كيف نقرأ الحالة الاستعمارية/المستعمرية 1948 و 1967
نبذة مختصرة: 

تقترح الدراسة إطاراً جديداً عن كيفية قراءة الحالة الاستعمارية / المستعمرية في المستعمرتين الأولى والثانية. ويعالج المحور الأول إبادة المعرفة (Epistémicide) عبر عدم إنتاج الأبحاث باللغة العربية، ويتناول التساؤلات عمّن توجَّه الأبحاث إليهم، كما يناقش العُدّة المفاهيمية والصعوبات المنهجية التي ترافق المقاربات البحثية، نظراً إلى اختلاف التمثلات والممارسات في سياق استعماري / مستعمري واحد يفرز سياقات قانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية مغايرة في المستعمرتَين، وذلك على مستوى الخطابات والممارسات. أمّا المحور الثاني فيتطرق إلى التساؤلات عن استمرارية التعامل مع التكوينات والتشكيلات الاجتماعية والسياسية التي أفرزتها التصنيفات الاستعمارية. ويستكشف المحور الثالث الآليات الممكنة لتجاوزها معرفياً وبحثياً ومنهجياً، بينما يسعى المحور الرابع لتقديم قراءة أولية لأثر حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة، وانعكاساتها على غياب الفعل الجمعي في المجتمع الفلسطينى. هذه التساؤلات ذات طبيعة إبستيمية ومنهجية تواجه الباحثين في العلوم الاجتماعية وأدواتها ومنطلقاتها ومنزلقاتها في فلسطين المستعمرة اليوم.

النص الكامل: 

بمجرد أن يتم التقاطه عن طريق الكتابة، يتم طهي المفهوم

جاك دريدا[1]

مقدمة

يعلّمنا ابن خلدون في درسه الأول أن المقارنات تُجعل في بُنى متماثلة، فهل لدينا مثل هذه البُنى؟ من المؤكد أن لدينا بُنية استعمارية واحدة، لكن لدينا تشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية مغايرة في المستعمرتين، فالواقع الاستعماري / المستعمري يذكّرنا يومياً بحضوره كبُنية. وفي مقابل هذا الحضور الطاغي، لدينا تشخيص مشوه للواقع الاستعماري بسبب إخضاع عملية التحليل والتشخيص الأكاديمي لإنفاذ مفردات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي المشوه بسبب طغيان مفردات الخطاب السياسي على الحقل الأكاديمي الذي سآتي على تفصيله. فعند البحث في الحالة الاستعمارية / المستعمرية الفلسطينية، تواجه الباحث عدة تحديات معرفية ومنهجية سببها أولاً: استمرارية الوضعية الاستعمارية وتحولها، وصيرورتها غير المنتهية بعكس الحالات الأُخرى التي يجري عادة عقد المقارنات معها باعتبارها حالات استعمارية منتهية؛ ثانياً: طبيعة الخصوصية التاريخية للحالات الاستعمارية بحكم اختلاف الشروط والسياقات التاريخية؛ ثالثاً: اختلاف السياق التاريخي والاجتماعي للحالات الاستعمارية التي تجري مقارنتها بالحالة الفلسطينية. 

وضعية استعمارية / مستعمرية

نرتئي لتسمية حالة الوقوع تحت الاستعمار استعمال اسم الحالة المستعمرية - نسبة إلى المستعمرة، وقد اخترنا هذه التسمية لأن التوصيف الاستعماري ذو طابع تعميمي لا يميز بين الطرفين في الحالة الاستعمارية، أي بين المستعمِرين والمستعمَرين، ولذا أقترح استخدام تعبير "الاستعمارية" لتوصيف حالة المستعمِرين، وتعبير "المستعمرية" لتوصيف حالة المستعمَرين. كذلك استخدام تعبير المستعمرة الأولى لوصف المناطق الفلسطينية التي استعمرتها "إسرائيل" في سنة 1948، والمستعمرة الثانية لتوصيف المناطق التي استعمرتها "إسرائيل" في سنة 1967. وهذه التسميات تنطلق من عُدّة حجاجية تقوم على ما يلي: أولاً، تأكيد الطابع الاستعماري لهذه الأخيرة ("إسرائيل")، من أجل تسليط الضوء على القواسم المشتركة والفروقات بين طرق إدارتها للمستعمرتين وسكانها. وما أقترحه هنا بحثياً هو إعادة الاعتبار إلى فكرة وقوع المجتمع الفلسطيني برمّته وبمختلف أجزائه تحت مشروع استعماري استيطاني إحلالي واحد مع تباينات وفروقات، ودعوة إلى قراءة الظواهر التي أنتجها الواقع الاستعماري كظواهر مُعاشة في المستعمرتَين؛ ثانياً: ربط هذه المقاربات مع السياق الزمني لنشوء الإدارة الاستعمارية في المستعمرتين، وأثر ذلك في تبدل بعض الممارسات تجاه سكان المستعمرتَين؛ ثالثاً: الأخذ في الاعتبار أن الآلة الاستعمارية الإسرائيلية أنتجت تصورات وممارسات وتمثلات وأوضاعاً مغايرة لدى المستعمَرين أنفسهم، ولطُرق مقاومتهم للمشروع الاستعماري، أو لـ "تعايشهم"، أو لتخيلاتهم من أجل الخلاص منه.

