كيف يمكننا فهم العلاقة بين الإبادة في غزة والمسألة المكانية الفلسطينية ككل، بمعناها الأعم والأشمل، بما هي مسألة استعمارية استيطانية إحلالية؟ هل العلاقة بين الحالتين علاقة تراكمية تصاعدية، وصلت إليها الحال الآن، منذ النكبة إلى "النكسة"، بدءاً باعتداءات المستوطنين، على تبايناتها من حيث الحجم والمبنى والتكرارية، كمجزرة المسجد الخليلي في سنة 1994، مروراً بجريمة قتل الطفل محمد أبو خضير وتعذيبه، ووصولاً إلى اقتحامات الأقصى؟ فمثل هذا التتابع والتراكم والتصاعد تميل إليه تنظيرات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، لقِصَر مجالها واقتصاره في الأغلب الأعم على التفسيرات والشروحات أحادية الحقل المعرفي (single discipline)، ولعل هذا هو السبب في حظوتها بقبول أكبر، لتقليديتها ورتابة مبناها التحليلي.
أم إن العلاقة دينامية ومتحركة ومتغيرة من حيث الحجم والكثافة ومجالية الهيمنة بين الإبادة والمنظومة الكولونيالية، بحيث يمكننا مدُّها على استقامتها الرأسية (التفكيكية والنقدية) والأفقية (التأثيرية والنتائجية)، ليصبح حينها أي مشهد من مشاهد الإبادة في غزة، على فرادته وفداحته وإيلامه، مرتبطاً عضوياً بجميع المشاهد السابقة لعلاقة النظام الاستعماري بالذات المستعمَرة، جسداً ومكاناً ورمزاً؟
ونحن، بطبيعة الحال، نميل إلى الفرضية الثانية، وذلك لعدة أسباب نوجزها كالتالي:
1 - الاحتلال الاستعماري لفلسطين ظاهرة مركبة لا يمكننا فهمها من خلال عُدّة تحليلية واحدة، حتى إن بدت قادرة على الإحاطة بالإبادة والحرب حال حدوثهما، كأنهما الاستثناء، في المنظومة الاستعمارية، وليسا الأصل. وبالتالي ، فإننا نميل إلى القول إن الإبادة والحرب في المنظومة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية هما منهجية (methodology) عمل وفَهْم لها في إنتاج المكان والجسد المُستعمَر، وإدامة آلة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، في اليومي المعيش للفلسطيني والفلسطينية.
2 - إن العُدّة التحليلية المتعددة والمتداخلة الحقول تتيح مساحة أكبر لمقاومة المنظومة الاستعمارية، والاشتباك معها ضمن أعماق تتخطى الاستراتيجي إلى الأدائي والفلسفي والفكري والجسدي والرمزي والمجالي والجغرافي، بما هي مقولات تتخطى السياسي والإجرائي والبراغماتي البحت لمنظومات الهيمنة الاستعمارية مثلما هي الحال في الحالة الإسرائيلية المعتمدة على ثنائيات حداثية لم تعد تحوز القدرة التفسيرية والمفاهيمية على تفكيك الشرط الاستعماري لفهمها، باعتباره جزءاً من مقاومتها وإنتاج معرفة مضادة ونازعة لها.
3 - مع انهيار السرديات الكبرى، وانفتاح المسافة بين إدراك "الحدث" وفهمه (الاحتلال ليس "حدثاً" /event، بل "عملية" / process،[1] إلّا إن استخدام "حدث" هنا يأتي ضمن شكلانية لغوية لا أكثر)، على ممكنات تتجاوز الثنائيات الحداثية المباشرة لفهم الواقع المادي ورمزيته، إلى عوالم متعددة المراكز والأقطاب، يمكننا إحداث حالة من الفاعلية تتجاوز فهم العالم والحدث إلى بنائه، ومواجهة مباني القوة فيه، مثلما هي الحال في الحالة الغزّية الآن، إذ لم تعد استعارات ولغة الحداثة الغربية (الأكاديمية، أو السياسية، أو الإبستيمية، وحتى الوصفية الكمية) قادرة حتى في شقّها التقني على فهم أدوات المقاومة وخطابها وبُنيتها وفاعليتها، والأهم مخيالها ومدركاتها.
