تتطرق هذه الدراسة إلى محاور تاريخية ونضالية لعرب النقب وقضاء بئر السبع منذ سنة 1900، مروراً بالفترة العثمانية والبريطانية وفترة ما بعد النكبة ومخططات برافر التهجيرية. وتعتمد الدراسة على كتاب "بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال"، الصادر بالإنجليزية عن جامعة كولومبيا،* والذي ترجمه لاحقاً مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في الرياض، في سنة 2020. واعتمدت هذه الدراسة أيضاً على مواد أرشيفية من إستانبول والقدس ولندن وأكسفورد، وعلى مقابلات شفوية في قضاء بئر السبع وبعض مخيمات اللاجئين السبعاويين في الأردن وفي بريطانيا.
ويتناول الجزء الأول من الدراسة بناء مدينة بئر السبع العثمانية والصراع على الأراضي وملكيتها والنضال ضد الكولونيالية البريطانية، والنكبة وتهجير أغلبية أهل قضاء بئر السبع إلى غزة والخليل والأردن وسيناء. أمّا الجزء الأخير فيعالج فترة الحكم العسكري في النقب ومخططات التوطين القسري، مروراً بحقبة برافر والنضال المستمر من أجل ملكية الأراضي والاعتراف بالقرى النقباوية في الجنوب.
*Mansour Nasasra, The Naqab Bedouins: A Century of Politics and Resistance (New York: Columbia University Press, 2017).
جغرافيا الجنوب الفلسطيني والخريطة الجيوسياسية
وقعت فلسطين تحت سيطرة الدولة العثمانية في سنة 1517، ثم احتلها المستعمر البريطاني في سنة 1917. وفي القرن التاسع عشر وما قبله، كان جنوب فلسطين يُعْرف ببلاد غزة، وكان يديره بصورة مباشرة متصرف القدس.
يذكر مصطفى الدبّاغ في موسوعته "بلادنا فلسطين" أن مساحة قضاء بئر السبع كانت تُقدّر بـ 12,577,000 دونم (الدباغ 1965). وقد امتدت مساحته من قرية الفالوجا شمالاً وغزة غرباً والخليل شرقاً، إلى أم الرشراش (أم المُرشَّش) على خليج العقبة جنوباً، أي ما يُقدّر بنصف مساحة فلسطين التاريخية.
وقطنت بأرض قضاء بئر السبع والنقب التاريخي منذ عدة عقود 95 عشيرة بدوية مقسّمة إلى قبائل متنوعة ما زال جزء منها يعيش في النقب حتى يومنا هذا. ويعود أحد الأدلة الأرشيفية على انتشار العشائر البدوية الفلسطينية في الجنوب الفلسطيني منذ زمن بعيد، إلى القرن السابع عشر حين أرسل الإنجليز بعثة "صندوق استكشاف فلسطين" بهدف جمع المواد عن تاريخ فلسطين وجغرافيتها. وبعد عمل دام أعواماً، أصدرت البعثة 26 خريطة مفصلة لفلسطين، من ضمنها خريطة لبئر السبع والنقب تبيّن أسماء العشائر البدوية وأماكن انتشارها بالتفصيل في سنة 1870 (Julian Edward George Personal Archive). ولاحقاً، في سنة 1913، صدرت خريطة الجنرال نيوكومب (Stewart Francis Newcombe) التي تُظهر توزيع العشائر في قضاء بئر السبع وملكية الأراضي والحدود المتعارف عليها تاريخياً بين العشائر، والتي لا تزال تُستخدم في النقب وغزة والأردن حتى اليوم للتعرف إلى الحدود بين العشائر (النصاصرة 2020).
تُبرز وثائق أرشيف صندوق استكشاف فلسطين في لندن صوراً تاريخية لقرى في النقب تعجّ بالحياة، مثل: قرية تل الملح، وتل كسيفة، ووادي الحسي، وزمارة، وعرعرة، والشريعة، وأبو جابر، وغيرها، حتى إن الروايات الشفوية وكتب الرحّالة تشير إلى وجود عشائري في قضاء بئر السبع منذ القرن الخامس للميلاد. وقد اكتُشفت مؤخراً، في سنة 2023، آثار المساجد الأموية والعباسية في قضاء بئر السبع (على مشارف مدينة رهط)، الأمر الذي أكد وجود حياة زراعية وتجارية مرتبطة بغزة والخليل ومعان والعقبة في هذه المنطقة منذ الفترة الأموية التي كانت بئر السبع فيها المركز الإداري للقائد الإسلامي عمرو بن العاص. وكان تعداد سكان قضاء السبع قد بلغ في نهاية الفترة العثمانية 55,000 نسمة، وفي أواخر عهد الانتداب البريطاني لفلسطين 95,000 نسمة.
خريطة جنوب فلسطين في الحقبة الاستعمارية البريطانية.
المصدر: من إنتاج المؤلف، 2024. وحقوق الطبع والنشر تعود له، ولا يُسمح بنشر الخريطة أو استعمالها لأي غرض آخر إلّا بإذنه.
كانت أهمية النقب وبئر السبع استراتيجية وتاريخية، نظراً إلى موقعهما المهم. فعلى سبيل المثال، ذكر حاكم سيناء البريطاني، الميجر كلود جارفيس (Major Claude Scudamore Jarvis)، في سنة 1930، أن القبائل العربية في جنوب فلسطين قطنت بالنقب التي تُعدّ أحد أهم الأماكن الاستراتيجية والطرق التجارية في الشرق الأوسط، ذلك بأنها تحدّ البحر الأحمر ومصر وسورية وإمارة شرق الأردن، إلى آسيا وأفريقيا. فبئر السبع، المدينة الإسلامية الفلسطينية التاريخية العريقة، تقع عند ملتقى عدة طرق تجارية منها طريق العقبة - غزة، وطريق الخليل – العقبة، وعلى محور رئيسي يربطها بغزة ومجدل عسقلان والفالوجا والقدس، وحتى مدينة معان في البادية الجنوبية للأردن. كما أن النقب وبئر السبع يمتلكان تاريخاً حافلاً، وفيهما أماكن أثرية وتلال تاريخية عديدة على مدى عصور قديمة، منها: الخلصة؛ الرحيبة؛ تل الملح؛ تل ووادي الحسي؛ تل الفارعة؛ عسلوج؛ عوجا الحفير؛ سبيطة؛ عبدة؛ كرنب؛ تل أبو جابر، تل الشريعة؛ مشاش الملح؛ تل أبو محفوظ؛ تل المليحة؛ تل أبو جابر؛ عوجا الحفير، وغيرها (PRO, FO 371/61868).