يُعتبر المجتمع الفلسطيني مجتمعاً مستعمَراً، وجرى تشخيص "إسرائيل" كبُنية استعمارية منذ خمسينيات القرن الماضي؛ وقد اجتهد الباحثون من فلسطينيين وعرب وآخرين لتوصيفها من منظور العلوم الاجتماعية باعتبارها شكلاً من أشكال الهيمنة السوسيو - اجتماعية لإقليم ما وسكانه. إن اهتمامنا هنا ليس تشخيص هذا الكيان ككيان استعماري، وإنما تمحيص أثر تشكله في إنتاج المعرفة المنتَجة من الحالة الاستعمارية الفلسطينية التي أفرزتها دولة الاستعمار "إسرائيل"، والتي نرى أن أحد تمظهراتها هو التشوه المعرفي، الأمر الذي يستدعي تخصيص هذه الدراسة له عبر فهم آليات إنفاذ استعمارية السلطة المعرفية كشكل من أشكال التفكير الذي يشرعن الاستعمار والاستعمارية الجديدة التي تزاوج بين الكونية والعالمية.[2] وهنا ننطلق من مقاربة مزدوجة تجاه هيمنة المعرفة الغربية من جهة، وإنتاج المعرفة الأهلية التي تعيد بشكل أو بآخر إعادة إنتاج المعرفة الاستعمارية بطريقة استبطانية من جهة أُخرى. 

أولاً: عملية إنتاج المعرفة المهيمنة والإبادة المعرفية (Epistémicide)

تًعتبر عملية إنتاج المعرفة الاستعمارية - الغربية من طرف المدارس المعرفية المهيمنة في العالم، وإعادة إنتاجها من طرف المهيمَن عليهم، أحد التحديثات الأساسية. والمقصود هنا بإنتاج المعرفة الغربية للمعرفة، هو الذي يقول بشأنها مانيلو: "تكمن المشكلة في أن مفهوماً خاصاً بحضارة واحدة يصبح مرجعاً لمفاهيم مشابهة في الحضارات كافة"،[3] ومن ضمن هذه المفاهيم التماهي مع أشكال متنوعة مثل استعمارية الذات واستعمارية المعرفة. أمّا توريس فيقول[4] إن استعمارية السلطة "تعني العلائقية بين الأشكال الحديثة للاستغلال والهيمنة، وبين استعمارية المعرفة ودور الإبستيمولوجيا فيها والمحددات المرتبطة بإنتاج المعرفة، وذلك من خلال إعادة إنتاج نظم المعارف الاستعمارية." بتعبير آخر، إن استحضار معرفة المجتمعات المهيمِنة عن المجتمعات المهيمَن عليها، وشرعنتها كأطر تحليلية صالحة ومعترف بنجاعتها بسبب ارتباطها بحداثة العلوم التي أنتجتها الحداثة الغربية، هما اللذان يؤديان إلى استدخال مفهمة "استعمارية الذات" من طرف المستعمَرين أنفسهم.

ترتبط عملية إنتاج المعرفة المهيمنة بمفهوم "إبادة المعرفة" وهو تعبير لاتيني قديم استُخدم لتوصيف حالات إبادة المعرفة الآخرية وتهميشها، وجرى استخدامه مؤخراً للحديث عن تهميش معرفة الجنوب، والذي عاد يظهر من جديد عبر مؤلف لباحث برتغالي هو دو سوسا سانت.[5] ويُقصد بإبادة المعرفة تلك الممارسات المعرفية الفوقية التي تعمل على تهميش المعارف والأطر والمرجعيات خارج المعرفة الغربية؛ وينطبق هذا على جميع المعارف العربية / الإسلامية والصينية والأفريقية، وغيرها، ويتضمن أيضاً الاستخفاف بإنتاج الأبحاث والدراسات والمقالات باللغة العربية من طرف الباحثين الغربيين، والأهم من طرف الباحثين الفلسطينيين والعرب الذين لا يُنتجون بلغاتهم، أي بتوجيه أبحاثهم بشكل أساسي إلى غير مجتمعاتهم، أو إلى جماعات علمية ضيقة من مجتمعاتهم. وهذه الممارسات تكتسب "شرعيتها" وشرعية "باحثيها" من كونها مقروءة ومقتبسة من طرف باحثين في مراكز الهيمنة المعرفية، وخصوصاً الغربية منها، ومعيار جودتها أو عدمه مرتبطان بتحكيم مَن هم في مركز القوة والهيمنة معرفياً بأهمية هذا الإنتاج وجودته. ويمكن النظر إلى عمليات استمرارية إنتاج المعرفة عن الاستعمار والمجتمعات المستعمَرة وما بعد المستعمَرة من طرف تيارات معرفية تتمركز في دوائر بحثية وأكاديمية تُنتج بشكل أساسي باللغة الإنجليزية ضمن تيارات ما بعد الاستعمارية، على أنها عملية إقصائية إبادية لمعرفة الآخرين، وإن كانوا إثنياً ينتمون إلى هذه المجتمعات المدروسة التي يجري البحث عنها. وعبر تهميش اللغات الأُخرى كشكل من أشكال الهيمنة اللغوية المرتبطة بمجتمعات المعرفة المهيمنة، فإن هذا التهميش قد يُرى باعتباره شكلاً من أشكال المعرفة الاستعمارية التي تخلق الهوة بين مجموعة من الأكاديميين المنتجين باللغة الإنجليزية وبين باحثين آخرين ينتجون بلغات أُخرى كالفرنسية والإسبانية، وهي لغات هيمنتها ضئيلة على هذه الحقول البحثية. وهذا كله سببه عدم تنامي هذه الموضوعات "ما بعد الاستعمارية" في الأبحاث الناطقة بالفرنسية والإسبانية، وطبعاً على نحو أكثر سطوعاً في الأبحاث المنتَجة باللغة العربية لمبررات بعضها مرتبط بالاستخفاف باللغة العربية وبجمهور القراء العرب وبالجماعات العلمية العربية المنتِجة للأبحاث باللغة العربية بعدة ذرائع منها: محدودية القراءة في المجتمعات العربية؛ ضعف الإنتاج باللغة العربية؛ رداءة الأبحاث المنتَجة باللغة العربية؛ غياب المشروعية للإنتاج باللغة العربية؛ ضعف التنظير باللغة العربية في العلوم الاجتماعية؛ غياب الحرية الأكاديمية؛ تغوّل الأجهزة الدولانية على نوعية المعرفة وبالتالي على مضمونها؛ قلة التمويل للأبحاث المنتَجة باللغة العربية بسبب عدم اهتمام دول المنطقة العربية بإنتاج المعرفة في العلوم الاجتماعية؛ خضوع الجامعات والمؤسسات البحثية لإكراهات التصنيفات والتراتبيات العالمية التي لا تعترف بمشروعية الإنتاج باللغة العربية في جميع العلوم تقريباً، ولا يُحتفى بها لأغراض الترقية المهنية والأكاديمية، أو للحصول على مشروعيات الظهور الأكاديمي، بل يرى بعض الباحثين أن خريجي الجامعات العربية يجري الاستخفاف بهم مقارنة بنظرائهم من خريجي الجامعات المهيمنة، وخصوصاً تلك التي تتصدر التصنيفات العالمية، كما يتم تهميشهم من طرف فواعل الحقل الأكاديمي وقواعد اللعبة فيه وفقاً للمنطق البورديزياني وغيره، والذي يمكن أن يدخل فيما يسميه سيرج لاتوش "غربنة العالم".[6]