ولعل تتبّعاً بسيطاً للغة الحرب والإبادة لدى العدو يفضح تأخر تلك اللغة عن واقع المقاومة اليومية للغزّيين منذ سنة 2005، حتى لحظة كتابة هذه الأسطر، الأمر الذي يفرض طوال الوقت مقاربات تحررية مناهضة ونازعة للكولونيالية، بشكل يجعل أي تفادٍ أو تعامٍ عن هذا الأمر فشلاً في مقاربة الواقع وتحولاته، فضلاً عن الخضوع لعلاقات القوة الحداثية فيه.
ليس السؤال هنا "ما الممكن أن يكون بين إدراك الحدث وانتزاع الفاعلية في مواجهته؟"، وإنما "كيف لنا أن نغير الواقع ضد موازين القوى المادية الواضحة فيه؟". وأولى مراحل تلك الفاعلية هي الأمل، بما هو فعل وجودي، ذلك بأن مفهوم "سياسات الأمل" (politics of hope) ينطلق من فكرة فحواها أن الوجود الإنساني هو وجود زمني، أي أنه وجود تاريخي يحدده الأمل كفعل استثنائي عارض في لحظة تضادٍ مع الفاعلية الحداثية، ليصبح هو بذاته الفاعلية.
الاحتلال الاستعماري لفلسطين ظاهرة لا يمكننا تفسيرها إلّا داخل فلسفة التاريخ التي أنتجتها: أي الحداثة. ففلسفة التاريخ تلك بما هي منظومة تفسيرية، ليست سوى فلسفة التاريخ التي تشكلت في ضوء مقولة: أنا أفكر، إذاً أنا موجود، أو الكوجيطو (cogito) الديكارتي. وعليه فإن السؤال بشأن التفكير في الشرط الاستعماري في لحظة الإبادة، هو الأصل في عملية التحرر من ذلك الكوجيطو وقمعه، والأهم تحيزاته. بكلمات أُخرى، يجب ألّا تُفهم العلاقة بين الإبادة والمكان الفلسطيني على أنها علاقة تفسيرية ثنائية، بل علاقة مواجهة متعددة ومركبة. ذلك بأن التفسير هنا، بما هو تفكيك، يختلف عن المقاومة بما هي نقض، أي أن نقض الدبابة الإسرائيلية لحظة مواجهاتها في غزة، مختلف عن فهم التطور العسكري الذي صنعها وصنع موازيين القوى الاستراتيجية والعقلانية الحداثية، ويتقدم عليه. فالنقض يستلزم التفسير، غير أن التفسير لا يؤدي إلى النقض بالضرورة، لأنه (التفسير) في حالة النقض / المقاومة لا يخضع لفلسفة التاريخ التي يحدث فيها فعل التفسير، وإلّا فإن منطق الدبابة سيتغلب بالضرورة على الشباب الغزي بنعالهم البسيطة بحسابات الاستراتيجيا الحداثية والعقلانية الحداثية المادية، في الكوجيطو القمعي: أنا أفكر، إذاً أنا موجود. ولهذا، فإن الوجود هنا في المكان الفلسطيني في مواجهة الإبادة، وإن كان سابقاً على التفكير في الآلة الاستعمارية الإبادية، هو في ذاته يقع ضمن مواجهتها، وبالتالي فإنه فعل مقاوم مفكَّر به، ومفكَّر فيه، وهذه مساهمة الغزي الفلسفية الأساسية في هذه الحرب.
أنا موجود، إذاً أنا أفكر.