تخطيط مدينة بئر السبع البوابة الجنوبية لفلسطين
في الفترة العثمانية، قُسّمت فلسطين إلى عدة ولايات وسناجق. وذكرت وثائق عثمانية أن منطقة جنوب فلسطين لم تحظَ باهتمام كبير من السلطة المركزية في إستانبول، إلّا بعد أن أُعيد بناء بئر السبع الحديثة في سنة 1900، والتي أصبحت المركز الإداري الجديد للنقب، وذلك بعد أن جرى فصلها عن مدينة غزة (PRO, FO 371/61868). وهذا ما أكدته أيضاً الباحثة التركية ياسمين أفتشي بعد أن اطّلعت على وثائق باللغة العثمانية في أرشيفات إستانبول التي تدل على ازدياد أهمية جنوب فلسطين الاستراتيجية بعد إعادة بناء بئر السبع (Avci 2009). ويبدو أن اهتمام العثمانيين ببئر السبع كان له دوافع سياسية واستراتيجية متعددة، أهمها تعزيز الوجود التركي في جنوب فلسطين، ومحاولة السيطرة على العشائر البدوية التي لم تُعِر الحكمَ المركزي في إستانبول أي اهتمام (PRO, FO 195/2106).
انتهج الأتراك سياسة مشابهة لتلك التي اتّبعوها في شرق الأردن وسيناء الآهلتَين بالقبائل البدوية من أجل بسط سيطرتهم على المناطق الحدودية. فقد قاموا ببناء عدة محطات شرطة (جندرمة) في الصحراء، مثلما كانت عليه الحال بعد بناء محطة شرطة وادي مليح – أبو سمارة (قلعة فطيس) في الجهير في سنة 1894، التي بناها رستم باشا على أراضي قرية أبو سمارة، والتي ضمت مخفراً للبوليس التركي ومركزاً إدارياً مهماً للسيطرة على تحركات العشائر (النصاصرة 2020). إلّا إن إقامة محطات البوليس تلك لم تنجح في بسط السيطرة على القبائل المهيمنة على الصحراء في جنوب فلسطين، والتي تصدّت لأي خطر خارجي، ولأي محاولة للسيطرة عليها بالقوة.
إذاً، لم يتمكن العثمانيون من فرض سيطرة شبه فعلية على القبائل، إلّا بعد إعادة بناء بئر السبع في سنة 1900، وإقدام الحكومة العثمانية على شراء 2000 دونم من عشيرة العزازمة وزعيمها حسن الملطعة، الأمر الذي يشير بحد ذاته إلى ملكية قبائل العزازمة لهذه المنطقة، وهو ما أكده اللورد أكسفورد (جوليان أسكويث)، حاكم قضاء بئر السبع في سنة 1943، من أن أرض مدينة بئر السبع كانت ملكاً للعزازمة (مقابلة أجراها الكاتب في بريطانيا في سنة 2009 مع اللورد أكسفورد، حاكم بئر السبع في سنة 1943).
وبنى مدينة بئر السبع وخططها معماريون أجانب وعرب فلسطينيون كان أبرزهم سعيد أفندي النشاشيبي وراغب أفندي النشاشيبي. ومثلما جاء في خرائط أرشيفية عثمانية، فإن المرحلة الأولى، بعد وضع حجر الأساس، تمثلت في إنشاء مباني الحكومة (السرايا) التي ضمّت في البداية مدرستين لأبناء البدو، ومحكمة للعشائر، ومحكمة شرعية، ومركزاً للبريد، ومكتباً للقائمقام، ومركزاً للشرطة، ومكاتب لعمال البلدية (PRO, WO 303/496).
أمّا في المرحلة الثانية (1904 - 1906)، فبُني مسجد بئر السبع الكبير عبر تبرّعات سخية من أبناء العشائر، ثم تلاه مسجد آخر حمل اسم "مسجد بسيسو" في شارع غزة. وأتى آصف بيك الدمشقي (قائمقام بئر السبع خلال الفترة 1904 - 1906) بحجارة لمئذنة المسجد من خربة قرية الخلصة، ثم شُيدت مدرسة ذات طبقتين للطلاب البدو، ومدرسة أُخرى صناعية. وفي فترة آصف بيك الدمشقي، أرسل بعض أهل البادية وبئر السبع أبناءهم لتلقّي الدراسة في مدرسة العشائر في إستانبول، وبُنيت فيما بعد مدرسة زراعية تستوعب 30 من أبناء بئر السبع. وفضلاً عن تلك الأبنية، جرى بناء السوق البدوية، والمطحنة، وعدة محالّ تجارية، وذلك لتشجيع أهل قضاء بئر السبع على الاستفادة من خدمات المدينة (Abu Rabia 2001; Nasasra 2017a). ومثلما أشارت التقارير الأرشيفية العثمانية في تلك الفترة، فإن بعض أبناء بئر السبع درس في مدرسة السلطان عبد الحميد في إستانبول (Başbakanlık Ottoman Archives/BOA: DH.SFR.391/92)، إذ تشير الأرشيفات إلى أن بعض طلبة بئر السبع أكمل دراسته العليا في الكلية العربية في القدس، وفي جامعة دمشق، وفي الجامعة الأميركية في بيروت (Nasasra & Stanley 2024).
صورة لبئر السبع العثمانية، ويظهر فيها: مبنى السرايا؛ حدائق البرتقال؛ المدرسة الزراعية؛ المدرسة الأميرية.
المصدر:American Colony Photo Department, John D Whiting, Lewis Larsson, and G. Eric Matson, photographers [Between 1914 and 1917]. Retrieved from the Library of Congress.