هذه المسببات السابقة الذكر، دفعت مجموعات عديدة إلى التفكير في منطلقات أُخرى تقوم على استحضار مقولات "الجنوب العالمي"، كأن هذا الجنوب يتطلب رفض التسميات القومية والثقافية، ويستعيض عنها بتسميات جغرافية غير مألوفة في عدة أماكن في العالم ولّدت أجيالاً باحثة جديدة ترفض حتى تسمية المنطقة العربية بالعربية، وتقوم على استدخال مقولات جديدة مثل "المجتمعات ذات الأغلبية العربية"، وهي مقولات لا نجد مثيلها في المجتمعات ذات الأغلبية الهندية، أو المجتمعات ذات الأغلبية المسيحية، لكنها ترى أن هذه التسميات تنطبق حصراً على المنطقة العربية والإسلامية. ومن نافلة القول أن سياسات التمويل وتوليد المراكز البحثية الجديدة وخلق جماعات علمية جديدة تعمل على ترويج مثل هذه المقاربات من منظورات انقسامية.

هذا الشكل الحِجاجي الذي لا يخص الباحثين عن المجتمع الفلسطيني فقط، يعمل في رأينا على إنتاج معرفة فوقية ترتكز على الدونية المعرفية للآخر ومعرفته ومنهجياته وأدواته ومرجعياته اللغوية، وربما تكون الدونية من أبناء هذه المجتمعات المدروسة. وإذا كان علينا التمحّص في شروط إنفاذ التفكير المُفكِّك للاستعمار "الديكولونيالية"، أي فكفكة المعرفة الاستعمارية، فعلينا أن نفكر في أي أدوات نفعل ذلك. ومع أن ثمة ضرورة لفتح السجال عن المقاربات "ما بعد الاستعمارية"، والتي من المفترض أن تأتي ما بعد الاستعمار، أي التي تبحث منهجياًعمّا بعد "انتهاء الاستعمار"، إلّا إن اللَّبْس يكمن هنا مثلما تقول آنيا لومبا:[7] "أيُّ بلد يمكن أن يكون ما بعد استعماري، أي رسمياً، مستقلاً، لكنه يقع تحت شروط استعمارية جديدة 'نيوكولونيالية' وذلك بحسب التبعية الاقتصادية والثقافية في الوقت نفسه"؛ وأستعير هنا عبد الرحيم الشيخ حين يصف بعض هذه المقاربات تهكماً بـ "فلسطين مستعمرة ما بعد استعمارية."[8] ولذا، فإن عملية كتابة أبحاث عن الاستعمار بلغات غير لغات الدول التي تنتج منها المعرفة هي واحدة من المعضلات والتحديات الإبستيمية والمنهجية، وهو أمر ينطبق على اللغة العربية وإنتاج الأبحاث بها للقراء للمستعمَرين أنفسهم وبلغتهم. ومن نافلة القول أن القصد ليس عدم إنتاج معرفة بلغات أُخرى.

وإذا كان مصطلح "ما بعد الاستعمار" لا يكسر أحادية الخط المعرفي، فإن هذا يعني أن التاريخ الأوروبي والغربي هو وحده الحامل الحقيقي للتجديد النظري! بينما يغدو الآخرون مجرد متلقين. وهنا ينبثق سؤال معرفي مشروع عن "استعمارية السلطة" و"استعمارية المعرفة" و"استعمارية الذات". فعلاقات القوة الاستعمارية ليست فقط على مستوى المجالات الاقتصادية أو السياسية أو القانونية أو الثقافية أو الاجتماعية، بل إنها تتعلق في المقام الأول بالمجال المعرفي أيضاً، أي بطرق بناء المعرفة الأكاديمية والتحقق منها، وطرق تداولها وإعادة إنتاجها، ونشر النصوص بشأنها وبها وعنها (والتي تشمل الترجمة) واعتماد الببليوغرافيات – المصادر - المعترف بها وفقاً للتراتب الأكاديمي العالمي والمحلي وسياسات الاعتراف وتحويل الباحثين المحليين إلى مُخبرين - أعوان باحثين - للمنظّرين والمحللين المتمركزين في المراكز العلمية المهيمنة. والأمر نفسه ينسحب على تراتبية الإنتاج باللغات المهيمنة التي تقود إلى التقسيم والتفكيك والاقتباسات والإحالات والاعتراف بالمشروعية العلمية للمنتَج وللباحثين المنتجين بهذه اللغة، أي أن الباحثين المحليين يشاركون بشكل واعٍ أو غير واعٍ في إنفاذ استعمارية المعرفة عبر تهميشهم للغاتهم، وعدم تطوير طرق بحثهم، وعدم تحديهم لشروط عملهم، وبالتالي عدم الشروع في تغيير واقعهم المعرفي.

