يقول صوت جندي عبر اللاسلكي في مشهد من فيلم "حصار" (2002، إخراج رام ليڤي): "سنخرج من وكر الثعابين"، وذلك وهو في طريقه لإنهاء خدمته العسكرية في قطاع غزة، وهكذا، رأوا القطاع وكرَ ثعابين. ومنذ احتلاله، سنة 1967، لم يحظ قطاع غزة بما هو متوقع من الاهتمام السينمائي مقارنة بما حظيت، وما زالت تحظى به الضفة الغربية، وباتت غزة العريقة وجاراتها من مدن جنوب غرب فلسطين، على الرغم من زخم حكاياتها، ضعيفة الحضور في السينما الإسرائيلية بصورة عامة.
إن الاحتكاك اليومي بين الفلسطيني وأذرع الاحتلال ليس حاضراً في حارات القطاع وأزقته، وهو ما أفرز شحاً في أفلام تعكس تجارب الجنود وتعاطيهم مع المدنيين الغزيين عبر الحواجز الحائلة بين المدن، أو مداهمات البيوت، أو الانتشار في الحيز الفلسطيني لفرض السيطرة، أو حماية المستوطنين، وحتى وجود مستوطنات "غوش قطيف"، وإخلاؤها لم يسفر عن تجارب سينمائية مثيرة تنافس مثيلاتها الوافدة من الضفة الغربية.
كذلك الأمر، فقد كان حضور قطاع غزة في السياق اليومي المدني الإسرائيلي ضعيفاً، إذ اقتصر تجوُل الإسرائيلي فيها على تلقّي خدمات أو مشتريات بأسعار زهيدة، بينما عمل الغزّيون في مواقع البناء والزراعة في معزل عن المواطن الإسرائيلي العادي، باستثناء المشغّل، لذا، فقد فشلت الكاميرا الإسرائيلية في التوغل وفك رموز الواقع في قطاع غزة، وتقديم أعمال تدغدغ الفضول، وتثير التساؤلات، وتضيء زوايا مظلمة.
ويقدم هذا النص محتوى مجموعة من الأفلام الوثائقية الإسرائيلية من القلة التي تناولت قطاع غزة، ويلخص أولاً تقسيم المخرجات الوثائقية على محور زمن صناعتها، والتي تأتي على ثلاث فترات:
-
استكشاف البلد من النكبة إلى الانتفاضة الأولى (1948 – 1987)
حرصت الدولة الجديدة عبر إعلامها الرسمي والعسكري على إجراء مسح للمكان بالصوت والصورة، والتعرف عليه وما يحتويه من حياة اجتماعية وزراعة وصناعة خفيفة، فرصدت الكاميرا، بحلّة معلوماتية - إخبارية أكثر من كونها وثائقية، صناعة الفخار وصيد السمك وزراعة الخضروات وحياة اللاجئين في مقرات الأونروا، لكنها حرصت أيضاً على توثيق العمل الفدائي.[1] وهكذا، قدّمت الدولة إلى الجمهور صورة عن القطاع، تحكمت خلالها بالمعرفة ورسم حدود العلاقات.
وعلى الرغم من التقشف في توثيق الوجه السياسي للقطاع ومعنى الاحتلال في هذه الفترة، فإن فيلم "قنبلة في غزة" (1971، إخراج موطي كيرشنباوم) الذي تم تصويره في إثر موجة من عمليات المقاومة سنة 1970، يبرز باعتباره تجربة فريدة وعدسة مكبّرة مسلطة على الحياة الفلسطينية في ظل الاحتلال، وقد أطل الفلسطيني الإنسان لأول مرة أمام المشاهد الإسرائيلي عبر متابعة مطولة للفيلم، للتحقيق في قضية قذف قنبلة يدوية داخل شاحنة تجارية إسرائيلية. ويصور الفيلم محاولات إحباط نشاط المقاومة، وإنشاء صدع بين المواطن والفدائي، عبر تعطيل سريان الحياة اليومية، وتفتيش المارة والباعة، والتحقيق معهم.