وصدرت أيضاً وطُبعت في مدينة بئر السبع، صحيفة محلية باللغتين التركية والعربية باسم "الصحراء المصورة". ومن خلال مراجعة الصحيفة في أرشيفات إستانبول، وجدنا فيها مقالة نُشرت في سنة 1916، وتصف المدينة بعد تأسيسها، بأنها مدينة عصرية تفوق الخيال:
فمدينة بئر السبع تشبة البلاد الراقية بترتيب هندستها بأبنيتها وشوارعها. أول ما ينظر الداخل إلى بير السبع يرى الخضرة والنظافة؛ حديقة في وسطها مصايف... الأبنية والمصانع والمطاحن البخارية بفضل توليد الكهرباء... فيها الأبنية والدوائر الحكومية والعسكرية والملكية والمستشفيات وعموم المعامل. فيها المدارس ومطبعة وحمامات وسينما وجنائن متعددة داخل البلدة للنزهة وبساتين خارجها. اليوم ينشأ فيها ترامواي حديدي يشق البلد من أولها إلى آخرها مروراً بشارع جمال باشا، وممتداً إلى محطة سكة الحديد. أنشأ فيها جمال باشا الآبار الكثيرة وبرك المياة المتعددة، وكل ذلك على أحدث طرز وفن. بنى فيها دور الحكومات المحلية ومساكن عمومية إلى العربان والبدو وأسكنهم فيها وهو يجري عليهم الرزاق (الصحراء المصورة 1916).
في سنة 1915، وفي إبّان الحرب العالمية الأولى، بنى الأتراك مع حلفائهم الألمان سككاً حديدية تربطهم ببئر السبع وعوجا الحَفير لمحاولة احتلال مصر. ووصل أول قطار إلى بئر السبع في نهاية تشرين الأول / أكتوبر 1915، يتقدّمه جمال باشا، ثم أُنشىء لاحقاً مزيد من سكك الحديد لتصل إلى غزة وسيناء.
بلغ عدد سكان مدينة بئر السبع في سنة 1914 ما يربو على 1000 نسمة، وتجاوز عدد منازلها الـ 200 منزل، علاوة على ما يقارب الـ 50 منشأة تجارية (Avci 2009). وقد شغل عرب بئر السبع مراكز ووظائف إدارية ومركزية مهمة، كإدارة محكمة بئر السبع، ويُذْكَر أن الشيخ حمّاد الصوفي أدى دوراً مهماً في إدارة بلدية بئر السبع بعد أن انتُخب رئيساً لها في سنة 1913، وأنه نال لقب "باشا" من الحكومة العثمانية لدوره البارز في جنوب فلسطين (PRO, FO 195/2452/1153).
مسجد بئر السبع، تصوير المؤلف، 2024.
محطة قطار بئر السبع، تصوير المؤلف، 2024.
الجنوب الفلسطيني في الحقبة الاستعمارية: غزة وبئر السبع في مواجهة بريطانيا
يبدو أن أحد مطامع الإنجليز في إبّان الحرب العالمية الأولى كان احتلال معقل العثمانيين العسكري الواقع في بئر السبع، والذي كان في سنة 1916، الحصن الحصين للجيش العثماني في جنوب فلسطين.
بدأت ضربات الجيش الإنجليزي تُوجّه إلى الجيوش العثمانية المتمركزة في الجنوب، واستطاع بدايةً احتلال رفح، لكنه توقف عند أبواب غزة. آنذاك، عُين الجنرال إدموند أللنبي للإشراف على الجيوش البريطانية من أجل محاولة احتلال غزة، ثم بئر السبع، إلّا إن العثمانيين تمكنوا من صد ضربات الإنجليز الموجَّهة إلى غزة في ربيع سنة 1917، وبذلك فشل الإنجليز في احتلالها في المرتين الأولى والثانية بعد وقوع كثير من القتلى في صفوف الجيشين العثماني والبريطاني (GB99, KCLMA Allenby 4/3). وخسر الإنجليز وحلفاؤهم في معركة غزة الأولى 4000 جندي، وفي المعركة الثانية التي كانت أعنف، سقط 7000 جندي، لكنهم على الرغم من هذه الخسائر الفادحة، نجحوا في إحراز بعض التقدم في خطّ بئر السبع - الشريعة. وتذكر قُصاصة صحافية وُجدت بين "أوراق أللنبي في أرشيف جامعة كينغز كوليدج - لندن"، أن أللنبي اعترف بقسوة المقاومة التركية ضد الإنجليز وحلفائهم في أثناء محاصرة غزة وبئر السبع وفي مواقع أُخرى في فلسطين. ولم يستطع الإنجليز بقيادة الجنرال أللنبي احتلال غزة إلّا بعد المحاولة الثالثة، وذلك بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة في المعركتين الأولى والثانية (GB99, KCLMA Allenby). وبعد سقوط غزة، باتت الطريق إلى بئر السبع قصيرة، إذ سقطت في يد أللنبي بعد فترة وجيزة.
لقد انتهج الإنجليز تجاه عرب بئر السبع سياسة مغايرة لمَن سبقهم من الأتراك الذين فشلوا في بسط السيطرة على أهل الجنوب، فقد لجأوا (الإنجليز) إلى سياسة جديدة ترمي إلى حكمهم بصورة غير مباشرة، وذلك عبر تقوية مركز مشايخ القبائل ودمج البدو في مختلف أنظمة الدولة، مثل توليتهم مناصب مرموقة في إدارة بلدية بئر السبع. فعلى سبيل المثال، أضحى بعض مشايخ البدو رؤساء أو نواباً في بلدية بئر السبع باعتراف كامل من سلطات الانتداب البريطاني، مثل الحاج علي العطاونة، والشيخ فريح أبو مدين، وحسين أبو كف، وشفيق مشتهى، والشيخ سلامة ابن سعيد. ويُذكر أن تاج الدين شعث (وهو من أصول غزّية) ترأّس بلدية بئر السبع لعشرات الأعوام حتى سنة 1947 (Bell 1983).
وأكد اللورد أكسفورد (حاكم بئر السبع آنذاك) أن البريطانيين كانوا حذرين للغاية في التعامل مع ملكية الأراضي انطلاقاً من إدراك سلطات الانتداب في النقب أن الأرض هي شأن حساس على الدوام. وعن ذلك قال اللورد أكسفورد حين قابلته في جنوب بريطانيا:
لقد اعترفنا بملكية أراضي بدو بئر السبع من دون أن نطلب منهم بشكل رسمي تسجيلها أو دفع ضرائب عالية بسبب ظروفهم الاقتصادية. وكانت أراضي البدو جزءاً من ملكية العشيرة كوحدة ولم تكن ملكاً لأفراد، الأمر الذي سهّل عملية الاعتراف بها، فجميع العشائر كانت تعرف أراضيها بالفِطرة من دون تسجيلها عند الحكومة، مثلما كانت تتطلب قوانين الأراضي العثمانية. ونحن لم نعارض ملكية أراضي البدو، كما أننا لم نجبرهم على تسجيلها في مكاتب الحكومة. فعلى سبيل المثال، كانت ملكية أراضي بئر السبع تعود إلى إحدى عشائر العزازمة، ولذا لم نتصادم مع البدو بشأن الطريقة التي عرفوا بها ممتلكاتهم. ولأن البدو لم يكونوا أثرياء جداً، فقد فضّلنا لأسباب اقتصادية ألّا نطالبهم بدفع ضرائب عالية أحياناً، مع أن بعضهم دفعها (مقابلة مع اللورد أكسفورد، جنوب غرب بريطانيا، 2007).