بتعبير آخر، كيف يمكن إنتاج المعرفة التي تفكك أشكال استعمار السلطة والمعرفة والذات المستعمَرة فيما يسمى ما بعد – أو إنهاء الاستعمار - عندما يكون الباحث نفسه جزءاً من هذا الاستعمار المعرفي الذي يدّعي أنه يقوم بعملية تحدٍّ "من الداخل"؟ وما حدود ذلك؟ أي هل يمكن القول إن استخدامات فئات هذا الفكر المهيمِن المنتَج بلغة المهيمَن تعمل على مساهمتنا في إدامته؟ وهنا يذهب بعض الباحثين إلى القول إن الأهمية هي لماهية الإنتاج ومضمونه وليس للغته، لأن اللغة مجرد أداة للتعبير والمحاججة. وهذه المقولة تتجاهل أن اللغة حمّالة لعلاقات القوة والسيطرة، وأداة مرجعية، وأداة للتفكير.

وبالتالي، ينبثق هنا سؤال: كيف ننقل الرفض للمعرفة الاستعمارية من المستوى العاطفي والأيديولوجي والدوغماتي – العقدي - إلى الميدان، وكيف لا نتحول إلى مُخبرين محليين؟ وكيف ننتقل من حالة المزايدة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني المستعمَر الذي ينبري فيه السياسي والأكاديمي إلى المزايدة السياسية والأكاديمية كشكل من أشكال الاعتراف بالمشروعية في حقل إنتاج المعرفة؟ من نافلة القول أن لدينا شيوعاً لتخيلات طوباوية في المجتمع عن دور المثقف والأكاديمي باعتباره مسؤولاً عن التغيير والتبديل، كأن الخلل يصيب هذه الشرائح بمعزل عن الاختلالات البُنيوية التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني على الصعد كلها، بما فيها الأكاديمية، وظهور فاعلين جدد قادرين على التأثير بطريقة وازنة، وعلى نحو يتجاوز هذا الدور المتخيل للأكاديمي، بينما يستنطق العمل البحثي الأكاديمي استجواب الظروف التاريخية والاجتماعية لإنتاج البحوث المعرفية المتعلقة بالظواهر الاجتماعية المعاشة ومحدداتها، وهذا في سياقات تتعلق في وقت واحد بعدة عوالم وظروف مغايرة. لكن، ما هي تطبيقات هذا المفهوم لتحليل تحديات القوة داخل الدوائر الأكاديمية؟ وما هي المشاريع المعرفية البديلة؟ إن عملية إنتاج المعرفة في السياق الأكاديمي بصورة عامة، وعلى النحو الذي ندرسه، أي في السياق الفلسطيني، يمكن أن تتخذ تجليات العنف الرمزي بالمنطق البورديزياني عن طريق نزع الصدقية وتنحية بعض الاستخدامات المعرفية والمنهجية خارج نطاق القاعدة. 

ثانياً: الأزمة المعرفية الانقسامية وكيفية تجاوزها

إحدى المعضلات الأساسية التي تواجه بعض الباحثين الفلسطينيين عند تشخيصهم لدراسة الواقع الفلسطيني هي عملية تشويهه لواقعهم عبر تشويه تسميته؛ وكنتيجة لخلل التشخيص للواقع يصار إلى دراسة هذا الواقع عبر مقاربات انقسامية سياسية، أي عبر إنتاج التقسيمات البحثية من خلال التركيز على مكونات وتجمعات فلسطينية مغايرة؛ فوفقاً لاختزال المجتمع الفلسطيني بالمجتمع الفلسطيني المقيم في الضفة الغربية وقطاع غزة و"القدس"، تضحي عملية البحث الإثنوغرافي مرتبطة بمحددات التقسيم السياسي. وتتضح لنا حالة التشوه المعرفي بشكل أكثر وضوحاً عبر التباس تشخيص الحالة المعاشة للوضعية الاستعمارية، وأثر ذلك في إشاعة المفاهيم الجديدة التي تعمل على تشويه الواقع الاستعماري باعتباره واقعاً احتلالياً وليس واقعاً استعمارياً استيطانياً إحلالياً. وهذه المقاربة في رأينا، هي بمثابة تواطؤ معرفي من بعض الأكاديميين والسياسيين لإنفاذ مفردات "الخطاب الوطني الجديد"، والتعامل مع "حل الدولتين"، وحصر الواقع بأحد تعبيراته المرتبطة بالاحتلال الذي هو أحد جوانب الحالة الاستعمارية وتمظهراتها، وأحد تجلياتها وليس جوهر بُنيتها.[9] وهذا كله يجري عبر التركيز على حالة المجتمع الفلسطيني المستعمَر في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.

لتطوير أدواتنا البحثية ومرجعياتنا علينا القيام بعملية تجديد بحثي في العلوم الاجتماعية التي ترتكز على إعادة التفكير في الظاهر والخفي، وفي المباح وغير المباح في المنطوق واللامنطوق، وذلك بعيداً عن حسابات السياسي وأوهامه، وبمعزل عن استيهامات الأكاديمي وحساباته المرتبطة بحقول إنتاج المعرفة محلياً وعالمياً، وعمّا يتم التعامل معه كأمر واقع ولا نقاش فيه. وهذا التوجه يفتح تساؤلات معرفية مهمة عن مجتمع الباحثين، وهنا أقترح مجموعة من التساؤلات لا الإجابات هي: كيف نقرأ هذه المحددات السوسيولوجية للمستعمرتَين في سياق حركة تحرر وطني تجتمع فيها الصراعات الاجتماعية مع الصراعات التحررية ذات الطابع الوطني الجمعي؟ ما السبيل إلى تقديم قراءة سوسيولوجية دينامية متحولة ومتغيرة، وبالتالي دراسة طور التشكل للظواهر الاجتماعية المعاشة، وذلك لفهم الحالة الفلسطينية المستعمرية / الاستعمارية؟ لنفعل ذلك علينا التذكر بأن لدينا مكونات للدراسة مرتبطة بالتراتبيات السوسيو - اقتصادية، كما أن علينا اكتشاف علاقة ذلك بالمتغيرات الجيلية والعابرة للأجيال لمكونات المستعمرتَين وسكانهما. وطبعاً لا ننسى سؤال: كيف نخرج من عمليات التبسيط إلى حد التسطيح، والكفّ عن استحضار نماذج قابلة للقياس طوال الوقت بمعزل عن التغيرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية؟ 

تساؤلات معرفية ومنهجية

تتمحور تساؤلاتنا حول الكيفية التي نقرأ من خلالها دراسات مقارنة مثل دراسة أوليفيه ليكور - جراندميزون عن فرنسا[10] في الجزائر، ودراسة محمود ممداني[11] عن النموذجين الاستعماريَّين الفرنسي والبريطاني، وعلاقة هذه الدراسات بالسياق الفلسطيني، فالمقارنة هنا ليست فقط من أجل تحديد التشابه، بل لرؤية غير المرئي أيضاً.