ولأن الوجود لا يتحقق من دون مكان، يمكننا الافتراض أن أشكال التفكير الفلسطيني في المكان وإدراكه هي أيضاً مستهدفة بالإبادة الممتدة منذ ما قبل لحظة النكبة، باعتبارها أداة مجالية للهيمنة الاستعمارية للمجموعات المهيمنة، حيث السيطرة على المكان والزمان والمادة.[2]
المدينة والإبادة (وليس الإبادة المدينية، ولا إبادة المدن)
ينبّهنا لويس ممفورد، المؤرخ وعالم الاجتماع الأميركي، وصاحب الكتاب المرجعي في دراسات المدن والعمران: "المدينة على مر العصور"،[3] إلى أن إضفاء الطابع المؤسساتي على الحرب الحديثة، أي تحديث وسائل شنّ الحرب وإيقاعها، أصبح أمراً متحققاً وممكناً بظهور المدن، مشيراً إلى أن إقرار القانون في إطار الحضارات الحضرية / المدينية اقترن بداية بالقوانين المتعلقة بالحروب، لغايات تأمين (تلك) المدن في بادىء الأمر. أمّا بول فيريليو فيزيد في الأمر بقوله: "خوض الحرب وقيادتها هما تنفيذ مشروع عقلاني، أو وضع مسعى عقلاني موضع التنفيذ؛ إنه عمل مؤسساتي"،[4] في إشارته إلى المدينة بما هي مشروع معقلن.
ومن أجل فهم موقع الإبادة المدينية كتكنولوجيا حربية، لعل إحالة بسيطة إلى المفارقة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تكون مفيدة في هذا السياق. ففي العلوم الحربية والدراسات الاستراتيجية، وكذلك التاريخية، لا يبدو الفرق من الناحية الجغرافية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، واضحاً، مثلما هو الآن، والفضل في ذلك يعود إلى مفهوم "التحول المكاني" (spatial turn)[5] الذي شهدته العلوم الاجتماعية والإنسانية في الأعوام الأخيرة. فالحرب العالمية الأولى تُعتبر نمطاً كلاسيكياً للحروب المواجهاتية التي حلّت فيها المدينة في موقع الخلفية لمشاهد الحرب ومجالاتها وتطبيقاتها. صحيح أن الحرب العالمية الأولى، بموقعها الكلاسيكي، حدثت في فترة شهدت نمواً في أحجام المدن ومساحاتها، إلّا إن تهديدها للمدن لم يكن مثلما هو في حالة الحرب العالمية الثانية، كما أنه حتى تلك اللحظة من تاريخ الحروب، لم يوضع أي مصطلح أو خطاب محدد لتعريف الإبادة المدينية، أو حتى رصدها كظاهرة. غير أن الحال تغيرت في الحرب العالمية الثانية التي شهدت تحولاً دراماتيكياً في تقنيات الحرب، ومجال التأثير المكاني فيها، وهو ما عُرف لاحقاً بـ "الـحرب الشاملة". وتعني الحرب الشاملة أن المدن وسكانها أصبحوا في الغالب هدفاً فعلياً للحرب، إذ انتقل القصف، كما يقترح مارتن شو،[6] من التدمير الانتقائي لمواقع رئيسية داخل المدن، إلى شنّ هجمات واسعة النطاق على المناطق الحضرية، ثم إلى القضاء الفوري على مساحات حضرية كاملة بسكانها.
يشير مصطلح "الإبادة المدينية"[7] إلى الاستهداف المتعمد وتدمير البيئات الحضرية في أثناء الصراعات، بهدف القضاء على الهياكل الاجتماعية والثقافية والمادية والرمزية التي تشكل الحياة الحضرية، بما هي اجتماع بشري يقوم على التبادل المادي والرمزي والخطابي. وفي سياق غزة وحرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، يمكن النظر إلى "الإبادة المدينية" على أنها جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيات الاستعمارية الإسرائيلية المصممة للحفاظ على الهيمنة والسيطرة المكانية على الفلسطينيين، أجساداً وحركة ومجالات وحتى رموزاً. وعليه، فإن سياسات الاحتلال منذ النكبة وما قبلها للهيمنة المجالية على المساحات الحضرية والبلدية والقروية، وحتى الجغرافية والمساحية في فلسطين التاريخية، هي أثر ممتد أفقياً ورأسياً للحدث التراكمي الحالي: حرب الإبادة على غزة.
في مقالته الكلاسيكية "العمران كطريقة حياة"،[8] يجادل لويس ويرث بأن حجم سكان المدن وكثافتهم وعدم تجانسهم هي العناصر التي تشكّل "عناصر التحضّر (urbanity) التي تكرّسها الحضرية نمطاً مميّزاً للحياة".[9] ومع أنه يعدد تلك العناصر الثلاثة، إلّا إن عدم التجانس هو العنصر الرئيسي الذي يميز البيئة الحضرية.