-
بين الانتفاضتين (1987 – 1999)
لم تحظ هذه الفترة بكثير من التوثيق السينمائي، وما أُنتج خلالها صب اهتمامه على استقدام العمال الغزيين إلى البلدات التعاونية وحقل الزراعة والصيد وقوافل التجارة. ويُشار هنا إلى فيلم "المنطقة ك. صيد سياسي" (1999، إخراج نداف هارئيل)، الذي يقارن بين عمل الصياد الغزيّ والصياد المستوطن في "دوغيت"، وتظهر فيه غزة كمدينة طبيعية، يُنافس صيادوها على رزق البحر نظراءهم الإسرائيليين، ويتحدثون بلغة عبرية سلسة كجزء من تطبيع العلاقة وقبول الواقع.
وعلى الرغم من أثر الانتفاضة الأولى واتفاق أوسلو البالغ في الشعب الفلسطيني، فإنه لم ينجح أي من هذين الحدثَين المفصليَين في اجتذاب صناع السينما الإسرائيليين نحو القطاع.
-
من انتفاضة الأقصى إلى ما بعد شاليط (2000 – 2023)
تُعتبر هذه الفترة الأكثر غزارة مقارنة بسابقاتها، فخلالها، اندلعت انتفاضة الأقصى، وتم إخلاء المستوطنات، وتم اختطاف الجندي غلعاد شاليط، ثم جرى عدوان وعمليات عسكرية ومجازر وصلت إلى ذروتها في العدوان المسمى "الرصاص المصبوب". وتجدر الإشارة هنا إلى فيلم "ماتادور الحرب"[2] (2011، إخراج أفنير فينجلرينت)، الذي يقدم إلينا صورة مغايرة للعلاقة، فلا تبرح الكاميرا الجانب الإسرائيلي، وتنظر نحو غزة من فوق "تلة الحصان"، حيث يجتمع إسرائيليون ليتمتعوا برؤية الأفق، حيث تضيء القنابل الفوسفورية سماء القطاع. أمّا "طوفان الأقصى" المهول الذي تذيَل سنة 2023، فقد أوجد هوة حالت بين القطاع والأعمال السينمائية الإسرائيلية، التي أنتجت حتى نشر هذه المادة فيلمَين وثائقيَين فقط: الأول "نوفا" (2024، إخراج دان بئير)؛ الذي يرصد لحظات صُورت على يد المشاركين في الحفل منذ انطلاقه حتى وصول من تمت تسميتهم بـ "إرهابيي النخبة الذين جاؤوا ليحتفلوا بالموت." والثاني "العودة من غزة" (2024، إخراج ليرون فايتسمان)، الذي يصور معاناة جنود الاحتياط العائدين من القتال، الباحثين عن الاستشفاء بعد أن تم "تسميمهم" بسُمّ الحرب.
إن التوثيق الإسرائيلي للحياة اليومية الحقيقية المثقلة بالقصف والدمار في قطاع غزة من فم أهلها أمر نادر، ويُستثنى هنا فيلمان من إنتاج مؤسسة "بتسيلم"[3] الحقوقية، وهما: "حصار" (2002، إخراج رام ليفي)، و"نظرة على غزة" (2018، إخراج بتسيلم، تحقيق خالد العزايزة). وهذان الفيلمان يقدّمان جانباً من المعاناة الإنسانية اليومية للجرحى، والمرضى، ومبتوري الأطراف، فضلاً عن فقدان الأمن الغذائي، وشُح الماء والدواء، وانقطاع الكهرباء، والبطالة الشديدة التي تجعل الحياة رهينة مساعدات المنظمات الإنسانية. ويغيب التنوع، وتكاد الأفلام مجتمعة تحمل الرسائل المعلنة والمبطنة نفسها التي يمكن تلخيصها بالتالي:
-
حروب الفلسطيني الفردية وضبابية الاحتلال: على الرغم من الصراع الدامي فعلياً، فإن تحرُك الكاميرا في حيز القطاع يأتي بلقطات واسعة معقمة من أي حفرة أو ركام نتيجة قنبلة قصفت مبنى ما، وتكتفي برؤية الدخان وسماع صوت المقاتلات الحربية كما تظهر في افتتاحية فيلم "حقول حمراء" (2007، إخراج أييليت هيلر) على سبيل المثال؛ حيث نرى المركبات العسكرية في الخلفية، ونتابع ردات فعل مزارعي التوت من دون رؤية ما خلّفه اعتداء المدفعية. وكذلك الأمر في فيلم "ماتادور الحرب"(2011، إخراج أفنير فينجلرينت)، والذي يحصر رؤية الدم في مجاز حلبة مصارعة الثيران التي يتحلّق فيها المصارعون، ويغرسون سهامهم في ظهر الثور الذي يصر على البقاء حياً على الرغم من النزيف، ولا نرى الدم الحقيقي النازف داخل مدن القطاع، فالكاميرا تقف بعيداً تراقب القطاع من وراء الشريط الحدودي. وعلى الرغم من قوة الاستعارة، فإن تعقيم المشهد من الدم الغزي يُضعف فرص الحقيقة في الظهور، ويقلص مساحة التعاطف، ويبقي إحساس الصدمة حكراً على رؤية الدم الإسرائيلي.