هل يمكننا استخدام مفهوم "البرجوازية الوطنية" مثلما فعل فرانز فانون عندما وصف البرجوازية الوطنية واستشرف مستقبلها في دول ما بعد الاستقلال؟ هل هذا يشبه الحالة الفلسطينية؟ بالتأكيد لدينا نماذج متشابهة، لكن هذه المقاربات متجزئة ليس لعدم نجاعتها، وإنما لعدم ملاءمتها كإطار تحليلي في السياق الذي تُدْرَس به اليوم. هل لدينا أصلاً ما يشبه الطبقة المتوسطة في المجتمع الفلسطيني في المستعمرة الأولى أو في المستعمرة الثانية؟ وعلى المنوال نفسه، هل نكتفي بتوصيف طبقة كومبرادور لتوصيف طبقة الوكلاء؟ من المؤكد أن ثمة واقعاً اجتماعياً فلسطينياً معقداً ومركباً يستدعي إعادة النظر في هذه الأطر، وإخضاع هذه الدراسات للمساءلة عبر الميدان وليس العكس.

فعند دراسة الحالة الاستعمارية في سياقات تاريخية يكون سهلاً إجراء مقارنات خطابية عند تناول التبريرات الاستعمارية التحضيرية وأسطول الخطابات الاستعمارية، لكننا سنجد أنها غير متطابقة ومتغيرة بحسب السياق الاستعماري / المستعمري، وأنه لا يكفي عقد مقارنات عن حالات ممارسات التمييز والعنصرية لأنها في السياق الاستعماري الفلسطيني تأخذ أشكالاً جديدة ومعقدة وإن بدت كأنها مكررة ومشابهة لسياقات تاريخية سابقة.

كيف نقرأ أثر صناعة المستعمِر لواقع المستعمَر وأدوات نضاله أيضاً في أشكال الفعل واللافعل في المجتمع الفلسطيني؟ كيف يخلق المستعمِر صنافيات اجتماعية تعمل وفقاً لمنطق انقسامي بمعنى الاستخدام الأنثروبولوجي؟ من المؤكد أنه سيكون من السهل استحضار فكرة استعادة الذات والخلاص من الواقع الاستعماري عبر استخدام العنف في السياق المستعمري بمنطق فرانز فانون، لكن هذا وحده لا يفسر في رأينا جميع تفصيلات الواقع الفلسطيني المعاش المركب والمعقد.

ماذا نفعل بتمظهرات التبعية الاقتصادية وإلحاق الاقتصاد في المستعمرتين الأولى والثانية وسكانهما في البُنية الاستعمارية نفسها، وكذلك اضطرار الفلسطينيين إلى العمل في المستعمرة الأولى والمستعمرة الثانية، مع فوارق زمنية وشكل العمل وأثره في السكان في المستعمرتَين؟ وكيف ندرس الأسواق المتصاعدة على طرفَي المستعمرتَين بين السكان؟ وهل هذا له دلالات مرتبطة بالاقتصاد السياسي للمستعمرين؟ وكيف نقرأ تعاظم العلاقات الاجتماعية بين سكان المستعمرتَين عبر التسوق والتعليم والمصاهرة وغيرها؟ وكيف ندرس ظاهرة انتشار الوكلاء من المستعمرة الأولى في التعامل كوسطاء للمستعمِر في المستعمرة الثانية والعكس؟

كيف لنا أن ندرس هذه التماثلات والاختلافات ضمن بُنية واحدة؟ ما الآليات للخروج من أثننة الظواهر ومن المقاربات الثقافوية التي ابتُلي بها كثير من باحثينا عن خصوصيات ثقافية باقية ومحددة لجميع سلوكيات الأفراد في مجتمعنا، وتستبعد المقاربات السوسيولوجية التي تدرس التحليل السياقي عوضاً عن التحليل الثقافوي؟

ينشغل كثير منا بوهم ضرورة إنشاء سردية مضادة لسردية المستعمِر، لأن في هذا وقوعاً في فخّ إعادة إنتاج الذات المستعمَرة.

ما السبل المعرفية التفكرية والأدوات المنهجية التي تساعدنا على تطوير وتأصيل مقاربة تشبه واقعنا المعقد، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية وقوع المجتمع الفلسطيني في المستعمرة الأولى عبر دراسة محاججات بعض المجموعات السياسية والأكاديمية التي تطالب بالمساواة والمواطنة الكاملة فيها، وبدراسة محاججات المجموعات التي تهيم بالدولة وتعمل على إنفاذ هذا الخطاب مجتمعياً في المستعمرة الثانية، ضمن مقارنة لتجمُّعين في سياق استعماري واحد؟ كيف لنا أن نُخرج هذه السجالات الأكاديمية لتصبح أطراً للتحليل لطلبتنا ولمجتمعنا ولمناضلينا وسياسيينا عوضاً عن البقاء بإعادة إنتاج خطاب الاحتلال والعيش تحت الاحتلال والدولة تحت الاحتلال؟

كيف نلتقي مع جورج بالاندييه (Georges Balandier) في تحليله للوضعية الاستعمارية، وكيف يمكن مقارنتها في سياق استعماري مغاير؟ كيف نعيد التفكير في فرانز فانون عن الشرط الاستعماري؟ وكذلك ما حدود استحضاره الدائم واليسير في شرط استعماري فلسطيني مشوه ومغاير؟ كيف نقرأ ألبير ميمي[12] في تحليله للعلاقة الاستعمارية المستعمرية في حالة تونس وأهميتها، وأين لا تعمل في حالة فلسطين؟

هل النماذج الاستعمارية في أستراليا وكندا والجزائر تتشابه مع السياق الفلسطيني، لكن متى تتشابه وكيف تختلف؟

يتعين علينا تكثيف الدراسات المقارنة بين المستعمرة الأولى والمستعمرة الثانية، مع الأخذ بعين الاعتبار تكرار الشروط ومقارنتها زمنياً، وكذلك دراسة علاقة السياق الزمني بالممارسة كالحكم العسكري والتماهي مع المستعمِر وظواهر ولع المغلوب بالغالب وخطابات الاندماج والمواطنة، علاوة على أشكال المقاومة المجتمعية في طرفَي المستعمرتَين.