حاول البريطانيون معالجة المخاوف المتعلقة بملكية الأراضي والضرائب، فعلى سبيل المثال يشير الباحث سلمان أبو ستة، ابن بئر السبع، إلى اجتماع وزير المستعمرات ورئيس حكومة بريطانيا لاحقاً ونستون تشرشل والمندوب السامي هربرت صمويل، بمشايخ السبع في سنة 1921، واعترافهما نيابة عن الحكومة البريطانية بملكية أهل قضاء بئر السبع للأرض بناء على التقاليد والأعراف العشائرية المحلية (أبو ستة 2008)، وهو ما تبيّنه الوثائق الأرشيفية البريطانية أيضاً.
سياسياً في فترة الاستعمار البريطاني لجنوب فلسطين، شارك مشايخ بئر السبع في الحوارات والمناقشات مع البريطانيين بشأن مستقبل فلسطين، وكان للنساء من قضاء بئر السبع دور أيضاً، إذ شاركن في المؤتمر النسائي الفلسطيني الأول في ثلاثينيات القرن العشرين "وهي المرة الأولى التي تشارك فيها النساء العربيات الرجال من هذا اللواء - بئر السبع - في نضالهم" (Fleischmann 2003). وأظهرت هذه المشاركة تفاعلاً نشطاً لبدو بئر السبع في محطات نضالية مهمة شكلت رسالة واضحة تؤكد مشاركة قادة بئر السبع في نضالات الفلسطينيين، وخصوصاً الاحتجاجات التي اندلعت في سنة 1929 ضد الهجرة اليهودية وسياسة حكومة الانتداب البريطاني، فضلاً عن مشاركتهم في العديد من المؤتمرات التي دعت إليها القيادة السياسية الفلسطينية، علماً بأن بدو النقب كانوا ممثلين في اللجنة العربية العليا، والمجلس الإسلامي الأعلى في غزة.
ولا تزال أجيال بدو بئر السبع الأكبر سناً تذكر عيد الصانع (من عشائر الترابين)، وهو أحد أبطال الثوار من منطقة بئر السبع، وعنه يتحدث إدوارد هورن الذي يصف كيف أُرسل المفتش أ. هـ. ليفيس إلى بئر السبع (ربما إلى مكان ما في شرقي بئر السبع) في سنة 1932 كملازم ثانٍ في مهمة ضد مجموعة بدوية متمردة بقيادة عيد الصانع. وقد شرع ليفيس في ملاحقة قائد الثوار لاعتقاله بواسطة قوات البوليس، إلّا إنه لم ينجح في القبض عليه. يقول هورن:
في السادس عشر من تشرين الأول / أكتوبر 1932، وبعد شهر واحد فقط من وصوله، قاد [ليفيس] دورية كانت تحاصر عصابة من العرب على مسافة نصف يوم من بئر السبع، وكان يقودها عيد الصانع الذي كان مطلوباً من الشرطة منذ زمن. وكان هذا عملاً متقناً قاد فيه ليفيس رجاله ببطولة كبيرة، وحاز مجداً كبيراً (Horne 1982, p. 109).
لم تكن هذه هي الحالة الوحيدة التي قاتل فيها بدو بئر السبع ضد البريطانيين في جنوب فلسطين وشكّلوا جماعات متمردة، فقد ذكرت صحيفة "الدفاع" أنشطة البدو ضد حكومة الانتداب خلال الأيام الأولى من الثورة التي شملت تظاهرات سلمية قادها الطلاب في بئر السبع، فضلاً عن اشتباكات بين متمردي البدو والشرطة، وأحد هذه الحوادث كان الهجوم على مركز الشرطة في قرية الجمامة (مستعمرة روحاما) (النصاصرة 2020). وقد أحرز المتمردون في بئر السبع نجاحاً استراتيجياً خلال الثورة الكبرى، لكنه كان محدوداً. ومثلما جاء في تقارير سرّية من الأرشيفات البريطانية، والواردة في شهادات التاريخ الشفوي، فإن المتمردين الفلسطينيين احتلوا بئر السبع في أيلول / سبتمبر 1938. وجاء في إحدى الشهادات أن مشايخ البدو انضموا إلى جماعات المتمردين من الخليل وطولكرم بقيادة أبو منصور الجولاني المقدسي، الملقب بالشلف، في عملية احتلال مدينة بئر السبع. وعلى الرغم من تقليل بعض التقارير دور البدو في هزيمة البريطانيين في هذه المعركة، فإن سي. أي. في. بكستون، حاكم لواء غزة – بئر السبع، أكد دور البدو البارز:
يشعر مشايخ بئر السبع بإجلال كبير للجماعات المتمردة في الخليل التي ضمنت فعلياً انسحاب سيطرة الحكومة البريطانية من كامل منطقتهم في أيلول / سبتمبر الماضي، ونتيجة ذلك اعتقد المشايخ أن من الحكمة أن يعلنوا ولاءهم للمتمردين بشكل لا لبس فيه. تبقى الحقيقة أن 75% من السكان الذكور بالقرب من خط السكة الحديد قاموا بضرب الخط في أيلول / سبتمبر الماضي، منضمين بذلك إلى المتمردين العرب.... إنهم يؤكدون أن السكان سيساعدون المتمردين ضد القوات الحكومية (GB99, KCLMA O’CONNOR 3/4/44).
في تشرين الأول / أكتوبر 1938 نشرت صحيفة "التايمز" اللندنية تعليق المفتش العام السابق جي. بي. سبيسر على احتلال بئر السبع من طرف الجماعات المتمردة من الخليل، والتي أحرقت المباني الحكومية ومراكز الشرطة، وجاء فيه:
قامت مجموعة متمردة تتألف من 300 مسلح بغزو الخليل ليلاً، ثم أكملوا طريقهم إلى بئر السبع حيث ضربوا المباني الحكومية.