في بداياتها، وثّقت الكاميرا الإسرائيلية شكل القطاع من دون التعمق فيه، وأجرت مسحاً استخباراتياً على شكل فيلم يتعرف على المساحات والتحركات، ويجمع المعلومات بشأن الصناعة والتجارة، ويرصد نزراً من الحياة الاجتماعية ومستوى المعيشة وسبل الترفيه، كما يظهر على سبيل المثال في أفلام أرشيف سينماتيك "يروشلايم". ولم تكن غزة المدينة، ولا مدن القطاع، مكاناً فريداً وغارقاً في التفاصيل، إنما مساحة فقدت هويتها، وصارت معانيها أسيرة العين والذهنية الإسرائيلية.
خلال فترات زمنية متعددة، كانت الفرصة مؤاتية لاختراق العدسات حدود القطاع، ورؤية الفلسطيني عن قرب، لكن معظم ما أُنتج اختار النأي بنفسه عن غزة الحية بكل مركّباتها، واقتص من الواقع ما يخدم قصته السينمائية، وإن غامر بعض صنّاع الأفلام في أنسنة الفلسطيني، فإن ذلك مشروط بإسماع الصوت الإسرائيلي في المقابل. فعلى سبيل المثال، آثر مخرجا فيلم "غزة سديروت" (2009، إخراج عيراه ونداف لبيد) منح الشخصيات على جانبَي الصراع المساحة نفسها، فنرى المونتاج يساوي بين عرض حياة الناس في الجهتين، فيبدو الطرفان مواطنين بسطاء، وضحايا سياسات خاصة من جانب المحتل، فتتصدر المشهد امرأة إسرائيلية مسنة لا تجيد القراءة والكتابة، ومصففة شعر لا تكترث لشيء إلاّ لمظهرها، وصاحب دكان شرقي يعاني جرّاء التفرقة على أساس عرقي.
ويقول أحد الصيادين في فيلم "المنطقة ك. صيد سياسي": "السلام مزيف، والحق ضايع"، هذا على الرغم من أنه يعمل بالشراكة مع الصياد الإسرائيلي. لكن علاقة الطرفين في هذه الأفلام تحيّد عن السياق الحقيقي – الاحتلال الجاثم على صدور الفلسطينيين - فتغييب هذا السياق عبر عرض العلاقة بين الشخصيات يوهم المشاهد بأن التاريخ يبدأ من نقطة متغيرة وفقاً لقصة كل فيلم وأبطاله، فينتج من ذلك صراع فضفاض لا جذور له، ولا سياسات قمعية ممنهجة تتجلى في طرائق الاستعباد والتحكم بالحياة وتعمّد تكبيد الخسائر، مع اختزال القضية بمسمى "محاربة ʾحماسʿ".