وعلينا أيضاً، دراسة أشكال الممارسة السياسية والربط بين المكونات وعلاقة سكان المستعمرتَين بفضاءاتهم المهاجِرة والمهجَّرة والشتاتية، والنظر إلى الجمعي وأشكال الاشتباك والممارسات البدائلية التي تتجاوز مشاريع حل الدولتين وفكرة المواطنة الكاملة، فضلاً عن النظر إلى اللقاءات السياسية على طرفَي المستعمرتَين، وكذلك حالات الترحال الثقافي.

إن دراسة لقاءات العمال والطلبة ومكونات اجتماعية أُخرى، والتنقل بين المستعمرتَين في البُنية الاستعمارية بمختلف تمظهراتها في المستعمرتَين، إلى جانب التساؤلات المعرفية والمنهجية السابقة الذكر، تُظهر لنا بوضوح وجود صور مغايرة لصور المستعمِر والمستعمَر وتمثلاتهما المتعددة في المستعمرتَين، الأمر الذي يستدعي إعادة دراسة هذه الأشكال من جديد، وتذكّرنا من جديد بأن الظاهرة الاستعمارية / المستعمرية معقدة بحكم فروقات الاستعمار، وأنها نتيجة تبدُّل الشروط التاريخية والاجتماعية التي تمارَس وتُعاش في المجتمع الفلسطيني المستعمَر اليوم. 

فكفكة المعرفة الاستعمارية يجب ألّا تبقى شعاراً

هذه التحديات تتطلب ضرورة فكفكة المعرفة الاستعمارية، وفكفكة القوالب البحثية الانقسامية التي تتعلق بكل تجمع فلسطيني على حدة، كما تتطلب ضرورة دراسة الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، بسبب ترابط المستعمرتَين بالبُنية الاستعمارية، وكذلك علاقة التجمعات الشتاتية بولادة البُنية الاستعمارية نفسها. ومع أننا ندرك الصعوبات المنهجية المرتبطة بظروف كل تجمع فلسطيني وسياقاته، إلّا إن من الممكن دراستها مثلما تُدرس التجمعات الاجتماعية بمحدداتها السوسيو - اقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالطريقة نفسها التي يدرس بها المتخصصون بالعلوم الاجتماعية والإنسانية المجتمعات الفرعية داخل المجتمع الكبير الذي لديه هوية مشتركة مرتبطة بالذاكرة الجمعية العابرة للأجيال، والتي تتخذ عملية تشكلها من خلال أثر البُنية الاستعمارية وعلاقة الأطراف بالمركز، على قاعدة أن فلسطين هي مركز للتجمعات الفلسطينية كافة. ودراسة الممارسات الاستعمارية المتشابهة والفروقات بينها، وتقاطع تجارب الاقتلاع والتهجير واستمرارية النكبة وآثارها في مختلف التجمعات الفلسطينية، واستمرار عمليات البطش والقتل والقمع والاضطهاد والعنصرية والتمييز، وإن اتخذت أشكالاً غير متطابقة في المستعمرتَين، غير أنه يمكن دراستها كظواهر لتجمعات لها خصوصياتها السوسيولوجية من جهة، وباعتبارها تجمعات في بُنية استعمارية واحدة من جهة أُخرى، وأيضاً عبر تقديم مقاربة انعكاسية/استفكارية نقدية للممارسات العلمية القائمة على رفض استخدامات العُدَد المفاهيمية التي نساهم بأنفسنا في إدامتها. علاوة على ما سبق، علينا أن نمارس "النقـد المزدوج" (double critique) بمنطق عبد الكبير الخطيبي الذي كان يقترح كتابة مغايرة تندرج في عملية إنتاج تنظير نقدي للمفاهيم التي أنتجتها المنظومة الفكرية للغرب أولاً، وللأدوات التي يشتغل بها السوسيولوجيون العرب ثانياً. فالنقد المزدوج يرتكز إذاً على مهمة إبستيمولوجية تفكِّك جميع المفاهيم وتُخضعها للمساءلة.