ولم تسترجع الكتيبة الثانية البريطانية بئر السبع إلّا في تشرين الثاني / نوفمبر 1938، بعد أن كانت تحت سيطرة المتمردين الفلسطينيين التامة لفترة لم يكن فيها حكم من أي نوع للسلطات البريطانية في بئر السبع، وإنما كانت تحت سيطرة البدو والثوار. وقد استطاع المتمردون الاستيلاء على مكاتب الحكومة وتدميرها والسيطرة على أسلحة الشرطة (GB99, KCLMA O’CONNOR 3/14/53).
يشير غاوين بيل إلى أن المباني الحكومية ضُربت على يد متمردين من الخليل وطولكرم بدعم من العشائر، وأن البريطانيين كانوا يتوقعون أحياناً مساعدة المشايخ المحليين لهم في القبض على أعضاء الجماعات المتمردة بين العشائر (Bell 1983, pp. 116-117). وهكذا سقطت بئر السبع في أيدي الثوار من بئر السبع وقضاء الخليل، وتم تحريرها وطرد الحامية البريطانية منها، بحيث أصبحت مدينة بئر السبع مستقلة لمدة أشهر. وبعد انتهاء الثورة، أعيد بناء محطات البوليس لفرض السيطرة على المدينة التي أدار بلديتها حينها تاج الدين شعث، ثم شفيق مشتهى الذي كان آخر رئيس بلدية لمدينة بئر السبع قبل سقوطها في نكبة 1948.
النكبة وسقوط بئر السبع: الحكم العسكري أداة سيطرة على أهل البلاد
بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل، نزح وهُجّر البدو الفلسطينيون في أغلبيتهم من قضاء بئر السبع، ولم يتبقّ منهم إلّا نسبة لم تتعدَّ 10% من مجمل عدد السكان قبل النكبة، أي ما لا يتعدى 13,000 نسمة من أصل 95,000 في أواخر فترة الانتداب )فلاح 1989)، وتم تهجير معظم أهالي النقب إلى غزة والأردن وسيناء، حتى الخان الأحمر ومسافر يطا. والذين بقوا من عرب النقب وبئر السبع في ديارهم، خضعوا لحكم عسكري إسرائيلي صارم، ثم في نهاية ستينيات القرن الماضي، عاشوا حقبة التوطين القسري وإنشاء القرى.
مثّل سقوط بئر السبع في 21 تشرين الأول / أكتوبر، نكبة بالنسبة إلى المجتمعات العربية في جنوب فلسطين، ويوماً أسود في تاريخهم، وأطلقوا عليه تعبير "كَسْرة بئر السبع"، أي "نكبة بئر السبع" باللهجة البدوية المحلية.
وشهدت قبائل الجبارات التي كانت تسكن منطقة تل أبو جابر على بعد بضعة كيلومترات من الفالوجة، الاشتباكات التي جرت هناك بين الجيش المصري والقوات الصهيونية، وكانت أولى القبائل التي دفعت ثمن الحرب عبر نزوح معظم أفرادها عندما وصلت المعارك إلى قريتهم. ويقول أحد مشايخ الجبارات، وهو الشيخ واصل أبو جابر الذي نجا من الحرب، ويعيش اليوم في مخيم البقعة في الأردن:
كان الوقت في رمضان، وكان أبناء عشيرتي محاصرين، في معظمهم، بسبب الاشتباكات بين الجيشين اليهودي والمصري. ونتيجة ذلك، قُصف بعض المنازل وقُتل أشخاص من عدة عائلات. في اليوم التاسع من رمضان، بعد أن هدأت الحرب، توجّهنا شرقاً إلى الدوايمة، ثم إلى بيت جبرين والقبيبة، ثم إلى أريحا حيث استقررنا مع المئات من أبناء قبيلتي، وحاولنا بناء حياتنا من جديد (مقابلة مع الشيخ واصل أبو جابر، مخيم البقعة، الأردن، نيسان/أبريل 2016).
مخيم البقعة السبعاوي في الأردن، تصوير المؤلف، 2019.
انتهت عملية استيلاء الصهيونيين على النقب بأكمله عندما احتُلّت أُم الرشراش وجرى توقيع الهدنة مع مصر في 10 آذار / مارس 1949 (PRO, FO 371/128154). وفي 18 تشرين الأول / أكتوبر 1948، أرسل 16 شيخاً من شيوخ قبائل البدو الباقين طلباً رسمياً إلى السلطات الجديدة، يطالبون فيه بالبقاء في أراضيهم في النقب وفي قراهم التاريخية. ومن أجل دراسة الطلب، ألّف وزير الدفاع لجنة تكونت من: يوسف فايتس (مدير دائرة الأراضي في الصندوق الدائم لإسرائيل)؛ الجنرال يغآل يادين؛ الجنرال يغآل آلون. وتوصلت اللجنة في 30 تشرين الثاني / نوفمبر، إلى قرارات تناقض مطالب مشايخ البدو، واتفق أعضاؤها على أنه لن يُسمح بالبقاء إلّا لمَن وُصفوا بـ "القبائل البدوية الودودة".
أولئك اللذين بقوا في أراضيهم في النقب بعد الحرب، واجهوا كسائر الفلسطينيين ظروفاً شديدة القسوة، بما فيها الطرد والترحيل. ويقول ساسون بار تسفي، الحاكم العسكري للنقب في الستينيات، إن مدينة بئر السبع كانت خالية من البدو بعد الحرب، فقد رحل معظمهم ولم يبقَ منهم أحد في المدينة:
هُجّر الناس في الحرب، ورحل جزء منهم إلى أماكن أُخرى. وبحلول نهاية الحرب، كانت بئر السبع، المدينة العربية الرئيسية، خالية من سكانها الأصلانيين. لم يبقَ بدو، ولا رجال أعمال من غزّة، ولا أصحاب محالّ تجارية، حتى الطيور رحلت من المدينة. وبعد انتهاء الحرب، بدأ بعض المهاجرين اليهود الجدد يستوطنون في بئر السبع (مقابلة مع ساسون بار تسفي، تموز/يوليو 2007).
وبحسب ما ورد في السجلات الأرشيفية العربية والبريطانية، فإن عرب النقب واجهوا الطرد والترحيل حتى سنة 1959. ففي تقرير صدر في 24 تشرين الثاني / نوفمبر 1949، وموجّه إلى وزارة الخارجية البريطانية، ورد أن بعض عرب النقب، وخصوصاً عشيرة العزازمة، لم يعلنوا الولاء للدولة الجديدة، وأن 700 من أفراد هذه العشيرة طُردوا.