لا دم في غزة، ولا شهداء، ولا جرحى، فمعظم الأفلام معقمة من الجنود، وتغيّب الذراع التنفيذية للاحتلال، كـ "غزة سديروت" أو "كماليات" (2011، إخراج دافيد أوفيك)، أو "رجال على الحافة - يوميات الصيادين" (2009، إخراج أفنير فينجلرينت). وإن تابعت الكاميرا حركة آليات عسكرية تتوغل في الجسد الفلسطيني، فإن سائقها يكون مجهولاً، وإن ظهر الألم الفلسطيني، فلا نعلم مَن المتسبب بالألم، لأن الفلسطيني يتهم اليهود بصورة عامة، كما يظهر في فيلم "حصار". وفي المحصلة، ما تفرزه هذه الأفلام هو حروب فلسطينية فردية، وبالتالي، فإن الحلول عينية، وليست بالضرورة إنهاء الاحتلال، وربما تكون تحسين أوضاع المعيشة.
وفي غياب الإطار التاريخي والواقع الاستعماري، تقدم إلينا معظم الأفلام فلسطينياً لا يحمل كبرياء الرافض للاحتلال، ومستضعفاً، ومستسلماً، وخانعاً، ومعتذراً، يريد خبزه كفاف يومه، ويحلم بالعيش في سلام، ولا يريد دفع الثمن، كما تظهر مديحة مزارعة التوت في فيلم "حقول حمراء"، حين تلوم المقاومة، وتطالبها بمراعاة المصلحة الوطنية، وشخصيات أُخرى تتنصل من فعل المقاومة، ثم تغيب عن الشاشة حين تشتد الأزمة، وتبقى المساحة متاحة للإسرائيلي ليقول ما يريد؛ معاناة الفلسطيني منه وفيه، كما يظهر في فيلم "كماليات"، حين تُتهم "حماس" بالمسؤولية عن العقاب الجماعي وفرض الحصار.
-
تطبيع العلاقات وطُعم المصير المشترك: صوّر عدد من الأفلام علاقات الزراعة والتجارة، كـ "حقول حمراء"، و"كماليات"، و"رجال على الحافة – يوميات الصيادين"، و"المنطقة ك. صيد سياسي". ونرى عن طريق هذه الأفلام مدى التعلق بالمحتل؛ إذ تثير معظمها وَهْم المصير المشترك الذي يقوم على حركة التجارة والمال، وضرورة انتعاشها خدمةً للطرفين. لكن إذا أمعنّا النظر، فسنرى كيف يتحول الفلسطيني الساعي لكسب قوته إلى مطيّة لجشع التاجر الإسرائيلي الذي لا يرى سوى أرباحه، وتُظهر الأفلام المذكورة الكثير من شخصيات التجار الإسرائيليين أو السماسرة أو النقابات المهنية التي تستفيد جميعاً من اليد العاملة الغزية، كما يتجلى فيها فرض السيادة والسيطرة وتملّك حصرية المعرفة والتفوق الإنساني عبر وصم الآخر جهاراً أو مواربةً بالبدائية والتخلف والجهل، كقول مصدّر التوت في فيلم "حقول حمراء": "قلنا لهم كيف يقطفون التوت لكنهم لا يتعلمون"، أو كما يقول مورّد فاكهة في فيلم "كماليات": "لقد علّمناهم كيف يأكلون الكيوي."
إن العلاقات الإنسانية النادرة الظاهرة في الأفلام هي علاقات بين أفراد مِحراكها المال، وفيها فلسطيني منتفع مصلحته مرتبطة بالإسرائيلي. وإذا ظهر سكان غزة جمعاً، فإنهم إمّا شخصيات لها أسماء ووجوه لكن وجودها لا يزيد على كونها جزءاً من الفضاء التجاري الإسرائيلي، وإمّا كيانات عامة مجهولة الهوية تسمى الفلسطينيون. وقد برز استخدام مسمى الفلسطينيين طوال الوقت الذي يدور فيه الحديث عن جماعة ينعشون أعمال التجار الإسرائيليين ويخضعون لأهواء المنسق.
لقد أسقطت الانتفاضة الثانية كمرحلة مفصلية القناع عن وجه التطبيع، وفضّت وَهْم الشراكة، وأعادت كل واحد إلى أصله، وأظهرت العنصرية والاستعلاء والاستغلال الإسرائيلي مغلَفين بقالب ردات الفعل الفورية الفطرية والعفوية. ويظهر ذلك بكل قبحه في فيلم "رجال على الحافة"، عبر شخصية موطي الذي يرد شاطئ أشكلون مُصادراً قوارب آل سعد الله، على الرغم من إنقاذهم له قبل اندلاع الانتفاضة، ومصرحاً بأن لا حق لهم في القوارب، ولا في البحر، ولا على الأرض.
