من فرحة الأمومة إلى صمت القبور
التاريخ: 
26/09/2024
المؤلف: 

رن هاتفها المحمول، وخرج منه صوت متقطع يعلن استشهاد صالح في إحدى الغارات الجوية، ففزعت فاطمة من نومها، وقلبها يدق بعنف، وكأنه طائر محبوس في قفص ضيق، وخرجت من حلقها صرخة مكتومة تعلن فاجعة لا مثيل لها، وعادت بها الذكريات إلى ليلة الهروب من المنزل الذي كان يحترق، حين أخذت بيد أحمد وهي تتوسل إلى الله أن يحفظها وابنها، ولم تتخيل يوماً أن تفقد الأمان مرة أُخرى؛ صالح زوجها الحنون، وصخرتها في هذا العالم المضطرب، وقد رحل تاركاً فراغاً هائلاً في قلبها، فنظرت إلى أحمد ابنها، وغطته ببطانية دافئة، ودموعها تتساقط على خديها في خيمة صغيرة من القماش البالي، منصوبة في إحدى مدارس وكالة الغوث في مخيم النصيرات، والتي تحولت إلى ملجأ للنازحين.

بعد استشهاد صالح، استمرت فاطمة وأحمد في العيش في الخيمة، وبينما كانت فاطمة تستنشق رائحة الخبز المحروق القادمة من الخيام المجاورة، مع أصوات القصف الذي يدوي كل حين، تذكرت أن الناس حولها يحاولون عيش حياتهم، والتأقلم مع هذا الوضع الصعب. لكنها شعرت بأنها لا تستطيع أن تتأقلم هي أيضاً، وبأن قلبها لا يزال حزيناً على صالح. حاولت جاهدة أن تبني حياة شبه طبيعية لابنها، إذ تستيقظ كل يوم قبل الفجر لتجمع الحطب وتجهز وجبة الإفطار، وكلما سمعت صوت طائرة حربية تحلق فوق رؤوسهم، كانت تحتضن أحمد بقوة، وتحاول أن تصنع جواً من الدفء والحب في الخيمة الصغيرة على الرغم من الأجواء المرعبة. وبعد الفطور، كانت تجمع الأطفال من الخيام المجاورة لتدرّسهم، مستعيدة بذلك أيامها كمعلمة قبل الحرب، فكانت تعلّمهم الحروف والأرقام، وتقص عليهم قصصاً عن الأمل والشجاعة، تماماً كما تفعل مع أحمد، وكانت تحلم بيوم يعودون فيه جميعاً إلى بيوتهم، ويستطيع ابنها أحمد أن يذهب إلى المدرسة، ويتعلم كل ما يشاء.

وفي يوم من الأيام، جلست فاطمة في خيمتها البالية، تتذكر أيامها السعيدة في منزلها الدافئ؛ كيف كانت تستمتع بتحضير القهوة لصالح، زوجها الراحل، وسعادتهما بأحمد الذي أتى بعد 14 عاماً من الانتظار، وكانت تتذكر أيضاً طلبتها، وعيونهم المتلهفة للمعرفة، وضحكاتهم التي كانت تملأ الفصل. والآن، أصبح كثير منهم شهداء، إذ قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي بدم بارد، فرحلوا وهم يحملون أحلامهم. الآن، كل ما حولها خراب ودمار، وأحمد ابنها الوحيد ذو العشر سنوات، الذي عانى ككل أطفال غزة أكثر مما يتحمله أي طفل في العالم، فكان يجلس بجانب أمه، وعيناه تحملان تعبيراً لا يناسب عمره الصغير، وكان يعود كل يوم وهو يجلب قِرَب الماء الثقيلة، معبَأة من محطة مياه بعيدة، وعيناه حمراوان من التراب والغبار، وكان الماء عكراً، ويحتاج إلى تنقية قبل شربه، ويقطع مسافات طويلة كل يوم لجلب الماء الكافي للطهي والشرب، بالإضافة إلى الحطب إذا نقص لطهي الطعام. كانت هذه المهام شاقة، وخصوصاً بالنسبة إلى طفل في عمره. وفي ظل انقطاع التيار الكهربائي عن قطاع غزة، كان أحمد يقطع مسافات لشحن هاتف أمه المحمول في نقطة لشحن الهواتف، عبر بطاريات الإضاءة التي كانت تُشحن عن طريق ألواح الطاقة الشمسية التي استُخدمت بكثرة في ظل انعدام الكهرباء، وهو أمر صعب ومكلف، وأصبح أحمد عوناً لأمه في كل شيء، ودائماً ما كان يهمس لها في الليل: "متى ستنتهي هذه الحرب يا أمي؟"، وهي تحاول تهدئته وتقول بأمل متردد: "سوف تنتهي يا حبيبي، لكن علينا أن نصبر، الخير قادم، لا تيأس."

وذات يوم، وصلت إلى أم أحمد رسالة تفيد بإمكان استلام راتبها بعد انقطاع دام أربعة أشهر، ففرحت فرحة عظيمة، وطلبت من أحمد أن يمكث في الخيمة إلى حين عودتها، ووعدته بجلب الكثير من الطعام والحلوى، وتوجهت إلى مكان توزيع الرواتب، وهي خيمة صغيرة مكتظة بالنساء المنتظرات. وكلما ارتفعت طائرة الغدر الصهيوني في الأجواء، ارتجفت قلوبهن خوفاً. وفجأة، دوى انفجار هائل، وهرعت النساء للبحث عن الأخبار، لتكتشف فاطمة ببالغ الصدمة أن المدرسة التي لجأت إليها مع ابنها قد استُهدفت.

في تلك اللحظة، هرعت إلى المدرسة، فوجدتها كومة من الركام تتطاير منها ألسنة الدخان، وكانت الشمس تحرق وجهها، والغبار يلفح عينيها، وقلبها ينبض بعنف، فبدأت تحفر بيديها العاريتين، وتتجاهل الجروح التي تشق كفيها، إلى أن وجدت أخيراً يده الصغيرة التي كانت تمسك بها وهي تمشي معه في الشوارع بين الأنقاض، وقد تعرفت عليها عبر الساعة التي أهدته إياها سابقاً، وكان يرتديها، لكن لم تجد باقي جسده، فواصلت الحفر وهي تبكي بحرقة، وصوت بكائها يمزق الصمت، وإذا بصوت جارتها تقول لها: "لقد وجدنا الرأس"، فانهارت على الأرض وهي تبكي بحرقة، ودموعها تسيل على وجنتيها المتجعدتين، وصوت القصف يصدح في كل مكان، وكأن الأرض نفسها تنوح. ثم رفعت عينيها إلى السماء الرمادية، كمرآة تعكس مأساتها، وشعرت بأن العالم ضاق عليها، وكأن الأرض ابتلعت كل ما تحب. في تلك اللحظة، رأت طائراً وحيداً يحلق ببطء في الأفق، وكأنه ينعى معها فقدانها. والآن، لم يبقَ شيء لها سوى صدى ضحكته في أذنها، وفراغ هائل يملأ قلبها.

عن المؤلف: 

مجد ستوم: خريجة بكالوريوس علاج طبيعي من جامعة الأزهر في غزة.