في هذا العدد
النص الكامل: 

هذه أول مرة تصدر فيها "مجلة الدراسات الفلسطينية" منذ استلام أستاذنا إلياس خوري في سنة 2010  رئاسة تحريرها ولا يكتب افتتاحيتها، وهو الذي رحل عن دنيانا بعد معاناة قاسية مع مرض لم يمهله أكثر من عام عانى خلاله آلاماً مبرحة لم تستطع إيقافه عن العمل في أكثر من عدد، أو عن كتابة الافتتاحيات التي كان أي قارىء لها يعلم أنها من فكر الأستاذ ومبادئه التي لم يَحِد عنها.

كان أستاذنا بآلامه يشارك غزة وفلسطين جراحهما، وكلما اشتدت وحشية الألم زاد يقينه بأن فلسطين ستنتصر، كأن آلامه فداء لجسد فلسطين الجريح.

كتب خوري عن فلسطين في ذروة مرضه، وكل حرف خطّه كان مداده صرخة من ألم كان يكابده، لكن فلسطين ظلت سنداً له، وظلت عيناه مصوبتَين إليها يتضرع إلى الله كي تنتصر على عدو همجي شنّ حرب إبادة على غزة والضفة وفلسطين كلها. فهذا العدو عجز طوال 76 عاماً عن جعل أهل فلسطين الشرفاء يعترفون به وبوجوده، وعجز عن دفع فلسطين إلى إعطائه بركتها التي خصّها الله بها، فمَن باركته فلسطين كسب الشرف والشرعية والصدقية والحقّ في الوجود، ومَن لم تباركه فلسطين غرق في وحل الخيانة والبربرية والسرقة وعدم الشرعية، بل تمرّغ في مياه وحشيته الآسنة التي تحوّل بفضلها إلى وحش لا إنساني وهمجي.

هذا العدد خططه أستاذنا إلياس، وسكب عليه من بصره الحديد مقياساً لجودة المواد، وكانت تعليماته وتوجيهاته نبراساً لنا يوجّهنا في أثناء وضعه الصحي، وكنا نسعى جاهدين لتنفيذها بحسب رؤيته.

يصدر هذا العدد مع استمرار حرب الإبادة على قطاع غزة، وحرب الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية، واستمرار حرب إسرائيل على الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية،

كما يصدر في الوقت الذي بدأت إسرائيل تشنّ حربها المجنونة على لبنان بدءاً بتفجير البيجر، مروراً بحملة الاغتيالات لقادة من حزب الله وقادة فلسطينيين في لبنان، انتهاء باغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، فضلاً عن القصف المجنون للضاحية الجنوبية لبيروت وقرى الجنوب اللبناني، وبداية لتوغل بري.

وفلسطين ولبنان ثنائيتا حب عند إلياس خوري، ومثلما فرح لكل إنجاز فلسطيني وحزن لكل جرح لها، فرح وحزن للبنان ومعه. فخلال انتفاضة تشرين الأول / أكتوبر 2019 استعاد شبابه، بل كان شاباً يشارك شباب ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح ثورتهم، يتظاهر معهم ويوجههم، مستعيداً أيام الشباب عندما ساهم في تأسيس تيارات يسارية برفقة رفاق مثل سمير قصير الذي رحل غيلة عن دنيانا. أمّا انفجار المرفأ فترك فيه جرحاً غائراً لم يُثْنِه عن تخصيص عدداً خاصاً عن بيروت ولها، فبيروت هي حَبّة قلبه، مثلما أن فلسطين هي حبيبة قلبه.

يتضمن العدد نصّاً لطارق متري رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية في وداع أستاذنا إلياس خوري، بعنوان: "مهما نأيتَ ستدنو"، يتناول كيف احتلت فلسطين منزلة القلب في فكره ومشاعره، بل كيف رأى فيها البوصلة إلى الحرية، فهي سرّة العالم مثلما القدس سرّة العالم، وأنها لا بد ستولد من جديد حاملة إلى العالم معاني يحتاج إليها.