خلال خمسينيات القرن الماضي، وفي ظل حكم عسكري صارم (Lazar 2002)، فَقَدَ العرب البدو معظم أراضيهم التي صادرتها سلطات الحكم العسكري عبر تفعيل قوانين الدفاع البريطانية للطوارىء، وتحديداً المادة 126 المتعلقة بالمناطق الأمنية والمناطق المغلقة. فوفقاً لهذه المادة، أُغلقت هذه المناطق في وجه العرب، ومُنح بعضها للاستيطان اليهودي.
كما استخدمت إسرائيل قانوناً آخر للسيطرة على الأراضي العربية، هو قانون أملاك الغائبين لسنة 1950، والذي سيطرت إسرائيل بموجبه على معظم أراضي البدو. وهذه المناورات القانونية سهّلت مصادرة الأراضي العربية - البدوية، وركّزت البدو في منطقة ما زالت تتقلص داخل المنطقة المغلقة. ولا تزال قضية ملكية الأراضي من دون حل جذري منذ فترة الحكم العسكري حتى يومنا هذا.
تصريح من الحاكم العسكري للخروج من القرية.
المصدر: الأرشيف الشخصي لسليمان العتايقة - قرية أبو سمارة، رهط.
امتدت المنطقة العسكرية التي تم تركيز العرب في النقب فيها، والمسمّاة السياج، على مساحة 1,100,000 دونم تقريباً. ومن ضمن هذه المساحة، كان نحو 400,000 دونم فقط صالحة للزراعة، ونحو 700,000 دونم مناطق رعوية وجبلية (IDFA, 590/1961-60). وكانت الحكومة العسكرية في النقب مسؤولة عن منطقة النقب بالكامل، إلّا إنها حافظت على السيطرة الحثيثة في المناطق الآهلة بالقبائل الـ 19، بينما امتدت مساحة المنطقة المغلقة بين البلدات اليهودية في ديمونة وعراد ومستعمرة شوفال والمدينة المركزية بئر السبع (كانت مدينة بئر السبع خارج منطقة السياج المغلقة).
قُسّمت منطقة السياج إلى منطقتين فرعيتين جرى تركيز العرب أبناء قضاء بئر السبع والنقب فيهما: المنطقة "أ" امتدت من كيبوتس شوفال، بالقرب من البلدة العربية رهط، إلى الأسفل عند الجنوب والشرق للتقاطع مع المنطقة الرئيسية بالقرب من طريق الخليل - بئر السبع؛ المنطقة "ب" امتدت من طريق الخليل - بئر السبع شرقاً، عبر الحدود الأردنية، إلى تل عراد، ثم إلى الجنوب حتى كرنب وتل ييروحام (ISA/ GL 17002/13).
ومن الناحية الإدارية، كان هناك خمس محطات عسكرية (نقاط حكم عسكري) في النقب هي: اللقية؛ تل الملح؛ أم بطين؛ شوفال (وادي سبالة)؛ شقيب السلام. وكان من المفترض أن تخدم هذه المحطات أكثر من 13,500 من بدو النقب، وأن تُيسّر التواصل الرسمي مع القبائل، وأن تكون مكاتبها مفتوحة للعامة للتعامل مع حاجاتهم اليومية. كما وُجدت محكمة عسكرية واحدة تقضي بأحكام سريعة مدعومة من قسم الشرطة العسكرية الذي كان مسؤولاً عن حفظ الأمن والنظام وتطبيق التعليمات وإنفاذ القانون، وكان هناك أيضاً محكمة عشائرية تتعامل بشكل أساسي مع الأمور بحسب العادات والقوانين والأعراف المحلية، وتتألف من سكرتير وتسعة قضاة بدو دورهم هو التعامل مع القضايا التي لا يستطيع القضاء الإسرائيلي حلّها (IDFA, 590/1961-60).
في 1 كانون الثاني / يناير 1966، انتهى الحكم العسكري بعد إغلاق معظم مكاتبه وإحالة مهماته إلى الشرطة وإلى السلطات المدنية، فضلاً عن أن نظام التصاريح لم يعد فاعلاً (Jiryis 1968). وورد في صحيفة "هآرتس" عنوان رئيسي جاء فيه أنه: "تم إلغاء الحكم العسكري ونقل السلطة الرسمية إلى الشرطة التي أصبحت الآن مسؤولة عن التعامل مع التصاريح، وسُمح للعرب بالحصول على تصاريح من أي مركز شرطة قريب."
إن الحيز والحرية هما أهم الجوانب الحياتية التي حُرم منها الفلسطينيون في الداخل، وبمجرد فقدانها أضحت الحياة في البلدات العربية شكلاً جديداً من أشكال السيطرة. ومع إنهاء الحكم العسكري، فَقَدَ بعض الفلسطينيين الأمل بالمطالبة في أراضيهم كونها ستصبح مناطق خاضعة للتخطيط وليس لبناء قرى عربية جديدة، ورفضوا العيش في البلدات المخططة، مفضّلين البقاء على أراضيهم والاحتفاظ بحريتهم. وبلغت توقعات عرب النقب لاسترداد الأراضي مستويات عالية من خيبة الأمل منذ ذلك الوقت حتى اليوم؛ وباشر عرب النقب التحرك نحو أشكال أكثر نجاعة من النضال والصمود، على غرار رفضهم مخططات برافر والحراك الشبابي ضد مخططات التهجير منذ سنة 2013.
واصلت السلطات الإسرائيلية عمليات إعادة توطين وطرد المواطنين العرب في النقب بعد إنهاء الحكم العسكري المفترض، وأوضح مثال لذلك هو قضية أراضي قرية تل الملح التاريخية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين في إثر توقيع معاهدة كامب ديفيد مع مصر في سنة 1979. فالاتفاق كان يعني السلام مع مصر، لكنه لم يعنِ الشيء نفسه للعائلات النقباوية التي جرى تهجيرها قسراً، إذ هُجّرت أغلبية سكان قرية تل الملح التاريخية، ودُفعت إلى الانتقال قسراً إلى البلدات المخطط لها مثل رهط، وكسيفة، وعرعرة، وإلى بلدات خارج النقب مثل قلنسوة والطيبة واللد والرملة وكفر قاسم.