ومن اللافت في اختيار الشخصيات في كل من هذين المحورَين غياب الإنتلكتوالية، واقتصار الأشخاص على البسطاء والمزارعين والصيادين وصغار الباعة والتجار، وينتُج من هذا تصريحات ومفردات يتفوه بها الغزيون تقوم على ضيق الرؤية، وتفتقر للندية أو العمق السياسي أو التفكر. ويمكن ألاّ ينسحب هذا على شخصية واحدة، هي نجوى سلطان التي تظهر في فيلم "حصار" وقد كانت أسيرة لدى الاحتلال لقيامها بفعل مقاوم.
-
المعاناة الإسرائيلية، والنقد الذاتي، وراحة الضمائر: في كل فيلم هناك إسرائيلي ضحية، مهما يغالي في إرهابه للفلسطيني، وهذا العرض للشخصيات يفرض التعاطي مع الطرفين بالتساوي، وعرض المعاناة كحالة، وليس كاحتلال يُرَد عليه بالمقاومة.
وعلى الرغم من التشتيت الواضح لأصل الصراع والجرائم المرتكَبة من أجل إقامة دولة، فإن الحاجة الملحة إلى التخلص من تأنيب الضمير تدفع البعض إلى توجيه سهام نقد لطيفة نحو المجتمع والأذرع التنفيذية لسياسات الحكومات المتعاقبة، كما يظهر في فيلم "المنطقة ك. صيد سياسي" حين يقول الجندي إن حراسة مستوطنات القطاع هي مضيعة للوقت، أو حين يقول إسرائيلي في فيلم "حصار": "كلهم ضدنا ونحن أيضاً ضدنا."
ويصور فيلم "نوني عيوني" (2022، إخراج باز شفارتس) كيف يقوم رجل الاستخبارات غيزي تسفرير، وهو في سن الثمانين، بمحاولة التوبة من دوره في اغتيال تم في مطلع الخمسينيات، والذي استهدف قائد الاستخبارات المصرية في غزة مصطفى حافظ درويش، الذي كان شريكاً في قيادة العمليات الفدائية الفلسطينية، ويبحث غيزي عن ابنة الشهيد ليعتذر إليها. وهذا النظر في المرآة في جُله محاولة للخلاص الفردي من إثم الجرائم المرتكَبة، واللوذ بالفرار من عذاب التقدم في السن واستخلاص العبر متأخراً.
وفي استحضار الجانب الأرشيفي للعملية، تظهر شخصية نتان راهاف، الذي كان يصمم القنابل ويطلق عليها اسم "الهدايا". إن ظهور شخصيات في سن الثمانين، غير قادرة على المشي والحركة، وتكرار لقطات الوجوه القريبة جداً، يدأب على إثارة حالة تعاطف وتسامح مع هذه الشخصيات.
وفي السياق نفسه، يظهر النفاق المغلف بتأنيب الضمير في فيلم "كماليات" في مشهد السعي لإدخال زوج من الحمير الوحشية إلى حديقة حيوانات غزة من جانب منسق أعمال المستوطنات المحاذية للقطاع، في عمل دؤوب، رأفةً بأطفال غزة الذين يتوقون لرؤية الحمار الوحشي. لكن المفارقة تظهر حينما يقوم الشخص نفسه بالتظاهر والتصدي لشاحنات الوقود المتجهة نحو القطاع.
-
بين تكوين المشهد وتكوين المُشاهد: في تكوين المشهد السينمائي، حيث تجتمع الشخصيات وتحركات الكاميرا والصوت وعناصر فنية أُخرى، نرى أن هناك تكراراً وتشابهاً في الوثائقيات الإسرائيلية، يعكسان واقعاً مجتزَأً، وإن كانت خيارات المخرج تبدو للوهلة الأولى محاولة لإظهار طرفَي الصراع على قدر من المساواة السينمائية، إلاّ إن هذا الخيار بالذات يشوه الواقع الذي نعرفه.
