائماً ما كانت العلاقات بين العرب والصهيونيين في فلسطين منذ القرن التاسع عشر، والعلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل بعد سنة 1948، علاقات استعمارية استيطانية يقوم فيها المستوطنون، الصهيونيون وإسرائيل في هذه الحالة، بتدمير مجتمع السكان الأصليين، العرب والفلسطينيين في هذه الحالة، وبحرمانهم من أصليتهم، علاوة على حرمانهم من أراضيهم من أجل سلب هذه الأصلية والأراضي منهم وجعلها ملكاً لأنفسهم. ولذلك، نرى ازدياداً في عدد الأبحاث والدراسات الفلسطينية الأخيرة التي تَستخدم مرة أُخرى، وعلى غرار الماضي، فكرة الاستعمار ونظريته لتفسير عنف الصهيونيين وإسرائيل ضد العرب والفلسطينيين. وبناء على هذا التطور، تطرقت هذه الدراسة إلى معنى فكرة الاستعمار الاستيطاني وخصائصه، كما عرضت أصوات الباحثين والناشطين الذين أشاروا إلى الجوانب السلبية لهذه الفكرة وهي: أولاً، مع انتشار فكرة الاستعمار الاستيطاني وإطاره، وتسييس طرق إنتاج المعرفة، هناك ميل إلى تهميش أبحاث السكان الأصليين كالفلسطينيين مثلاً؛ ثانياً، الأبحاث التي تتم بناء على الاهتمام بالاستعمار الاستيطاني، هي نفسها الأبحاث التي تُظهر المستعمِرين كعضو فاعل وتركّز على منظورهم الخاص، بينما تجعل من المستعمَرين، كالفلسطينيين مثلاً، عضواً غير فاعل ومهمّشاً. وقد أخذت هذه الدراسة تلك الجوانب السلبية في عين الاعتبار، وأولت تركيزاً واهتماماً خاصاً بالعرب البدو الفلسطينيين الذين عاشوا في قضاء بيسان في شمال فلسطين لفترة طويلة، وتطرقت إلى تجاربهم ومواجهاتهم للاستعمارَين البريطاني والصهيوني وكيف تعاملوا معهما.

وفي الواقع، لم يتعرض العرب البدو للهجرة والاستعمار من طرف الحركة الصهيونية فحسب، بل تعرضوا أيضاً لتغييرات سياسية واقتصادية تتجاوزهما حجماً، واضطروا إلى التعامل مع بعض المشكلات التي نتجت من هذه التغييرات. ومن هذه التغييرات والمشكلات: تعزيز تدخّل الدول الإمبريالية؛ زيادة الحاجة إلى التفاوض مع هذه الدول؛ تغييرات في نظام الأراضي التي نتجت من الرأسمالية؛ التغلغل البريطاني في الإقليم؛ قمع حركات الاستقلال العربية من طرف بريطانيا؛ الاستعمار من طرف المسيحيين الأوروبيين مثل منظمة فرسان الهيكل؛ استعمار الحركة الصهيونية لقضاء بيسان. باختصار، تعايش عرب قضاء بيسان مع استعمار الحركة الصهيونية على أنه جزء من "وقع التأثير الغربي"، ولهذا بالنسبة إلى العرب البدو في هذا القضاء، فإن مجموعة من العناصر شكّلت الدوافع التي دفعت البدو إلى المشاركة في النضال ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني، وهي: علاقة الصداقة بين القادة؛ العصبية داخل العشائر؛ العصبية الدينية الإسلامية؛ العصبية القومية العربية؛ الصراع المحلي على استخدام الأراضي وملكيتها؛ الصعوبات الاقتصادية التي ترافقت مع هذا كله.

"البدوي" كلمة أو فكرة تشيران إلى الأفراد الذين يتنقلون ويترحلون من مكان إلى آخر من أجل رعي الماشية في البرية، لكنهما لا تشيران إلى عنصر أو قوم محددَين. وهناك في كل عشيرة بدوية وبين العشائر خليط معقد من المصالح الشخصية والمصالح العشائرية والعلاقات الشخصية، ولذلك، من الضروري أن نجري دراسات أبحاث مقارنة للاستعمار الاستيطاني، ونتعمق في الأبحاث عن كل عشيرة على حدة، وعن العلاقات ما بين العشائر، ذلك بأن هذه الأبحاث ستساهم في تطوير وتكثيف التأريخ والتحليل السياسي لفلسطين.

 

المصادر:

[1]Patrick Wolfe, “Settler Colonialism and the Elimination of the Native”, Journal of Genocide Research, vol. 8, no. 4 (December 2006), p. 389; Patrick Wolfe, “Recupering Binarism: A Heretical Introduction”, Settler Colonial Studies, vol. 3, no. 3-4 (November 2013), p. 270.

[2]Mark Levine and Gershon Shafir, Struggle and Survival in Palestine/Israel (California: University of California Press, 2012).

[3]Yossi Katz, The Religious Kibbutz Movement in the Land of Israel 1930-1948 (Ramat Gan and Jerusalem: Bar-Ilan University Press and The Magnes Press of the Hebrew University, 1999).

[4]Jürgen Osterhammel, Colonialism: A Theoretical Overview (Princeton: Markus Wiener Publishers, 2005), pp. 16-17.