من نكبة إلى نكبة: مخططات برافر التهجيرية والتحديات الراهنة
استمرت المخططات التهجيرية لسلب ما تبقّى من أراضٍ ومصادر اقتصادية في النقب، على الرغم من انتهاء الحكم العسكري الذي فُرض بعد النكبة، كتوصيات وقرارات لجنتَي غولدبيرغ في سنة 2007، وبرافر في سنة 2013، الهادفتَين إلى فرض واقع جديد في النقب وترحيل الآلاف من أبناء القرى غير المعترف بها إلى قرى أنشأتها السلطات الإسرائيلية، من دون وضع حلول جذرية لادعاءات الملكية. فبعد بحث أرشيفي شامل، يتبيّن أن الحكومة عيّنت مثل هذه اللجان منذ أيام الحكم العسكري، إلّا إنها جميعاً فشلت في حل قضايا الأرض الشائكة في النقب، ولذا فإن لجنتَي برافر وغولدبيرغ ما هما إلا محاولة أُخرى لعرض حلول لكن من دون تطبيق فعلي، ولوضع حل جذري لقضية النقب بعد 70 عاماً من المماطلات، لكن على حساب عرب النقب.
سعى عرب النقب لتثبيت ملكيتهم لما يقارب 800,000 دونم من الأرض (وهو ليس سوى جزء صغير من أراضيهم التاريخية) كأراضٍ مسجّلة في سجلات الدولة التي يجب أن تعترف الحكومة بها من دون أي مساومات. غير أن مكاتب التسجيل الحكومية الإسرائيلية لم تُدرج إلّا نحو 200,000 دونم (50,000 فدّان) كأراضٍ يملكها أهل النقب. ومن الجدير بالذكر أن مطالب البدو للأراضي سُجّلت أغلبيتها في السبعينيات (التسوية)، غير أن الحكومة الإسرائيلية لم تتخذ أي إجراءات رسمية للاعتراف بها.
والجدير بالذكر، أنه بعد مداولات كثيرة، أوصت لجنة غولدبيرغ في سنة 2007 بالاعتراف بعدد محدود من قرى النقب غير المعترف بها، وبناء على ذلك، شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة برافر في سنة 2009 (برئاسة إيهود برافر، رئيس دائرة تخطيط السياسات في مكتب رئيس الحكومة)، والتي عرضت تسوية أقل من 27% من ادعاءات الأراضي التي يطالب بها أهل النقب، الأمر الذي رفضه أهل النقب الذين مثّلهم المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها، علاوة على منظمات شعبية محلية، وجمعيات ناشطة، وأحزاب سياسية، وخبراء، ومحامين، ولجان محلية، اعتبروا أن توصيات غولدبيرغ وبرافر ستفضي إلى نكبة جديدة. وكان الرفض الشعبي لخطط برافر وغولدبيرغ واضحاً في الأعوام الأخيرة في أغلبية المداولات والاجتماعات الشعبية في النقب والداخل الفلسطيني.
وعلى الرغم من التوصيات بالاعتراف بأكبر عدد من القرى، مثلما أقرّت لجنة غولدبيرغ، فإن حزب "إسرائيل بيتنا"، بزعامة وزير الخارجية آنذاك أفيغدور ليبرمان، حثّ الحكومة في سنة 2011، على إلغاء الاقتراح وعدم تطبيق توصيات غولدبيرغ، كما أوصى بتقليص نسبة الأراضي التي سيتم الاعتراف بها (النصاصرة 2020). وفضلاً عن هذا الحزب، دعا أعضاء كنيست وقيادات مجالس محلية من اليمين الإسرائيلي، إلى عدم الاعتراف أيضاً بتوصيات لجنة غولدبيرغ.
هذا الضغط من طرف السياسيين الإسرائيليين اليمينيين جعل اللجنة تعدّل التوصيات الرسمية لتقريرها عبر تقليص مساحات إضافية من الأراضي المتاحة لمجتمعات عرب النقب أو الاعتراف بها، مع أن مطالب عرب النقب لم تتعدَّ 3% من مساحة النقب.
إن رفض أهل النقب مخططات برافر التهجيرية، أسس لمرحلة جديدة اتصفت بحراك شعبي في النقب أدى دوراً مركزياً في الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتغيير مخططاتها والاعتراف بالقرى التاريخية في النقب.
أثمر الحراك الشعبي في سنة 2010 في منع تمرير مشروع برافر العنصري، وأدت وسائل الإعلام العربية والمحلية دوراً في فضح مخططات التهجير أمام الرأي العام العالمي، وإيصال صوت أهل النقب إلى كثير من دول العالم، وباتت قضية حقوق الأصلانيين في النقب محط أنظار مؤسسات دولية حقوقية، والأمم المتحدة، والبرلمانات الأوروبية الذين أصدروا، في سابقة من نوعها، عدة بيانات دعت بشكل مباشر إلى سحب مخطط برافر، كما طالبت بخطوات فورية لربط القرى غير المعترف بها بشبكات الكهرباء والمياه وتحسين البُنى التحتية فيها. وصرحت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان نافي بيلاي، في أثناء حديثها في جنيف في 25 تموز / يوليو 2013، قائلة: "إذا أصبح مشروع القانون هذا قانوناً، فإنه سيسرّع عملية هدم المجتمع النقباوي برمّته، وسيجبر أهل النقب على التخلي عن منازلهم، وسيحرمهم من حقوقهم في ملكية أراضيهم، وسيقضي على ثقافتهم وتقاليدهم وحياتهم الاجتماعية باسم التنمية." ونظمت منظمات محلية أُخرى، مثل جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، ومنظمة بمكوم (مخططون من أجل حقوق التخطيط) حملات من أجل وقف مخطط برافر، وحثّت الجمهور على مقاطعة مشروع القانون (Nasasra 2017a).