وبالنظر إلى فيلم "حصار"، فإننا نراه يُفتتح بمشادة كلامية بين إسرائيليين يساريين ويمينيين، فهو يوهم المشاهد بوجود نقاش حقيقي ويسار فعال. وعندما ينتهي بصورة طفل يلعب بطائرة ورقية يرافقه صوت الفلسطينية أمل مرقس يغني "يا عود" للأخوين الرحباني، فهو يشكّل وهماً آخر بوجود فضاء يتسع لهذا الطفل وأحلامه ورغباته، وأولها الحرّية. أمّا عرضه لقضية الطفل المبتور القدمين على وقع أغنية "لا أحد يعلم"، من شِعر سميح القاسم وأداء أمل مرقس، فهو إنذار بالحكم على كل فلسطيني داخل القطاع بأن دوره سيأتي غداً.
ويُفتتح فيلم "المنطقة ك. صيد سياسي" بصيد في عمق البحر، يرافقه صوت أجهزة التنفس، وينتهي بوجبة مشتركة للصيادين الفلسطينيين والصياد المستوطن، ليختصر الواقع ببقعة ماء لا يمكن لأحد أن يغرق فيها. ويطفو الجميع هنا تاركين الاحتلال والاستيطان عميقاً في الأسفل، وكأن الصيد السياسي هو هؤلاء الصيادون العالقون في شباك القيادات السياسية. كما أنه في تزامن غريب، وبينما نرى المزاد العلني في سوق السمك، نستمع إلى أغنية "زهرة المدائن" التي تنذر بانتفاضة الأقصى الوشيكة، وتذكّرنا بمكانة القدس، وأثر الاعتداء في حرمتها في قلب كل فلسطيني مهما يحُل بينه وبينها جدار وخط أخضر وعوازل سياسية أُخرى.
لا شك في أن اللقطات الواسعة تشكّل حالة من التباعد بين الأشخاص والقضايا والمُشاهد، بعكس اللقطات القريبة جداً التي تُظهر تفاصيل الشخصيات، وتشي بما مر بها من نظراتها وتجاعيدها. فالمساحة المنعكسة عبر منظار جندي في برج حراسة تولد تباعداً فعلياً عن غزة وسكانها، فلا يرى الجندي ولا المشاهدون الفلسطينيين كبشر طبيعيين لهم تقسيمات وسمات ولون بشرة، إنما مجرد شخصيات تتحرك في مساحة محدودة. وبينما يختار فيلم "حقول حمراء - أرض التوت" تصوير أراضٍ زراعية ومساحات واسعة ودبابات بعيدة، يختار فيلم "صيد سياسي" و"رجال على الحافة" تصوير الوجوه بلقطات قريبة جداً، فيرصدون بذلك الجانب الإنساني والمعاناة والحكاية الحميمة لكل شخصية.
وقد اختار معظم الأفلام الأصوات الطبيعية للمكان - الأمبيانس، كأغاني الصيادين، وصوت الموج وضجيج السوق، وحتى صوت الهدوء الحذر، لكن هذا جزء منتقى من الأصوات الطبيعية للمكان المحاصَر منذ عشرات السنوات بالطائرات الحربية وكاميرات المراقبة الزنانة.
وإذا بحثنا عن مشاهد رمزية ذكية تحمل الكثير من المعاني، فيمكن أن نجدها حصراً في فيلم "ماتادور الحرب"، حين يتم قطع مشاهد حية من المنطقة الحدودية والبلدات المحاذية للقطاع والانتقال إلى حلبة مصارعة الثيران، حيث يلائم المخرج تفوهات الشخصيات المشبعة بالعنصرية بمشاهد تحمل عنفاً ضمنياً، كأن يدعو شخصٌ ما إلى سحق غزة وهو يقطّع اللحم في كشك الساندويتشات الخاص به، وهذا الخيار يريد تجسيداً للمقولة، فيشكّل نفوراً من الدموية الاحتلالية لدى المشاهد من دون الحاجة إلى رؤية اللحم والدم الفلسطيني المراق.