يبيّن لنا الواقع أن "المشروع الوطني" الذي حملته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فشل، وأن منتجه السلطة الفلسطينية المتخبطة في سياساتها تعيش أعمق أزماتها المتجذرة، ولم تعد قادرة على إقناع قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني بإمكان تحقيق مشروع إقامة دولة وفق حل الدولتين. ويوماً بعد يوم تتعاظم الممارسات الاستعمارية التي تقضم يومياً أراضي جديدة، وتبني منعزلات جديدة، وتصادر أراضي جديدة، وتُوغل في الاستيلاء على البيوت والهدم وطرد السكان والقتل والاعتقال. ويُظهر الواقع المعاش على طرفَي المستعمرتَين جلاء البُنية الاستعمارية، ووضوح تَمظهرات الوضعية الاستعمارية التي تتماثل للأكاديمي وللمواطن العادي. فالأحداث اليومية تتسارع في الجليل والنقب والقدس والضفة الغربية لتعيد الاعتبار إلى فكرة إزالة حدود "الخط الأخضر"، كما أن النضالات المشتركة لسكان المستعمرتَين تتنامى ضد النظام الاستعماري بحيث يلتحم الفلسطينيون في نضالات مشتركة مثلما حدث في هبّة أيار / مايو 2021 الأخيرة نصرة للقدس وسكان الشيخ جرّاح وسلوان والطور، وضد الحرب على قطاع غزة، والتضامن مع النقب باعتبارها دلائل ومؤشرات لتجمعات فلسطينية تعيش تحت بُنية استعمارية واحدة. ويكشف النظام القانوني والإداري لاستخدام النظم العقابية كالاعتقال الإداري الذي نُودي بإعادة تطبيقه في المستعمرة الأولى (1948) عن تجليات المنظومة الاستعمارية الواحدة في المستعمرتَين اللتين تخضعان لبُنية استعمارية واحدة، إذ يمكن رؤية ممارسات القتل والقمع والاعتقال واقتحام البيوت في المستعمرتَين، وقتل المتظاهرين في المستعمرتَين، الأمر الذي يدل على أن سكانهما مرتبطون ليس فقط بحكم الهوية الجامعة، بل بصفتهم مجموعات تعيش ظروفاً استعمارية متغايرة أحياناً ومتشابهة أحياناً أُخرى. ويمكن أن نقرأ الأشكال الاحتجاجية الجمعية المشتركة في المستعمرتَين مثلما حدث في أيار / مايو 2021، كتشديد على وحدة المجتمع الفلسطيني ومصيره أمام دولة استعمارية واحدة فيهما. 

حرب الإبادة على قطاع غزة وأزمة غياب الفعل

تحفزنا حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة على النظر إلى عمق الأزمة التي يعيشها اليوم المجتمع الفلسطيني وتجمعاته الشتاتية، وإلى الاختلالات الكبيرة في ردات الفعل الجمعية. ففلسطينيو الشتات، باستثناء فلسطينيي لبنان والأردن، عاجزون عن إحداث أفعال روتينية من الاحتجاج، مع أنهم متضامنون مادياً ومعنوياً، إلّا إنه تضامن قليل الفاعلية مقارنة بفعل الإبادة على سكان قطاع غزة. وهذا الغياب للفعل، والذي ينسحب على الضفة الغربية والقدس في المستعمرة الثانية، وعلى سكان المستعمرة الأولى، يعزز الشعور بالوحدة لدى سكان قطاع غزة الذين يبادون يومياً، ويفتح التساؤلات المشروعة عن تبدل أشكال الاحتجاج، وتضاؤل قدرة المجتمع الفلسطيني على تنظيم الفعل الجمعي لأفراد المجتمع الواحد الذين يخضعون لبُنية استعمارية واحدة. ويمكن تقديم بعض التأويلات لهذا الشكل الجديد من اللافعل: أولاً، استفراد السلطات الاستعمارية بالتجمعات الفلسطينية واستخدام أدوات التوحش الإبادي والتلويح بشبح قطاع غزة في ظل الصمت العربي والعالمي؛ ثانياً، عدم القدرة على تنظيم احتجاجات جمعية يعود إلى موت الأحزاب السياسية، وعزوف الشبان عن السياسة بمعناها الحزبي والفصائلي بسبب فشلهم؛ ثالثاً، السلطة الفلسطينية تؤدي دوراً مركزياً في الحد من تعميم الاحتجاج بذرائع الدفاع عن المشروع الوطني وقطع الطريق أمام المخطط الإسرائيلي بتقويض "السلطة" ومنع "إقامة الدولة".

إن لجوء المؤسسة الرسمية والأحزاب إلى تعطيل الحياة عبر إضرابات رمزية، هو أقرب إلى تعطيل الحياة لتأكيد غياب الفعل – إعطاء إجازات - وتعطيل المدارس والجامعات والهيئات الرسمية، بينما يقتصر الفعل على الجانب الإغاثي والتضامن الافتراضي وتعميم الشعور بالحسرة والألم والصدمة. وظواهر اللافعل ليست جديدة على المجتمع الفلسطيني، فالقارىء للتاريخ الاجتماعي والسياسي للمجتمع الفلسطيني يتذكر حالة من الخمول بين سنتَي 1984 و1987، إذ غاب الفعل الجمعي واقتصر على المجموعات الفردية المقاومة مثلما هي الحال اليوم، مع تسجيل فارق أن غياب الفعل يتزامن مع حرب إبادة مستمرة كاستمرار للنكبة المستمرة. كما أن ترهيب القدس وسكانها أدى أيضاً دوراً في غياب الفعل في القدس، الأمر الذي ينسحب كذلك على غياب الفعل لدى فلسطينيي 48 بسبب الاعتقالات والطرد من العمل والملاحقة والاعتقال والقمع الشديد لسطات الاستعمار في المستعمرة الأولى. غير أن غياب الفعل الجمعي لا يعني غياب المقاومة، بل ربما يعني تراجع الفعل الجمعي لمصلحة الفردي.