يستلزم مفهوم الإبادة الجماعية فَهْم فعل التدمير - فعلاً ومنهجية – في إنتاج مكان مديني، فيما يتعلق بما يجري تدميره، ومن هذا الفهم للقتل يُفْهَم ضمناً أنه جزء من منطق الإبادة الجماعية وعملها. بكلمات أُخرى، إن إبادة الجسد في الإبادة الجماعية ليست محدودة بإفنائه بصفته كياناً مادياً فقط، بل بكونه كياناً رمزياً ومعنوياً. وبالتالي، فإن الهدم هنا بصفته فعل إبادة للمدن ليس إلّا إعادة إنتاج لها في المخيال المشترك، أي أن دمار مدينة غزة جزء من مقولة إنتاج غزة حربياً.
تتنبّه الباحثة في الجغرافيا السوداء، كاثرين ماكتريك، إلى السياسات الخطابية في مصطلح "الإبادة المدينية" باعتباره يقوم على الفصل بين البشر والمكان في فعل الإبادة المدينية، حتى لو كان ذلك عن غير قصد، لأنه يزيل العنصر الشخصي في عملية الإبادة، وينطوي بصورة أساسية على أعمال مجسدنة.[10] وهذا الربط يفترض مسبقاً علائقية ما (relationality) وثيقة ومأرضنة بين المكونات البشرية وغير البشرية داخل مجتمع منظم تنظيماً مكانياً. فوفقاً لماكتريك، يجب أن تُفهم الإبادة المدينية في إطار "الإمبريالية، والعنف، والإرهاب الاقتصادي، والعرقي، والإثني."[11] ومن المهم أيضاً النظر في عوامل مركبة ومتداخلة مثل الحجم، والمنطقة، والاقتصاد، والمكان، والمعنى والرمز والخطاب والذاكرة والثقافة وغيرها، وطبعاً الطريقة التي تُنفَّذ بها مباني القوة التدميرية تلك وتقاطعاتها وتداخلاتها كافة.
وهكذا، فإن العمارة، والتخطيط الحضري، يعملان بصفتهما أدوات للحفاظ على هيمنة المستعمرين المجالية من خلال التلاعب بالممارسات والتفاعلات المكانية اليومية، وصولاً إلى الإبادة. وتدعم هذه الآليات المكانية الأيديولوجيات الاستعمارية، الأمر الذي يشكل كل من البيئة المادية والعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع المستعمَر.
المكان الفلسطيني، ومكان فلسطين كشكل مقاوم للإبادة واستعادة للمدينة
في ملف هذا العدد من "مجلة الدراسات الفلسطينية"، نحاول فتح محمولات لفظة "المكان الفلسطيني" المستهدف بالإبادة في معناها الأوسع، على ممكناتها، وذلك من خلال الحفر في الكلمتين: "مكان" و"فلسطينـ/ـي"، بأبعادهما الرمزية والجسدية والسياسية والاجتماعية والجغرافية، كشكل مقاوم من أشكال الوجود. وبالتالي، فإننا لا نتقيد بمادية المكان، بقدر ما نتأمل في استعاريته ومجازيته، ولغويته، وقدرته على التجاوز، وتداعياتها المادية على المكان الذي هو في قيد الإنتاج الاستعماري المهيمن، فلا يرتبط المكان هنا بحدود الحرب والإبادة المجالية، وإنما يبحث في آثارها في الجغرافيا، وكيف لمكان أن يكون فلسطينياً بجميع المعاني، من المادية إلى المعرفية والمجازية، وكيف له أن يوجد. وقد اخترنا لهذا الملف بعضاً من الإنتاجات الكتابية والبحثية لمشاريع المتحف الفلسطيني خلال الفترة 2019 – 2022.
ففي الوقت الذي تستند الإبادة على تنوع أشكالها ومظاهرها على ثنائية حداثية أساسية هي ثنائية الحضور والغياب، والتي هي امتداد للآلة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية الإسرائيلية بشأن المعرفة والتاريخ والجغرافيا الفلسطينية الأصلانية، فإن الإبادة بما هي تغييب ما هو حاضر (فلسطين)، هي إحضار ما يجب أن يَغيب (الاحتلال)، بجميع امتداداته، وعلى الصعد كافة: المعرفة والتاريخ والجغرافيا. وتقدم مواد هذا الملف "أثراً" للغائب / الغياب الفلسطيني من خلال ما يحضر منه، وموقعه التاريخي والمعرفي، في ظل آليات إنتاج حداثية تراكمت من خلال استعارة أساسية هي الدولة، ومدى تغلغلها في اليومي المعيش.