يلي هذا الوداع مدخل لجمال زحالقة بعنوان: "إسرائيل في ظل السابع من أكتوبر وحرب الإبادة على غزة"، يقرأ فيه ملامح التغيير الجاري في إسرائيل بعد حرب 7 تشرين الأول / أكتوبر، ويشخّص حالات الأمن والسياسة والاقتصاد، راصداً المتغيرات التي حدثت فيها بتأثير الحرب.

ولأن الزمن هو زمن الإبادة في غزة على مرأى ومسمع من عالم أعمى عينَيه وأقفل مسمعه وخاط فمه، كان خيار نشر ملف للعدد بعنوان "الأرض، الإنسان والمكان في الإبادة"، وفيه يكتب كل من: عبد الله بياري عن "المكان الفلسطيني في زمن الإبادة: مقدمة في مجالية مقاومة الاستعمار والحرب والإبادة"، مناقشاً محمولات وممكنات المكان الفلسطيني في زمن الإبادة المتضمنة في شرط الاستعمار، ومتطرقاً إلى مجالية المقاومة؛ دراسة لأباهر السقا بعنوان: "كيف نقرأ الحالة الاستعمارية / المستعمرية 1948 و1967"، وفيها يقترح إطاراً جديداً لكيفية قراءة الحالة الاستعمارية / المستعمرية في المستعمرتين 1948 و1967، بالمراكمة على فعل العصيان المعرفي والإبادة المعرفية؛ دراسة لمنصور النصاصرة بعنوان: "قضاء بئر السبع والجنوب الفلسطيني: حكاية عقود من النضال والصمود" تتناول قضاء بئر السبع والجنوب الفلسطيني، وكيف ناضل سكان تلك المنطقة، ولا يزالون يناضلون ويصمدون في وجه المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية؛ دراسة لتايزو إمانو بعنوان: "استعمار فلسطين، وجغرافيا وتاريخ عشائر البدو في قضاء بيسان" تتناول استعمار فلسطين، عبر دراسة جغرافيا وتاريخ عشائر البدو في قضاء بيسان، بما هي مكون اجتماعي رئيسي في فلسطين، أخرجتها مقولات الحداثة من استعاراتها؛ دراسة لفيروز سالم بعنوان: "روايات من الفروش: العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سهول نابلس الشرقية بين نكبة ونكسة" تتمحور حول قضية خربة فروش – بيت دَجَن، وتدرس العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سهول نابلس الشرقية بين نكبة ونكسة، وكيف يعيد السكان إنتاج أشكال وجودهم بين حدثين إباديين؛ مقالة لعلي حبيب الله بعنوان: "عكا.. نموذج من تاريخ بعث العمارة الفلسطينية – الساحلية في التاريخ الحديث" تدرس العمارة في مدينة عكا، تلك المدينة الفلسطينية الساحلية التي تكسرت جيوش نابليون على أسوارها بسبب نمط عمارتها الثَّكَنية؛ مقالة لسليم البيك بعنوان: "أنا ذلك الآخر لدى فلسطين" تقدم مقاربة للنظر في / إلى المكان الفلسطيني من خارجه، من خلال السرد المنفوي.

والإبادة ليست للجسد والحجر، بل لكل ما ينم إلى فلسطين بصلة، ولهذا كانت الأونروا هدفاً وجهت إسرائيل إليها جميع الاتهامات الملفقة، أملاً بتصفيتها كمقدمة لتصفية قضية اللاجئين، وعنها يكتب عزام شعث في باب مقالات، بعنوان "أزمة الأونروا: تقليص التمويل أم تصفية قضية اللاجئين"، ويناقش واقع الأزمة المالية التي تعانيها الأونروا، وانعكاسها على مستوى الخدمات التي يتلقّاها اللاجئون الفلسطينيون، ودوافع الحملات الأميركية والإسرائيلية على الوكالة، والهادفة إلى تصفيتها وصولاً إلى تصفية قضية اللاجئين.

