فقدنا صديقاً وزميلاً عزيزاً ترك لنا إرثاً غنياً لن يطوي النسيان مؤلفاته وكتاب حياته. كان كثير المواهب ومتعدد الانتماءات: بيروتياً ولبنانياً وفلسطينياً وعربياً كان، تتصالح هويّاته في معظم الحالات، وفي وعيه لذاته لا تفترق إلّا في القليل منها.
لكن فلسطين احتلت منزلة القلب في فكره ومشاعره، لأن حرية فلسطين هي شرط لحريّة العرب، وأفق فلسطين هو أفق العرب، ولأن فلسطين التي ما انفكّت تتعمد بدم الضحايا ليست مجرد أرض أو تاريخ ضائع، بل قضية إنسانية كونية كبرى أيضاً. والنكبة المتجددة التي رآها في عيون أطفال غزة هي في حقيقة الأمر قضية قيم تُمعن إسرائيل في إسقاطها، وتسعى بقدر من النجاح ليقف العالم عاجزاً أو معرضاً عن التمسك بها، كأن القيم الإنسانية التي يجاهر بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، ويضمرها القانون الدولي، تقف عند الاستثناء الإسرائيلي.
إن غزة اليوم هي"سرّة العالم مثلما القدس سرّة العالم"، وفيها نكتشف أن قتل الحياة مستحيل، وأن القيم، مهما تتجاهلها إسرائيل وتصرف الأنظار عنها، ستُستعاد من أرض التاريخ وأعماق جراحه. لقد ثَبُت إلياس خوري في انتمائه إلى قضية فلسطين من حيث هي قضية أخلاقية، وبقي على وفائه لها في امتحان الألم، أي في محنة غزة ومحنته الشخصية اللتين تزامنتا عاماً كاملاً ولم تنفصلا. ظلّت عيونه، ومعها جسده المنهك، يرويان قصة غزة، وينظران إلى الصمود والنبل لدى أبنائها وبناتها، ورأى أنها، في الأوجاع المذهلة والشجاعة والصبر، تولد من جديد وتعيد إلى العالم معاني يحتاج إليها.
وفي افتتاحياته العديدة في هذه المجلة التي رَأَس تحريرها منذ سنة 2010، وضع الثقافة في مواجهة النكبة المستمرة والانحطاط الأخلاقي، وشدّد على العلاقة الوثيقة بين الكتابة والألم، بين الثقافة وقساوة الأيام. وكان دأبه اكتشاف هذه العلاقة في خبرة الأجيال التي جددت المسيرة الفلسطينية، وفي تجليات الكرامة الوطنية والشخصية، وفي معاناة الأسرى الذين وصف كلامهم بأنه "عيون الكلام".
وفي مقالاته وفي رواياته أيضاً، بقوة واقعيتها وخصب خيالها، آمن حقاً بأن الكلمة أول المقاومة، وبها نكتشف حريتنا من جديد.
"مجلة الدراسات الفلسطينية" ستفتقد فكر إلياس خوري وأدبه وجهوده في فتح المسالك الجديدة. وهي مُدينة له بمثابرة في العمل قلّ نظيرها، والتزام لا يلين أقوى من الخيبات والمرض. والعدد الذي نضعه بين أيديكم شاهدٌ على مكابدة تواصلت أشهراً طويلة، وهو ثمرة من ثمار أيامه الأخيرة.
وستفتقده مؤسسة الدراسات الفلسطينية الذي قدّم لها الكثير ممّا امتلأت به روحه. نودعه ونحن على يقين بأن شيئاً منه ثميناً سيبقى معنا. ونقول له بلغة صديقه محمود درويش: "مهما نأيتَ ستدنو".