سجل التحرك الشعبي ضد مخطط برافر زخماً أكبر في صيف سنة 2013، ففي 15 تموز / يوليو من تلك السنة، أعلنت لجنة المتابعة العليا للمواطنين العرب في إسرائيل إضراباً شاملاً بالتزامن مع التظاهرات التي نُظمت في بئر السبع، وفي كل من غزة، ورام الله، والقدس، ويافا، وبيت لحم، والجليل. وشارك في تظاهرة بئر السبع، وكانت أكبر تلك التظاهرات، عشرات الآلاف من جميع أنحاء فلسطين، كما نُظمت وقفة احتجاجية أغلق المشاركون فيها الشارع الرئيسي بمحاذاة جامعة بن - غوريون في بئر السبع. ونُظم مزيد من التظاهرات في آب / أغسطس، ففي أول هذا الشهر، نُظمت تظاهرات في كل من بئر السبع، ووادي عارة، ومنطقة المثلث في وسط فلسطين حيث اعتُقل عدد من المتظاهرين الذين أطلقت محكمة حيفا سراحهم ووضعتهم في قيد الإقامة الجبرية، وكذلك في الضفة الغربية ومدن أُخرى في مختلف أنحاء العالم. وفي 31 آب / أغسطس، تظاهر نحو 1000 شخص في وسط تل أبيب في احتجاج قاده عرب النقب من القرى غير المعترف بها.
احتجاجات في النقب ضد مخطط برافر ومصادرة الأراضي. بئر السبع 2020.
المصدر: تصوير المؤلف، مدينة بئر السبع، 2020.
وصلت الاحتجاجات إلى الذروة في 30 تشرين الثاني / نوفمبر 2013، عشية التصويت الثاني في الكنيست على مخطط برافر. فقد نُظّمت تظاهرات في أرجاء فلسطين التاريخية، وفي العشرات من مدن العالم. وفي تظاهرة في النقب عُرفت باسم "تظاهرة حورة"، جرى صدام بين المتظاهرين والشرطة الإسرائيلية، اعتُقل خلالها 28 متظاهراً على الأقل، وأصيب عدد من أفراد الشرطة بجروح؛ حينها ردّ أفيغدور ليبرمان على ذاك الحراك مدّعياً أن "النزاع هو نزاع على أرضٍ يهودية."
نجحت التظاهرات الشعبية في تجميد مخطط برافر، وصدّت محاولة السلطات الإسرائيلية عرض حلول أُخرى على أهل القرى المستهدفة بالمخطط، فكان تراجع الحكومة عن مخطط برافر بمثابة تحوّل تاريخي في نضال أهل النقب والداخل. وهذا النموذج النضالي تحوّل إلى نموذج يُدرّس اليوم في عدة جامعات حول العالم، وخصوصاً الدور المتنامي للشباب (الحراك الشبابي) في وقف هذا المخطط (Nasasra 2017a).
إن صراع أهل النقب للاعتراف بأراضيهم ما زال مستمراً حتى اليوم، فالأعوام الأخيرة شهدت تصعيداً في وتيرة هدم البيوت العربية في النقب، وتكثيفاً للسياسات الاستيطانية وتدمير المحاصيل، وآخرها كان هدم قرية العراقيب وتهجير قرية أم الحيران. وفي المقابل، سُجلت وقفات احتجاجية غاضبة في بئر السبع لمنع تحريش أراضي قرية خربة الوطن وبير الحمام والزرنوق وغيرها. ولاحقاً كانت هبّة سعوة في سنة 2022، وهبّة الكرامة في سنة 2021 (القدس والشيخ جرّاح) من أهم المحطات النضالية في النقب، خلال الصراع التاريخي في هذا القضاء، والذي دام 100 عام وما زال مستمراً حتى اليوم، إذ عمدت السلطات الإسرائيلية إلى هدم قرية وادي الخليل (عشيرة أبو عصا) بأكملها في سنة 2024.
* نُشرت هذه المادة بالتنسيق مع المتحف الفلسطيني.
المراجع
بالعربية
أبو ستة، سلمان (شتاء 2008). "النصف المنسي من فلسطين: قضاء بئر السبع والنكبة المستمرة". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، ص 37-50.
الدباغ، مصطفى (1965). "بلادنا فلسطين". بيروت: دار الطليعة.
فلاح، غازي (1989). "الفلسطينيون المنسيون: عرب النقب (1906-1987)". الطيبة: مركز إحياء التراث العربي.
النصاصرة، منصور (2020). "بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال". ترجمة ساندرا الأشهب. الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
بالانجليزية
Abu Rabia, Aref (2001). Bedouin Century: Education and Development among the Negev Tribes in the Twentieth Century. New York and Oxford: Berghahn Books.
Avci, Yasmin (2009). “The Application of Tanzimat in the Desert: the Bedouins and the Creation of a New Town in Southern Palestine (1860-1914)”, Middle Eastern Studies, vol. 45, issue 6, pp. 969-983.
Bell, Gawain (1983). Shadows on the Sand: the Memoirs of Sir Gawain Bell. London: C. Hurst and Company.
Fleischmann, Alan (2003).The Nation and its “New” Women: The Palestinian Women's Movement, 1920-1948. Berkeley: University of California Press.
Horne, Edward (1982). A Job Well Done (Being a History of the Palestine Police Force 1920-1948). Essex UK: Palestine Police Old Comrades Benevolent Association.
Jiryis, Sabri (1968). The Arabs in Israel, 1948-1966. Beirut: Institute for Palestine Studies.
Lazar, Sarah (2002). “The Military Government as Mechanism of Controlling the Arab Citizens: the First Decade (1948-1958)” [in Hebrew], Ha-Mizrah he-Hadash, Kirakh MG, vol. 43, pp. 103-131.
Nasasra, Mansour (2017a). The Naqab Bedouins: A Century of Politics and Resistance. New York: Columbia University Press.
_______ (2017b). "Back to the Land". World Policy Journal, vol. xxxiv, no 4, pp. 24-27.
Nasasra, Mansour & Bruce Stanley (2024). “Assembling Urban Worlds: Always-Becoming Urban in and through Bir al-Saba’, Urban History, vol. 51, issue 2, pp. 391-413.
الأرشيف البريطاني
Public Records Office (PRO), Kew Gardens, London, England,
including: CO—Colonial Office; FO—Foreign Office; WO-War Office Papers.
PEF-Palestine Exploration Fund Archives-London.
KCLMA/ Liddell Hart Centre for Military Archives, Kings College-London.
أرشيفات إستانبول
Başbakanlık Ottoman Archives (BOA), Istanbul.
أرشيفات القدس
Archive of Israel Defence Forces (IDFA), Givatayim.
Central Zionist Archive (CZA), Jerusalem.
Israel State Archive (ISA), Jerusalem.
أرشيفات ومذكرات شخصية
Julian Asquith (Lord Oxford) Assistant District Commissioner of Beersheba and Gaza-Palestine, Frome, UK.
صحف بريطانية وعثمانية
Musavver Çöl (Istanbul).
The Times (London).