فالدولة الحديثة التي تبيد غزة، هي امتداد للدولة الانتدابية التي عملت على تجريف وطمس أشكال الوجود العربي الفلسطيني في بئر السبع، مثلما يقدم لنا الباحث منصور النصاصرة، في مساهمته البحثية عن تاريخ بئر السبع وشبكات الاتصال فيها. فالدولة الحد(ا)ثية تلك حرمت فلسطينيي المنافي من حجارة المكان، وجعلتهم يستبدلونها بحجارة الكلام، مثلما يسميها الكاتب والروائي سليم البيك، في استعادة منفوية للمكان والذات الفلسطينيين، وهي أيضاً تلك التي أسست مخيالاً ساحلياً لمدينة عكا العربية الفلسطينية، مثلما يقدمها الباحث علي حبيب الله، يقوم على التكوينات والتركيبات الحربية والعسكرية، في أكثر صور إنتاج الذات والآخر حضوراً في البُنية الاستعمارية على امتدادها وتنوعاتها.
ومع أنه يسهل القول إن الحرب هي الاستعارة المكانية الأساسية في الحداثة، إلّا إن حدود تلك الاستعارة / الحرب لا يمكن التربص بها بمثل هذا الحسم والوضوح في المكان. ففي مادتها بعنوان "روايات من الفروش" تدرس فيروز سالم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سهول نابلس الشرقية بين نكبة ونكسة، وكيف تتشكل العلاقة المكانية في مواجهة الاحتلال بين ثنائيات الجبل والسهل، وكيف تشكَّل الحيز على أساسه، وكيف يمكن تحويل بُنية الماء التحتية ومدى مناليتها إلى أداة استعمارية، وكيف كان تكوين وإعادة تكوين (أو ترسيم) العلاقات الاجتماعية للجماعات الأصلانية بمختلف مبانيها، شكلاً من أشكال الممارسات المكانية المقاوِمة. كما يضم الملف دراسة عن عشائر البدو في قضاء بيسان للكاتب الياباني تايزو إمانو، يتناول فيها مكوّناً هوياتياً كثيراً ما وسمته الحداثة بالتخلف، وهو البداوة، إذ تناقش هذه الدراسة مفهوم الاستعمار الاستيطاني في المساحات الخارجة عن الحداثة: البداوة، فيتطرق إلى العشائر البدوية خلال القرنين 16 و19، حين لم يكن هناك حدود بين ضفتَي نهر الأردن، ويذكر مقاومتها للاستعمار البريطاني الذي تدخّل في علاقتها بالأرض وإنتاج مجالها.
ولأن الإبادة في جوهرها تقوم على فكرة إفناء ممكنات أي مكان، فهي بالتالي تستلزم شكلاً إبادياً يستهدف أي ممكن معرفي مضاد في تلك المواجهة، وهكذا نستطيع أن نفهم أزمة الإبستيم الغربي في مجمله، على ما يظهر منه من مواجهات الطلاب في الجامعات الغربية والأميركية الشمالية، الأمر الذي يفرض علينا سؤالاً جوهرياً: كيف نقرأ الحالتين الاستعماريتين المتعاضدتين / المتراكبتين والمتمثلتين في نكبة 1948 ونكسة 1967، بشكل مناهض للإبادة المعرفية الممتدة في الجسد الاستعماري الغربي، وتحديداً في مؤسساته المعرفية منذ القرن الخامس عشر؟ وفي هذا الملف يقدم أباهر السقا مقاربته المركبة في هذا الشأن باحثاً عن إجابة مناهضة للاستعمار ونازعة له في المعرفة والمنهج والإنتاج، باعتبارها أفعال مقاومة للإبادة الممتدة.