على ضوء حرب الإبادة الحالية، يتحتم علينا إعادة فتح التساؤلات عن مقارباتنا البحثية المكررة، وضرورة فحص وتمحيص الخطابات المتنوعة؛ فتنامي التحليلات عن حرب غير مسبوقة، وغياب التخطيط للفعل المقاوم، ودراسة آثاره وغياب استشراف ردة فعل "إسرائيل" تُظهر بوضوح التشوهات المتخيلة عن الواقع الاستعماري لدى بعض الأكاديميين، ولدى المواطنين عن الطبيعة الاستعمارية لدولة الاستعمار، وعن استمرارية النكبة. كما أن تعالي أصواتٍ لمحاججة لا تاريخية عن مقاومة "غير مدروسة"، وأفعال عبثية، وتآمر بين المقاومة طبعاً وفقاً - للاصطفافات الأيديولوجية - ودولة الاستعمار لتهديم مشروع "الدولة الفلسطينية"، وتصفية القضية الفلسطينية، كلها تمثلات من التشوهات المعرفية والاعتيادية للواقع الاستعماري، وللطبيعة البُنيوية لدولة الاستعمار وتوحشها كأحد تمظهرات الاستعمار وليست كأفعال استثنائية. إن حرب الإبادة الحالية تدفعنا إلى إعادة الاعتبار إلى الحالة الاستعمارية المستعمرية المشوهة، من حيث استمرارية النكبة وديمومتها وتمظهراتها، وهو ما يُبرز من دون شك، طبيعة هذه الدولة الاستعمارية وممارساتها، واستمرارية النكبة كحدث مؤسس ومرتبط بشكل بُنيوي وممنهج في صلب سياسة دولة الاستعمار، والذي يُعبَّر عنه بارتكاب المجازر وطرد السكان. ويتعين على غياب الفعل الجامع للتجمعات الفلسطينية أن يفتح الباب لدراسة أسباب غياب الفعل الجمعي، ولمساءلة القيم التي بُثت في المجتمع الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو، في المستعمرتَين، وضمور الممارسات الجمعية لمصلحة تمثلات الخلاص الفردية، والقيم المعيارية الجديدة التي روجت لها منظومة قيمية جديدة عملت على خلقها وبثّها السلطة الفلسطينية بالتعاون مع منظومات دولية، وتراجع دور الأحزاب وتعاظم الانقسام وغياب المؤسسة الجامعة، وتـآكل الحركة الوطنية والطلابية، وتعاظم مجتمع الفرجة، ودراسة تبدل شكل الحركات الاجتماعية وبُنى الأحزاب، وتغيير الأنماط المعيشية، وتبدُّل الشرائح والبُنى الاجتماعية والاقتصادية. هذه المحددات تُظهر الحاجة الماسة إلى إعادة دراسة المجتمع الفلسطيني، وإعادة التفكير في العُدَد المفاهيمية والمنهجية.

إن غياب الفعل الجمعي لا يعني غياب المقاومة، وإنما قد يعني تراجع الفعل الجمعي لمصلحة الفردي. وهذه التمظهرات الحالية تستدعي إيجاد منهجيات جديدة لإعادة دراسة الحاضنات الاجتماعية للمقاومة، والتفريق بين دراسة الأشكال التقليدية، والأشكال الجديدة التي في قيد التشكل. ومعرفياً، ثمة ضرورة لإعادة قراءة السياقات التاريخية الاجتماعية السلالية في التاريخ الفلسطيني لفهم ما يحدث اليوم، أي مقارنته بأعوام ما قبل الانتفاضة، وإجراء تحليل سوسيولوجي للفاعلين ومعرفة خلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية، وفحص الخطابات الجديدة، وهذا كله بالتوازي مع دراسة العفوي والارتجالي المرتكزَين على شبكات أصيلة منغرسة في المجتمع ومتمردة على الرسمي، وأثرهما في الفعل الجماعي ضمن منطق المحاكاة الاجتماعي، وذلك عند توفر مجموعة من الظروف المواتية لنمو الفعل الجمعي لأهميته في التحليل الاجتماعي مثلما تُظهر لنا الأحداث الاجتماعية التاريخية التي يؤدي فيها الشرط الاستعماري في السياق الفلسطيني عاملاً محفزاً على التأثير في الشارع والأحداث بفعل متلازمة الشرارة اللازمة لانطلاق الأفعال الجمعية، أي التركيز على التحليل السياقي عوضاً عن التحليل السببي.

 

المصادر:

[1] Jaques Derrida and Geoffrey Bennington, Circonfessions (Paris: Seuil, 1991).

[2] Noah De Lissovoy, Fregoso Bailón & Raul Olmo, “Coloniality”, in: Keywords in Radical Philosophy and Education: Common Concepts for Contemporary Movements, edited by Derik Ford (Leiden: Brill, 2019), pp. 83-97.

[3] walter Mignolo & Catherine Walsh, On Decoloniality: Concepts, Analytics, Praxis (Durham: Duke University Press, 2018), p. 170.

[4] Nelson Maldonado-Torres, “On the Coloniality of Being: Contributions to the Development of a Concept”, Cultural Studies, vol. 21, issue 2-3 (2007), pp. 240-270; Nelson Maldonado-Torres, “À propos de la colonialité de l’être: Contribution à l’élaboration d’un concept”, Dans: Penser l’envers obscur de la modernité: Une anthologie de la pensée décoloniale latino-américaine, sous la direction de Claude Bourguignon Rougier, Philippe Colin et Ramón Grosfoguel (Limoges: Pulim, 2014), p.130.

[5] Boaventura de Sousa Santos, Epistemologies of the South: Justice against Epistemicide (Boulder: Paradigm, 2014).

[6] Serge Latouche, L'occidentalisation du monde: Essai sur la signification, la portée et les limites de l'uniformisation planétaire (Paris: La Découverte/Poche, 2005).

[7] Ania Loomba, Colonialism/postcolonialism (New York: Routledge, 1998), p. 7.

[8] عبد الرحيم الشيخ، "الهوية الثقافية الفلسطينية:'لمثال' و'التمثيل' و'التماثل' "، في: "سلسلة وقائع المؤتمر السنوي الثاني: التجمعات الفلسطينية وتمثلاتها ومستقبل القضية الفلسطينية" (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية / مسارات، 2013)، ص 76.

[9] أباهر السقا، "نحو إعادة التفكير في الأطر المفاهيمية لتحليل السياق الفلسطيني الاستعماري"، مجلة "عمران"، العدد 39 (شتاء 2022).

[10] Olivier Lecour-Grandmaison, Coloniser, exterminer: Sur la guerre et l’Etat colonial (Paris: Fayard, 2005(.

[11] Mahmood Mamdani, Citizens and Subjects: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism )Princeton: Princeton University Press, 1996).

[12] Albert Memmi, “Sociologie des rapports entre colonisateurs et colonisés”, Les Cahiers internationaux de Sociologie, vol. 23 (Juillet-Décembre 1957(, pp. 85-96.

السيرة الشخصية: 

أباهر السقا: أستاذ مشارك، دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية، جامعة بيرزيت.