خاتمة
إن شيطنة الفلسطيني وغياب الواقع الفلسطيني عن النقاش العام في إسرائيل دفع معظم المخرجين إلى المحافظة على مسافة تفصلهم عن القطاع وقضاياه، بينما غامر آخرون وتمعنوا فيما يجري على الطرف الآخر من السياج الفاصل. وعلى الرغم من ذلك، فإن المخرج وإن جاهر برغبته في عرض الحالة الإنسانية في القطاع، وتوعية الجمهور الإسرائيلي أولاً، والعالمي ثانياً، تجاه فظائع الاحتلال، فإن الأفلام مجتمعة لا تخلو من حضور الصوت الإسرائيلي، ولو كان خافتاً، وكأنه لا شرعية ولا معنى لطرف من دون وجود الآخر، وهي محاولة لإنشاء نوع من التوازن، وإظهار طرفين في الصراع يتقاسمان المعاناة مناصفة.
ومعظم الأعمال السينمائية المعروضة حتى اليوم لا تنجح في إنشاء حالة من التواصل الإنساني الخالي من الصور النمطية ونزع الإنسانية، كونها حاولت إظهار الاحتلال كعلاقة معقدة. ويبدو أن الأفلام التي حاولت صب جل الجهود على المأساة الفلسطينية قدمت ذلك كقصص فردية خالصة، كما هو الحال في فيلم "حصار" أو فيلم "I shall not hate" للمخرجة طال بردا الذي لم يُعرض حتى الآن في إسرائيل، ويتمحور حول القضية الشخصية للطبيب الغزي عز الدين أبو العيش، الذي كرس حياته بعد استشهاد بناته – كما يظهر في الفيلم - لمساعي السلام.
ومن الجدير ذكره هنا أن نيات صناع السينما الإسرائيليين في إظهار بعض من مأساة القطاع لا تكفي، لأن الشخصانية في رؤية التفاصيل تشكّل حالة من الإرضاء للجمهور الإسرائيلي الذي يتم إنتاج معظم هذه الأفلام له أساساً، وتحت غطاء "أنت ضحية وهم كذلك." كما أن تجربة المشاهد الفلسطيني لا تتفق شرطاً مع رغبة صانع الفيلم الإسرائيلي، لأن النقد والتهكم المضمرَين في بعض الأفلام يختلفان في تلقيهما لدى المشاهد الفلسطيني، وبدلاً من أن يشكّلا لديه حالة من التنبيه – كما هو الحال لدى المشاهد الإسرائيلي - فإنهما يشكّلان امتعاضاً.
وبينما تتم كتابة هذا النص، يتم إنتاج عملين جديدين عن القطاع: الأول سلسلة "سيندروم غزة" للمخرج دوبي كرويتورو، الذي يعود بالزمن إلى احتلال القطاع، ويواكب التغييرات السياسية والاجتماعية، وكيفية تشكّل حركات المقاومة، والعدوان المتكرر وإعادة الإعمار. والثاني تتمة لفيلم "حياة ثمينة" للصحافي شلومي إلدار الذي غطى أخبار القطاع على مدار سنوات طويلة لمصلحة القناة الرسمية الإسرائيلية، ويرصد في فيلمه نشوء حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وأثرها في السياسة الداخلية والخارجية والحياة الاجتماعية بأدق تفاصيلها. وما من شك في أن هذه الأفلام المصنوعة على يد صحافيين يجيدون العربية وعاشوا سنوات داخل القطاع يمكن أن تعكس صورة جديدة مثيرة للجدل بشأن موازين القوى الداخلية في قطاع غزة.
أمّا البُعد الأخير الذي يجدر الالتفات إليه، فهو محاولات منع عروض بعض الأفلام، أو اقتصار عرضها على مهرجانات ومؤتمرات مهنية عينية، وجزء من هذه الأفلام مموَل من صناديق دعم سينمائية إسرائيلية، وهو ما يدعو إلى الحذر من نهج دعمها باليمنى، ومحاربتها باليسرى. فكيف تخدم عجلة التناقضات هذه منظومة الديمقراطية الزائفة؟
[1] انظر أرشيف الأفلام الإسرائيلي- "سينماتيك يروشلايم".
[2] ماتادور، هو مصارع الثيران.