وإذا جاز لنا افتراض أن المكان الفلسطيني يتحدد بالزمان / التاريخ، والمكان / الجغرافيا وما ينتج منها من شبكات الاتصال، والعمران / الحضرية، والمعنى أو الرمز / الخيال، وما ينبني عليها من منظومات المعاني لإنتاج الذات والآخر، فإن كلاً من المواد المختارة لهذا الملف يقدّم مقاربة لعنصر من هذه العناصر ضمن مبنى رأسي يفكك العنصر الأساسي للهيمنة، ومبنى أفقي يحفر في التقاطعات بين تلك الإبادات الاستعمارية ومآلاتها، في سياق المواجهة مع المنظومة الاستعمارية.
المصادر:
[1] يُنظر:
Alain Badiou, Being and Event (New York: Continuum, 2005).
[2] انظر:
Alvaro Bianchi, Gramsc’i Laboratory: Philosophy, History and Politics, translated by Sean Purdy (Chicago: Haymarket Books, 2021).
[3] انظر:
Lewis Mumford, The City in History: Its Origins, its Transformations, and its Prospects (New York: Harcourt, Brace & World, INC., 1961).
وقد تُرجم الكتاب إلى العربية، انظر:
لويس ممفورد، "المدينة على مر العصور: أصلها وتطورها ومستقبلها"، ترجمة إبراهيم نصحي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016)، 2 ج.
[4]Paul Virilio, Ground Zero, translated by Chris Turner (London and New York: Verso Books, 2002), p. 25.
[5] "التحول المكاني" هو تحوير بُنيوي نظري في العلوم الاجتماعية والإنسانية ينطلق من أهمية المكان بالمعنى الأوسع والعلاقات المكانية في فهم السلوك البشري، والثقافة، والمجتمع، وقد قدم الجغرافي والباحث الحضري الأميركي إدوارد سوجا، مساهماته الأساسية في تطوير هذا المفهوم. ويُبرز عمله الحاجة إلى اعتبار المكان جانباً أساسياً من جوانب النظرية الاجتماعية، إلى جانب التركيز التقليدي على الوقت والعمليات التاريخية. كما ينبّه سوجا إلى الآثار المهمة للمقاربات المكانية أو المعتمدة على التحليل المكاني في مختلف الميادين، بما في ذلك الجغرافيا، والدراسات الحضرية، وعلم الاجتماع، والدراسات الثقافية، والتاريخية. ويشجع سوجا أيضاً الدارسين على إدماج التحليل المكاني في بحوثهم، مع الاعتراف بالدور المحوري للمكان في تشكيل التجارب البشرية والهياكل المجتمعية، الأمر الذي يفتح سبلا جديدة لفهم تعقيدات الحياة الاجتماعية ومعالجة أوجه عدم المساواة والظلم المكاني.
وتوفر أطروحات سوجا المتعلقة بالفضاء الثالث والعدالة المكانية وتجربة المكانية أطراً قيّمة لتحليل الأبعاد المكانية للظواهر الاجتماعية، وتُظهر الحاجة إلى النظر في الفضاء في عملية فهمنا للديناميات الاجتماعية وعلاقات القوة.
[6]Martin Shaw, “New Wars of the City: Relationships of ‘Urbicide’ and ‘Genocide’ ”, In: Stephen graham, ed., Cities, War and Terrorism: Towards an Urban Geopolitics (Oxford: Blackwell Publishing, 2005), p. 143.
[7] "الإبادة المدينية" لفظة أدق من إبادة المدن، لأن الإبادة بما هي فعل هدم، فإنها أيضاً فعل إنتاج للمدينة من خلال هدمها، لأن الهدم هنا يقوم بترتيب وتصنيف وإعادة إنتاج المكان والإقليم المديني من جديد، لضمان وأرضنة شكل جديد من علاقات القوى.
[8] انظر:
Louise Wirth, “Urbanism as a Way of Life”, in: Metropolis: Center and Symbol of our Times”, edited by Philip Kasintiz (New York: New York University Press, 1995), p. 78.
[9] Ibid.
[10] انظر:
Katherine McKittrick, “On Plantation, Prisons, and a Black Sense of Place”, Social and Cultural Geography, vol. 12, no. 8 (2011), pp. 947 – 963.
[11] Ibid., p. 952.