[5] Ibid., pp. 7-8.

[6]Lorenzo Veracini, Settler Colonialism: A Theoretical Overview (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2010).

[7]Walid Salem, “Jerusalem: Reconsidering the Settler-Colonial Analysis”, Palestine - Israel Journal of Politics, Economics, and Culture, vol. 21, no. 4 (2016).

وانظر أيضاً:

Brenna Bhandar and Rafeef Ziadah, “Acts and Omissions: Framing Settler Colonialism in Palestine Studies”, Jadaliyya (2016).

وانظر أيضاً:

ميوكي كينجو، "خلفية ’الصراع الوطني‘ في فلسطين تحت الانتداب البريطاني: دراسة نظرية للانتقادات ضد الصهيونية"، "مجلة الدراسات اليهودية والإسرائيلية" (باليابانية)، العدد 32 (2018)، ص 60 - 72.

[8]Bhandar and Ziadeh, op. cit.; Rana Barakat, “Writing/righting Palestine Studies: Settler Colonialism, Indigenous Sovereignty and Resisting the Ghost(s) of History”, Settler Colonial Studies, vol. 8, no. 3 (2018), pp. 349-363.

[9] تايزو إمانو، "الجدل بشأن مسألة المستعمرات وعملية أوسلو: لماذا استمر توسّع المستعمرات على الرغم من عمليات مفاوضات السلام؟" (باليابانية)، "حوليات رابطة اليابان لدراسات الشرق الأوسط"، المجلد 32، العدد 2 (2016)، ص 97 - 120.

[10]Seraje Assi, The History and Politics of the Bedouin: Reimagining Nomadism in Modern Palestine (Abingdon: Routledge, 2018).

[11] مصطفى مراد الدباغ، "بلادنا فلسطين، الجزء السادس، القسم الثاني، في ديار الجليل - جند الأردن (١)"، (بيروت: دار الطليعة، 1965)، ص 451 - 455؛ سانيكي ناكاوكا، "تاريخ العرب الحديث: مجتمع واقتصاد" (باليابانية)، (طوكيو: مكتبة إوانامي، 1991)، ص 115.

[12] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 473 - 475.

[13] خليل طوطح، "جغرافية فلسطين" (القدس: مطبعة بيت المقدس، 1923)، ص 153 - 155؛ الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 479.

[14] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 449-452.

[15] طوطح، مصدر سبق ذكره.

[16]Naim Stifan Ateek, A Palestinian Theology of Liberation (New York: Orbis Books, Maryknoll, 2017).

[17] الدباغ، مصدر سبق ذكره؛ جميل عرفات، "يا جذور الوطن، الغزاوية"، "الاتحاد" (فلسطين)، 24 / 4 / 1997، ص 13، في أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية الإلكتروني، في الرابط الإلكتروني.

[18] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 188 - 189.

[19] "عرب الصقر الطائية"، موقع "الحكواتي"، في الرابط الإلكتروني.

[20] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 188، 491 – 492؛ عرفات، مصدر سبق ذكره.

[21] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 188 - 189، 498.

[22] Alexander Schölch, Palestine in Transformation, 1856-1882: Studies in Social, Economic and Political Development (Washington D.C.: Institute for Palestine Studies, 1993).

[23] "عرب الصقر الطائية"، مصدر سبق ذكره.

[24]Eugene Rogan. The Arabs: A History (New York: Basic Books, 2009).

[25] محمد المناصير، "الأمير الشيخ بشير الغزاوي (1855 - 1945)"، موقع "عمّون"، 10 / 4 / 2014، في الرابط الإلكتروني.

 

[26] Schölch, op. cit., pp. 199-202.

[27] Ibid., pp. 202-207.

[28] Ibid., p. 70.

[29] Katz, op. cit., pp. 112-114.

[30] Schölch, op. cit., pp. 70-75; Katz, op. cit., p. 113.

[31] Katz, op. cit., pp. 78-80.

[32] إمانو، مصدر سبق ذكره.

[33] Katz, op. cit., pp. 111-144.

[34]Benny Morris. The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), p. 64.

[35] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 466، 488، 524.

وانظر أيضاً:

Morris, op. cit.

[36] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 460؛ "عرب الصقر الطائية"، مصدر سبق ذكره؛ جميل عرفات، "يا جذور الوطن: عرب الصقر"، "الاتحاد" (فلسطين)، 19 / 6 /1997، ص 13، في أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية الإلكتروني، في الرابط الإلكتروني.

[37] عرفات، "يا جذور الوطن، عرب الصقر"، مصدر سبق ذكره.

[38] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 498؛ عرفات، "يا جذور الوطن، عرب الصقر"، مصدر سبق ذكره.

[39] "الأردنيون يحيون ذكرى شهداء تل الثعالب"، موقع "خبّرني"، 6 / 4 / 2009، في الرابط الإلكتروني.

[40] المناصير، مصدر سبق ذكره.

[41] عرفات، "يا جذور الوطن، الغزاوية"، مصدر سبق ذكره.

السيرة الشخصية: 

تايزو إمانو: بروفسور وباحث أكاديمي في جامعة تشوكيو في مدينة ناغويا، اليابان.