وتستطلع سجود عوايص في مقالتها  المعنونة: "إسرائيل تؤسس لليوم الثاني في غزة عبر إنتاج الفوضى"، أن الاحتلال يعيد تدوير الفوضى في غزة لتأسيس حيّز زمني وسياسي يتيح له تنفيذ مخططاته لليوم التالي بعد حربه الهمجية على غزة.

وتدرس مجد حثناوي في مقالتها: "النُّصُب التذكارية للشهداء الفلسطينيين أماكن ذاكرة لصيرورة التحرر"، وتعتبرها ممارسة ثقافية عالمية تستخدمها الشعوب كأماكن للذاكرة كي لا تنسى الأجيال المقبلة، ولهذا يستهدفها الاحتلال كي يلغي ذاكرة الفلسطينيين في الوقت الذي يكثّفون تجسّدات أمواتهم.

أمّا عبد القادر ياسين فيعود قليلاً إلى الوراء، ويسلط الضوء في مقالته: "موقع وثبة مارس الغزّية في التالريخ" على "وثبة عزة" التي اندلعت في آذار / مارس 1955 ضد الإدارة المصرية جرّاء التقصير في الدفاع عن القطاع خلال العدوان الإسرائيلي في شباط / فبراير من السنة نفسها. وما تركته هذه الوثبة من تأثير لاحق في مجمل الوضع العربي.

في باب دراسات تكتب لمى سليمان عن: "الطوفان: أنفاق غزة وطريق الباطن"، وتبحث في النفق كمفهوم فلسفي وآلية عملية. أمّا عبد العليم محمد فيبحث في دراسته: " 'اتفاقيات أبراهام' والنموذج الجديد للتطبيع: قراءة تحليلية" طبيعة الأخطار الممكنة على صعيد النظام العربي ككل، وعلى صعيد القضية الفلسطينية، جرّاء الانقسامات والإضعاف لفكرة العروبة والقومية.

وككل عدد يكتب عبد الباسط خلف تقرير فلسطين في ثلاثة أشهر يرصد فيه الاعتداءات والمجازر التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين، إذ مع الانتهاء من كتابة التقرير كان عدد الشهداء قد لامس 50,000 في قطاع غزة، ارتقوا جرّاء ارتكاب إسرائيل 3573 مجزرة، فضلاً عن عشرات الشهداء الذين ارتقوا في الضفة الغربية جرّاء جرائم جيش الاحتلال والمستوطنين.

وللشهداء دائماً مكانة، ففي باب شهادات يكتب يامن نوباني شهادة بعنوان: "من أنيس دولة إلى خضر عدنان: التراب كله لنا"، يُجري فيها مخاطبة افتراضية خلال استقبال الشهيد أنيس دولة للشهيد خضر عدنان، ويتحدث عن شهداء المعتقلات ومقابر الأرقام.

وفي العدد قراءة خاصة راجع فيها ساري عرابي كتاب طارق بقعوني " 'حماس' صعود المقاومة الفلسطينية ومحاولات الاحتواء"، يليها مراجعتان لكتابَين: الأول جهاد الرنتيسي يراجع كتاب ريما كتّانة – نزّال: "خالد في حياتي"، والثاني ليث أبو صبيح يراجع كتاب مشهور البطران: "المدرسة من الداخل: سوسيولوجيا مدرسة مقهورة".

ويهمّنا في "مجلة الدراسات الفلسطينية" أن نشير إلى أننا سنخصص في العدد المقبل مساحات وملفات خاصة عن رحيل الزميل إلياس خوري الذي لم يكن واحداً من أبرز الروائيين العرب، والكُتاب المسرحيين والنقاد الأدبيين فحسب، بل كان كذلك صحافياً لامعاً، تألق، بصورة خاصة، في مجال الصحافة الثقافية والفكرية، وكرّس حياته المهنية للنضال من أجل فلسطين وقضيتها العادلة، إلى جانب نضاله من أجل غد أفضل للبنان ديمقراطي يكون متحرراً من قيود الطائفية.  كما سنخصص ملفات خاصة عن حرب الإبادة في غزة، وتداعيات الحملة الإسرائيلية على لبنان والمنطقة التي تبدو على أنها على حافة حرب شاملة.